لمواقع الأثرية في لبنان : ( بيروت ) (خمسة آلاف عام من سيرة مدينة )
إن حفريات مدينة بيروت القديمة لهو أكثر من عرض للآثار التاريخية، وتعيين موقعها على خريطة ثنائية الأبعاد، وكتابة تقرير تقني عن المكتشفات، فعرض الآثار القديمة في إطار إعادة إعمار بيروت يتطلب إعادة دمجها لتشكل جزءاً لا يتجزأ من صورة المدينة وإبداع سيرة ذاتية لها.
الحفريات الأثرية في بيروت:
مرت أعمال التنقيب عن ماضي بيروت بعدة مراحل، كان كميل إنلارت ( Camille Enlart ) من أوائل الذين وصفوا نصباً قديماً فيها، ففي العام / 1905م / وثق توثيقاً منظماً الجامع العمري ( الذي بني ككتدرائية صليبية في القرن الثاني عشر بعد الميلاد ) ممهداً بذلك الطريق أمام المزيد من الأبحاث، وكذلك دو مسنيل دو بويسون ( Du Mesnil du Buisson ) الذي درس حصون بيروت في العشرينيات من القرن الماضي، فيما حاول علماء آثار آخرون توثيق تاريخها المعماري في الوقت عينه، بول كولينيه من جهته درس الوثائق والآثار المتعلقة بوجود مدرسة الحقوق في بيروت.
بين الحربين العالميتين تمكن جان لوفراي ( Jean Lauffray ) من وضع أول خريطة شاملة لوسط المدينة الروماني مستخدماً نتائج التنقيبات الأثرية السابقة ومراقباته الخاصة، في حين جرت ورشة إعادة إعمار ضخمة في ساحة النجمة وأحياء فوش ألنبي، ورمم كالايان ( Kalayan ) العديد من المكتشفات في بيروت وفي جوارها، وأبرزت جهوده أهمية حقبة كبيرة من تاريخ لبنان في ناظري زائر العصر الحالي.
شهد العام / 1993م / بداية مرحلة أخرى من إعادة إعمار الماضي في بيروت، وتطلبت جهود أثرية ضخمة من / 14 / فريق حفريات في الفترة التي سبقت إعادة بناء وسط مدينة تعرض لدمار هائل، وفي الفترة التي تلته.
بيروتا ( Biruta )، بيريتوس ( Berytus ) باروت ( Barut )، بيروت ( Beyrouth ) :
حدد موقع مستوطنة بيروت على شبه الجزيرة الناتئة من الشفة الساحلية الضيقة التي تميز الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، فتحت حماية رأس بيروت، وقرب مصب نهر بيروت، كانت السفن المبحرة بمحاذاة سواحل شرق المتوسط تجد لها ملاذاً آمناً من العواصف، ويمكن للمرء تخيل البحارة الهوميريين يتنقلون من جون إلى جون بحثاً عن ملجأ لهم في الخلجان يقضون فيه الليل، ولعل النقطة الاستراتيجية في الجرف قرب الموقع أو المواقع حيث يمكن إنزال السفن وإخراجها من الماء، ولدت مستوطنة مهمتها تزويد هذه السفن بالمؤونة والعتاد منذ بداية التاريخ المدني، وهكذا أسست الأرباح والضرائب المتأتية عن هذه التجارة الأولى لتاريخ طويل من الازدهار المدني والتجاري، وربما ليست القصور والمعابد والعنابر المشيدة على امتداد عمر بيروت المدني إلا تجسيداً لغنى سكانها الذائعي الصيت.
نادرة للغاية هي القطع التي تمكن علماء الآثار من استخراجها من هذا الموقع، والسبب أعمال إعادة الأعمار المتواصلة التي يخضع لها، وقد كانت المستوطنة التي تعود إلى الألف الثالث ق.م صغيرة ولكن ممتدة إلى حد ما ؛ هذا ما استنتجه العلماء من جدران الدعم التي تقدمت تدريجياً باتجاه داخل الأرض، مما أدى إلى قيام منطقة مرتفعة عن سطح الأرض راحت مساحتها تتوسع، وعلى هذا المنطقة أمكن بناء المعابد الأبدية العظمة والقصور والعنابروالمباني الإدارية، ونعتقد أنه حول التل العالي استغل الأراضي الصالحة للزراعة فلاحون يقطنون قرى صغيرة خارج الحصن المرتفع تقع ربما على التلال المحيطة بالمنخفض القليل العمق، وفي السهل الممتد على ضفتي نهر بيروت.
في الألف الأول ق.م أصبح التل العالي أصغر من أن يسمح بتشييد مبان إدارية ودينية إلى جانب المساكن والعنابر، فتم التخطيط لأعمال إعادة بناء على مستوى البنية التحتية للمرفأ أيضاً، وتحولت المدينة إلى نقطة محورية للعلاقات التجارية مع شرق البحر الأبيض المتوسط، وفي تلك المرحلة بالذات شقت السفن عباب المتوسط، ونقلت البضائع من الشرق والغرب عبر الشبكات التجارية المعقدة.
كان مركز القوة في تلك الحقبة يكمن في دولة المدينة، وقد سعت المدن التي كانت تتمتع بمجموعة قوانين وامتيازات واسعة النطاق ووضع سياسي مميز، إلى تعزيز سلطتها عبر معاهدات تضمن لها التجارة داخل المنطقة وخارجها.
حققت بيروت لنفسها موقعاً مهماً في شرق المتوسط، وكان للمدينة أكروبوليس في الموقع القديم ( موقع الجرف المطلة على المرفأ )، وامتدت أبنيتها لتؤلف مدينة أكثر انخفاضاً انتشرت حول المرفأ شيدت فيها مجموعة متنوعة جداً من الأشكال الهندسية، فعلى جرف غربي مطل على الميناء حوى أكروبوليس زائف مساكن تجار بيروت الفخمة؛ وقد وفقوا في اختيار هذا الموقع لأن الرياح الغربية المسيطرة على المدينة لم تكن تحمل إليه أصوات المرفأ ورائحته، ويذكر أن شوارع ذلك الجزء من بيروت زودت بقنوات لتصريف المياه، أما المدافن فقد امتدت غرباً على طول الجرف المحاذية للبحر.
وجدت آثار متعددة تنوعت بين السلال المطمورة نصفها في الأرض والمهاجع الصغيرة التي توحي بأنها كانت تأوي عمال المرفأ في المنطقة المتاخمة له، وبمحاذاة محيط المدينة المنخفضة، وتشير المعالم الأثرية المكتشفة مثل الأفران، والحفر من مختلف الأحجام إلى مكان الحي الحر في موقع استراتيجي بالنسبة إلى الريح الغربية المسيطرة، وفي هذه المنطقة بالذات نحدد موقع إحدى أهم صناعات مدن الشرق فقد لعبت بيروت دورها في صناعة الصباغة الأرجوانية الشهيرة، كما كمان الإسفنج فيها ينظف ويصدر أيضاً ليستخدم لأغراض أقل أهمية على الأرجح، وتوحي مقبرة صخرية بسيطة البناء بأن المحيط كان يستخدم أيضاً كمدفن لسكان المدينة المنخفضة أو سواهم من أشخاص خارج المستوطنة اعتمدت عليهم المدينة بشدة لتزويدها بمستلزماتها.
تحصينات بيروت:
توحي جدران متنوعة تعود إلى العصر البرونزي من ( 2000 – 1500 ق.م ) أن المستوطنة على الجرف المطل على الميناء امتدت تدريجياً جنوباً، كما أنه في أواخر ذلك العصر ( 1500 – 1200 ق.م ) بنيت بوابة ضخمة في سور المدينة الجنوبي.
بعد حقبة من الانحطاط استعادت بيروت قدرتها على التعبير عن موقعها العظيم من خلال حركة بناء كثيفة في بداية الألفية الأولى ق.م، كما غطى بوابة المدينة العائدة إلى القرون السابقة سور واق كبير رصف بالحجارة الطبيعية؛ وقد صمد منحدر هذا السور المرصوف حتى ارتفاع / 6م /، ومن الممكن أن يتخيل المرء كيف كان الأكروبوليس ليبدو منيعاً من حائط سياج يعلو المنحدر.
تحت ستار هذا الأكروبوليس نمت بقوة مدينة منخفضة تخلو من أي نظام دفاعي في حقبة وفر فيها الحكم الفارسي الأمن والاستقرار في أرجاء المشرق وبلاد الرافدين.
ويبدو أن بيروت ركزت على التجارة أكثر من السلطة السياسة في الحقبة الهلينية، وفي القرن الثالث ق.م سمح لها الاستقلال عن صيدا وسياسات الملوك السلوقيين ببناء نظام دفاعي جديد فاستبدلت جدران الدعم المحيطة بالأكروبوليس أو التل القديم بجدار منيع يتراوح عرضه بين / 10 – 12م /، وعند زاوية الأكروبوليس الشرقية بني برج قطره / 12م / وبلغت سماكة حائط المدينة الشرقي / 2.5م /، وقد دعم عند الزاوية الجنوبية الشرقية ببرج دائري، وتشير بداية جدار يمتد غرباً إلى وجود جدار جنوبي بمحاذاة طريق طرابلس القديم ( شارع غورو، وشارع الأمير بشير ).
لم تبنى الحصون فقط بسبب المنافسة بين المراكز البحرية في المشرق فمن المنطقة الواقعة خلق الساحل والجبال، بدأت تشن هجمات تستهدف الثروات المجمعة في المدن.
تدخلت الجيوش الرومانية في هذه الحروب المحلية؛ ونتيجة لسياسة أغسطس أصبحت بيروت معقلاً عسكرياً عبر تأسيس مستعمرة لفيلقين من الجيش، كما قضت سياسة الإمبراطورية الرومانية العامة بأن يحميا المدن والأقاليم، ولم تكن أنظمة الدفاع المدنية قد بنيت بعد في تلك الحقبة بل شيدت المدن بدلاً من المعابد، والمسارح، والحمامات، والشوارع المعمدة.
في الحقبة التي تلت الحكم الروماني، لم تستعد المدينة أبداً مكانتها القديمة كمركز بحري مهم إلا أن السلطات الأموية بدأت على الأرجح بتعزيز موقع بيروت كأهم مدنها التي تملك مرفأ لكن لا إثبات على ذلك حتى يومنا هذا، وتوحي الأدلة المستخرجة من الحفريات بأن بناء أسوار المدينة وبواباتها يعود إلى القرن التاسع، وفي الواقع طمست معظم الأدلة أعمال التصليح المستمرة وبناء مدينة الحقبة التي تلت القرون الوسطى، وفي المنطقة الغربية من المدينة المتوسطية دعم قسم من الخندق المائي الذي حفر في الصخر الأديم بطبقات من الحجارة، أما في المنطقة الجنوبية فتم تحديد موقع باب دركة ضمن سور المدينة والبالغ عرضه / 3م /، ويذكر أن عناصر من الحقبة الرومانية مثل أعمدة وقواعد أعمدة أعيد استخدامها في السور الذي كشف عن إصلاحات تعود إلى أوائل العهد العثماني.
هذه الآثار المقتطعة من تاريخ مديني امتد قرابة / 5000 سنة / ستدمج مع بعضها ضمن تسلسل تاريخي يقود الزائر المستقبلي عبر المدينة العصرية.
لم تترك التغيرات السياسية في شبكات السلطة في الألف الأول ق.م أثراً سلبياً على بيروت، لكن ربما خضعت المدينة لحصار، ودمر جزء من حصونها أو تعرضت لأي نوع آخر من العمليات العسكرية، ويذكر أن السلطة المصرية امتدت عبر غزة وفلسطين باتجاه ساحل جبل لبنان، وأن إمارات سوريا الآرامية أقامت علاقات مع المنطقة الواقعة خلف الساحل اللبناني.
هذا وشكلت المراكز الساحلية هدفاً جذب الآشوريين الذين شنوا حملة عسكرية على سوريا ، وسعوا إلى تأمين منفذ لهم على الشبكة التجارية المتوسطية، وقد خلف هؤلاء الملوك نقوشهم التذكارية على الجرف المحيطة بمصب نهر الكلب.
تنقصنا أدلة خطية لنعرف ما كانت بالتحديد ردة فعل السلطات في بيروت حيال المطامع الآشورية، ولكن يعتقد أن أمراء بيروت كانوا مستعدين لدفع ضريبتهم للملك الآشوري، وعندما حل حكام الفرس محل الهيمنة الآشورية اتخذت السلطات البيروتية موقفاً يتكيف مع نظام القوة الجديد، وحين شن الاسكندر الكبير حملاته على المشرق، انجذب إلى مدينة صور أكثر من بيروت على الأرجح، لكن الأخيرة تعاملت مع الجيش المتقدم بواقعية سياسية أكبر.
عندما وفاة الاسكندر المقدوني، قسمت المملكة بين قواد جيشه فأصبحت جزءاً من الإمبراطورية البطالمية أولاً ثم السلوقية، ونعتقد أن المدينة عرفت الازدهار مجدداً في هذه الحقبة بدليل تشييد حائط على حدودها الشرقية والجنوبية، وحصن زود ببساتين مستديرة حول الأكروبوليس القديم.
بنيت معالم الحضارة والسلطة الرومانية داخل هذه المدينة الهلينية، ويبدو أن ساحة عامة هي ( ساحة النجمة الحالية ) كانت متصلة عبر جادة شمالية – جنوبية هي ( الكاردو ماكسيموس ) بحمام ضخم شمالاً ومنشآت دينية جنوباً، وتشير الآثار القليلة التي لم تمسها ورشات إعادة الإعمار الهائلة إلى وجود عدد أكبر من مجمعات الاستحمام والبيوت القديمة في منطقة هذه البنى الرومانية الجديدة.
تأقلم سكان بيروت ونمط الحياة الجديد الذي ميز المدن الرومانية، وفي القرن الأول أطلق هيرودوس العظيم برنامج إعمار طموح دعمه الإمبراطور في روما، وراحت العائلات المحلية تضيف معالم هامة إلى المدينة مثل: مسرح، ونافورة مقدسة، ومعابد، وقاعات اجتماع، وصفوف أعمدة، ومجمعات استحمام، وذلك برعاية هيرودوس أغريبا ( Herod Agrippa )، وذلك من / 10 إلى 44م/، ولم يكن بناء مدرسة حقوق في القرون اللاحقة إلا جزءً من هذا البرنامج الذي أتاح لسكان بيروت إظهار غناهم وقوتهم، أما في أوائل الحقبة المسيحية فقد أصبح بناء الكنائس أحد وسائل التعبير عن وضع عائلات بيروت المدينية.
في منتصف القرن السادس ق.م، دمر زلزال مفاجئ المدينة صاحبة الأشكال الهندسية الرائعة فأعاد الناجون إعمارها لكن بنمط يقل عظمة عن السابق، وجمعت عدة البناء من الأبنية المنهارة، وضمن محيطها استخدمت غرف مجدداً أو عدلت قليلاً وفقاً لمعايير جديدة.
كانت بيروت المدينة التي أصبحت جزءً من شبكة سياسية جديدة في بداية عهد الخلفاء العباسيين من ( القرن السابع إلى التاسع الميلادي )، وسعى حكام الداخل على تأمين مرافئ بغية المشاركة في الشبكة التجارية المتوسطية، لكن بيروت لم تضم مراكز القوة والدعاية لهذه الممالك الجديدة، ولذلك لا تعكس هندستها المعمارية عظمة الماضي؛ غير أن أهميتها كمرفأ تجاري بقيت على حالها، وقد حاولت المدينة حماية سكانها من الهجمات التي شنتها المنطقة الجنوبية الداخلية في هذه القرون عبر بناء أسوار جديدة، وتشير أفران الخزف، ومعامل الزجاج المكتشفة إلى أن ظلت مركز إنتاج للبضائع التي راحت تصدر إلى مناطق أخرى، وأما إنتاج الحرير فكان مصدراً آخراً للدخل فيها.
أتت الحقبة الصليبية من ( القرن 10 – 13م ) بمناخ سياسي مختلف فيه اضطر سكان بيروت أن يجدوا مكاناً لأنفسهم، وفي صراع مستمر حول الهيمنة على المدينة وجوارها لعب كل من الحكام الفاطميين التابعين لمصر، والحكام التابعين لدمشق، وأمراء مملكة القدس الصليبيين دورهم في تاريخها، وقد أخضع الأمراء المماليك المدن على الساحل المشرقي بحسب بعدها عن القدس فجردت صور وصيدا مثلاً من المعالم الدينية، وأعيد إعمار القليل جداً منها في القرنين ( 13 – 14م )، وأيضاً طرابلس جردت من المعالم الصليبية، وشيدت المدينة مجدداً على بعد / 3كم / إلى الداخل، وأما بيروت التي تقع على مسافة محددة من القدس فقد حظيت بامتياز وأصبحت مدينة مملوكية هرب منها معظم سكانها المسيحيين باللجوء إلى قبرص.
وتمثل كاتدرائية مار يوحنا المعمدان أو المسجد العمري تاريخ هذه الحقبة الزمنية أفضل تمثيل، فقط بنيت الكنيسة وفق للطراز الروماني، وتعكس العظمة التي أراد الأمراء الصليبيون منحها لبيروت، وهي تتوافق وتقاليد الهندسة المعمارية الدينية المطبقة في عدة مدن أخرى في شرق البحر الأبيض المتوسط ( عكا – صور – اللاذقية )، وعندما استسلمت بيروت للأمراء المماليك بعد أن احتلها سان جان القادم من ( عكا ) وذلك في سنة 1291م حولت الكنيسة إلى مسجد، ويروى أنه صعب تنفيذ صلاة الجمعة في البداية لأنه لم يكن سهلاً تأمين نصاب الأربعين شخصاً.
على الرغم من أن الباباوات منعوا كل أنواع التجارة مع المدن المملوكية إلا أنه لم يدم احترام هذا الحظر طويلاً بسبب الحاجة إلى القطن والتوابل، وخاصة الفلفل، وبيروت التي تميزت بمرفأ أساسي في التجارة مع الداخل، وموقع استراتيجي على الساحل المشرقي استمرت بلعب دورها في الصراع السياسي على الهيمنة في شرق المتوسط، وقد أدى هذا الموقف إلى تغيير مستمر في حكامها السياسيين في هذه الأثناء، وكما نعتقد أن التجارة استمرت مع مدن مثل دمشق والإسكندرية والقسطنطينية، وكان لاكتشاف الخط الذي يمر عبر رأس الرجاء الصالح بالغ الأثر على الحركة التجارية القائمة بين الشرق والغرب مروراً بالمرافئ الشرقية؛ فنتج عن ذلك انتقال المراكز التجارية نحو البرتغال وجوارها.
مع بدء الحكم العثماني من ( القرن 15 إلى 18م ) عرفت بيروت حقبة ازدهار أخرى عندما استهل فخر الدين الثاني المعني عهده الثاني في لبنان، وبنى الأمير قصراً في الجزء الشرقي من المدينة، وأصبغ على الحديقة هندسة مزجت بين النمطين الشرقي والإيطالي مزجاً رائعاً، ولكن الآبار التي بنبت لري النبات هي بقايا القصر الوحيدة التي وجدها علماء الآثار.
في المرحلة الأخير من العهد العثماني تميزت بيروت بشبكة ممرات أقيمت بين المعاقل العسكرية المشيدة علة المواقع الإستراتيجية فقد بنى الحكام العثمانيون السراي الكبير على التلة المطلة على المدينة والمرفأ، وأقيمت ثكنات عسكرية في موقع قصر صليبي سابقاً، وبني المرفأ مجدداً فيما شهدت المدينة ورشة إعادة إعمار كبيرة في أواسط القرن التاسع عشر، وكان لبناء طريق بيروت – دمشق أثر كبير على وضع بيروت الاقتصادي.
في القرن العشرين تسارعت أعمال إعادة إعمار المدينة مع نهاية الحكم العثماني، وأصبحت بيروت إحدى أكثر مدن الشرق الأدنى التي تتمتع بطابع غربي، وأضحت عاصمة الجمهورية اللبنانية نقطة التقاء بين الشرق والغرب، وازدهرت قبل الحرب لاجتذابها رساميل النفط.
مدافن بيروت
ضمت منطقة وسط بيروت طائفة من القبور يمتد تاريخها من العصر البرونزي إلى الحقبة العثمانية، وهي تتجمع في مدافن تقع خارج المناطق السكنية الحالية، وتتنوع من الحفر البسيطة إلى المدافن الصخرية التي تحوي عدة أضرحة.
العصر البرونزي / 3000 – 1200 ق.م / :
من العصر البرونزي، وجدت جرتان مدفنيتان على التل القديم حوت كل واحدة هيكلاً عظيماً لولد، وفي إحداهما عقد من الخرز الثمين وثلاث آنيات خزفية، وفي العام / 1954م / اكتشفت مقبرة صغيرة مؤلفة من أربعة مدافن صخرية، وقد استخدمت هذه المقابر في بداية العصر البرونزي ومنتصفه، ورافقت الأموات مجموعة غنية من أغراض مدفنية تتضمن: أواني خزفية قبرصية وميسينية ومصرية ومينوية.
من العصر الحديدي إلى الحقبة الهلينية / 1200 – 332 ق.م / :
يمكن تقسيم القبور إلى مجموعتين : حفر بسيطة ومدافن فخمة، ويبدو أن الأولاد كانوا يدفنون في مكان آخر، وذلك لأن مدافن الأطفال العائدة إلى تلك الحقبة نادرة جداً.
تجمعت الحفر في الجهتين الجنوبية والشرقية من مناطق المدينة الهلينية الصناعية، وتخلو هذه الحفر البسيطة من الأغراض المدفنية، ويفترض أنها كانت مدفناًَ لأفقر طبقات المجتمع، ولكن يظهر مع بعض الهياكل العظمية صف من حلقات عظمية يمتد من الرأس إلى أخمص القدمين، بالإضافة لبضعة مسامير حديدية، وقد تكون الحلقات العظمية بقايا زينة كفن؛ أما المسامير الحديدية فقد استخدمت على الأرجح في التوابيت الخشبية أو نقالات حمل الموتى.
اكتشفت مجموعة من المدافن الصخرية غرب السوق الطويلة القديم، ومعظمها مدافن ذات فتحات تغور حتى عمق يتراوح بين مترين وخمسة أمتار، وبعضها يؤدي إلى مغارة أو مغارتين، واستخدمت هذه المغاور كمقابر لدفن عدد قد يبلغ خمسة أشخاص، وكانت ترافق الميت أغراض مثل الجرات الخزفية والمصابيح والخلاخيل البرونزية والسبحات المصنوعة من حجارة نصف كريمة.
الحقبة الرومانية / 64 ق.م – 312م / :
مدافن صخرية، ونواويس من الرخام والحجر والصلصال والمعدن اكتشفت في مناطق تمتد غرباً لتصل إلى رأس بيروت، وشرقاً حتى منطقة مستشفى مارجرجيوس، وتدل الأغراض الثمينة التي وجدت في العديد منها على غنى المدفونين، هذا وكشفت حفريات أثرية جرت مؤخراً مجموعة قبور في الأطراف الغربية للمدينة الرومانية، ويذكر أن عدداً يصل إلى / 67 ميتاً / دفن في مقبرة واحدة تعود إلى القرنين الثاني / الثالث الميلادي حفرت جزئياً في الصخر الصلد، ومن بين المكتشفات الأكثر شيوعاً أقراط ذهبية، وقطع نقدية برونزية وقناني زجاجية، وكان وجه أحد الموتى دفن أو دفنت في قبر منفرد مغطى بقناع ذهبي.
وقد استخدمت قبور أخرى لدفن عدد يصل إلى 10 أموات في هذا البناء المدفني أما في أعلاه فقد وجدت ثلاث نواويس حجرية تشير إلى تغير في نمط الدفن من البناء المدفني المشترك إلى الناووس الفردي.
الحقبة العثمانية:
كانت المدافن العثمانية تقع خارج أبواب المدينة، وفي السنوات الأخيرة حفر عدد قليل من القبور يحوي بعضها مدفناً لشخصين، وكانت الأعمدة الرومانية تحول أحياناً إلى ألواح تستخدم كمدافن، ولا يزال العديد من القبور العثمانية في موقعها.
على امتداد تاريخ بيروت جعلت المدن دائماً خارج مناطق السكن، وبما أن هذه المناطق توسعت وتقلصت مع مرور الزمن، تغير أيضاً موقع القبور، أما بالنسبة إلى الأغراض المدفنية فيشير وجودها أو انتفاؤها إلى وضع الميت، كما يدل على الاعتقاد بحياة بعد الموت، وليست القطع النقدية الموضوعة في أفواه هياكل عظمية رومانية إلا برهاناً على ذلك إذ كان الهدف منها دفع بدل أتعاب العامل الذي سينقل الميت إلى النهر المؤدي إلى العالم السفلي، ويستنتج من غياب مقابر الأولاد أنهم كانوا يدفنون في مكان آخر لا يزال مجهولاً حتى يومنا هذا.
هل عثرنا على مدرسة الحقوق ؟
إن العثور على اللوحة التذكارية التأسيسية لهو أفضل عون لعلماء الآثار في بحثهم عن مدرسة الحقوق في بيروت، ولكن هل من معاير أخرى تساهم في اعتبار الآثار المكتشفة مدرسة الحقوق؟
تعالج الوثائق التاريخية ثلاث حقب مختلفة من تاريخ المدرسة، وربما انبثقت مدرسة الحقوق عن الأرشيف القانوني المرتبط بأحد الهياكل، وبالتالي يمكن أن تضم حفريات هيكل ما في بيروت غرفاً كانت الوثائق القانونية تودع فيها في ما مضى، ولعل الصفوف كانت مساكن الموظفين المختلفين الذين عملوا في الأرشيف.
وتعلمنا الوثائق أن دراسة الحقوق في بيروت جذبت طلاباً من كل أنحاء العالم في القرنين الثالث والرابع، وفي القرن الرابع كان موقع الصفوف قرب مجمع كنيسة القيامة، وقد دمرت هذه الكنيسة عام / 362م /، ولكن سرعان ما أعيد بناؤها.
في القرن الخامس دمجت مدرسة الحقوق في مبنى جديد بناه الأسقف أوثتاثيوس، وقد وصف زائر المبنى على النحو التالي: يا لها من هندسة معمارية عظيمة، ويا له من منظر خلاب غني بالألوان! كم هو جميل ومتناسق هيكل الله! كيف تدعم عشرة عواميد عظمته! يا لحفرها الفريد وتشابهها التام؛ فكل عمود مصقول ناصع البياض! كيف نقشت كلها على النحو ذاته وسكبت بالشكل نفسه! إنني معجب أيضاً بالرسومات والصور البديعة ( الفسيفساء )، وجمال الرسومات المختلفة، وأناقة الحفر وجمال الألوان...
يمكن أن يلائم الوصف الأخير الزاوية الجنوبية الشرقية لبناء خضع لحفريات أثرية في المنطقة القائمة بين مبنى الأوبرا وكنيسة مارالياس ( للروم الكاثوليك ) فممر ذو أرضية من الفسيفساء يفصل بين مجموعة من الغرف الصغيرة على طول الجدار الشرقي، وقاعة فسيحة رخامية البلاط، ووجد في الداخل عمود من الرخام الأبيض نقش عليه صليب نقشاً بارزاً وتاج عمود مزين بالصلبان، وتوحي المكتشفات وضخامة المبنى والتاريخ العائد إلى القرن الخامس الميلادي بأن هذه المباني قد تكون القصر الأسقفي الذي بناه أوثتاثيوس.
مرفأ بيروت
تمثل شبه جزيرة بيروت موقعاً ملائماً جداً لمجموع المرافئ التي أتاحت للمناطق الخلفية البعيدة عن الساحل بلوغ البحر، وقد كان المرفأ العائد إلى العصر البرونزي يقع إلى الجهة الغربية الشرقية من الجرف الهلالي الشكل، حيث وجد العلماء آثار مستوطنة تعود إلى منتصف الألفية الثالثة ق.م.
أمن المرفأ مدخولاً إضافياً لسكان مستوطنة الجرف، وكانت الحاجة تدعو إلى إقامة علاقات جيدة مع الموانئ المجاورة، والملوك النافذين الذين يحكمون المدن على امتداد الساحل الشرقي، وقد كشفت حفريات مؤخرة طريقاً معبدة تمتد من التل القديم إلى المنطقة المحيطة بجامع الدباغة، وتدل التنقيبات في هذه المنطقة على أن المرفأ كان يقع في أسفل الجرف عند الجهة الغربية حيث بني القصر القرووسطي لاحقاً.
كان المركز الهليني والمرفأ العائد إلى العصر الفينيقي يقعان في المكان نفسه، ويعكس اكتشاف تمثال من الصلصال يمثل كاستور ( Castor )، وبولوكس ( Pollux ) التداخل بين الحياة اليومية والحياة في البحر، إذ كان البحارة يستنجدون بالآلهة التوأم لحظة الخطر.
منذ أن بنيت الطريق الساحلية وفقاً للمعايير الرومانية في القرن الأول الميلادي، ازدادت مكانة مرفأ بيروت أهمية فقد كان مرتبطاً بحركة العبور على الطريق البحرية التي مرت بـ حمص (Emesa) وأفاميا و إيديسا ( Edessa )، وبرويا ( Beroea )، وهيرابوليس (Hiriapolis )، وغيرها.
كما أن الحفريات من جهتها لم تكشف إلا أجزاء من الجدار ومراكز التخزين التابعة للمرفأ الروماني لكن بحسب مقاييس هذه الآثار وامتدادها، شيد الميناء الروماني تبعاً لمعايير عالية المستوى من الهندسة الرومانية، وتشير الخزفيات التي جمعت من قعر الميناء إلى أن البحارة كانوا يرمون طاساتهم، وأباريقهم، وكؤوسهم عندما تنكسر، ولكن من المثير للاستغراب هو خلو هذا الركام من أمفورات كبيرة؛ ولعل ذلك دليل على أن السلع التجارية كانت تعامل بعناية شديدة نظراً لقيمتها.
ووفقاً للخزفيات المستخرجة من قعر الميناء، فإن المرفأ بقي على الطراز الروماني قيد الاستعمال حتى القرن العشر الميلادي.
كشف علماء الآثار عن جدران المرفأ العائدة إلى الميناء العثماني الأول وتوحي الخزفيات من الصين وأوروبا بأن بيروت كانت على صلة وثيقة بشبكة التجارة العالمية في تلك المرحلة، وبين الأعوام / 1863 – 1885م / جهز المرفأ بجدار بني للسفن التي تحمل وتفرغ بضائع وركاب.
أما في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، فقد أدت التغيرات الكبيرة التي شهدتها بيروت إلى بناء مرفأ جديد لا يزال حوضه الأول موجوداً، وقيد الاستعمال في القاعدة البحرية.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح