الفرق بين العلم القدسي والعلم العلماني الجزء الثاني
فی العصر الحدیث أصبح التقدم العلمی مؤثراً فی تهمیش الاعتبارات الاخلاقیة وبالتالی أدى الى انتشار النظریة الاخلاقیة النسبیة فی المجتمعات الحدیثة. بالاضافة الى ذلك الاعتقاد السائد بصورة واسعة بین العلماء حول الفصل المطلق بین الحقائق والقیم قد قوض الدور الاخلاقی فی الاعمال العلمیة. ومن هنا سنعرض بعض الدلائل حول خلو الفعالیات العلمیة من القیم الاخلاقیة:
1ـ النشاط العلمی كهدف ـ مشاریع موجهة ـ هذا یعنی بأن بعض القیم تلعب دوراً قیادیاً فیه؛ مثلاً یعتبر البحث عن الحقیقة قیمة لها الدور لقیادة المعتقد الاساسی للعدید من العلماء.
2ـ جمیع الانشطة العلمیة تستلزم احكام قیمیة.
ـ بعض المبادئ والقوانین الاخلاقیة مثل النزاهة، التجرد، الانسجام والاستقامة لها دور تقنی خاص وسیطرة عالیة على الأعمال العلمیة.
ـ الأحكام القیمیة من الممكن أن تؤثر على خط العلماء بالنسبة للبحوث أو اختیار النظریات. مثلاً یؤكد انشتاین وهیزنبرغ بصورة خاصة على بساطة النظریات المادیة. من ناحیة اخرى اكد دیراك على جمال النظریات المادیة. الاعتبارات الواقعیة هی موازین من أجل اختیار النظریات لدى بعض الناس.
ـ تؤثر الاحكام القیمیة على القرار بصنع التطبیقات العلمیة والتكنولوجیة: الناتج من التطبیقات المحددة للعلوم والتكنولوجیة ممكن ان تؤثر على قرار العلماء حول مجرى البحوث الجاریة.
یعتقد بعض العلماء ان العلوم العلمانیة هی اخلاقیاً محایدة. ولكی نجعلها مقدسة او دینیة فمن الممكن ان نضیف الیها بُعداً اخلاقیاً فی تعالیمه وتطبیقاته. نحن لا نشارك هذا الرأی. هذا ینفی الدین بالنسبة للملكیة المحددة فی الحیاة الخاصة؛ بالاضافة الى ما ذكر فسوف نوضح ما وراء الأسس المیتافیزیقیة لهذین النوعین المختلفین من العلوم ایضاً وهذا سوف یكون له تأثیر ممكن تقدیره على النتائج.
2ـ الدور المهم للمیتافیزیقیات فی النشاط العلمی :
العلوم هی دراسة الطبیعة من خلال التجربة والملاحظة والنظریات العلمیة العقلیة. وهكذا یبدو المظهر العلمی حراً من أی فرضیة غیر علمیة، ضمناً فان كان هذا صحیحاً على المستوى الوصفی: مثل درجات الانصهار ـ أو القوانین الوصفیة مثل قانون تمدد الطول بسبب الحرارة ـ لیس ذلك صحیحاً على مستوى النقاش. یحتوی النشاط العلمی بالواقع على جزئین: الاول یتعامل مع جمع الحقیقة والجزء الثانی یتعامل مع تنظیم الحقائق والاستنتاج النظری وتفسیر الحقائق.
فی الوقت الحاضر یمكن جمع الحقائق وهذا یمكن حدوثه بطریقة مشابهة فی اجزاء متباینة من الكرة الارضیة. لكن عندما نصل الى مدخل المفاهیم، فعندئذ، ربما تتدخل النظریات والتفاسیر والفرضیات المیتافیزیقیة والعقائد الدینیة والتزمت النفسی والاجتماعی.
وهكذا فی اختیار النظریات وتفسیر الحقائق الاختباریة وانعكاس ذلك على التباین بین مختلف العلماء فی بحوثهم حیث یبدو ذلك واضحاً بحد ذاته؛ وهذا صحیح بصورة خاصة عندما نتعامل مع النظریات التعلیلیة الشاملة. ومن هنا ینظر المؤمن الى الحقائق ویستوعبها من خلال الرغبات والمیول. مثلاً القفز من المجال المحدد للطبیعة الى الحقل غیر المحدد للطبیعة الخارقة یَحْتَاجُ غیبیة مناسبة تلائم القوى الخارقة.
یجادل إرنان ماك مولین بان وجهة نظر نیوتن الایمانیة قد أثر على أعماله النظریة على المستویات الاولیة والانشائیة وتطویر نظریاته.
«لم یستطیع نیوتن تطویر نظریاته دون الاستعانة بالمبادئ المیتافیزیقیة من نوع ما.
یجب أن تكون هناك أحكام وقرارات حول المكان الذی یسبب الخدوش بالطبیعة أو المكان الذی یبحث عن القوة العرضیة أو الطارئة، وما هو الشیء الذی یجب أخذه بعین الاعتبار كبیئة لغرض علمی. أخذت هذه الاحكام مدى أبعد خارج نطاق تحمل الضمانة المؤثرة من قبل العلوم المبكرة الناجحة.»(11)
یتفق اندریه لِندَه العالم الروسی الكونی والمعاصر الفذ مع الرأی القائل:
«عندما یبدأ العلماء باداء أعمالهم فانهم یتأثرون بصورة عفویة وغیر واعیة بتراثهم الثقافی.»(12)
جادلت فی مكان آخر (13)حول تأثیر بعض المدارس الفلسفیة السائدة فی العقود المبكرة للقرن العشرین فی تطویر النظریات المادیة فی تلك الفترة وهذا النوع مایزال تأثیره مستمراً. یعلق ماك مولین على هذه النقطة:
«ربما یُغرى الانسان لیفكر بأن المبادئ المنظمة للنوع المیتافیزیقی الموسع لم یعد یلعب دوراً بارزاً فی العلوم الطبیعیة. لحد الآن وحتى فی لحظة تأمل أحوال الجدل الجاری فی النظریة الدقیقة الأولیة وفی مقدار المیدان النظری ـ وفی علم الكونیات ولا یوجد شیء یدعو الى ضرورة ذلك وهذا بعید عن الحقیقة والواقع. والواقع أنَّ المبادئ عند صدورها ربما لا تكون غیبیة بصورة مفرطة كما كانت فی عصر نیوتن وممكن ان یكون الفرق درجة واحدة ولیست النوعیة.»(14)
هنا سنضرب مثالین حول تأثیر المشاریع المیتافیزیقیة فی تفسیر النظریة. المثال الاول قضیة ما یسمى ـ مبدأ مركزیة الانسان (Anthropic Principle) ـ . تشیر الدراسات الحدیثة بان انبعاث الحیاة فی الكون متجذرة فی حقیقة استمراریة الكون التی تقرر القوة للقوى الاساسیة للكون متوازنة بصورة ضعیفة. أی تغیر طفیف فی قوة واحدة من هذه القوى سیقضی على انبعاث الحیاة فی الكون وهذا تحول جید للقوى الطبیعیة التی یطلق علیها مبدأ مركزیة الانسان.
هناك تفسیران أساسیان للحقیقة التجریبیة. أخذ علماء الكون الموحدین ذلك كمؤشر للبرنامج الإلهی، أما الآخرین ولاسیما العلماء ذووا المیول الملحدة فقد قدموا الفكر الامحدود للكون مع كل التكوینات المحتملة للطبیعة الثابتة وبذلك فتح احتمال انبثاق الكون على أساس القیم الصحیحة للثوابت الطبیعیة.
وكمثال آخر نستشهد بنظریة النشوء والتطور لداروین المتمثلة بان جمیع الأشیاء الحیة تتطور بواسطة العملیات الطبیعیة منذ انبثاق بعض أشكال الحیاة خلال آلیة الاختیار الطبیعی. أخذ بعض علماء الأحیاء المؤیدین لنظریة النشوء هذه النظریة كمؤشر لقاعدة الصدفة بحیث لم تدع مجالاً للحدیث عن الفعل الإلهیّ.
یقول ریشارد دوكینز(Richard Dawkins) : "المصادفة مع الانتقاء الطبیعی تجزآن الصدفة الى خطوات صغیرة جداً لا تعدُّ ولا تحصى وبمرور الزمن تتحول تدریجیاً الى قوة كافیة لتصنع المعجزات مثل الدیناصورات وأنفسنا".
ولكن بعض علماء الأحیاء المشهورین فسروا الحقائق الحیوانیة بطریقة ایمانیة كما یوضح آرثر بیكاك(Arthur Peacocke) : "أعتقد أن نظریة النشوء والتطور تدخل الألغاز والخیوط ووضح بعض الأمور لنا وكیفیة فرض ذلك لاهوتیاً: اللّه خلق الحیاة ـ العملیة النشوئیة و هی تطور أشكال جدیدة للحیاة لیرث الوجود، ولكن یقف عاجزاً عن الاجابة عن المسائل التی تثیر الشكوك حول سبب وجوب مثل هذه العملیة أصلاً."
تشیر هذه الامثلة وغیرها عندما نذهب بعیداً خارج المستوى الوصفی ونبدأ بجعل الاستدلالات الكونیة فی آخر الحقائق المتوفرة العامة؛ ونتیجة لذلك أصبح التباین بین آراء المؤمنین باللّه والملحدین واضحاً؛ هنا لا یمكن عمل قرارات على أسس علمیة فقط من دون تدخل المشاریع المیتافیزیقیة للعلماء.
بالرغم من ان الملاحظات والوسائل النظریة والمنطقیة للتحلیلات یمكن ان تكون متشابهة لكلا الطرفین ولكن طریقة التفسیر یمكن ان تكون مختلفة وذلك یعود الى عمق وتشابك المشاریع المیتافیزیقیة للعلماء.
بالاضافة الى ذلك الاستقراء فی الحقائق التجریبیة المحددة الى القوانین العامة حیث تكون مرفقة بالافتراضات المیتافیزیقیة الضمنیة والواضحة. مثلاً عندما تنجز بعض التجارب الفیزیاویة فی مختبراتنا على الأرض وننشر نتائجها الى الأجزاء الاخرى من الكون ونزعم بان القوانین المحلیة للفیزیاء صحیحة. فی كل مكان وفی جمیع العصور، وهذا لا یمكن اثباته تجریبیاً.
نحن ببساطة نقبل ذلك كمسألة ایمان وعقیدة وبصورة متشابهة یمـكن للعلـوم أن تتحدث حـول القـوانین لكـن لا نقـول شـیئاً حـول أصـل هـذه القـوانـین كمـا یـؤكـد جورج الیس: (George Ellis)جوهریاً البحوث حول أسس العلوم هی خارج مدى العلوم نفسها.(17)
لایجاز النظریات العلمیة المتأثرة بواسطة وجهات النظر المیتافیزیقیة حول حقیقة الكون وهی بدورها متجذرة فی عقائدنا الدینیة والثقافیة. (بعض الاحیان) نلاحظ إدراك بعض العلماء للعقائد الفلسفیـة الاساسیـة بالرغم من عدم اعترافهم بذلك ولكن طالما تعمل الانحـرافات الفلسفیـة مثل تیـارات الرأی والشعور المناقـض للنشـاط العلمی. كاقال ماكس یامر (Max Jammer)
(یخفی علماء الفیزیاء بصورة تقلیدیة من اعلان أنفسهم كمؤیدین للمدارس المستقلة للفكر الفلسفی بالرغم من وعیهم بالانتساب الیها. وتأثیر المناخ الفلسفی الخاص على أعمالهم العلمیة وبالرغم من الأهمیة الحاسمة لتشكیل المفاهیم الجدیدة فانها تتجاهل بصورة عامة كلّ هذا التأثیر والمناخ، ومن المؤكد ان للاعتبارات الفلسفیة تأثیرها على علماء الفیزیاء ولا تمانع من العمل معها مثل تیارات الرأی والشعور المناقض)(18).
وبعض الأحیان یقال ان العلوم تؤسس على الحقائق الراسخة بینما الدین یؤسس على العقیدة والایمان ووجهة النظر هذه تفضل الحقیقة القائلة بأنّ حتى فی العلوم نقبل بعض الأشیاء المؤكدة كمسئلة ایمان كما یوضح كارل بوبر(Karl Popper) :
"أمیل الى الاعتقاد بأن الاكتشاف العلمی مستحیل دون الایمان بالافكار والتی هی من النوع التأملی المجرد وبعض الأحیان كثیرة التصدع. الایمان والاعتقاد هی قضایا غیر مبررة من وجهة النظر العلمیة".(19)
وهذا ما یوضحه العالم المادی هاری الیس(Hacry Ellis) :
"إذا كان وجود الكائن الاسمى الكریم (اللّه) هو اساس الافتراض فی قلب الدین، فمن المؤكد أنَّ العلوم العملیة أسست على الفرضیات التی لا دلیل لها والتی تتمثل بعقلانیة الكون وبخضوع سلوكها للفهم الانسانی".(20)
العالم النشوئی المشهور میشال روس (Michael Ruse)الذی طالب فی محاكمته المشهورة فی اركنساس عام 1981: الداروینیة لا تتطلب افتراضات فلسفیة ثم نقض موقفه عام 1993 حین خاطب المؤتمرین:
"أعتقد أنَّ المرء یجب ان یكون حساساً ازاء ما یظهره التاریخ یعنی نظریة التطور المتماثلة للدین والتی تستخدم الافتراضات المیتافیزیقیة والتی لا یمكن اثباتها تجریبیاً. أخمن أن كما نعرف جمیعاً، باننا جداً حساسون الى هذه الحقائق الآن".(21)
اذا قیدنا أنفسنا بالحقائق التجریبیة المجردة ولم نحاول البحث عن النظریات الاستنتاجیة الشاملة فلا حاجة بعد ذلك للحدیث حول العلوم العلمانیة والقُدسیّة حیث تتحول هذه الدراسة للعلوم الى مجموعة قوانین لفرض التنبوء ولكن لیس هذا ما یبحثه كبار سادة العلماء. كان هدفهم ادراك العالم وفهمه وهناك ضرورة لاستخدام الطریقة الاستقرائیة لتجاوز الحدود العلمیة بذاته. منذ زمن انشتاین الذی كان واحداً من أشهر الفیزیائیین فی النصف الأول للقرن العشرین الى وتین الذی كان واحداً من أعظم الفیزیائیین فی عصرنا الحالى نسمع نفس الشیء وهو ایجاد المبادئ المتطابقة مع ما یعمله العالم. یقول انشتاین:
"أرید أن أعرف فقط كیف خلق اللّه هذا العالم ولا یهمنی هذا المظهر أو تلك ولا هذا الطیف أو ذلك العنصر، أرید أنْ أعرف آراءَهُ، والباقی كلها تفاصیل".(22)
أما ویتن (Wittem)فیعبر عن آرائه بقوله:
"الهدف من أن تكون فیزیائیاً لیس فقط أنْ تتعلم كیف تحسب الأشیاء بل یجب أن تفهم المبادئ التی بواسطتها یعمل العالم".(23)
هناك نقطة مهمة أخرى حول دور النظم المیتافیزیقیة فی العلوم حیث تمتلك بعض الافكار الغیبیة المهمة تأثیرات حاسمة فی تطویر وازدهار العلوم هنا نستشهد بمثالین:
1ـ ان الاعتقاد لدرك الطبیعة موجود فی كافة الأدیان السماویة. هذا المثال یمكن برهانه من القرآن الكریم.
«سَنُریَهُمْ آیاتِنَا فی الآفاقِ وفی أنْفُسِهمْ حتّى یَتَبَیَّنَ انَّهُ الحقَّ…» (فصلت/ 53)
یعترف انشتاین بأن هذه الفكرة أخذت من عالم الدین: "العقیدة أیضاً متعلقة بعالم الدین والایمان ومن الممكن أن تكون الأنظمة لعالم الوجود منطقیة وعقلانیة وبذلك یمكن فهمه وادراكه عقلیاً".(24)
2ـ فكرة البحث عن اتحاد القوى الطبیعیة المتجذرة فی الأدیان التوحیدیة. یعترف العالم الكونی الروسی المولد اندره لنده (Andcr linde)(والذی یعتبر غیر مؤمن بالدین) بهذه الحقیقة قائلاً:
"علوم الكونیات الحدیثة متأثرة جداً بالتراث الغربی الموحد للّهِ. من خلال هذه الفكرة یمكن أن یُفهم الكون والنظریة المطلقة لكل شیء هی نمو الاعتقاد والایمان باللّه".(25)
تستطیع العلوم المیتافیزیقیة أیضاً أن تؤثر باهداف وتطبیقات العلوم ونتائجها الفنیة. یستخدم الاطار الایمانی وتطبیقات العلوم لفرض ضمان رفاه الانسان وسعادته ولأجل توجیه المحاولات الانسانیة باتجاه تحقیق الاهداف الروحیة السامیة. مثلاً لا یسمح استغلال الموارد الطبیعیة كمصدر للقوة والسیطرة أو تلوث البیئة.
أدَّتِ العلومُ والتكنولوجیا للقرنین الماضیین الى تمزیق الموازنة بین المظاهر الروحیة المادیة لحیاة الانسان. ووجهة النظر هذه طرحت كنتیجة لهیمنة وجهة النظر العلمانیة على عقول العلماء والسیاسیین وحتى بعض المؤسسات القدسیة:
كانت العلوم الدینیة للأزمان الغابرة أهدافاً لاكتشاف اسرار صنع اللّه للكون حیث نلاحظ استغلال العلوم العلمانیة الحدیثة الطبیعة والكون كسلعة أو بضاعة. العلماء الذین یعملون وفق وجهة النظر الاسلامیة حذرون فی اختیار نوع البحث الذی یخططونه للقیام به. وكما ذكر سابقاً یعتقد بعض الناس بأن جمیع النتائج الضارة للعلوم هی ناتجة من الاهمال للعلوم الحدیثة اتجاه القیم واذا أضیف البعد الاخلاقی الى البحث العلمی فسوف تختفی جمیع الاستعمالات الخاطئة للعلوم. نعترف بأن العدید من النتائج المدمرة للمشاریع العلمیة یعود الى اهمال البعد الاخلاقی فی الحقل العلمی. نعتقد بأن جزءً من المشكلة للعلوم الجاریة تقع بسبب ارتباطاتها الفلسفیة بالعلوم المعاصرة والتی لم تترك مجالاً للحاجات الروحیة للانسان وارتباطه باللّه عزوجل.
وهكذا فان مجرد اضافة القوانین الاخلاقیة للمشاریع العلمیة سوف لا یغیر المیزة او الصفة العلمانیة للعلوم الجاریة.
أخیراً یجب ان یؤكد بأن لیس المنهاج العلمی هو الذی یطبع بصماته على العلوم الدینیة او العلمانیة بل الأسس المیتافیزیقیة الضمنیة، وأغلب الأحیان یحدث مثل هذا التصنیف.
4ـ العلم القدسی مقابل العلم العلمانی.
كما نرى، ان العلوم القدسیّة هی علوم مؤطرة من خلال وجهة النظر الایمانیة وتعتبر وجهة النظر العامة اللّه كخالق ومؤسس للكون وهی لا تقید الوجود بالنسبة للعالم المادی وهی أیضاً تؤمن فی نهایة العالم المخلوق وتقر بالنظام الاخلاقی للكون.
ولا تبالی العلوم العلمانیة من ناحیة أخرى بخصوص، كل هذه النقاط وتتقاسم العلوم القدسیة والعلوم العلمانیة نفس المنهج العلمی مثلاً یلتزم الاثنان باستخدام الاختبار العلمی وقوة الملاحظة والاعمال النظریة. والاختلاف فی وجهة النظر الاساسیة یؤثر على نظرتهم اتجاه اللّه والكون والانسانیة وبالتالی یؤثر على النتائج العملیة.
كانت وجهة النظر بالنسبة للعلوم الاساسیة فی الفترة الكلاسیكیة للحضارة الاسلامیة والقرون الوسطى وجهة نظر موحدة وایمانیة، وقد تغیر هذا الموقف بعد عصر النهضة فی أوروبا. والتغییر واعادة صیاغة كلام «شوماخر» بلباقة: العلوم القدیمة:
"الحكمة والعلوم من أجل الادراك كل ذلك وُجِّهَ أولاً باتجاه سیادة الخیر أی الحقیقة، الخیر والجمال والمعرفة التی ستجلب السعادة والخلاص للبشریة، كما وجّهت العلوم الجدیدة بصورة رئیسیة باتجاه القوة المادیة وتطورت النزعة فی نفس الوقت الى مسافة كبیرة بحیث عززت القوة السیاسیة والاقتصادیة والتی تعتبر الآن بصورة عامة الهدف الأول والتبریر الرئیسی للانفاق على الأعمال العلمیة.
تنظر العلوم القدیمة الى الكون من واجهة عقائدیة بأنّهُ من صنع اللّه وكذا الانسان. وتمیل العلوم الجدیدة بالنظر الى العلوم كعدوٍ یجب غزوه او كفریسة یجب استغلالها. ومن اعظم وأكثر المفارقات المؤثرة (على أی حال) لمواقف العلوم للانسان،ترى العلوم ولفرض فهم الانسان كموجود یمثل خلیفة اللّه على الأرض والمجد المتوج للخلق ومن هنا یجب علیه تحمل المسؤولیة العلمیة. وبسبب تعهداته النبیلة،ترى العلوم المناورة والانسان كشیء عدیم القیمة وكناتج عرضی لنظریة التطور والنشوء أو كحیوان رفیع أو حیوان اجتماعى أو كموضوع للدراسة وبنفس الوسائل التی تدرس فیها المظاهر الأخرى فی العالم بصورة موضوعیة".(26)
ومن هنا یجب علینا ان نحكم على التباین بین العلوم القدسیّة والعلمانیة:
1ـ تعتبر العلوم العلمانیة العالم المادی موجود ككل ولا ترى حیزاً أو مجالاً للّه فی النظام الطبیعی. وعلى العكس تعتبر العلوم القدسیّة العالم المادی مخلوق من قبل اللّه الواحد الجبار وهكذا كل شیء فی الكون یتمحور ویتمركز حول الخالق.
2ـ ترضى العلوم العلمانیة بالتخصص والتنوع الناتج للعلوم. ومن هنا تفصل المیادین المختلفة للعلوم بعضها عن الأخرى وتفصل ایضاً العلوم القدسیة ولكن العلوم القدسیّة تبحث عن الوحدة الاساسیة للنظام المخلوق ویُعنی هذا بان العلوم الدینیة تعانق وجهة النظر المقدسة للكون وتطبق وسیلة مقدسة لفرض ادراكها وهكذا فان تقسیم المعارف الى مصنفات دینیة ودنیویة غیر منجرة لكی تصبح سائدة وصحیحة. وتعتبر كل أنواع المعرفة التی تحقق الایدیولوجیات الاسلامیة ذات الهویة الدینیة المقدسة.
3ـ تقید العلوم العلمانیة نفسها بالعالم العقلانی لذلك تعتبر الحقائق الروحیة اما غیر واقعیة أو ناقصة. بالنسبة للمادة ولا یوجد مجال للحقائق العقلانیة السامیة فی العلوم القدسیّة لانه یختزل الحقیقة الى تجربة معقولة وهذا مما یزید فی ترسیخ الحقیقة بأن العلوم القدسیّة وحدها التی تستند على الوسائل التجریبیة للوصول الى الحقیقة. ویمكن الوثوق فقط بالمعارف المتجذرة فی الحقائق الحسیة.
بحث (برتراند راسل) المسألة بصورة مباشرة: "أیاً تكون المعرفة الممكن احرازها یجب ان تحقق بواسطة المنهاج العلمی. ما یعجز العلم عن اكتشافه لا یستطیع الانسان ان یعرفه".(27) هذا الاقتراب العلمی للحقیقة یسمى غالباً بالعلمیة. تُدرس العلوم التجریبیة كوسیلة وحیدة یمكن الوثوق بها للوصول الى الحقیقة حیث تخبرنا عن ای شیء معروف حول العالم. هذه الرؤیا التى تعبر بالواقع عن أفكار المذهب المادی والطبیعی بشكل مُصَنّع منتشرة بین معظم الجماعات الاكادیمیة المعاصرة.
یعترف میشال روس: "یبدو لی بوضوح وفی بعض المستویات، تعتبر نظریة النشوء كنظریة علمیة تفرز نوع من النزوع الطبیعی، وهذه النظریة تستثنی المعجزات وتلك الاشیاء التی من المحتمل حدوثها".(28) انهابالواقع (العلمی والى حدّ ما بالقیاس الى العلم ذاته وفی الحقیقة أنَّ العلمیة لیست علماً یُقصى الانسان عمّا هو مقدّس. وذلك بالاكتفاء فی أنَّ الحواسَ هی العامل الوحید فی درك الحقیقة، وبهذا سلب الحقیقة غیر المحسوسة مكانتها ومصداقیتها.
أما العلم القدسی فلا یحدّد علم الحقیقة بالمشاهدات التجربّیة والاستدلالات العقلیة، ولا یعتبر الدراسات العملیة للعالم كاملة غیر منقوصة. وذلك یجعل حیّزاً للجوانب الروحیة والجسمیة للانسان والعالم.
وادّعاء العلم القدسی هو أنَّ العالم أكبر واعظم واوسع مِما تراه العین أو یُشاهده البصر.
لا تعترف التجریبیة الصارمة بمدخل الموجودات الغیر منظورة بالملاحظة حیث تستخدم النظریات المادیة الحدیثة مثل هذه الموجودات كنماذج. بالاضافة الى ما ذكر لا نستطیع ایضاً ضبط فكر القانون العام كما یتعامل الفرد دائماً مع الملاحظة المحددة.
4ـ تتجاهل وتنكر العلم العلمانی الفكرة المتعلقة بهدف خلق الكون وهذا جزئیاً یعود الى انشغال العلماء المعاصرین بالمناورات الریاضیة والقوة التنبؤیة للعلوم والجزء الآخر یعود الى سوء الفهم للاعتبارات ذات الغایات الخاصة خلف التطور العلمی. وقد شجع نجاح العلوم الحدیثة فی حقول محددة فكرة البرنامج الحالی للعلوم والذی یفتقر بعض الأحیان الى اهداف وغایات واضحة الاطار الموسع للعلم القدسی على أی حال یلائم النهایات المؤدیة الى الكون ویمكن ان نشاهد الدور الایجابی لذلك فی الممارسات التی یقوم بها العلماء وفی توسیع رؤیاهم على المستوى. بالاضافة الى ذلك لا نشاهد التناقض الذاتی بین العقیدة فی عالمنا الحالی وبین عالم خلاّق وقادر على الابداع.
تجرید العالم من أی نهایات أو محتویات روحیة جعلت العلوم المیتافیزیقیة تفتقر لاى معنى للحیاة او الوجود الكامل.
أعطى ستیفن وینبرك (Stephen Weinberg)وصفاً واضحاً لهذا الموقف:
"لا یستطیع البشر تقریباً ان یقاوم اعتقاده بأنه یملك بعض الصلات الخاصة بالنسبة للكون وان حیاة الانسان لیست فقط أكثر أو أقل من الحاصل المضحك لسلسلة الحوادث التی ترجع الى الدقائق الثلاثة الاولى التی تشیر بطریقة ما الى بدایة الخلق وبنائه. تصادف كتابتی لهذه المقالة وانا جالس فی طائرة محلقة على ارتفاع ثلاثین الف قدم من الارض من (سان فرنسیسكو) الى (بوستن)، تبدو الأرض رائعة ومریحة للنظر، ومن الصعب ان ندرك ذلك، هی فقط جزء صغیر من عالمنا العدائی الساحق. حتى ولو كان من الصعب الادراك بأن الكون الحالى قد تتطور من الحالة الساكنة والغیر مألوفة الى الحالة المبكرة، والتی تواجه الإنقراض المستقبلی للبرودة المستمرة أو الحرارة التی لا یمكن أن تطاق. بقدر ما یبدو الكون ممكن فهمه وادراكه بقدر ما تبدو تفاهته".(29)
على أی حال تخبر العلوم القدسیة بأن للكون معنى ودلائل تمتد خارج نطاق فهمنا ومرتبطة بهدف الوجود، وهكذا فان الحیاة الهادفة هی تلك التی تستخدم الغایة من خلقنا وهی عبادة الخالق.
5 ـ تخلو العلوم العلمانیة عن القیمة الحیادیة ولكن العلوم القدسیّة تدمج المعرفة بالقیم وهذه تنجز بطریقة ما بحیث تؤدى الى مسؤولیة العالم فی جمیع مراحل الحیاة ویحدث ذلك فی الاسس المیتافیزیقیة للعلوم، وتصور الانسان العلمانی. غالباً ما یلعب علم الاخلاق دوراً منفعیاً فی تصور الانسان العلمانی. ویرتبط مفهوم المنافع الاخلاقیة فى وجهة النظر الاسلامیة بمفهوم نهایات الكون. فی عالم متحرر فی النهایات ویتصف القانون الاخلاقی بانه لا یملك قیم حقیقیة وجوهریة، لانها تملك فقط دور منظم فی المجتمع.
اهمال القیم الاخلاقیة فی التفاسیر العلمیة جزئیاً یعود الى اهمال الاهداف والغایات فی العلوم الدنیویة الحدیثة.
6ـ فی البیئة الدنیویة تبحث العلوم من أجل السیطرة ومناورة الطبیعة والمجتمع. فی المحیط الدینی تبحث العلوم للحصول على الحكمة ولحل مشاكل الفرد والمجتمع، وهذه الاهداف تؤدی الى رضى اللّه ورعایته. وتدرس الطبیعة وتعالج الامور بصورة صحیحة للحصول على رضا وثقة الخالق. وهكذا یجب على جمیع الخطط للتقدم العلمی والابتكار التكنولوجی متناسقة مع النظام الكونی.
7ـ بسبب القیود التی تحاصر العلوم العلمانیة تستطیع فقط ان تستجیب الى مسائل وأمور محددة ولا تستطیع عرض صورة شاملة للعالم. أُغفلت ببساطة الكثیر من الاسئلة التی تخص القلق الانسانی دون جواب والذی ینشأ فی العلوم نفسها.
عبر شرود (Schroedinge)ینكر هذه الحالة بلباقة:
"الصورة العلمیة للعالم الحقیقی الذی یدور حولی ناقصة تماماً تمنح الصورة العلمیة الكثیر من المعلومات الواقعیة وتضع جمیع تجاربنا فی نظام كبیر ومتماسك ولكن هناك صمت فاضح بلا استثناء وهذا بالواقع قریب الى قلوبنا ویهمنا جمیعاً. لا تستطیع الصورة اخبارنا عن كلمة أحمر أو أزرق، مُرّ أو حُلو، الألم الجسدی أو الإبتهاج الروحی لا نعرف شیئاً عن الجمال والقبح، الخیر والشر، الإله والخلود. بعض الاحیان تتظاهر العلوم بالاجابة على الاسئلة فی هذه المیادین ولكن غالباً ما تكون الأجوبة سخیفة بحیث لا نرغب أن نأخذها بصورة جدیة".(30)
یتفق «یوجین ویكنر» (Eugon Wigxer)العالم الفیزیائی العظیم مع هذا الرأی قائلاً: "لا أعتقد بأن الفیزیائیین یتعاملون مع كل شیء. لا أدری فیما اذا كنت سعیداً أو حزیناً أو فیما اذا كنت خائفاً أو غیر خائفٍ، فیما اذا كنت نبیلاً أو منحطاً، كیف یتمثل كل ذلك فی العلوم، حتى لو كان هناك أناس یقولون بوجود اختلافات كیمیائیة بینما أعتقد بأن هناك شیء آخر غیر ذلك".(31)
بالاضافة الى ذلك تلتزم العلوم العلمانیة الصمت اتجاه المعنى والهدف من حیاة الانسان وحول الفضیلة. العلوم الدینیة على أی حال لا تقید الحقیقة بالنسبة للعالم للتجریبى وتعمل من خلال الاعتراف بالإطار الغیبی الشمولی فی المستویات الرفیعة للحقیقة. یلقی هذا الأطار الضوء على المسائل العلمیة السامیة. یشرح «جورج الیس» هذه القضیّة بلباقة قائلاً: "النظام الأساسی للكون أوسع مما وصف عن طریق فهم المادیات فقط ویتصل ذلك بالعمق الكامل للتجربة الانسانیة وبخاصة ایجاد الاساس الاخلاقی والمدلول".(32)
الخاتمة :
كما ذُكر سابقاً تستطیع المعرفة العلمیة الكشف فقط عن المظاهر المحددة للحقیقة ویجب أن تتطابق مع المعرفة المطلقة لجعل ذلك أكثر شمولیة. یجب على الفرد أن یتمثل فی اطار متناسق یتم فیه اقرار المستویات العلیا للمعرفة وبعد ذلك یمكن أن تلائم جمیع الظواهر للتجارب الانسانیة وتستطیع الاجابة على كل الاسئلة التی تخص الانسان. بالاضافة الى ذلك فالشرّ كلّ الشرِّ یعود الى الاستعمال الخاطئ للعلوم الحدیثة ونتائجها التكنولوجیة والتی من الممكن اجتنابها أو الحدّ منها. یصبح مثل هذا الاطار وجهة نظر اسلامیة وعالمیة تتمركز وتتمحور فی الالهام أو الوحی الاسلامی الذی یأخذ بوجهة النظر المقدسة للطبیعة ویعترف بالبیئة المتسلسلة للحقیقة وتمتلك مساحة واسعة للاهتمام الانسانی. الفكرة السائدة خلال القرن التاسع عشر ومعظم القرن العشرین بأن العلوم بذاتها تستطیع حلّ كلّ المشاكل الانسانیة وتستطیع توفیر الرفاهیة والسعادة للانسان. بدون شك بان العلوم والنتائج التكنولوجیة جلبت الكثیر من النعم للانسانیة. ولكن بالرغم من عدم تحقیق حلم المدینة الفاضلة الموعودة الذی حلّ محله وسائل الدمار الشامل وتلوث البیئة وتمزیق التوازن بین الظواهر الروحیة والمادیة للحیاة.
الانسانیة شهدت الحروب العالمیة والفقر والظلم والفساد والعنف على الرغم من كل التفوق العلمی والتكنولوجی، نجد العالم الصناعی یصرخ عن شیء ما ذی معنى، التطورات العلمیة والتكنولوجیة كل ذلك لم ینهض باعباء الانسانیة وهمومها.
نعتقد بان جمیع هذه المشاكل متجذرة فی وجهة النظر العالمیة والتی تسیطر على عقول صانعی السیاسیة والعلماء والوكالات الاخرى المؤثرة فی الرأی العام.
لقلب هذه النزعة یجب ان تكون جهود منظمة بواسطة المؤسسات الاكادیمیة والمدارس الدینیة لتحل محل وجهة النظر العلمانیة عن طریق الفكر الشامل المتمركز حول اللّه وقدسیته وهذا بدوره یمنح العلوم وجه صحیحة فی مظاهرها العملیة وفی توسیع الرؤیا الكونیة للعالم...(انتهى ).
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح