مؤسس هذه النظرية هو ويلهلم رايش الذي ولد في النمسا عام 1897، وتوفي في بنسلفانيا الأمريكية عام 1957.
عاش رايش حياة مضطربة نتيجة الصراعات الحادة والأحداث العنيفة التي عرفتها أوربا الغربية على صعيد الاقتصاد والفكر والسياسة، وأدت إلى نشوب حربين عالميتين. وكانت ميوله موزعة بين الطب والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس. انضم إلى الرابطة الدولية للتحليل النفسي عام 1920. وانتسب إلى الحزب الشيوعي عام 1927. وأسس الجمعية الاشتراكية للاستشارات والبحوث الجنسية في فيينا عام 1928. وبعد عامين غادر العاصمة النمساوية إلى برلين. وهناك أنشأ جمعية الإصلاح التربوي والجنسي في صفوف الطبقة العاملة. وفي عام 1933 اضطر إلى مغادرة ألمانيا والتوجه إلى الدانمارك فالنرويج ثم السويد هرباً من السلطة النازية. وفي عام 1934 فصل من الحزب الشيوعي والرابطة الدولية للتحليل النفسي بسبب مواقفه الفكرية والسياسية المعارضة لهما. ومع زيادة حدة التوتر في العلاقات بين البلدان الأوربية هاجر عام 1939 إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبقي فيها حتى وفاته.
كتب رايش مجموعة من الكتب والمقالات، أهمها "النزعة الجنسية في الصراع الحضاري"(1935) و"المادية الجدلية والتحليل النفسي"(1929، 1934) و"سيكولوجية الجماهير في الفاشية"(1932) و"وظيفة الأورغون"(1952).
وتعتبر نظرية رايش محاولة للتوفيق بين إيجابيات التحليل النفسي الفرويدي والنظرية الاقتصادية الماركسية. وربما تكون، بالنسبة له، بديلاً عن النظريتين. وحينما نخص الجوانب الإيجابية من النظرية الفرويدية بالتحديد، فإننا نقصد من وراء ذلك أن نشير إلى أن رايش لم يسلم بكل ما جاء به فرويد، بل إنه عارض بعض مقولات ومفاهيم التحليل النفسي الكلاسيكي بعد أن أخضعها لتقييم تجريبي.
لقد كرس رايش جزءاً هاماً من أعماله ونشاطه للتدليل على مادية وجدلية التحليل النفسي، ومثالية وشكلية كل ما ظهر قبله على ساحة علم النفس. وكان يسعى من خلال ذلك إلى تقديم التحليل النفسي على أنه علم كسائر العلوم التي تطبق الجدل المادي وتبني عليه نظرياتها. وفي هذه الحالة "يكون الماركسي قد علم أنه أمام علم لا يناقض الاشتراكية، وعندئذ ليس من الواجب الاعتراف به فحسب، بل إدراجه في بناء النظرة المادية الجدلية إلى العالم"(رايش، المادية الجدلية والتحليل النفسي، بلا تاريخ، 11).
ولما كانت الدافعية تشكل حجر الزاوية في البناء النظري الفرويدي، فإن رايش يقترح أن تكون نقطة التقاء الجانب المادي(الجسد) بالجانب النفسي(الوعي) عند الإنسان. وقد دلل على ذلك بما قاله فرويد حول الطاقة الجنسية(الليبيدو) بأنها عملية كيميائية تتم في الجهاز الجنسي والمناطق الشبقية من العضوية، وتتخذ منذ الولادة حتى المراهقة أشكالاً متعددة تبعاً للمنطقة التي تتركز فيها وصولاً إلى المرحلة التناسلية.
وبتأكيده هذا يكون رايش قد جعل من المسألة الجنسية قاعدة لإنشاءاته النظرية وعمله الميداني بعد تزويدها بالبعد الاقتصادي. فعلى هذه القاعدة ربط بين تجليات غريزة الموت التي تحدث عنها فرويد، كالشعور بالذنب والعدوانية، بالطاقة الجنسية. ووجد أن العلاقة بينهما هي علاقة طردية. فغياب إمكانية تفريغ الطاقة الجنسية أو ضعفها يفسح المجال أمام ظهور النزعة العدوانية والتدميرية. بينما يساعد خفض التوتر على إضعاف تلك النزعة ويحول دون بروزها. كما لم يفته أن يفسر ظهورها بانعدام تلبية الحاجة إلى الغذاء. ومن هذه الزاوية نظر إلى الدافع إلى التدمير "كتكوين ثانوي متأخر للعضوية، يتحدد من خلال الظروف التي يتم فيها إرضاء الدافع الغذائي والحاجة الجنسية"(رايش، المادية الجدلية والتحليل النفسي، بلا تاريخ، 24). ولكن ذلك لا يعني أن رايش يساوي بين الدافع الجنسي والدافع الغذائي من حيث الدور الذي يضطلع به كل منهما في الحياة النفسية للفرد. فقد تحدث عن دورين مختلفين تماماً يقوم بهما الدافعان: دور أساسي وفعال يقوم به الدافع الجنسي مقابل دور ثانوي يلعبه الدافع الغذائي. كتب يقول: "لقد تمكن الفكر الاقتصادي الجنسي أن يتابع سيره بضع خطوات في مسألة علاقة الحاجة الغذائية بالحاجة الجنسية. فالحاجة الغذائية توافق هبوطاً في التوتر أو في الطاقة، لذلك لا يجري إرضاؤها إلا بإدخال الطاقة. بينما الحاجة الجنسية يجري إرضاؤها بإخراج الطاقة أو تصريفها. هذا ما يفسر أن الجوع قد يشارك أو يشارك فقط بصورة غير مباشرة في بناء الجهاز النفسي، بينما الطاقة الجنسية هي القوة البناءة أصلاً، الإيجابية، الإنتاجية لما هو نفسي"(رايش، المادية الجدلية والتحليل النفسي بلا تاريخ، 22).
ومع أن رايش يتفق مع فرويد حول كون الواقع الخارجي مصدر القيود والضغوط التي يواجهها النشاط الجنسي، إلا أن هذا الواقع لم يكن بالنسبة له شيئاً ساكناً لا يتحول ولا يتغير، مثلما تصوره مؤسس التحليل النفسي مثالياً ومحافظاً ومنافياً لطبيعتها الثورية. ولا شك أن رايش كان محقاً في موقفه الانتقادي هذا. حيث أن فرويد لم يدرس هذا الواقع في حركته وسيرورته الدائمتين، وقدمه كمعطى ثابت ثباتاً مطلقاً.
إن توسيع دائرة الممارسة العيادية لتشمل أبناء الطبقة العاملة هو الذي مكن رايش من ملاحظة أثر ظروف التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة وفي الأحياء الفقيرة على سلوك الفرد، ودفعه، من ثم، إلى إعطاء مضمون اجتماعي واقتصادي لآليات النشاط الجنسي والنظر إلى هذا المضمون ضمن أطره الزمانية والمكانية وسياقه التاريخي. وعلى أساس ذلك رأى أن التناقض بين مبدأ اللذة الذي يخضع له النشاط الجنسي ومبدأ الواقع ليس تناقضاً كلياً، وإنما هو تناقض جزئي. فالقيم التي يراعيها المجتمع في تنشئة أبنائه وتلبية حاجاتهم تتغير وتتطور بتغير المجتمعات وتطورها. ويسوق رايش في مؤلفاته العديد من الأمثلة التي تبين تبدل مضمون اللذة من تشكيلة اجتماعية(عبودية، بورجوازية) إلى تشكيلة أخرى، ومن طبقة إلى طبقة أخرى.
لقد تصدى رايش بحماس شديد للانتقادات التي وجهت إلى التحليل النفسي، مبرزاً الطبيعة المادية لأنظمة النفس الثلاثة والعلاقة الجدلية القائمة بينها. فاللاوعي الذي هو جزء من الهو يختزن-إضافة إلى خبرات الفرد المؤلمة- خبرات نوعية موروثة على صورة رموز. ولهذا يعتبره رايش كياناً قابلاً للتطور في الزمان. ويرجع ذلك إلى التناقض القائم بين ما هو بيولوجي وما هو اجتماعي في الشخصية، أي بين الهو والأنا الأعلى. ويبرز هذا التناقض بأشد ما يكون الوضوح في ساحة الأنا التي تتوسع تدريجياً نتيجة تفاعل العضوية المشحونة بالليبيدو من جهة، والمحيط الخارجي وتأثيراته المادية على تلك العضوية عبر الجهاز الحسي من جهة أخرى. وبما أن المحيط الاجتماعي يتغير، فإن مضامين الأنا الأعلى والأنا واللاوعي تتغير تبعاً لذلك. كما تتغير آليات الدفاع، كالكبت والتصعيد والإسقاط وغيرها لتكتسي حلة اقتصادية وإنتاجية.
ولعل موقف رايش الانتقادي تجاه التحليل النفسي الفرويدي، وخاصة النظرية الجنسية، ومحاولته تقنينها بقوانين المادية الجدلية وإكسابها البعد الاقتصادي والاجتماعي يتضح من خلال معالجته لعقدة أوديب. فقد أخذ على فرويد نظرته الميتافيزيائية إلى هذه العقدة وتصويره لها كظاهرة مطلقة، أزلية وأبدية. وفي معرض دحضه لهذه النظرة استعان ببعض الدراسات التي تناولت المجتمعات البدائية. ومنها استمد حججه العلمية لربط عقدة أوديب بالوضع الاقتصادي للمجتمع، ولطرح تساؤل حول مصير هذه التسمية وعما إذا كانت تعبر بالفعل عن مختلف أشكال العلاقات الأسرية في المجتمعات القديمة، ومن ضمنها المجتمع الأمومي، وتنطبق على أشكال أخرى سوف تفرضها مجتمعات المستقبل. ويرد رايش على هذا التساؤل بصورة مباشرة ومقتضبة فيقول: "إن التحليل النفسي يفهم جميع العمليات النفسية فهماً جدلياً، ولو كانت لا شعورية، ما عدا عقدة أوديب التي تبدو أنها نقطة السكون في خضم الظواهر المتحركة"(رايش، المادية الجدلية والتحليل النفسي، بلا تاريخ، 59).
وإذا كان رايش قد تحدث في مؤلفاته الأولى عن تصور فرويد لبنية الشخصية دون تعديلات أو تحفظات تذكر، فإنه رجع إليها فيما بعد ليسجل اعتراضه عليه ويقترح تصوره الخاص. فقد ذهب في تصوره هذا إلى القول بوجود ثلاثة أقسام أو أجهزة للشخصية، يتولى كل منها القيام بوظائف محددة. فالقسم الخارجي أو الظاهري يلعب دور القناع الذي يخفي به الإنسان جوهره الحقيقي باتباعه أساليب المداورة والتزييف والتكلف التي يفرضها المجتمع. ويعتبر القسم الداخلي أو الانتقالي، الذي يقابل اللاوعي عند فرويد، خزان الدوافع الثانوية السلبية والرغبات اللاواعية. ويتكون القسم الباطني العميق أو "النواة البيولوجية" من الدوافع الأساسية الإيجابية، الاجتماعية والطبيعية، التي تؤلف مصدر الشخصية المتوازنة وتفتح الإنسان ورقيه وسعادته.
وحينما يشخص رايش الشخصية ويصف مركباتها، فإنه يلقي تبعة الانحرافات والاضطرابات التي تحل بها على الجزء الانتقالي الذي يعتبره ساحة تتحول فيها الدوافع الاجتماعية والطبيعية عن مسارها الصحيح. حتى إذا بلغت القسم الظاهري لبست قناع التزييف الاجتماعي. ولقد وجد في الشخصية المعاصرة التي تعيش في ظل المعتقدات والقيم الأخلاقية والجمالية البورجوازية نموذجاً حياً لذلك التشوه والانحراف اللذين يفرزهما الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
ومن هذا المنظور(الاقتصادي والاجتماعي) يتناول رايش النزعة اللاواعية(السادية، المازوكية...) وغرائز الموت والتدمير بوصفها دوافع ثانوية، سلبية، لا عقلية تسم أفراد المجتمع البورجوازي. وهذا هو بحد ذاته محاولة لتصويب الفهم الفرويدي لهذه الجوانب النفسية وإرجاعها من المطلق لوضعها في سياقها التاريخي- الاجتماعي. وعلى هذا النحو تصبح مظاهر العدوان والتدمير وعقدة أوديب، عند رايش، تكوينات نفسية مرضية تظهر لدى الفرد تحت وطأة أسلوب الإنتاج الرأسمالي والعلاقات الاجتماعية البورجوازية بعد أن كانت، عند فرويد، معطيات متأصلة في وجود الكائن الإنساني.
بيد أن المقدمات المتأصلة في الوضع الاقتصادي والاجتماعي التي تتبع رايش انعكاساتها على بنية الشخصية قصرها في مرحلة لاحقة عند دراسته لتحرير الدوافع الطبيعية والاجتماعية وتخليص الإنسان المعاصر من اغترابه على الطابع التسلطي لأيديولوجيا الأسرة البورجوازية الصغيرة. وزيادة على ذلك فإن القارئ الذي خبر مسلك رايش الفكري وأسلوبه في معالجة موضوعات بحثه باحتكامه إلى المنهج المادي الجدلي قد يفاجأ بتناقض بعض استنتاجات الرجل مع ذلك المنهج. والقضية تبدأ بحرص رايش على احترام مبدأ أولوية الواقع المادي وثانوية المظاهر النفسية. فوفقاً لهذا المبدأ وجد أن الشخصية بأجهزتها وأقسامها، باضطرابها واتزانها، هي ثمرة الواقع الاقتصادي والاجتماعي المعاش. غير أنه لم يحتكم إلى هذا المبدأ في جميع محاكماته. فقد قام في الخطوة التالية- على غرار ما يفعل المثاليون- بتعميم تصوره لبنية الشخصية على الطبقات الاجتماعية والسياسية. حيث قابل محتويات أقسام النفس وطبقاتها من جهة، والقيم والمعايير الأخلاقية والتصورات التي تميز طبقات المجتمع من جهة ثانية. فالطبقة الأولى من النفس التي تحتوي على التزييف الاجتماعي تقابل القيم والأخلاق الليبرالية. والطبقة الوسطى التي تختزن الدوافع الثانوية، اللاواعية، المنحرفة تقابل الفاشية بنزعتها التدميرية والعدوانية. والطبقة العميقة تقابل الطبقة الثورية في المجتمع.
وبدل أن يمر طريق الخلاص من القهر والقلق والاغتراب عبر تغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يشير إليها رايش بأصابع الاتهام ويعتبرها المسؤولة عن تدهور الشخصية وما تعانيه من اضطرابات وأمراض، ينصحنا رايش نفسه بضرورة الاعتماد على البنية الذاتية للشخصية وإطلاق العنان للدوافع الاجتماعية والطبيعية الكامنة فيها. وهذا ما لا يتحقق، في اعتقاده، إلا بما أسماه "الثورة الجنسية".
لقد ألح رايش على أهمية هذه الثورة واعتبرها خطوة أساسية على طريق الثورة الإنسانية الحقيقية التي تحقق للإنسان الانعتاق الاقتصادي والطبقي والخلقي وتوفر له الأمن والانسجام النفسي، وتفسح المجال واسعاً أمام ارتقائه وازدهاره، وتجعل منه إنساناً حقيقياً، محباً ومنتجاً ومبدعاً.
ولئن كان وصف رايش لمعاناة الإنسان المعاصر وأسبابها يفتقر إلى التماسك والتسلسل المنطقيين فما ذلك إلا نتيجة تخليه المتعمد أو العفوي هنا وهناك عن المقاييس التي يقتضيها المنهج المستخدم، وتعويضها بمقاييس ذاتية. ولعل هذه الثغرات هي التي قادته إلى وضع تصوراته حول "الثورة الجنسية" وما ستقدمه للفرد والمجتمع من أسباب الرفاه والتطور. وهي تصورات لا تتجاوز حدود التمنيات الطيبة والرغبات الجميلة التي ما فتئت تراود مخيلة المفكرين المثاليين وأحلام الطوباويين.
بوح الروح
عاش رايش حياة مضطربة نتيجة الصراعات الحادة والأحداث العنيفة التي عرفتها أوربا الغربية على صعيد الاقتصاد والفكر والسياسة، وأدت إلى نشوب حربين عالميتين. وكانت ميوله موزعة بين الطب والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس. انضم إلى الرابطة الدولية للتحليل النفسي عام 1920. وانتسب إلى الحزب الشيوعي عام 1927. وأسس الجمعية الاشتراكية للاستشارات والبحوث الجنسية في فيينا عام 1928. وبعد عامين غادر العاصمة النمساوية إلى برلين. وهناك أنشأ جمعية الإصلاح التربوي والجنسي في صفوف الطبقة العاملة. وفي عام 1933 اضطر إلى مغادرة ألمانيا والتوجه إلى الدانمارك فالنرويج ثم السويد هرباً من السلطة النازية. وفي عام 1934 فصل من الحزب الشيوعي والرابطة الدولية للتحليل النفسي بسبب مواقفه الفكرية والسياسية المعارضة لهما. ومع زيادة حدة التوتر في العلاقات بين البلدان الأوربية هاجر عام 1939 إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبقي فيها حتى وفاته.
كتب رايش مجموعة من الكتب والمقالات، أهمها "النزعة الجنسية في الصراع الحضاري"(1935) و"المادية الجدلية والتحليل النفسي"(1929، 1934) و"سيكولوجية الجماهير في الفاشية"(1932) و"وظيفة الأورغون"(1952).
وتعتبر نظرية رايش محاولة للتوفيق بين إيجابيات التحليل النفسي الفرويدي والنظرية الاقتصادية الماركسية. وربما تكون، بالنسبة له، بديلاً عن النظريتين. وحينما نخص الجوانب الإيجابية من النظرية الفرويدية بالتحديد، فإننا نقصد من وراء ذلك أن نشير إلى أن رايش لم يسلم بكل ما جاء به فرويد، بل إنه عارض بعض مقولات ومفاهيم التحليل النفسي الكلاسيكي بعد أن أخضعها لتقييم تجريبي.
لقد كرس رايش جزءاً هاماً من أعماله ونشاطه للتدليل على مادية وجدلية التحليل النفسي، ومثالية وشكلية كل ما ظهر قبله على ساحة علم النفس. وكان يسعى من خلال ذلك إلى تقديم التحليل النفسي على أنه علم كسائر العلوم التي تطبق الجدل المادي وتبني عليه نظرياتها. وفي هذه الحالة "يكون الماركسي قد علم أنه أمام علم لا يناقض الاشتراكية، وعندئذ ليس من الواجب الاعتراف به فحسب، بل إدراجه في بناء النظرة المادية الجدلية إلى العالم"(رايش، المادية الجدلية والتحليل النفسي، بلا تاريخ، 11).
ولما كانت الدافعية تشكل حجر الزاوية في البناء النظري الفرويدي، فإن رايش يقترح أن تكون نقطة التقاء الجانب المادي(الجسد) بالجانب النفسي(الوعي) عند الإنسان. وقد دلل على ذلك بما قاله فرويد حول الطاقة الجنسية(الليبيدو) بأنها عملية كيميائية تتم في الجهاز الجنسي والمناطق الشبقية من العضوية، وتتخذ منذ الولادة حتى المراهقة أشكالاً متعددة تبعاً للمنطقة التي تتركز فيها وصولاً إلى المرحلة التناسلية.
وبتأكيده هذا يكون رايش قد جعل من المسألة الجنسية قاعدة لإنشاءاته النظرية وعمله الميداني بعد تزويدها بالبعد الاقتصادي. فعلى هذه القاعدة ربط بين تجليات غريزة الموت التي تحدث عنها فرويد، كالشعور بالذنب والعدوانية، بالطاقة الجنسية. ووجد أن العلاقة بينهما هي علاقة طردية. فغياب إمكانية تفريغ الطاقة الجنسية أو ضعفها يفسح المجال أمام ظهور النزعة العدوانية والتدميرية. بينما يساعد خفض التوتر على إضعاف تلك النزعة ويحول دون بروزها. كما لم يفته أن يفسر ظهورها بانعدام تلبية الحاجة إلى الغذاء. ومن هذه الزاوية نظر إلى الدافع إلى التدمير "كتكوين ثانوي متأخر للعضوية، يتحدد من خلال الظروف التي يتم فيها إرضاء الدافع الغذائي والحاجة الجنسية"(رايش، المادية الجدلية والتحليل النفسي، بلا تاريخ، 24). ولكن ذلك لا يعني أن رايش يساوي بين الدافع الجنسي والدافع الغذائي من حيث الدور الذي يضطلع به كل منهما في الحياة النفسية للفرد. فقد تحدث عن دورين مختلفين تماماً يقوم بهما الدافعان: دور أساسي وفعال يقوم به الدافع الجنسي مقابل دور ثانوي يلعبه الدافع الغذائي. كتب يقول: "لقد تمكن الفكر الاقتصادي الجنسي أن يتابع سيره بضع خطوات في مسألة علاقة الحاجة الغذائية بالحاجة الجنسية. فالحاجة الغذائية توافق هبوطاً في التوتر أو في الطاقة، لذلك لا يجري إرضاؤها إلا بإدخال الطاقة. بينما الحاجة الجنسية يجري إرضاؤها بإخراج الطاقة أو تصريفها. هذا ما يفسر أن الجوع قد يشارك أو يشارك فقط بصورة غير مباشرة في بناء الجهاز النفسي، بينما الطاقة الجنسية هي القوة البناءة أصلاً، الإيجابية، الإنتاجية لما هو نفسي"(رايش، المادية الجدلية والتحليل النفسي بلا تاريخ، 22).
ومع أن رايش يتفق مع فرويد حول كون الواقع الخارجي مصدر القيود والضغوط التي يواجهها النشاط الجنسي، إلا أن هذا الواقع لم يكن بالنسبة له شيئاً ساكناً لا يتحول ولا يتغير، مثلما تصوره مؤسس التحليل النفسي مثالياً ومحافظاً ومنافياً لطبيعتها الثورية. ولا شك أن رايش كان محقاً في موقفه الانتقادي هذا. حيث أن فرويد لم يدرس هذا الواقع في حركته وسيرورته الدائمتين، وقدمه كمعطى ثابت ثباتاً مطلقاً.
إن توسيع دائرة الممارسة العيادية لتشمل أبناء الطبقة العاملة هو الذي مكن رايش من ملاحظة أثر ظروف التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة وفي الأحياء الفقيرة على سلوك الفرد، ودفعه، من ثم، إلى إعطاء مضمون اجتماعي واقتصادي لآليات النشاط الجنسي والنظر إلى هذا المضمون ضمن أطره الزمانية والمكانية وسياقه التاريخي. وعلى أساس ذلك رأى أن التناقض بين مبدأ اللذة الذي يخضع له النشاط الجنسي ومبدأ الواقع ليس تناقضاً كلياً، وإنما هو تناقض جزئي. فالقيم التي يراعيها المجتمع في تنشئة أبنائه وتلبية حاجاتهم تتغير وتتطور بتغير المجتمعات وتطورها. ويسوق رايش في مؤلفاته العديد من الأمثلة التي تبين تبدل مضمون اللذة من تشكيلة اجتماعية(عبودية، بورجوازية) إلى تشكيلة أخرى، ومن طبقة إلى طبقة أخرى.
لقد تصدى رايش بحماس شديد للانتقادات التي وجهت إلى التحليل النفسي، مبرزاً الطبيعة المادية لأنظمة النفس الثلاثة والعلاقة الجدلية القائمة بينها. فاللاوعي الذي هو جزء من الهو يختزن-إضافة إلى خبرات الفرد المؤلمة- خبرات نوعية موروثة على صورة رموز. ولهذا يعتبره رايش كياناً قابلاً للتطور في الزمان. ويرجع ذلك إلى التناقض القائم بين ما هو بيولوجي وما هو اجتماعي في الشخصية، أي بين الهو والأنا الأعلى. ويبرز هذا التناقض بأشد ما يكون الوضوح في ساحة الأنا التي تتوسع تدريجياً نتيجة تفاعل العضوية المشحونة بالليبيدو من جهة، والمحيط الخارجي وتأثيراته المادية على تلك العضوية عبر الجهاز الحسي من جهة أخرى. وبما أن المحيط الاجتماعي يتغير، فإن مضامين الأنا الأعلى والأنا واللاوعي تتغير تبعاً لذلك. كما تتغير آليات الدفاع، كالكبت والتصعيد والإسقاط وغيرها لتكتسي حلة اقتصادية وإنتاجية.
ولعل موقف رايش الانتقادي تجاه التحليل النفسي الفرويدي، وخاصة النظرية الجنسية، ومحاولته تقنينها بقوانين المادية الجدلية وإكسابها البعد الاقتصادي والاجتماعي يتضح من خلال معالجته لعقدة أوديب. فقد أخذ على فرويد نظرته الميتافيزيائية إلى هذه العقدة وتصويره لها كظاهرة مطلقة، أزلية وأبدية. وفي معرض دحضه لهذه النظرة استعان ببعض الدراسات التي تناولت المجتمعات البدائية. ومنها استمد حججه العلمية لربط عقدة أوديب بالوضع الاقتصادي للمجتمع، ولطرح تساؤل حول مصير هذه التسمية وعما إذا كانت تعبر بالفعل عن مختلف أشكال العلاقات الأسرية في المجتمعات القديمة، ومن ضمنها المجتمع الأمومي، وتنطبق على أشكال أخرى سوف تفرضها مجتمعات المستقبل. ويرد رايش على هذا التساؤل بصورة مباشرة ومقتضبة فيقول: "إن التحليل النفسي يفهم جميع العمليات النفسية فهماً جدلياً، ولو كانت لا شعورية، ما عدا عقدة أوديب التي تبدو أنها نقطة السكون في خضم الظواهر المتحركة"(رايش، المادية الجدلية والتحليل النفسي، بلا تاريخ، 59).
وإذا كان رايش قد تحدث في مؤلفاته الأولى عن تصور فرويد لبنية الشخصية دون تعديلات أو تحفظات تذكر، فإنه رجع إليها فيما بعد ليسجل اعتراضه عليه ويقترح تصوره الخاص. فقد ذهب في تصوره هذا إلى القول بوجود ثلاثة أقسام أو أجهزة للشخصية، يتولى كل منها القيام بوظائف محددة. فالقسم الخارجي أو الظاهري يلعب دور القناع الذي يخفي به الإنسان جوهره الحقيقي باتباعه أساليب المداورة والتزييف والتكلف التي يفرضها المجتمع. ويعتبر القسم الداخلي أو الانتقالي، الذي يقابل اللاوعي عند فرويد، خزان الدوافع الثانوية السلبية والرغبات اللاواعية. ويتكون القسم الباطني العميق أو "النواة البيولوجية" من الدوافع الأساسية الإيجابية، الاجتماعية والطبيعية، التي تؤلف مصدر الشخصية المتوازنة وتفتح الإنسان ورقيه وسعادته.
وحينما يشخص رايش الشخصية ويصف مركباتها، فإنه يلقي تبعة الانحرافات والاضطرابات التي تحل بها على الجزء الانتقالي الذي يعتبره ساحة تتحول فيها الدوافع الاجتماعية والطبيعية عن مسارها الصحيح. حتى إذا بلغت القسم الظاهري لبست قناع التزييف الاجتماعي. ولقد وجد في الشخصية المعاصرة التي تعيش في ظل المعتقدات والقيم الأخلاقية والجمالية البورجوازية نموذجاً حياً لذلك التشوه والانحراف اللذين يفرزهما الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
ومن هذا المنظور(الاقتصادي والاجتماعي) يتناول رايش النزعة اللاواعية(السادية، المازوكية...) وغرائز الموت والتدمير بوصفها دوافع ثانوية، سلبية، لا عقلية تسم أفراد المجتمع البورجوازي. وهذا هو بحد ذاته محاولة لتصويب الفهم الفرويدي لهذه الجوانب النفسية وإرجاعها من المطلق لوضعها في سياقها التاريخي- الاجتماعي. وعلى هذا النحو تصبح مظاهر العدوان والتدمير وعقدة أوديب، عند رايش، تكوينات نفسية مرضية تظهر لدى الفرد تحت وطأة أسلوب الإنتاج الرأسمالي والعلاقات الاجتماعية البورجوازية بعد أن كانت، عند فرويد، معطيات متأصلة في وجود الكائن الإنساني.
بيد أن المقدمات المتأصلة في الوضع الاقتصادي والاجتماعي التي تتبع رايش انعكاساتها على بنية الشخصية قصرها في مرحلة لاحقة عند دراسته لتحرير الدوافع الطبيعية والاجتماعية وتخليص الإنسان المعاصر من اغترابه على الطابع التسلطي لأيديولوجيا الأسرة البورجوازية الصغيرة. وزيادة على ذلك فإن القارئ الذي خبر مسلك رايش الفكري وأسلوبه في معالجة موضوعات بحثه باحتكامه إلى المنهج المادي الجدلي قد يفاجأ بتناقض بعض استنتاجات الرجل مع ذلك المنهج. والقضية تبدأ بحرص رايش على احترام مبدأ أولوية الواقع المادي وثانوية المظاهر النفسية. فوفقاً لهذا المبدأ وجد أن الشخصية بأجهزتها وأقسامها، باضطرابها واتزانها، هي ثمرة الواقع الاقتصادي والاجتماعي المعاش. غير أنه لم يحتكم إلى هذا المبدأ في جميع محاكماته. فقد قام في الخطوة التالية- على غرار ما يفعل المثاليون- بتعميم تصوره لبنية الشخصية على الطبقات الاجتماعية والسياسية. حيث قابل محتويات أقسام النفس وطبقاتها من جهة، والقيم والمعايير الأخلاقية والتصورات التي تميز طبقات المجتمع من جهة ثانية. فالطبقة الأولى من النفس التي تحتوي على التزييف الاجتماعي تقابل القيم والأخلاق الليبرالية. والطبقة الوسطى التي تختزن الدوافع الثانوية، اللاواعية، المنحرفة تقابل الفاشية بنزعتها التدميرية والعدوانية. والطبقة العميقة تقابل الطبقة الثورية في المجتمع.
وبدل أن يمر طريق الخلاص من القهر والقلق والاغتراب عبر تغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يشير إليها رايش بأصابع الاتهام ويعتبرها المسؤولة عن تدهور الشخصية وما تعانيه من اضطرابات وأمراض، ينصحنا رايش نفسه بضرورة الاعتماد على البنية الذاتية للشخصية وإطلاق العنان للدوافع الاجتماعية والطبيعية الكامنة فيها. وهذا ما لا يتحقق، في اعتقاده، إلا بما أسماه "الثورة الجنسية".
لقد ألح رايش على أهمية هذه الثورة واعتبرها خطوة أساسية على طريق الثورة الإنسانية الحقيقية التي تحقق للإنسان الانعتاق الاقتصادي والطبقي والخلقي وتوفر له الأمن والانسجام النفسي، وتفسح المجال واسعاً أمام ارتقائه وازدهاره، وتجعل منه إنساناً حقيقياً، محباً ومنتجاً ومبدعاً.
ولئن كان وصف رايش لمعاناة الإنسان المعاصر وأسبابها يفتقر إلى التماسك والتسلسل المنطقيين فما ذلك إلا نتيجة تخليه المتعمد أو العفوي هنا وهناك عن المقاييس التي يقتضيها المنهج المستخدم، وتعويضها بمقاييس ذاتية. ولعل هذه الثغرات هي التي قادته إلى وضع تصوراته حول "الثورة الجنسية" وما ستقدمه للفرد والمجتمع من أسباب الرفاه والتطور. وهي تصورات لا تتجاوز حدود التمنيات الطيبة والرغبات الجميلة التي ما فتئت تراود مخيلة المفكرين المثاليين وأحلام الطوباويين.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح