فتحت الدراسات الأنتروبولوجية والإتنوغرافية والاجتماعية المجال واسعاً أمام البحث السيكولوجي لاختبار أثر الثقافة الاجتماعية في نمو النفس. ومع أن هذا الميدان ليس جديداً تماماً على علم النفس، إلا أن تباين الآراء حول القضايا المركزية الذي تجسد في تعدد الاتجاهات والنظريات النفسية قاد الكثير من الباحثين إلى تقديم المزيد من الأدلة والشواهد على صحة آرائهم وتطويرها عن طريق توسيع دائرة موضوعات اهتمامهم وجمع المعطيات الخبرية عنها. ولقد كانت العلاقة بين النفس والمحيط الثقافي إحدى القضايا التي كانت، ولا تزال مثاراً للجدل والخلاف بين علماء النفس.
وعلى قاعدة النموذج الأوربي في النمو العقلي الذي قدمه بياجيه، حيث أن الذكاء يمر بمراحل محددة وثابتة، وتتميز كل واحدة منها ببنيات وخطط تتكون في حدود زمنية معينة، انطلق عدد من الباحثين في دراسة العديد من التشكيلات العقلية عند أطفال ينتمون إلى مجتمعات وثقافات مختلفة. وسعى هؤلاء من وراء أعمالهم إلى التحقق من إمكانية تعميم هذا النموذج على مجتمعات أخرى خارج القارة الأوربية.
وتعتبر دراسة ر. برايس وليامز R.PRICE WILLIAMS التي أجريت عام 1961 واحدة من تلك الدراسات البيئوثقافية المقارنة. فقد تناولت مفهوم الاحتفاظ بالكم عند أطفال سنوات ما بين الخامسة والثامنة من العمر ممن ينتمون إلى قبيلة TIV البدائية التي تسكن في أحد أقاليم نيجيريا ومقارنتهم بالأطفال السويسريين. وخلصت هذه الدراسة إلى أن هذا المفهوم يظهر لدى الأطفال البدائيين في نفس السنة التي يظهر فيها لدى أترابهم السويسريين
(PRICE WILLIAMS, 1961, 293-305).
وفي هذا الإطار قامت ج. غودناو GOODNOW عام 1962 بدراسة شبيهة بالدراسة السابقة، تناولت فيها تأثير كل من الوسط الثقافي والدراسة على تكون الاحتفاظ. ولهذه الغاية طبقت اختباري بياجيه في الاحتفاظ بالوزن والحجم إلى جانب اختبار التصنيف والاختبار التوليفي على عينة مؤلفة من 500 طفل من هونغ كونغ تتراوح أعمارهم بين 10 سنوات و12 سنة بقصد مقارنتهم مع أطفال سويسرا. وقد أظهرت استجابات أفراد هذه العينة في المواقف التجريبية أن الدراسة والوسط لا يؤثران على اكتساب مفهوم الاحتفاظGOODNOW).
أما دراسة ن. بيليفو N.PELUFFO حول "الثقافة والمشكلات المعرفية" التي أجريت خلال عام 1962 على أطفال جزيرة جنوة(إيطاليا) فقد كشفت عن الأثر الواضح للوسط الاقتصادي والاجتماعي الذي يترعرع فيه الطفل. حيث تبين أن نتائج الأطفال، وحتى الراشدين، الذين يعيشون في بيئة اقتصادية واجتماعية متخلفة في بعض اختبارات بياجيه كانت أضعف من النتائج التي حصل عليها أترابهم الذين ينتمون إلى بيئة ميسورة ماديا وثقافيا. ففي الوقت الذي لم تتجاوز فيه نسبة نجاحهم في تلك الاختبارات 25% وصلت هذه النسبة عند الآخرين إلى 60%(PELUFFO, 1962, 275-291).
وفي عام 1966 درست ن. محسني N.MOUHSENI استجابات الأطفال الإيرانيين في اختبارات الذكاء للوقوف على مستوى ذكاء أطفال المدينة والريف في إيران ومقارنته بمستوى ذكاء الأطفال الأوربيين. وشملت دراستها مجموعتين من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين السنة الخامسة والسنة العاشرة. وتمثل المجموعة الأولى أطفال العاصمة طهران. بينما تمثل المجموعة الثانية التي تم اختبارها من قرية موتشان الريفية الإيرانية المتخلفة. وقد استخدمت الباحثة اختبارات الاحتفاظ بالسوائل والوزن والحجم لبياجيه ورائز المصفوفات لرافن ومتاهات بورتيوس واختبار رسم الرحل لغودانف. وتبين لها في النتيجة أن مفاهيم الاحتفاظ تظهر لدى أفراد المجموعتين بنفس التسلسل الذي تظهر فيه لدى الأطفال الأوروبيين غير أن ظهورها يتخلف عند الأطفال القرويين عنه لدى أترابهم المدنيين بعامين أو ثلاثة أعوام
(MOHSENI, 1966).
أما إ.مارملشتين E. MERMELSTEIN ول. شولمان L. SHULMAN فقد توصلا إلى نتائج مخالفة لما توصلت إليه دراسة بيلفو ومحسني. فقد درس الباحثان عام 1967 علاقة اكتساب الاحتفاظ بالكم في غياب التعليم المنظم(المدرسي) عند أطفال ما بين 6 و 9 سنوات في كندا والولايات المتحدة الأمريكية. واختارا لدراستهما هذه مجموعة من الأطفال السود(60 طفلاً) الذين لا يتلقون تعليماً منتظماً، وأخرى من الأطفال الذين يدرسون في مدارس عامة(60 طفلاً) وأظهرت التجربة أن الفروق بين استجابات أفراد المجموعتين في اختبار الاحتفاظ بالكم ليست فروقاً جوهرية. وهذا يعني أن التعليم لا يلعب دوراً في تكون مفهوم الاحتفاظ(Mermelstein and Shulman, 1967, 39-52).
وتناول ج. برانس J.PRINCE في دراسة مماثلة "أثر التربية الغربية في تكون المفاهيم العلمية في غينيا الجديدة" دور الأساليب والطرائق التربوية والتدريبات العملية في اكتساب مفاهيم الاحتفاظ. وقد شملت هذه الدراسة التي تمت عام 1968 عينة مؤلفة من 2700 طفلاً من إقليم بابوا PAPUA وغينيا الجديدة NEW GUINEA ومن أعمار تتراوح بين 8 سنوات و18 سنة. وأظهرت النتائج صحة النموذج البياجي وأفضلية الدراسة على العمر من حيث دوره في اكتساب الاحتفاظ(Prince, 1968, 64-74).
وقامت م. بوفيه M.Bovet عام 1968 بدراسة تحت عنوان "دراسة بيئوثقافية لعمليات التفكير "وطبقت فيها اختبارات بياجيه في الاحتفاظ بالسوائل والجوامد والوزن والطول على مجموعتين من الأطفال الجزائريين غير الدارسين، والذين يسكنون في أحياء فقيرة في الجزائر العاصمة وفي قريتين إحداهما تابعة للعاصمة والثانية لمدينة الشلف. وتوصلت من خلال هذه الدراسة إلى وجود فروق بين هؤلاء الأطفال وأترابهم الأوربيين بحوالي 3 إلى 4 سنوات(Bovet , 1968- 189-200).
وانتهت م. دولوموس M. delemos إلى نتائج مشابهة من خلال دراستها لـ "نمو الاحتفاظ عند الأطفال الأستراليين الأصليين" التي أجرتها عام 1969، واستخدمت فيها اختبارات الاحتفاظ بالسوائل والوزن والحجم على عينة من أطفال مدينة هارمنسبورغ HERMANNSBURG وأخرى من أطفال جزيرة إلكو ELCHO والذين تتراوح أعمارهم بين 8 سنوات و15 سنة. حيث تبين أن هناك فروقاً في مستويات الاحتفاظ بين أفراد العينتين من جهة وبينهم وبين الأطفال الأوربيين من جهة ثانية(DELEMOS , 1969-NO 4, 255-269).
وقام هـ . بول H. Poole عام 1965 بدراسة "أثر التمدن على اكتساب المفهوم العلمي لدى أطفال الهوسة في شمال نيجيريا" مستخدماً اختبار كينغ بعد تكييفه مع مجتمع الهوسة النيجيري. وقد خصصت هذه الأداة لقياس الاحتفاظ بالسوائل والجوامد والإدراك الزماني والمكان إلى جانب بعض المبادئ الميكانيكية والحياتية. وكشفت هذه الدراسة عن مستوى جيد لاستجابات أفراد العينة على أسئلة الاختبار. ولكن هذا المستوى لم يرقَ إلى مستوى استجابات أطفال إحدى المدن الإنكليزية الجنوبية ممن طبق عليهم نفس الاختبار
(POOLE, 1968, NO . 38, P.T.I. 57-63).
وخلال عام 1978 أجرت. أ. محرور "دراسة بيئو ثقافية لعمليات التفكير انطلاقاً من تجارب بياجيه". واتخذت من تلاميذ بعض مدارس الجزائر العاصمة من ذوي الحالة الاقتصادية والاجتماعية المتوسطة، ومن أعمار تتراوح بين 6 سنوات و11 سنة عينة لدراستها وطبقت عليهم اختبارات السوائل والجوامد والوزن. وخلصت إلى وجود فروق بين الأطفال الجزائريين وأترابهم الأوربيين في مستوى القدرات الذهنية. ويتبدى ذلك في تأخر تكون الاحتفاظ لديهم بحوالي عامين عما حددّه بياجيه(MAHROUR, 1977-1978).
وفي نفس الوسط الثقافي قام ر. قدوري عام 1983 بدراسة مقارنة لاكتساب الاحتفاظ بالسوائل والجوامد والوزن والطول عند التلاميذ. واختار عينة من تلاميذ بعض مدارس الجزائر العاصمة. وطبق على أفرادها اختبارات بياجيه في الاحتفاظ بالسوائل والجوامد والوزن والطول. واستنتج في نهاية دراسته هذه أن التعليم يقوم بدور هام في اكتساب العمليات المنطقية التي يتضمنها الاحتفاظ. حيث أن استجابات الأطفال الجزائريين في اختبارات الاحتفاظ بالسوائل والجوامد والوزن جاءت مماثلة لاستجابات أفراد عينات مدرسة جنيف.
إن التباين بين هذه النتيجة ونتائج دراستي محرور وبوفيه، إنما يعود، في نظرنا، إلى حجم عينة كل من هذه الدراسات. ففي حين أجرت محرور وبوفيه دراستيهما على عينة صغيرة ينتمي أفرادها إلى وسط فقير، عمد قدوري على توسيع عينة بحثه ومضاعفة عدد أفرادها لتكون ممثلة لمستويات اقتصادية واجتماعية وثقافية متعددة. وزيادة على هذا فإن عينتي محرور وبوفيه تكونت من الأطفال غير الدارسين. بينما أجرى قدوري بحثه على تلاميذ المدارس. ولذا فإنه لم يلحظ فرقاً ذا أهمية بين أفراد عينته وأطفال المجتمع السويسري إلا في اختبار الطول(قدوري، 1985).
وتقترب هذه النتيجة مما توصلت إليه أ. لالو A. LALO فقد عالجت هذه الباحثة مشكلة "تكون مفهوم الاحتفاظ عند الطفل الولوفي" عام 1982 بغية الوقوف على دور التمدين والتعليم والطبقة الاجتماعية في اكتساب مفهوم الاحتفاظ بالسوائل والجوامد والوزن والحجم والطول عند الطفل الولوفي(السنغال). ولهذه الغاية طبقت اختبارات الاحتفاظ بالسوائل والجوامد والوزن والحجم والطول على عينة من أطفال الريف والمدينة في السنغال. ووجدت أن الوسط الحضاري لا يلعب الدور الذي يلعبه التعليم في نمو القدرات العقلية عند الطفل(LALO, 1981-1982).
وقد أسهم ب. دازن P.DAZEN بقسط وافر في هذا النوع من الدراسات البيئو ثقافية من خلال بحوثه التي أجراها على أطفال مدينتي كانبرة وهارمنسبورغ ومنطقة أريونغا AREYONGA(أوستراليا) عام 1972 وأطفال الأسكيمو الكنديين عام 1975. واستخدم فيها اختبارات الاحتفاظ بالسوائل والحجم والوزن. وتبين له أن الاحتفاظ بهذه الثوابت يتكون لدى أطفال مدينة كانبرة في نفس السنة التي يتكون فيها لدى أطفال سويسرا. ويتخلف عنهما كثيراً أطفال مدينة هارمنسبورغ وبدرجة أكبر أطفال أريونغا وأطفال قرية كاب دورسات CAPEDARSAT الواقعة في منطقة الأسكيمو الكندية(قدوري، 1985، 111-122).
ولعل أهم ما تبرزه هذه الدراسات هو أن الاحتفاظ بالثوابت الفيزيائية يظهر لدى جميع الأطفال في مختلف البيئات الثقافية. ولكنها لم تتفق جميعاً مع بياجيه حول عمر محدّدٍ وثابت لهذا الظهور. فقد توصل معظمها إلى أن تكون مفهوم الاحتفاظ لدى الأطفال يتأخر سنة أو عدة سنوات عن العمر الذي حدده بياجيه. وهذا التفاوت يرجع إلى المستوى الثقافي للوسط الذي ينشأ فيه الطفل.
ومما يلاحظ خلال هذا العرض الموجز لأهم الدراسات البيئوثقافية في ميدان علم النفس هو أنها اتخذت من نمو العمليات العقلية عند الطفل في مرحلة متقدمة نسبياً من العمر(المرحلة الحسية) بدعوى أن تأثير البيئة الثقافية يكون أثناءها أكثر وضوحاً. وقد يخفي هذا التوجه نزعة البعض إلى تغليب العمليات التلقائية ونضج الجهاز العصبي ودورهما في تقرير مصير الذكاء عند الطفل. وليس مستبعداً أن يكون ذلك نتيجة اختلاط أمر النضج العضوي والنمو النفسي على البعض الآخر بسبب تواكب مراحلهما وتضافر أطوارهما. فقلة أدوات البحث وصعوبة دراسة النمو النفسي في السنوات الأولى من عمر الفرد يجب أن لا تقوداننا إلى البحث عن المخارج المباشرة والحلول السهلة. وبصرف النظر عن ندرة الدراسات البيئوثقافية التي تناولت أطوار الطفولة الأولى مقابل كثرة ما تناول منها مراحل الطفولة المتأخرة، فإنّ حجم الأثر الذي تتركه البيئة في سلوك الطفل ما زال محدوداً جداً أو غير معترف به أو غير معروف في أحسن الأحوال. وهذا ما تجسده الدراسة التي قام بها دازن على عينة من الأطفال الإيفواريين(ساحل العاج Cote D ivoire) ممن لا تزيد أعمارهم عن العامين حيث وجد أن الأطوار الستة التي يمر بها الذكاء الحسي- الحركي تظهر بنفس التعاقب وفي نفس الأوقات التي لاحظها بياجيه عند دراسته لأطفال مدينة جنيف الأمر الذي دفعه إلى التشديد على النضج العصبي باعتباره العامل الحاسم في النمو النفسي خلال هذه المرحلة(DAZEN, 1972).
ومن المنطقي أن يطرح السؤال التالي: كيف يمكن للنضج العصبي أن يحدد النمو النفسي في المرحلة الأولى من حياة الفرد، ولا يكون هذا شأنه في مرحلة تكون مفاهيم الاحتفاظ؟ وإذا كان النمو الحسي – الحركي يتم بفعل النضج العصبي، فكيف نفسر المستويات المتفاوتة للنمو العقلي عند أطفال البيئات الثقافية المختلفة.؟
لقد جاءت إجابات بعض الباحثين لتنحو نفس المنحى الذي رسمه بياجيه. وتبعاً لهذا المنحى تظهر القدرة في عمر محدد وضمن سياق ونسق من القدرات ثابتين. ويعني ذلك أن تكونها لا يتأثر إلا بدرجات قليلة بالمحيط الاجتماعي والنشاط التربوي والتعليمي. بينما أكدت إجابات البعض الآخر على الدور الهام الذي تلعبه ثقافة المجتمع وعملية التعليم في نشوء القدرات العقلية ونموها . ويعتبر جيرم برونر J. BRUNER من أشهر ممثلي هذا الاتجاه.
برز برونر كاختصاصي في علم نفس الطفل. وكرس أعماله لدراسة تطور النشاط العقلي لدى الطفل منذ الولادة حتى الرشد ضمن شروط تربوية متغيرة وظروف تعليمية متنوعة، ومن أهم أعماله "عملية التعليم" و"دراسة تطور النشاط المعرفي" بالاشتراك مع بعض مساعديه. وبفضل إمكانياته العلمية تمكن من أن يجمع حوله فريقاً من الباحثين المعروفين على الساحة الدولية.
ينظر برونر إلى نمو الوظائف النفسية والنشاط المعرفي عند الطفل على أنه تزايد في قدراته وإمكانياته على استيعاب المفاهيم والمبادئ العامة والمعارف من ناحية، واستعمالها في شتى المواقف الحياتية من الناحية الأخرى. ويشمل هذا "التزايد" جميع أنواع النشاط المعرفي التي تنشأ من خلال الأفعال والتصورات والرموز. ولهذا فإن طبيعة النشاط المعرفي ومستواه يتحددان، عنده، على أساس الوسيلة المعرفية. ويعتقد برونر أن الوسائل المعرفية تظهر حسب تسلسل معين وبشكل يتناسب مع الأعمار الزمنية. فالأفعال المادية، هي الوسيلة الأساسية التي عن طريقها يتعرف الطفل في المرحلة الأولى من حياته على العالم الخارجي. وفي المرحلة التالية تضاف إليها وسيلة أخرى، وهي تصور الأشياء والوقائع الخارجية. وأخيراً ترفد هاتين الوسيلتين وسيلة أرقى في سلم المعرفة الإنسانية وهي الرموز. وتعاقب هذه الوسائل المعرفية لا يعني، في نظر برونر، أن اللاحق منها يحل محل السابق ويلغيه، بل إنه ينضم إليه ويكون معه وحدة دينامية تميز النشاط المعرفي للفرد، وتجعله أرفع مستوى.
وإذا كان ظهور وسائل المعرفة وفق التسلسل المذكور يمثل المنحى العام للنمو العقلي والمعرفي عند الطفل، فمن أين تستمد هذه الوسائل وجودها؟ وبوضوح وإيجاز: ما هو مصدر هذا النمو؟
يرى برونر أن إمكانية ترجمة محتوى وسيلة إلى لغة وسيلة(أو وسائل) أخرى تؤلف مصدر نمو النشاط النفسي للطفل. فعجز هذا المحتوى عن أداء وظائفه الحياتية وحل المشكلات التي يصادفها الطفل والتعبير عن معارفه، كل ذلك يدفعه نحو استعمال وسيلة جديدة أكثر قدرة وفاعلية. وهو ما يعبر عنه شروعه في استخدام الرموز حينما تصبح الصور والأشكال غير كافية للتعرف على العالم الموضوعي.
ومن المسائل التي شغلت بال برونر ومساعديه مسألة القوانين السيكولوجية لعملية الانتقال من وسيلة من وسائل المعرفة إلى وسيلة أخرى. وقد تمثل مشروع حلها في تركيز بحوثهم حول محورين رئيسيين: معرفة شروط التغيرات المستمرة في كل وسيلة معرفية من جهة، وتحديد العوامل التي تؤدي إلى انقطاع هذا التسلسل في النمو، وبالتالي الانتقال من وسيلة إلى أخرى ومن مرحلة معرفية إلى مرحلة جديدة من جهة ثانية.
وما يلاحظ خلال عرض خصائص النمو هو اتفاق برونر مع الكثير من علماء نفس الطفل، وفي مقدمتهم بياجيه، حول السمات العامة لمراحل النشاط المعرفي. بيد أن خلافه معهم يكمن في رفضه أن يكون موعد ظهور هذه المراحل وطرائق الانتقال من إحداها إلى الأخرى ثابتاً في الزمان والمكان. فهو يؤكد على ضرورة دراسة نشاط المعرفة ضمن الإطار الثقافي والاجتماعي باعتبار أن مصدر تطور الإنسان يختلف اختلافاً جوهرياً عن شروط تطور الحيوانات. وينعكس ذلك في ربطه المباشر لنمو الذكاء الإنساني بما يستوعبه من وسائل معرفية. ومن هذا المنطلق وجد أن ما يحدد مستوى الذكاء عند البشر هو العامل البيئي والثقافي وليس العامل العضوي.
إن نظرة كهذه ليست جديدة على علم النفس بعامة. ولكنها جديدة بالنسبة لعلم النفس في الولايات المتحدة الأمريكية. فالمدرسة السلوكية ولسنوات مديدة لم تدع مجالاً لأي جديد هناك. ومن المعروف أنها لم تجد فرقاً كبيراً أو نوعياً بين النشاط النفسي عند الإنسان وسلوك الحيوان. فلا عجب، والوضع هكذا، أن يتناول برونر هذا الموضوع بالتحليل الدقيق والمناقشة المعمقة ليصل إلى أن تكيف الإنسان مع الشروط الخارجية لا يتحقق عن طريق التغيرات الفيزيولوجية والمورفولوجية – كما هو الشأن بالنسبة للحيوان – وإنما بفضل استيعاب واستعمال وسائل المعرفة التي تحمل طابعاً اجتماعياً.
وما دام الاختلاف قائماً بين محتويات هذه الوسائل من مجتمع إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، فإنه من المنطقي، في رأي برونر، أن يؤدي ذلك إلى التباين في نمو القدرات النفسية عند الأطفال الذين ينتمون إلى مجتمعات مختلفة وينهلون من ثقافاتها المتغايرة. كتب برونر بهذا الصدد يقول: "يعتبر مستوى الذكاء وشكله وظيفة الثقافة، إذ إنه بطبيعته، يرتبط بالعون الذي يتلقاه من تلك الثقافة". ويحمل هذا القول نفياً قاطعاً لوجود أطفال "نموذجيين"، وتأكيداً على فهم ما تعنيه الطفولة من خلال دراسة الثقافة التي تنشأ هذه الطفولة في ظلها.
وهكذا تقف مدرسة برونر من مسألة التعليم والنمو موقفاً مخالفاً لمدرسة بياجيه. ففي الوقت الذي يعلق فيه بياجيه وأتباعه أهمية كبيرة على خضوع التعليم لقوانين النمو ومسايرته للعمليات التي تعتبر شكل النشاط العقلي والمعرفي عند التلميذ، يرى برونر ومساعدوه أن التعليم "الجيد"، القائم على أسس علمية يعجل في نمو الطفل ويؤثر إلى حد بعيد في تكون العمليات المنطقية لديه.
إن برونر، وإن ذهب إلى ما ذهب إليه بياجيه من أن ظهور التعرف الحسي والتصنيف ومفهوم العدد وغيرها من العمليات العقلية يتوقف على وجود بعض الأفعال الخاصة والمحددة، فإنه لم يشاطره الرأي حول ارتباط هذه الأفعال بالآليات الداخلية للنمو. فبدلاً من انتظار تكونها تلقائياً لدى الطفل قبل الشروع بتعليمه التصنيف والأعداد يقترح أن يقوم التعليم بمهمة تكوينها ودفعها على طريق النمو.
ولدى دراسة خصائص النمو العقلي عند الأطفال الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة استخدم برونر ومعاونوه عدداً من اختبارات بياجيه. فقد قامت ب. غرينفيلد P. GREENFIELD عام 1967 بدراسة "حول ثقافة المجتمع وفهم مبدأ حفظ الكم"، استخدمت فيها اختبار الاحتفاظ بالسوائل على عينة من أطفال الولوف السنغالين مكونة من ثلاث مجموعات. تمثل الأولى منها الأطفال الذين لم يدخلوا المدارس ويعيشون في الريف. وتشمل الثانية أطفالاً يدرسون في مدارس داكار. وقد كشفت هذه الدراسة عن وجود فروق بين الأطفال الدارسين وغير الدارسين ممن يعيشون في قرية واحدة. وهذه الفروق كانت أكبر بكثير من الفروق القائمة بين أطفال المدينة وأطفال القرية ممن يتلقون تعليمهم في مدارس عامة.
ولاحظت غرينفيلد أن صغار التلاميذ كانوا يعتمدون في استجاباتهم على العلاقات الحسية التي تضعف تدريجياً مع الزمن. بينما أقام الأطفال غير الدارسين أحكامهم على الأفعال السحرية(ربط تغير كمية السائل بقيام الفاحص نفسه بعملية التفريغ) وهو ما حملها على الاعتقاد بأن فهم مبدأ حفظ كمية الشيء مقترن بفهم الطفل للتطابق وبفكرة الرجوع إلى الوضع البدائي الذي يتمثل في هذه الحالة في توازن حجم السائل في الأوعية(برونر وآخرون، 1971، 272-306).
كما أجرت غرينفيلد وزملاؤها تجارب مماثلة على أطفال من الولايات المتحدة الأمريكية والسنغال والمكسيك والأسكيمو. وطبقت فيها اختبارات شبيهة باختبارات بياجيه لقياس القدرة على التحليل والتركيب والتصنيف. وأمكن لهؤلاء الباحثين أن يقفوا على وجود فوارق في قدرات أفراد عينات بحوثهم. وأرجعوا ذلك إلى اختلاف ثقافاتهم، إذ أن التباين بين المدنيين والريفيين ينشأ، في نظرهم، بسبب الاختلاف في تجاربهم أثناء نشاطهم الحياتي. فالحياة في المدينة تساعد على نمو القدرة على التجريد أكثر مما تساعد عليه الحياة في الريف. ويضاف إلى هذا أن النشاط الدراسي شرط لنمو هذه القدرة.
ومن الاستنتاجات التي توصل إليها مساعدو برونر في ضوء المعطيات التجريبية هو أن التمركز حول الذات الذي يتصف به الأطفال الأوربيون ليس مرحلة حتمية من مراحل نمو فكرة التوازن. فتصنيف أطفال الولوف السنغاليين من غير الدارسين يظهر أن التجميع عن طريق مقابلة العناصر الذي وجد البعض أنه مرحلة عامة من مراحل نمو المفاهيم ليس كذلك، ولا يمكن أن يكون التعليم في المدرسة شرطاً لازماً لنشوئه(برونر وآخرون، 1971، 321-374).
وعلى العموم فإن تحليل إجابات أفراد مختلف العينات الذين أخضعوا لهذه التجارب يكشف عن تفوق الأطفال الذين يتلقون تعليماً منظماً في المدارس على أترابهم الذين يعيشون معهم في مجتمع واحد، ولكنهم لا يتلقون مثل هذا التعليم. وتدلل على ذلك التجارب التي أجريت على الأطفال الأمريكيين. فقد نمت استجابات غير الدارسين منهم عن ذكاء مبكر. غير أن مستوى هذا الذكاء يصبح مع الزمن أقل من مستوى ذكاء أترابهم الدارسين. كما تظهره التجارب التي طبقت على الأطفال السنغاليين. فعلى الرغم من أن أطفال الولوف ينحدرون من أصل واحد يتميز عن الأصل الأوربي، فإن التعليم المدرسي ارتقى بقدرات من يستفيدون منه ليتميزوا عن أترابهم الذين لم يستفيدوا منه أكثر مما يتميزون عن الأطفال الأوربيين. وهذا ما دفع بأحد مساعدي برونر إلى وضع إشارة استفهام كبيرة أمام جميع النظريات التي وجدت أن العوامل البيولوجية أو الوراثية هي المصدر الوحيد للنمو العقلي لدى الإنسان.
ويرجع برونر الفضل في تأثير التعليم على تشكل العمليات التي يقف الطفل بوساطتها على العلاقات بين الأشياء والظواهر الخارجية(المساواة، التفاوت "أقل- أكثر، أصغر- أكبر") إلى اللغة المكتوبة. إذ أن هذا النوع من اللغة يتطلب، حسب رأيه، قاعدة واسعة من التعابير وتجرداً عن الحالات الحسية المباشرة، الأمر الذي يساعد الطفل على تجاوز الصعوبات وحل الصراعات التي تنشأ عن اختلاط خصائص الأشياء أثناء إدراكها المباشر، ويسمح بتقويم موضوعات نشاطه من زاوية منطقية تتكون وتنمو بمساعدة الرموز اللغوية باعتبارها أداة من أدوات التفكير المنطقي، المجرد.
وهكذا فإن وجهة النظر هذه تخالف وجهة نظر مدرسة جنيف. فهي، باختصار، تعتبر أن التعليم يجر وراءه النمو العقلي. ومن خلالها يرى برونر أن باستطاعتنا تعليم الطفل أية مادة علمية في أي عمر كان شريطة أن نقدم هذه المادة بصورة تتناسب مع نظرة الطفل وطريقته في تفسير الوقائع المحيطة به.
لقد تناول برونر بالدراسة المستفيضة مسألة النمو العقلي في علاقته بالنشاط الدراسي والخطط الدراسية. وانتهى إلى التأكيد على ضرورة بناء العملية التعليمية على النحو الذي يضمن تشكل البنيات المعرفية الجديدة عند الطفل، وبالتالي عدم الاعتماد، أثناء ذلك، على ما هو موجود لديه. وقد عبر عن هذه الفكرة في كتابه "عملية التعليم" حين قال بأن تعليم المبادئ الأساسية والمفاهيم التي تتألف منها هذه المادة العلمية أو تلك حتى ولو في شكلها البسيط يجب أن لا يخضع للسير الطبيعي للنمو العقلي. بل يجب أن يكون الأمر على العكس. فإتقان المادة يجعلها مفهومة بالنسبة للطفل ويساعد على بقاء الموضوع حياً وواضحاً في ذاكرته ومن ثم بعث تفاصيلها واستعادتها كلما دعت الحاجة. ويضمن لـه إمكانية الوقوف على العلاقات القائمة بين مختلف الأشياء والظواهر. ويسهل، أخيراً، استيعاب المواد الدراسية الأخرى(برونر،
1960، 17).
إن الحل الذي يقترحه برونر لمشكلة العلاقة بين النمو والتعليم على نحو ما تقدم يحمل قيمة علمية كبيرة. ذلك لأنه يعزز النزعات المتقدمة في علم نفس الطفل المعاصر. كما أن النتائج التي توصل إليها بمشاركة مساعديه توسع قاعدة الصراع الفكري ضد النظريات العرقية والعنصرية.
وأخيراً يتعين علينا في سياق تحليل موقف مدرسة برونر من علاقة التعليم والنمو أن نسجل تلك الملاحظة المتصلة بمكانة اللغة المكتوبة في تعاليم هذه المدرسة. فقد اهتم برونر وأتباعه بهذا النوع من اللغة، ووجدوا أنه يلعب دوراً كبيراً في النمو العقلي عند الطفل. غير أنه غاب عنهم أن اللغة بحد ذاتها ليست موضوع بحث سيكولوجي. وما يتناوله علم النفس هو المحتوى الذي تحمله اللغة. فما يعبر عنه بوساطة الكلمات من معارف ومفاهيم علمية هو الذي يؤثر في البنية العقلية للطفل ويقودها إلى التطور والارتقاء.
بوح الروح
وعلى قاعدة النموذج الأوربي في النمو العقلي الذي قدمه بياجيه، حيث أن الذكاء يمر بمراحل محددة وثابتة، وتتميز كل واحدة منها ببنيات وخطط تتكون في حدود زمنية معينة، انطلق عدد من الباحثين في دراسة العديد من التشكيلات العقلية عند أطفال ينتمون إلى مجتمعات وثقافات مختلفة. وسعى هؤلاء من وراء أعمالهم إلى التحقق من إمكانية تعميم هذا النموذج على مجتمعات أخرى خارج القارة الأوربية.
وتعتبر دراسة ر. برايس وليامز R.PRICE WILLIAMS التي أجريت عام 1961 واحدة من تلك الدراسات البيئوثقافية المقارنة. فقد تناولت مفهوم الاحتفاظ بالكم عند أطفال سنوات ما بين الخامسة والثامنة من العمر ممن ينتمون إلى قبيلة TIV البدائية التي تسكن في أحد أقاليم نيجيريا ومقارنتهم بالأطفال السويسريين. وخلصت هذه الدراسة إلى أن هذا المفهوم يظهر لدى الأطفال البدائيين في نفس السنة التي يظهر فيها لدى أترابهم السويسريين
(PRICE WILLIAMS, 1961, 293-305).
وفي هذا الإطار قامت ج. غودناو GOODNOW عام 1962 بدراسة شبيهة بالدراسة السابقة، تناولت فيها تأثير كل من الوسط الثقافي والدراسة على تكون الاحتفاظ. ولهذه الغاية طبقت اختباري بياجيه في الاحتفاظ بالوزن والحجم إلى جانب اختبار التصنيف والاختبار التوليفي على عينة مؤلفة من 500 طفل من هونغ كونغ تتراوح أعمارهم بين 10 سنوات و12 سنة بقصد مقارنتهم مع أطفال سويسرا. وقد أظهرت استجابات أفراد هذه العينة في المواقف التجريبية أن الدراسة والوسط لا يؤثران على اكتساب مفهوم الاحتفاظGOODNOW).
أما دراسة ن. بيليفو N.PELUFFO حول "الثقافة والمشكلات المعرفية" التي أجريت خلال عام 1962 على أطفال جزيرة جنوة(إيطاليا) فقد كشفت عن الأثر الواضح للوسط الاقتصادي والاجتماعي الذي يترعرع فيه الطفل. حيث تبين أن نتائج الأطفال، وحتى الراشدين، الذين يعيشون في بيئة اقتصادية واجتماعية متخلفة في بعض اختبارات بياجيه كانت أضعف من النتائج التي حصل عليها أترابهم الذين ينتمون إلى بيئة ميسورة ماديا وثقافيا. ففي الوقت الذي لم تتجاوز فيه نسبة نجاحهم في تلك الاختبارات 25% وصلت هذه النسبة عند الآخرين إلى 60%(PELUFFO, 1962, 275-291).
وفي عام 1966 درست ن. محسني N.MOUHSENI استجابات الأطفال الإيرانيين في اختبارات الذكاء للوقوف على مستوى ذكاء أطفال المدينة والريف في إيران ومقارنته بمستوى ذكاء الأطفال الأوربيين. وشملت دراستها مجموعتين من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين السنة الخامسة والسنة العاشرة. وتمثل المجموعة الأولى أطفال العاصمة طهران. بينما تمثل المجموعة الثانية التي تم اختبارها من قرية موتشان الريفية الإيرانية المتخلفة. وقد استخدمت الباحثة اختبارات الاحتفاظ بالسوائل والوزن والحجم لبياجيه ورائز المصفوفات لرافن ومتاهات بورتيوس واختبار رسم الرحل لغودانف. وتبين لها في النتيجة أن مفاهيم الاحتفاظ تظهر لدى أفراد المجموعتين بنفس التسلسل الذي تظهر فيه لدى الأطفال الأوروبيين غير أن ظهورها يتخلف عند الأطفال القرويين عنه لدى أترابهم المدنيين بعامين أو ثلاثة أعوام
(MOHSENI, 1966).
أما إ.مارملشتين E. MERMELSTEIN ول. شولمان L. SHULMAN فقد توصلا إلى نتائج مخالفة لما توصلت إليه دراسة بيلفو ومحسني. فقد درس الباحثان عام 1967 علاقة اكتساب الاحتفاظ بالكم في غياب التعليم المنظم(المدرسي) عند أطفال ما بين 6 و 9 سنوات في كندا والولايات المتحدة الأمريكية. واختارا لدراستهما هذه مجموعة من الأطفال السود(60 طفلاً) الذين لا يتلقون تعليماً منتظماً، وأخرى من الأطفال الذين يدرسون في مدارس عامة(60 طفلاً) وأظهرت التجربة أن الفروق بين استجابات أفراد المجموعتين في اختبار الاحتفاظ بالكم ليست فروقاً جوهرية. وهذا يعني أن التعليم لا يلعب دوراً في تكون مفهوم الاحتفاظ(Mermelstein and Shulman, 1967, 39-52).
وتناول ج. برانس J.PRINCE في دراسة مماثلة "أثر التربية الغربية في تكون المفاهيم العلمية في غينيا الجديدة" دور الأساليب والطرائق التربوية والتدريبات العملية في اكتساب مفاهيم الاحتفاظ. وقد شملت هذه الدراسة التي تمت عام 1968 عينة مؤلفة من 2700 طفلاً من إقليم بابوا PAPUA وغينيا الجديدة NEW GUINEA ومن أعمار تتراوح بين 8 سنوات و18 سنة. وأظهرت النتائج صحة النموذج البياجي وأفضلية الدراسة على العمر من حيث دوره في اكتساب الاحتفاظ(Prince, 1968, 64-74).
وقامت م. بوفيه M.Bovet عام 1968 بدراسة تحت عنوان "دراسة بيئوثقافية لعمليات التفكير "وطبقت فيها اختبارات بياجيه في الاحتفاظ بالسوائل والجوامد والوزن والطول على مجموعتين من الأطفال الجزائريين غير الدارسين، والذين يسكنون في أحياء فقيرة في الجزائر العاصمة وفي قريتين إحداهما تابعة للعاصمة والثانية لمدينة الشلف. وتوصلت من خلال هذه الدراسة إلى وجود فروق بين هؤلاء الأطفال وأترابهم الأوربيين بحوالي 3 إلى 4 سنوات(Bovet , 1968- 189-200).
وانتهت م. دولوموس M. delemos إلى نتائج مشابهة من خلال دراستها لـ "نمو الاحتفاظ عند الأطفال الأستراليين الأصليين" التي أجرتها عام 1969، واستخدمت فيها اختبارات الاحتفاظ بالسوائل والوزن والحجم على عينة من أطفال مدينة هارمنسبورغ HERMANNSBURG وأخرى من أطفال جزيرة إلكو ELCHO والذين تتراوح أعمارهم بين 8 سنوات و15 سنة. حيث تبين أن هناك فروقاً في مستويات الاحتفاظ بين أفراد العينتين من جهة وبينهم وبين الأطفال الأوربيين من جهة ثانية(DELEMOS , 1969-NO 4, 255-269).
وقام هـ . بول H. Poole عام 1965 بدراسة "أثر التمدن على اكتساب المفهوم العلمي لدى أطفال الهوسة في شمال نيجيريا" مستخدماً اختبار كينغ بعد تكييفه مع مجتمع الهوسة النيجيري. وقد خصصت هذه الأداة لقياس الاحتفاظ بالسوائل والجوامد والإدراك الزماني والمكان إلى جانب بعض المبادئ الميكانيكية والحياتية. وكشفت هذه الدراسة عن مستوى جيد لاستجابات أفراد العينة على أسئلة الاختبار. ولكن هذا المستوى لم يرقَ إلى مستوى استجابات أطفال إحدى المدن الإنكليزية الجنوبية ممن طبق عليهم نفس الاختبار
(POOLE, 1968, NO . 38, P.T.I. 57-63).
وخلال عام 1978 أجرت. أ. محرور "دراسة بيئو ثقافية لعمليات التفكير انطلاقاً من تجارب بياجيه". واتخذت من تلاميذ بعض مدارس الجزائر العاصمة من ذوي الحالة الاقتصادية والاجتماعية المتوسطة، ومن أعمار تتراوح بين 6 سنوات و11 سنة عينة لدراستها وطبقت عليهم اختبارات السوائل والجوامد والوزن. وخلصت إلى وجود فروق بين الأطفال الجزائريين وأترابهم الأوربيين في مستوى القدرات الذهنية. ويتبدى ذلك في تأخر تكون الاحتفاظ لديهم بحوالي عامين عما حددّه بياجيه(MAHROUR, 1977-1978).
وفي نفس الوسط الثقافي قام ر. قدوري عام 1983 بدراسة مقارنة لاكتساب الاحتفاظ بالسوائل والجوامد والوزن والطول عند التلاميذ. واختار عينة من تلاميذ بعض مدارس الجزائر العاصمة. وطبق على أفرادها اختبارات بياجيه في الاحتفاظ بالسوائل والجوامد والوزن والطول. واستنتج في نهاية دراسته هذه أن التعليم يقوم بدور هام في اكتساب العمليات المنطقية التي يتضمنها الاحتفاظ. حيث أن استجابات الأطفال الجزائريين في اختبارات الاحتفاظ بالسوائل والجوامد والوزن جاءت مماثلة لاستجابات أفراد عينات مدرسة جنيف.
إن التباين بين هذه النتيجة ونتائج دراستي محرور وبوفيه، إنما يعود، في نظرنا، إلى حجم عينة كل من هذه الدراسات. ففي حين أجرت محرور وبوفيه دراستيهما على عينة صغيرة ينتمي أفرادها إلى وسط فقير، عمد قدوري على توسيع عينة بحثه ومضاعفة عدد أفرادها لتكون ممثلة لمستويات اقتصادية واجتماعية وثقافية متعددة. وزيادة على هذا فإن عينتي محرور وبوفيه تكونت من الأطفال غير الدارسين. بينما أجرى قدوري بحثه على تلاميذ المدارس. ولذا فإنه لم يلحظ فرقاً ذا أهمية بين أفراد عينته وأطفال المجتمع السويسري إلا في اختبار الطول(قدوري، 1985).
وتقترب هذه النتيجة مما توصلت إليه أ. لالو A. LALO فقد عالجت هذه الباحثة مشكلة "تكون مفهوم الاحتفاظ عند الطفل الولوفي" عام 1982 بغية الوقوف على دور التمدين والتعليم والطبقة الاجتماعية في اكتساب مفهوم الاحتفاظ بالسوائل والجوامد والوزن والحجم والطول عند الطفل الولوفي(السنغال). ولهذه الغاية طبقت اختبارات الاحتفاظ بالسوائل والجوامد والوزن والحجم والطول على عينة من أطفال الريف والمدينة في السنغال. ووجدت أن الوسط الحضاري لا يلعب الدور الذي يلعبه التعليم في نمو القدرات العقلية عند الطفل(LALO, 1981-1982).
وقد أسهم ب. دازن P.DAZEN بقسط وافر في هذا النوع من الدراسات البيئو ثقافية من خلال بحوثه التي أجراها على أطفال مدينتي كانبرة وهارمنسبورغ ومنطقة أريونغا AREYONGA(أوستراليا) عام 1972 وأطفال الأسكيمو الكنديين عام 1975. واستخدم فيها اختبارات الاحتفاظ بالسوائل والحجم والوزن. وتبين له أن الاحتفاظ بهذه الثوابت يتكون لدى أطفال مدينة كانبرة في نفس السنة التي يتكون فيها لدى أطفال سويسرا. ويتخلف عنهما كثيراً أطفال مدينة هارمنسبورغ وبدرجة أكبر أطفال أريونغا وأطفال قرية كاب دورسات CAPEDARSAT الواقعة في منطقة الأسكيمو الكندية(قدوري، 1985، 111-122).
ولعل أهم ما تبرزه هذه الدراسات هو أن الاحتفاظ بالثوابت الفيزيائية يظهر لدى جميع الأطفال في مختلف البيئات الثقافية. ولكنها لم تتفق جميعاً مع بياجيه حول عمر محدّدٍ وثابت لهذا الظهور. فقد توصل معظمها إلى أن تكون مفهوم الاحتفاظ لدى الأطفال يتأخر سنة أو عدة سنوات عن العمر الذي حدده بياجيه. وهذا التفاوت يرجع إلى المستوى الثقافي للوسط الذي ينشأ فيه الطفل.
ومما يلاحظ خلال هذا العرض الموجز لأهم الدراسات البيئوثقافية في ميدان علم النفس هو أنها اتخذت من نمو العمليات العقلية عند الطفل في مرحلة متقدمة نسبياً من العمر(المرحلة الحسية) بدعوى أن تأثير البيئة الثقافية يكون أثناءها أكثر وضوحاً. وقد يخفي هذا التوجه نزعة البعض إلى تغليب العمليات التلقائية ونضج الجهاز العصبي ودورهما في تقرير مصير الذكاء عند الطفل. وليس مستبعداً أن يكون ذلك نتيجة اختلاط أمر النضج العضوي والنمو النفسي على البعض الآخر بسبب تواكب مراحلهما وتضافر أطوارهما. فقلة أدوات البحث وصعوبة دراسة النمو النفسي في السنوات الأولى من عمر الفرد يجب أن لا تقوداننا إلى البحث عن المخارج المباشرة والحلول السهلة. وبصرف النظر عن ندرة الدراسات البيئوثقافية التي تناولت أطوار الطفولة الأولى مقابل كثرة ما تناول منها مراحل الطفولة المتأخرة، فإنّ حجم الأثر الذي تتركه البيئة في سلوك الطفل ما زال محدوداً جداً أو غير معترف به أو غير معروف في أحسن الأحوال. وهذا ما تجسده الدراسة التي قام بها دازن على عينة من الأطفال الإيفواريين(ساحل العاج Cote D ivoire) ممن لا تزيد أعمارهم عن العامين حيث وجد أن الأطوار الستة التي يمر بها الذكاء الحسي- الحركي تظهر بنفس التعاقب وفي نفس الأوقات التي لاحظها بياجيه عند دراسته لأطفال مدينة جنيف الأمر الذي دفعه إلى التشديد على النضج العصبي باعتباره العامل الحاسم في النمو النفسي خلال هذه المرحلة(DAZEN, 1972).
ومن المنطقي أن يطرح السؤال التالي: كيف يمكن للنضج العصبي أن يحدد النمو النفسي في المرحلة الأولى من حياة الفرد، ولا يكون هذا شأنه في مرحلة تكون مفاهيم الاحتفاظ؟ وإذا كان النمو الحسي – الحركي يتم بفعل النضج العصبي، فكيف نفسر المستويات المتفاوتة للنمو العقلي عند أطفال البيئات الثقافية المختلفة.؟
لقد جاءت إجابات بعض الباحثين لتنحو نفس المنحى الذي رسمه بياجيه. وتبعاً لهذا المنحى تظهر القدرة في عمر محدد وضمن سياق ونسق من القدرات ثابتين. ويعني ذلك أن تكونها لا يتأثر إلا بدرجات قليلة بالمحيط الاجتماعي والنشاط التربوي والتعليمي. بينما أكدت إجابات البعض الآخر على الدور الهام الذي تلعبه ثقافة المجتمع وعملية التعليم في نشوء القدرات العقلية ونموها . ويعتبر جيرم برونر J. BRUNER من أشهر ممثلي هذا الاتجاه.
برز برونر كاختصاصي في علم نفس الطفل. وكرس أعماله لدراسة تطور النشاط العقلي لدى الطفل منذ الولادة حتى الرشد ضمن شروط تربوية متغيرة وظروف تعليمية متنوعة، ومن أهم أعماله "عملية التعليم" و"دراسة تطور النشاط المعرفي" بالاشتراك مع بعض مساعديه. وبفضل إمكانياته العلمية تمكن من أن يجمع حوله فريقاً من الباحثين المعروفين على الساحة الدولية.
ينظر برونر إلى نمو الوظائف النفسية والنشاط المعرفي عند الطفل على أنه تزايد في قدراته وإمكانياته على استيعاب المفاهيم والمبادئ العامة والمعارف من ناحية، واستعمالها في شتى المواقف الحياتية من الناحية الأخرى. ويشمل هذا "التزايد" جميع أنواع النشاط المعرفي التي تنشأ من خلال الأفعال والتصورات والرموز. ولهذا فإن طبيعة النشاط المعرفي ومستواه يتحددان، عنده، على أساس الوسيلة المعرفية. ويعتقد برونر أن الوسائل المعرفية تظهر حسب تسلسل معين وبشكل يتناسب مع الأعمار الزمنية. فالأفعال المادية، هي الوسيلة الأساسية التي عن طريقها يتعرف الطفل في المرحلة الأولى من حياته على العالم الخارجي. وفي المرحلة التالية تضاف إليها وسيلة أخرى، وهي تصور الأشياء والوقائع الخارجية. وأخيراً ترفد هاتين الوسيلتين وسيلة أرقى في سلم المعرفة الإنسانية وهي الرموز. وتعاقب هذه الوسائل المعرفية لا يعني، في نظر برونر، أن اللاحق منها يحل محل السابق ويلغيه، بل إنه ينضم إليه ويكون معه وحدة دينامية تميز النشاط المعرفي للفرد، وتجعله أرفع مستوى.
وإذا كان ظهور وسائل المعرفة وفق التسلسل المذكور يمثل المنحى العام للنمو العقلي والمعرفي عند الطفل، فمن أين تستمد هذه الوسائل وجودها؟ وبوضوح وإيجاز: ما هو مصدر هذا النمو؟
يرى برونر أن إمكانية ترجمة محتوى وسيلة إلى لغة وسيلة(أو وسائل) أخرى تؤلف مصدر نمو النشاط النفسي للطفل. فعجز هذا المحتوى عن أداء وظائفه الحياتية وحل المشكلات التي يصادفها الطفل والتعبير عن معارفه، كل ذلك يدفعه نحو استعمال وسيلة جديدة أكثر قدرة وفاعلية. وهو ما يعبر عنه شروعه في استخدام الرموز حينما تصبح الصور والأشكال غير كافية للتعرف على العالم الموضوعي.
ومن المسائل التي شغلت بال برونر ومساعديه مسألة القوانين السيكولوجية لعملية الانتقال من وسيلة من وسائل المعرفة إلى وسيلة أخرى. وقد تمثل مشروع حلها في تركيز بحوثهم حول محورين رئيسيين: معرفة شروط التغيرات المستمرة في كل وسيلة معرفية من جهة، وتحديد العوامل التي تؤدي إلى انقطاع هذا التسلسل في النمو، وبالتالي الانتقال من وسيلة إلى أخرى ومن مرحلة معرفية إلى مرحلة جديدة من جهة ثانية.
وما يلاحظ خلال عرض خصائص النمو هو اتفاق برونر مع الكثير من علماء نفس الطفل، وفي مقدمتهم بياجيه، حول السمات العامة لمراحل النشاط المعرفي. بيد أن خلافه معهم يكمن في رفضه أن يكون موعد ظهور هذه المراحل وطرائق الانتقال من إحداها إلى الأخرى ثابتاً في الزمان والمكان. فهو يؤكد على ضرورة دراسة نشاط المعرفة ضمن الإطار الثقافي والاجتماعي باعتبار أن مصدر تطور الإنسان يختلف اختلافاً جوهرياً عن شروط تطور الحيوانات. وينعكس ذلك في ربطه المباشر لنمو الذكاء الإنساني بما يستوعبه من وسائل معرفية. ومن هذا المنطلق وجد أن ما يحدد مستوى الذكاء عند البشر هو العامل البيئي والثقافي وليس العامل العضوي.
إن نظرة كهذه ليست جديدة على علم النفس بعامة. ولكنها جديدة بالنسبة لعلم النفس في الولايات المتحدة الأمريكية. فالمدرسة السلوكية ولسنوات مديدة لم تدع مجالاً لأي جديد هناك. ومن المعروف أنها لم تجد فرقاً كبيراً أو نوعياً بين النشاط النفسي عند الإنسان وسلوك الحيوان. فلا عجب، والوضع هكذا، أن يتناول برونر هذا الموضوع بالتحليل الدقيق والمناقشة المعمقة ليصل إلى أن تكيف الإنسان مع الشروط الخارجية لا يتحقق عن طريق التغيرات الفيزيولوجية والمورفولوجية – كما هو الشأن بالنسبة للحيوان – وإنما بفضل استيعاب واستعمال وسائل المعرفة التي تحمل طابعاً اجتماعياً.
وما دام الاختلاف قائماً بين محتويات هذه الوسائل من مجتمع إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، فإنه من المنطقي، في رأي برونر، أن يؤدي ذلك إلى التباين في نمو القدرات النفسية عند الأطفال الذين ينتمون إلى مجتمعات مختلفة وينهلون من ثقافاتها المتغايرة. كتب برونر بهذا الصدد يقول: "يعتبر مستوى الذكاء وشكله وظيفة الثقافة، إذ إنه بطبيعته، يرتبط بالعون الذي يتلقاه من تلك الثقافة". ويحمل هذا القول نفياً قاطعاً لوجود أطفال "نموذجيين"، وتأكيداً على فهم ما تعنيه الطفولة من خلال دراسة الثقافة التي تنشأ هذه الطفولة في ظلها.
وهكذا تقف مدرسة برونر من مسألة التعليم والنمو موقفاً مخالفاً لمدرسة بياجيه. ففي الوقت الذي يعلق فيه بياجيه وأتباعه أهمية كبيرة على خضوع التعليم لقوانين النمو ومسايرته للعمليات التي تعتبر شكل النشاط العقلي والمعرفي عند التلميذ، يرى برونر ومساعدوه أن التعليم "الجيد"، القائم على أسس علمية يعجل في نمو الطفل ويؤثر إلى حد بعيد في تكون العمليات المنطقية لديه.
إن برونر، وإن ذهب إلى ما ذهب إليه بياجيه من أن ظهور التعرف الحسي والتصنيف ومفهوم العدد وغيرها من العمليات العقلية يتوقف على وجود بعض الأفعال الخاصة والمحددة، فإنه لم يشاطره الرأي حول ارتباط هذه الأفعال بالآليات الداخلية للنمو. فبدلاً من انتظار تكونها تلقائياً لدى الطفل قبل الشروع بتعليمه التصنيف والأعداد يقترح أن يقوم التعليم بمهمة تكوينها ودفعها على طريق النمو.
ولدى دراسة خصائص النمو العقلي عند الأطفال الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة استخدم برونر ومعاونوه عدداً من اختبارات بياجيه. فقد قامت ب. غرينفيلد P. GREENFIELD عام 1967 بدراسة "حول ثقافة المجتمع وفهم مبدأ حفظ الكم"، استخدمت فيها اختبار الاحتفاظ بالسوائل على عينة من أطفال الولوف السنغالين مكونة من ثلاث مجموعات. تمثل الأولى منها الأطفال الذين لم يدخلوا المدارس ويعيشون في الريف. وتشمل الثانية أطفالاً يدرسون في مدارس داكار. وقد كشفت هذه الدراسة عن وجود فروق بين الأطفال الدارسين وغير الدارسين ممن يعيشون في قرية واحدة. وهذه الفروق كانت أكبر بكثير من الفروق القائمة بين أطفال المدينة وأطفال القرية ممن يتلقون تعليمهم في مدارس عامة.
ولاحظت غرينفيلد أن صغار التلاميذ كانوا يعتمدون في استجاباتهم على العلاقات الحسية التي تضعف تدريجياً مع الزمن. بينما أقام الأطفال غير الدارسين أحكامهم على الأفعال السحرية(ربط تغير كمية السائل بقيام الفاحص نفسه بعملية التفريغ) وهو ما حملها على الاعتقاد بأن فهم مبدأ حفظ كمية الشيء مقترن بفهم الطفل للتطابق وبفكرة الرجوع إلى الوضع البدائي الذي يتمثل في هذه الحالة في توازن حجم السائل في الأوعية(برونر وآخرون، 1971، 272-306).
كما أجرت غرينفيلد وزملاؤها تجارب مماثلة على أطفال من الولايات المتحدة الأمريكية والسنغال والمكسيك والأسكيمو. وطبقت فيها اختبارات شبيهة باختبارات بياجيه لقياس القدرة على التحليل والتركيب والتصنيف. وأمكن لهؤلاء الباحثين أن يقفوا على وجود فوارق في قدرات أفراد عينات بحوثهم. وأرجعوا ذلك إلى اختلاف ثقافاتهم، إذ أن التباين بين المدنيين والريفيين ينشأ، في نظرهم، بسبب الاختلاف في تجاربهم أثناء نشاطهم الحياتي. فالحياة في المدينة تساعد على نمو القدرة على التجريد أكثر مما تساعد عليه الحياة في الريف. ويضاف إلى هذا أن النشاط الدراسي شرط لنمو هذه القدرة.
ومن الاستنتاجات التي توصل إليها مساعدو برونر في ضوء المعطيات التجريبية هو أن التمركز حول الذات الذي يتصف به الأطفال الأوربيون ليس مرحلة حتمية من مراحل نمو فكرة التوازن. فتصنيف أطفال الولوف السنغاليين من غير الدارسين يظهر أن التجميع عن طريق مقابلة العناصر الذي وجد البعض أنه مرحلة عامة من مراحل نمو المفاهيم ليس كذلك، ولا يمكن أن يكون التعليم في المدرسة شرطاً لازماً لنشوئه(برونر وآخرون، 1971، 321-374).
وعلى العموم فإن تحليل إجابات أفراد مختلف العينات الذين أخضعوا لهذه التجارب يكشف عن تفوق الأطفال الذين يتلقون تعليماً منظماً في المدارس على أترابهم الذين يعيشون معهم في مجتمع واحد، ولكنهم لا يتلقون مثل هذا التعليم. وتدلل على ذلك التجارب التي أجريت على الأطفال الأمريكيين. فقد نمت استجابات غير الدارسين منهم عن ذكاء مبكر. غير أن مستوى هذا الذكاء يصبح مع الزمن أقل من مستوى ذكاء أترابهم الدارسين. كما تظهره التجارب التي طبقت على الأطفال السنغاليين. فعلى الرغم من أن أطفال الولوف ينحدرون من أصل واحد يتميز عن الأصل الأوربي، فإن التعليم المدرسي ارتقى بقدرات من يستفيدون منه ليتميزوا عن أترابهم الذين لم يستفيدوا منه أكثر مما يتميزون عن الأطفال الأوربيين. وهذا ما دفع بأحد مساعدي برونر إلى وضع إشارة استفهام كبيرة أمام جميع النظريات التي وجدت أن العوامل البيولوجية أو الوراثية هي المصدر الوحيد للنمو العقلي لدى الإنسان.
ويرجع برونر الفضل في تأثير التعليم على تشكل العمليات التي يقف الطفل بوساطتها على العلاقات بين الأشياء والظواهر الخارجية(المساواة، التفاوت "أقل- أكثر، أصغر- أكبر") إلى اللغة المكتوبة. إذ أن هذا النوع من اللغة يتطلب، حسب رأيه، قاعدة واسعة من التعابير وتجرداً عن الحالات الحسية المباشرة، الأمر الذي يساعد الطفل على تجاوز الصعوبات وحل الصراعات التي تنشأ عن اختلاط خصائص الأشياء أثناء إدراكها المباشر، ويسمح بتقويم موضوعات نشاطه من زاوية منطقية تتكون وتنمو بمساعدة الرموز اللغوية باعتبارها أداة من أدوات التفكير المنطقي، المجرد.
وهكذا فإن وجهة النظر هذه تخالف وجهة نظر مدرسة جنيف. فهي، باختصار، تعتبر أن التعليم يجر وراءه النمو العقلي. ومن خلالها يرى برونر أن باستطاعتنا تعليم الطفل أية مادة علمية في أي عمر كان شريطة أن نقدم هذه المادة بصورة تتناسب مع نظرة الطفل وطريقته في تفسير الوقائع المحيطة به.
لقد تناول برونر بالدراسة المستفيضة مسألة النمو العقلي في علاقته بالنشاط الدراسي والخطط الدراسية. وانتهى إلى التأكيد على ضرورة بناء العملية التعليمية على النحو الذي يضمن تشكل البنيات المعرفية الجديدة عند الطفل، وبالتالي عدم الاعتماد، أثناء ذلك، على ما هو موجود لديه. وقد عبر عن هذه الفكرة في كتابه "عملية التعليم" حين قال بأن تعليم المبادئ الأساسية والمفاهيم التي تتألف منها هذه المادة العلمية أو تلك حتى ولو في شكلها البسيط يجب أن لا يخضع للسير الطبيعي للنمو العقلي. بل يجب أن يكون الأمر على العكس. فإتقان المادة يجعلها مفهومة بالنسبة للطفل ويساعد على بقاء الموضوع حياً وواضحاً في ذاكرته ومن ثم بعث تفاصيلها واستعادتها كلما دعت الحاجة. ويضمن لـه إمكانية الوقوف على العلاقات القائمة بين مختلف الأشياء والظواهر. ويسهل، أخيراً، استيعاب المواد الدراسية الأخرى(برونر،
1960، 17).
إن الحل الذي يقترحه برونر لمشكلة العلاقة بين النمو والتعليم على نحو ما تقدم يحمل قيمة علمية كبيرة. ذلك لأنه يعزز النزعات المتقدمة في علم نفس الطفل المعاصر. كما أن النتائج التي توصل إليها بمشاركة مساعديه توسع قاعدة الصراع الفكري ضد النظريات العرقية والعنصرية.
وأخيراً يتعين علينا في سياق تحليل موقف مدرسة برونر من علاقة التعليم والنمو أن نسجل تلك الملاحظة المتصلة بمكانة اللغة المكتوبة في تعاليم هذه المدرسة. فقد اهتم برونر وأتباعه بهذا النوع من اللغة، ووجدوا أنه يلعب دوراً كبيراً في النمو العقلي عند الطفل. غير أنه غاب عنهم أن اللغة بحد ذاتها ليست موضوع بحث سيكولوجي. وما يتناوله علم النفس هو المحتوى الذي تحمله اللغة. فما يعبر عنه بوساطة الكلمات من معارف ومفاهيم علمية هو الذي يؤثر في البنية العقلية للطفل ويقودها إلى التطور والارتقاء.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح