دور الحواس في عملية المعرفة ومجالها وخصائصها وتقييمها
أ_ دور الحواس في عملية المعرفة
1_ عند التجريبيين:
لا خلاف بين المذاهب الفلسفية في ان للحواس دورا ما في عملية المعرفة. ولكن الخلاف إنما هو في تقييم الدور الذي تقوم به الحواس في تحصيل المعرفة من ناحية، وفي تحليل دور الحواس في هذه العملية من ناحية أخرى. وبعبارة أخرى في مدى اعتماد المعرفة على الحواس وفي علاقة الحواس بغيرها من طرق المعرفة.
وبمناسبة الحديث عن المعرفة الحسية، نجد ان التجريبيين أو الحسيين يبالغون في الاعتماد على الحواس طريقا للمعرفة، بل ويعدونها المنبع الوحيد والسبيل الرئيسي للمعرفة. وتقوم نظرتهم لغيرها من الطرق، كالعقل، على أنه تابع للحواس، بل وتعتمد عليها كلية وينحصر دوره فيما تقدمه له هذه الحواس، بل هو لا يعدو ان يكون مستقبلا، هذا إن كان ثمة اعتراف به وبدوره في المعرفة.
فالإحساس عند الأبيقوريين مثلا، أصل المعرفة وطريقها الوحيد، والإحساسات تعطينا صورة صادقة للأشياء أي صورة مطابقة لواقعها، "وخطأ الحواس ليس يقع في الإدراك بل في الحكم الذي يضيفه العقل إلى الإدراك".
والرواقيون يبالغون في الاعتماد على الحواس طريقا وحيدا للمعرفة، إذ هي تتصل بالماديات، والوجود عندهم كله مادي، حتى العقل نفسه فإنه مادة إذ النفس مادية، والإنسان يولد وعقله صحيفة بيضاء خالية من كل معرفة، ثم تنطبع فيها صور الأشياء عن طريق الحواس، والعقل حاسة من الحواس، وهو يقوم بالتجريد والإضافة والتأليف والنقل والمضاهاة، ولا يستطيع في عمله ذلك الخروج عما تقدمه له الحواس الخارجية.
والتجريبية الحديثة كذلك تجعل التجربة أو الحواس طريقا وحيدا للمعرفة. فالتجربة عند لوك مثلا نوعان: تجربة حسية أو إدراك حسي يعتمد على الإحساس المباشر ويقوم على تلقي الانطباعات الحسية، وتجربة باطنية أو تأمل يعتمد على التفكير ويقوم على ربط الإحساسات الخارجية وتكوين أفكار منها. فالأفكار العقلية ليست في النهاية إلا صورة من التجربة وإن كان هذا التوسع في معنى التجربة عند "لوك" يعد تقدما نحو إقرار بالعقل إلا أن مهمته عنده ما تزال سلبية. وإذا ما نظرنا إلى الاتجاه الحسي المتطرف، لدى "كوندياك" نجده يقتصر على الإحساس الظاهري ويستغني عن التفكير كمصدر للمعرفة، ويرى أن أي إحساس ظاهري كاف لتوليد جميع القوى النفسية، وأنه عند أول إحساس يوجد شيء واحد في الشعور، وهو إحساس واحد لا غير، ويكون هذا هو الانتباه، ويبقى هذا الإحساس ومع إحساس آخر تحصل الذاكرة، وبتوجيه الانتباه إلى الإحساس الحاضر والإحساس الماضي تحدث المقارنة أو المضاهاة، وبإدراك المضاهاة مشابهة ومفارقة يتكون الحكم، وإذا تكررت المضاهاة والحكم كان الاستدلال. فعمليات العقل إذن ليست إلا إحساسا خارجيا أصلا. أما الفيلسوف الحسي "هيوم"، فيرى أن الافكار ليست إلا صورا باهتة للانطباعات الحسية القادمة من الحواس، ومن ثم فهو يجرد العقل من كل فاعلية، وأن ما ينشأ في العقل من انفعالات وإدراكات قوية بارزة فهو من الحواس الخارجية، بحيث تحدث صور لهذه الانفعالات، وتنشأ علاقات فيما بينها وبين المعاني بفضل قوانين تداعي المعاني أو التشابه والتقارن في الزمان والمكان والعلية، وهذه القوانين ليست أولية أو غريزية في العقل وإنما هي تكرار للتجربة كما أنها ليست قائمة في الخارج.
ومن ثم فإن للتجريبيين موقفا صلبا من القياس لأنه مبنى على المعنى المجرد الكلي، ولأنه يشهد بوجود العقل وفعاليته في المعرفة وهم ينكرون هذا الدور للعقل، ويعدون الحواس صاحبة المقام الأوحد في المعرفة، ومن ثم فإن الاستدلال عندهم ليس الانتقال من معنى عقلي إلى معنى عقلي وإنما هو الانتقال من محسوس إلى محسوس محكوما بقانون التداعي. ومن ثم فإنهم يفضلون الاستقراء الذي هو انتقال من محسوس إلى محسوس أو من جزئي الى جزئي، والاستقراء قائم عندهم على مجرد التوقع الأولي أو مجرد عادة يولدها التكرار ذلك أن المستقبل شبيه بالماضي.
2_دور الحس عند العقليين:
أما العقليون فلا ينكرون وجود الحواس وأن لها دورا ما في المعرفة. ولكنهم يأخذون على التجريبيين اعتمادهم التام عليها طريقا للمعرفة، ثم يخالفونهم في اعتبار العقل محصورا في مهمة الحواس. ويقول العقليون: إن التجربة التي تحصل بوساطة الحواس مضللة موهمة، وإن الحواس لخداعة كذابة مخطئة لو اعتمدنا عليها كل الاعتماد في المعرفة، ذلك أن الإدراك الحسي إنما يخبرنا عما يتعلق بحالة واحدة من أحوال الشيء، كما أن ما تظهرنا عليه الحواس ليس إلا مظهر الأشياء فحسب، ولا تطلعنا على حقيقتها. وهذا لا يعني إنكار دور الحواس نهائيا في المعرفة، ولكن التجارب الحسية إنما تقدم عليها المعاني الأولية التي على اساسها تفهم التجربة ويحصل الإدراك الحسي. فالعقل أساس الحواس وموجه للإدراك الحسي.
والهجوم على دور الحواس في المعرفة يخدم فريقين: فريق السوفسطائية التي تنكر الحقيقة والعلم استنادا إلى خداع الحواس وقصورها ونسبيتها... وفريق العقليين الذين يقدمون في الأهمية عليها طريقا آخر وهو العقل. ولكنهم لا ينكرونها كلية. ولعل أقسى العقليين على المعرفة الحسية ودور الحواس في المعرفة أفلاطون، إلا أنه يعتبر الإحساس أول مراحل المعرفة ولكنه يعتبر دور الحواس لا يعدو أن يكون مذكرا للنفس لتعود إلى علمها الازلي الكامن فيها، والذي نسيته بسبب تعلقها بالبدن أو حلولها فيه.
بينما جعل أرسطو للحواس دورا رئيسيا في المعرفة مع العقل إذ قسمها إلى حواس ظاهرة وباطنة. وجمع بين عملها وعمل العقل، بل صرح بأنه لا يمكن التعلم أو الفهم من غير الإحساس، وأن المحروم حاسة محروم المعارف المتعلقة بها، وجعل عمل العقل قائما على القوة المتخيلة من القوى الحاسة. ولعل أرسطو قد حاول أن يقف بهذا موقفا معتدلا بين الحسيين المتطرفين والعقليين المتطرفين، إذ جعل الحواس جزءا من النفس بالإضافة الى العقل، فعرف النفس بأنها "ما به نحيا ونحس وننتقل في المكان ونعقل أولا".
والحس عند الاتجاه العقلي الحديث كديكارت مثلا، ليس مصدر أساسيا للمعرفة، ولكنه مصدر أو طريق يقدم للفطرة بما فيها من أفكار فطرية مادة معرفة، والمعاني إنما تستنبط من النفس أو إنما تعود إلى الحدوس العقلية، بل إن الثقة بما تقدمه الحواس، إنما يعود إلى وضوح البديهيات العقلية وتميزها، أما المحسوسات قبل توثيق العقل لها فهي مصدر شك وخداع، وأنه لا قيمة لإحساسنا دون أن نعرفها معرفة واضحة متميزة، وإلا إذا التزمنا اعتبارها أفكارا فحسب، ومن ثم تكون لنا بها معرفة.
مآخذ على التجريبيين:
1_ إن في مذهبهم هذا تحديداً لطاقة الفكر البشري، وإنقاصا لفعالية العقل، ليس العقل بمفهومه التجريبي عندهم، وإنما العقل طريقا للمعرفة. كما أن اعتبارهم الحواس أو التجربة هي الطريق الوحيد للمعرفة يوقعهم في تناقض واضح. ذلك أن هذه القاعدة التي يقررونها في اعتبار الحواس طريقا للمعرفة هل هي قضية حسية أي ثبوتها بالحس أم لا؟ ومن المستحيل أن تكون ثابتة بالحس إذ أن التجربة أو الحس لا يمكن أن يكون دليلا على صدق نفسه، وإن لم تكن ثابتة بالحس فقد ثبت أنهم يؤمنون بحقائق وراء التجربة وليس ذلك إلا العقل.
2_ إن المعرفة لو كانت محصورة في التجربة مصدرا وحيدا لها، لما استطعنا أن نحكم باستحالة شيء مطلقا، ذلك أن الاستحالة بمعنى عدم إمكان وجود الشيء، ليس مما يدخل في نطاق التجربة، ولا يمكن للحواس أن تكشف عنه، وكل ما هو في قدرة الحواس أن تقول: إنها لم تقع على هذا الشيء، ولكن عدم قدرة الحواس على معرفة شيء لا يمكن أن يسلم إنكاره. ومن ثم فإن قول الحسيين إنه لا موجود إلا المحسوس بصيغة الحصر تجاوز لحدود اختصاصهم، ذلك لأنهم حينئذ إما "مستنبطون، وهو استنباط مجازفة تنقصه الأسس التي يقوم عليها الاستنباط الصحيح، وإما متحاملون".
ومن ثم فان الانتقال من الحكم باستحالة تصور شيء أو احساسه الى الحكم باستحالة وجوده في الخارج هو استنباط شيء من شيء، وهذا الاستنباط خارج على مذهب الحسيين أنفسهم.
إنه من المعلوم أن الحواس تخدع ومعارفها تحتمل الخطأ ومن ثم فإنه ينقصها الشرطان الأساسيان للمعرفة وهما الضرورة وصدق التعميم.
فالمعرفة القادمة لنا من الحواس، ما الذي يضمن لنا أنها ضرورية؟ إذ صدق ما تدل عليه الحواس لا يعرف إلا بالإحصاء، والتجربة، والمشاهدة، ولكن ما الذي يضمن لنا أن يكون هذا الصدق دائما وهو يخضع لعوامل التغير من جهة الأشياء والظروف، ومن جهة ملاحظتها ومشاهدتها، وكلنا يعلم أن تغير الشيء وتغير الظرف وتغير مكان وزمان المشاهدة، وبقية العوامل الاخرى يؤثر على نتائج التجربة أي يؤثر على المعطيات القادمة عن طريق الحواس.
3- كما أنه ما الذي يضمن لنا، والحالة كذلك، أن نعمم الحكم من الجزئي أو الفرد الذي أجرينا عليه التجربة على كافة أفراد النوع؟ فالتعميم نفسه تجاوز لمصدر الحس وليس مما يقع في خبرة الحواس.
وهذا كله يجعلنا أن نبحث عن آخر يضمن لنا الضرورة والتعميم في المعرفة، وحيث إن الحواس لا يمكن أن تحقق هذين الشرطين وتنقصهما المعرفة الحسية فلا بد إذن من العقل الذي يصحح خطأ الحواس ويوجهها، وتستند إيه في الضرورة وصدق التعميم، حتى نحصل على معرفة صحيحة صادقة.
4_ ثم ما الذي تمدنا به الحواس من معرفة حتى يصح لنا أن نعتبرها مصدرا وحيدا للمعرفة؟ إن غاية ما تمدنا به الحواس هي آثار حسية لا تعدو أن تكون سوى مادة خام أولية مفككة، فإذا ما اجتمعت حول شيء في زمان ومكان، تحولت إلى معرفة. وتحولت هذه الإحساسات إلى إدراك حسي أو إلى معرفة لا يكون بصورة آلية، ولا من تلقاء أنفسها، بل لابد لها من قوة إيجابية قادرة على تنظيمها وتصنيفها، وعلى إرادة تتوجه إلى هذه الإحساسات وهي العقل. ومن هنا نجد فهما يحترم الحواس والعقل معا طريقين بالاعتماد على العقل وهو الفهم الإسلامي بصفة أساسية في مصدره الرئيسي وهو القرآن الكريم، ومنعكسا على فهم فلاسفة المسلمين ومتكلميهم.
3_ الفهم الإسلامي لدور الحواس في المعرفة:
1_ إن القرآن لا يوافق أبداً على اعتبار الحواس طريقا وحيدا للمعرفة. كما أنه لا يوافق أبدا رفض الحواس طريقا من طرق المعرفة. وإنما يعتبر الحواس بابا للعقل في المعرفة، والحواس والعقل يعملان جميعا في عملية المعرفة. أما احترام القرآن للحواس واعتبارها طريقا للمعرفة، فلا أدل عليه من أنه ذكر السمع المتعلق بالإنسان وماله علاقة بهذه الحاسة ما يقارب من ثلاثمائة مرة، كما ذكر البصر ومتعلقاته في ما يقارب مائتين واربعة وستين موضعا، ويمدح الله سبحانه في القرآن من استعمل نعمة الحواس في الوصول إلى المعرفة، ويذم من اكتفى بهذه الحواس لتؤدي مجرد الدور الحيواني في الحياة وأفسد دورها المعرفي واستخدمت الحواس لتدل على العلم القوي حيث يقول سبحانه في كل ذلك:
(فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها)، (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم)، (لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون)، (إنما يستجيب الذين يسمعون).
ويقول ذامّاً لمن لا يجعل هذه الحواس طريقا لمعرفة الله: (ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون).
2_ وقد جعل القرآن من المشاهد المحسوسة، والآيات الكونية المنظورة دليلا على وجود الله ووحدانيته وعظمته، وطلب إلى الإنسان أن ينظر فيما حوله ومن حوله، وإلى كتاب الكون المفتوح ببصره وسمعه وسائر حواسه. اذ يقول سبحانه: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون)، ويقول سبحانه (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت* وإلى السماء كيف رفعت* وإلى الجبال كيف نصبت* وإلى الأرض كيف سطحت)، و (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).
3_ وقد جعل القرآن دور الحواس مع العقل في المعرفة، ولم يجعلها مصدرا مستقلا. فإنها وإن كانت مهمة بحيث إن تعطيلها يؤدي إلى تعطيل العقل كما قال سبحانه: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون). إلا أنه لم يجعلها مصدرا مستقلا، بل إن الآيات الكثيرة في القرآن لتشير إلى أن الدور الأهم والأساسي هو للعقل، مع كون الحواس طريقا أو بابا من أبواب المعرفة العقلية. بل إن العقل يحول المعرفة الحسية إلى معرفة عقلية. مما يدل على ذلك قوله سبحانه: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا).
فالحواس تؤدي دورها في تقديم مادة العقل، الذي يقف وراءها ليجعل من هذه الإحساسات إدراكات ومعارف حقيقية. ودور العقل هنا ليس ذلك الدور السلبي، كما عند جون لوك، وإنما هو دور إيجابي. وإذا كان الفكر حكما على الشيء فإن الحس أحد عوامل هذا الفكر بالإضافة إلى العوامل الأخرى وهي الواقع والدماغ والمعلومات السابقة أو العقل. فالواقع مصدر المعلومات الحسية والحواس تنقل هذا الواقع إلى الدماغ، والدماغ يميز هذا الانطباع للواقع، والمعلومات العقلية تربط هذه العوامل لتكوين حكم هو الفكر. والحس هنا في عملية المعرفة أو الفكر لدى الإنسان مختلف تماماً عن التمييز الغريزي الذي يتم لدى الحيوان من تكرار الإحساس بالواقع، من أجل إشباع مركز الإحساس أو الحاجة العضوية. ومن ثم فإن الحس يخدم الطريقة العلمية، لأنها تقوم على إجراء التجارب للوصول إلى الحقيقة، وذلك بإخضاع المادة لظروف وعوامل جديدة وملاحظتها ومقارنتها بظروفها وعواملها الأصيلة، ثم يستنتج من هذه العملية حقيقة علمية تجريبية. وبالملاحظة والتجربة ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على المقدمات العلمية، نصل إلى حقيقة علمية تكون مادة للتفكير، أو للطريقة العقلية التي هي أساس التفكير وأساس الحكم.
4_ وإذا كانت التجربة أو الحواس تساهم بقدر ما في عملية المعرفة، إلا أنه من الخطأ الكبير والمغالطة الواضحة اعتبارها مصدرا وحيدا وميدانا وحيدا للمعرفة. بل هي لا تعدو أن تكون فرعا واحدا من فروع المعرفة العقلية. وهنا يقف القرآن في وجه كل من المذاهب الفلسفية: التجريبية التي تعتبر التجربة المصدر الوحيد والميدان الوحيد للمعرفة، والعقلية التي تنكر دور الحواس في المعرفة، والنقدية التي تحد المعرفة بأنها المعرفة في حدود الظواهر التجريبية، أو في حدود عالم الشهادة بالتعبير القرآني الفريد. ذلك أن القرآن جعل من عالم الشهادة وما فيه من محسوسات، ينظر فيها بالنظر العقلي طريقا عقليا إلى معرفة جديدة غيبية، وهي وراء عالم الحس والشهادة، وعلى رأس هذه المعرفة الإيمان بوجود الله سبحانه ووحدانيته.
5_ وموقف القرآن هذا كله له أثره في آراء المتكلمين وفلاسفة المسلمين، من حيث المبدأ، وهو أن الحس خادم العقل، وتابع له يمده بما يحتاج إليه من صور المعلومات في مختلف الحقول والميادين.
ولعل تقدير دور الحواس والعقل في المعرفة في الإسلام، أدى إلى منهج تجريبي فيما يتعلق بعالم الشهادة، وجعل هذا المنهج خادما للإيمان. في الوقت الذي لا يصح فيه لهذا المنهج أن يُنصّبَ نفسه حكما أو معيارا لما هو خارج ميدانه. ومن هنا كانت المخالفة للمنهج التجريبي غير الإسلامي بالغة، لأنه لم يجعل لهذا المنهج ضابطا وهدفا كما فعل الإسلام، إذ إنه جعل التجربة متجاوزة لحدود العالم الحسي أو عالم الشهادة إلى عالم الغيب الذي لا يخضع لمقاييس التجربة متجاوزة لحدود العالم الحسي أو عالم الشهادة إلى عالم الغيب الذي لا يخضع لمقاييس التجربة الإنسانية، بينما جعل القرآن قوانين عالم الشهادة التجريبية لا تنفع إلا في عالم الشهادة، ولا يتجاوز دورها بالنسبة لعالم الغيب سوى أنها تسلم بوجوده. وهذا بخلاف نسبية "كانت" التي جعلت عالم الغيب خارجا عن نطاق قدرة العقل. بينما يرى الإسلام أن بإمكان العقل، ومن خلال قوانين عالم الشهادة، أن يسلم بوجود عالم الغيب وإن كان لا يستطيع أن يدلي بتفاصيل هذا العالم، وإنما تكون المعرفة التفصيلية عنه من طريق آخر فوق قدرة هذا الإنسان وهو طريق الوحي.
ب_ مجالات المعرفة الحسية وخصائصها وتقييمها
يمكننا بعد ذلك أن نذكر أهم خصائص المعرفة الحسية ومجالها وقيمتها في المعرفة فنقول:
1_ إن أهم خصائص المعرفة الحسية أنها معرفة متصلة بالمحسوسات المادية، فعالم الحس أو عالم الشهادة بتعبير القرآن هو مجال هذه المعرفة. إذ تقوم فيه الحواس بتأكيد واقعية عالم الشهادة وخارجيته واستقلاله عن الذات العارفة. ولكن هذه المعرفة في تأكيدها لدور الحواس في إثبات خارجية العالم الحسي وواقعيته، لا تستقل بها وحدها إذ ليس في الإحساس حكم وإنما الحكم للعقل، وإن كان العقل لا يستطيع أن يحكم بشيء في عالم المحسوسات دون أن تقدم له الحواس مادة المعرفة أو صورة عن هذه الأشياء في الواقع. فالمعرفة العلمية أو المعرفة التجريبية في طورها النهائي، إنما تقدم علما مجاله الكون أو عالم المحسوسات. وقيمة الحواس هنا أنها تقدم صورا متفرقة عن الأشياء تجتمع لدى العقل فينظمها ويصفها ويحكم عليها.
2_ ومجال الكون مجال واسع تطلعنا فيه الحواس على ظواهر الأشياء، ولا تستطيع أن تطلعنا على حقيقة الأشياء وكنهها. ومن هنا كان خطأ التجريبية التي تدعى أن الحواس والمعرفة الحسية، هي التي تعطينا صورة صادقة عن الواقع وعن حقائق الأشياء وكيفياتها، ومن ثم كان متكلمونا المسلمون يعلمون خطورة هذا الادعاء من مثل المذاهب التجريبية، فكان تقييدهم لدور الحواس وقيمتها في المعرفة ومجالها، فهي تؤكد وجود الأشياء ولا تعطي الأشياء وجودها، وتؤكد واقعية الأشياء ولكنها لا تستطيع أن تدعى أنها تصل إلى حقائقها وكيفياتها، ذلك أن أعلى أنواع المعرفة وهي معرفة الألوهية، ليست داخلة في حقيقتها في مجال الحواس والاستدلال على عالم الغيب ليس من لوازمه ولواحقه في المعرفة معرفة حقيقته وماهيته وفحواه وكنهه ومن ثم كان دور الحواس ومجالها قاصرا عن الدخول إلى هذا المجال وإن التقدم العلمي مهما بلغ في مجاله التجريبي لا يستطيع أن يعطينا أكثر من التأكيد على وجود العالم المحسوس، ولكنه سيبقى قاصرا عن الدخول إلى ساحة المجهول بالنسبة لنا وهو حقيقة الأشياء وكنهها.
3_ والمنهج القرآني هنا متميز في تقييم دور التجربة ومجالها عن كل المذاهب الفلسفية، ذلك أنه لا يقبل ادعاء المذهب التجريبي في الاقتصار على الحواس طريقا للمعرفة، والاقتصار على عالم الشهادة مجالا لها. كما يجعل الحواس بابا للمعرفة العقلية وأنه لا قيمة للحواس في عملية المعرفة بدون العقل الذي يوجهها ويضبطها ويجمعها ويرتب صورها ويعطي أحكاما على مجالاتها. كما يخالف تقييم المذهب الافلاطوني المتطرف في تقييم دور الحواس الذي يجعلها لا تعدو أن تكون أشباحا أو ظلالا للحقيقة العقلية ولا يعدو دورها التذكير، بل هي حجاب تحول دون الوصول إلى الحقيقة. كما يخالف المذهب النقدي لدى "كانت" الذي جعلها المضمون التجريبي للقوالب الفطرية أو لمقولتي المكان والزمان، وإن كان المذهب النقدي أقرب من سابقيه إلى الحقيقة، إلا أنه أخطأ إذ قصر دور العقل النظري في العمل مع الحواس فحسب أي اقتصر على الظواهر الحسية فحسب، وفطمه عن معرفة مجال علم الغيب. ونحن نقدر له محدودية الإنسان في معرفته وعجز عقله عن الوصول إلى كنه الأشياء وحقائقها، ولكننا نجعل للعقل دوراً مع الحواس ومن خلال النظر في عالم الشهادة وقوانينها، يمكنه به أن يستدل على مبدأ وجود عالم الغيب، وإن كان بحاجة بعد ذلك إلى الوحي لمعرفة تفصيلاته.
4_ كما أن من خصائص المعرفة الحسية أنها محكوم عليها بالتغير بحسب الشخص والظروف والعوامل التي تتحكم في التجربة. وكل هذا يدعو إلى ضرورة ارتباط الإدراك الحسي أو الإحساس بالعقل الذي يضبط ظروف التجربة، ويقوم بعملية الاستنباط والاستنتاج، فيعطي للمعرفة الحسية ثباتا حتى يتصف هذا الإحساس بأنه علم أو معرفة.
5_ كما أن المعرفة الحسية ذات طبيعة جزئية أي تدلنا على الأفراد والجزئيات ومن ثم فمجالها أن تعرفنا على ما يحتويه الكون أو عالم الشهادة من أفراد وطبائعها من خلال التجربة. وقد جعل القرآن التعرف بالحواس على هذه المخلوقات وأفرادها وطبائعها من دلائل عظمة الله، وتصلح لأن تكون دليلا على وجوده ووحدانيته وحكمته، كما قال سبحانه: (ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير). وذكر سبحانه بآلائه ونعمه المشاهدة فقال: (والأرض وضعها للأنام* فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام* والحب ذو العصف والريحان* فبأي آلاء ربكما تكذبان* خلق الإنسان من صلصال كالفخار* وخلق الجان من مارج من نار* فبأي آلاء ربكما تكذبان). وغير هذا كثير في القرآن من آيات تثير العقل لتوجيه نظر الحواس إلى أفراد المخلوقات، وإلى عالم الشهادة بما فيه من عجائب وطبائع وما يثير الاعجاب، لتكون هذه المعرفة الحسية أو العلمية التجريبية بهذه الأشياء طريقا لاستدلال العقل على وجود الله ووحدانيته وعظمته، مما يقتضي الإيمان به سبحانه وزيادة اليقين وإخلاص العبادة له وحده سبحانه.
6_ ولهذه المعرفة قيمة كذلك في تمهيد الطريق للعقل وتسهيل المعرفة للأشياء وتسهيل عقد الصلة بين الإنسان والكون: صلة الانتفاع والتسخير وصحة التأمل والاعتبار. ومن ثم فالحواس موظفة وخادمة للعقل في نظر القرآن. والخادم لا يكون بديلا عن سيده في حال من الأحوال. وإذا ما نظرنا إلى استعمال القرآن لهذه الحواس نجده يحرص على توظيفها في خدمة الإيمان، وخدمة الإنسان، وهو يؤدي دوره العرفي في الحياة، والذي يقع على قمة هذا الدور أمانة الهداية التي كلفها الإنسان كما قال تعالى (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا).
والمعرفة الحسية هي إحدى مقدمات الدليل العقلي، إذ تكون يقينية في تأكيدها على الأشخاص والأحداث المرئية في العالم الخارجي. وقد عدها فلاسفة المسلمين ومتكلموهم في مرتبة البديهيات، بل جعلوها قسيمة لها وجعلوهما _البديهيات والحسيات _قسمين للعلوم الضرورية، التي تقف عليها المعرفة النظرية.
7_ والحواس ذات طبيعة ناقصة لأنها تمثل جزءا من الوجود الإنساني الذي يقوم على كينونة إنسانية مزدوجة، تجمع بين الحواس والعقل، وبين المادة والروح وتهيىء للإيمان بعالم الشهادة وعالم الغيب. والكينونة الإنسانية كينونة ذات فعالية في عملية المعرفة، سواء في الإدراك الحسي أو في الإدراك العقلي. وليست سلبية تتلقى وتقبل أثر الاحساس وتتحكم فيها ظواهر الكون المحسوس. وإنه مع الاعتراف بنقص الحواس وعيوبها، إلا أن ذلك لا يبرر الهجوم عليها، لأنه يمكن إكمال هذا النقص وتصحيح هذه العيوب بالعقل وتوجيهه. كما أن الاعتراف بدور الحس في المعرفة لا يخوّل للمذهب التجريبي أن يجعلها هي المصدر الوحيد ذات القيمة الرئيسية في المعرفة مع إنكار دور العقل بصورته الإيجابية، وإلا أدى هذا الادعاء إلى موجات السفسطة والشك وإنكار الحقائق ونسبية المعرفة بل ضيق مجالها وانحسار ميدانها.
وعلى ذلك فإننا إذا كنا بصدد تقييم سليم للمعرفة الحسية فإنه يمكن القول: بأننا مع اعترافنا بعجز الحواس ومحدوديتها وعيوبها وفرديتها إلا أنها تقوم بدور في المعرفة مع العقل، فهي أبواب المعرفة العقلية المنفتحة إلى عالم الشهادة، والتي لولاها لما استطاع العقل أن يقدم حكما على هذا العالم المحسوس؛ ولكنها مع ذلك ليست مصدراً وحيداً للمعرفة كما أنها ليست مصدرا مستقلا. وإذا كانت المعرفة الحسية أو المعرفة العلمية _التجريبية _ بابا للمعرفة العقلية، فإن المعرفة العقلية أعم في دورها من العمل مع التجربة.
مع أجمل وأرق ألأمنيات.
بوح الروح
أ_ دور الحواس في عملية المعرفة
1_ عند التجريبيين:
لا خلاف بين المذاهب الفلسفية في ان للحواس دورا ما في عملية المعرفة. ولكن الخلاف إنما هو في تقييم الدور الذي تقوم به الحواس في تحصيل المعرفة من ناحية، وفي تحليل دور الحواس في هذه العملية من ناحية أخرى. وبعبارة أخرى في مدى اعتماد المعرفة على الحواس وفي علاقة الحواس بغيرها من طرق المعرفة.
وبمناسبة الحديث عن المعرفة الحسية، نجد ان التجريبيين أو الحسيين يبالغون في الاعتماد على الحواس طريقا للمعرفة، بل ويعدونها المنبع الوحيد والسبيل الرئيسي للمعرفة. وتقوم نظرتهم لغيرها من الطرق، كالعقل، على أنه تابع للحواس، بل وتعتمد عليها كلية وينحصر دوره فيما تقدمه له هذه الحواس، بل هو لا يعدو ان يكون مستقبلا، هذا إن كان ثمة اعتراف به وبدوره في المعرفة.
فالإحساس عند الأبيقوريين مثلا، أصل المعرفة وطريقها الوحيد، والإحساسات تعطينا صورة صادقة للأشياء أي صورة مطابقة لواقعها، "وخطأ الحواس ليس يقع في الإدراك بل في الحكم الذي يضيفه العقل إلى الإدراك".
والرواقيون يبالغون في الاعتماد على الحواس طريقا وحيدا للمعرفة، إذ هي تتصل بالماديات، والوجود عندهم كله مادي، حتى العقل نفسه فإنه مادة إذ النفس مادية، والإنسان يولد وعقله صحيفة بيضاء خالية من كل معرفة، ثم تنطبع فيها صور الأشياء عن طريق الحواس، والعقل حاسة من الحواس، وهو يقوم بالتجريد والإضافة والتأليف والنقل والمضاهاة، ولا يستطيع في عمله ذلك الخروج عما تقدمه له الحواس الخارجية.
والتجريبية الحديثة كذلك تجعل التجربة أو الحواس طريقا وحيدا للمعرفة. فالتجربة عند لوك مثلا نوعان: تجربة حسية أو إدراك حسي يعتمد على الإحساس المباشر ويقوم على تلقي الانطباعات الحسية، وتجربة باطنية أو تأمل يعتمد على التفكير ويقوم على ربط الإحساسات الخارجية وتكوين أفكار منها. فالأفكار العقلية ليست في النهاية إلا صورة من التجربة وإن كان هذا التوسع في معنى التجربة عند "لوك" يعد تقدما نحو إقرار بالعقل إلا أن مهمته عنده ما تزال سلبية. وإذا ما نظرنا إلى الاتجاه الحسي المتطرف، لدى "كوندياك" نجده يقتصر على الإحساس الظاهري ويستغني عن التفكير كمصدر للمعرفة، ويرى أن أي إحساس ظاهري كاف لتوليد جميع القوى النفسية، وأنه عند أول إحساس يوجد شيء واحد في الشعور، وهو إحساس واحد لا غير، ويكون هذا هو الانتباه، ويبقى هذا الإحساس ومع إحساس آخر تحصل الذاكرة، وبتوجيه الانتباه إلى الإحساس الحاضر والإحساس الماضي تحدث المقارنة أو المضاهاة، وبإدراك المضاهاة مشابهة ومفارقة يتكون الحكم، وإذا تكررت المضاهاة والحكم كان الاستدلال. فعمليات العقل إذن ليست إلا إحساسا خارجيا أصلا. أما الفيلسوف الحسي "هيوم"، فيرى أن الافكار ليست إلا صورا باهتة للانطباعات الحسية القادمة من الحواس، ومن ثم فهو يجرد العقل من كل فاعلية، وأن ما ينشأ في العقل من انفعالات وإدراكات قوية بارزة فهو من الحواس الخارجية، بحيث تحدث صور لهذه الانفعالات، وتنشأ علاقات فيما بينها وبين المعاني بفضل قوانين تداعي المعاني أو التشابه والتقارن في الزمان والمكان والعلية، وهذه القوانين ليست أولية أو غريزية في العقل وإنما هي تكرار للتجربة كما أنها ليست قائمة في الخارج.
ومن ثم فإن للتجريبيين موقفا صلبا من القياس لأنه مبنى على المعنى المجرد الكلي، ولأنه يشهد بوجود العقل وفعاليته في المعرفة وهم ينكرون هذا الدور للعقل، ويعدون الحواس صاحبة المقام الأوحد في المعرفة، ومن ثم فإن الاستدلال عندهم ليس الانتقال من معنى عقلي إلى معنى عقلي وإنما هو الانتقال من محسوس إلى محسوس محكوما بقانون التداعي. ومن ثم فإنهم يفضلون الاستقراء الذي هو انتقال من محسوس إلى محسوس أو من جزئي الى جزئي، والاستقراء قائم عندهم على مجرد التوقع الأولي أو مجرد عادة يولدها التكرار ذلك أن المستقبل شبيه بالماضي.
2_دور الحس عند العقليين:
أما العقليون فلا ينكرون وجود الحواس وأن لها دورا ما في المعرفة. ولكنهم يأخذون على التجريبيين اعتمادهم التام عليها طريقا للمعرفة، ثم يخالفونهم في اعتبار العقل محصورا في مهمة الحواس. ويقول العقليون: إن التجربة التي تحصل بوساطة الحواس مضللة موهمة، وإن الحواس لخداعة كذابة مخطئة لو اعتمدنا عليها كل الاعتماد في المعرفة، ذلك أن الإدراك الحسي إنما يخبرنا عما يتعلق بحالة واحدة من أحوال الشيء، كما أن ما تظهرنا عليه الحواس ليس إلا مظهر الأشياء فحسب، ولا تطلعنا على حقيقتها. وهذا لا يعني إنكار دور الحواس نهائيا في المعرفة، ولكن التجارب الحسية إنما تقدم عليها المعاني الأولية التي على اساسها تفهم التجربة ويحصل الإدراك الحسي. فالعقل أساس الحواس وموجه للإدراك الحسي.
والهجوم على دور الحواس في المعرفة يخدم فريقين: فريق السوفسطائية التي تنكر الحقيقة والعلم استنادا إلى خداع الحواس وقصورها ونسبيتها... وفريق العقليين الذين يقدمون في الأهمية عليها طريقا آخر وهو العقل. ولكنهم لا ينكرونها كلية. ولعل أقسى العقليين على المعرفة الحسية ودور الحواس في المعرفة أفلاطون، إلا أنه يعتبر الإحساس أول مراحل المعرفة ولكنه يعتبر دور الحواس لا يعدو أن يكون مذكرا للنفس لتعود إلى علمها الازلي الكامن فيها، والذي نسيته بسبب تعلقها بالبدن أو حلولها فيه.
بينما جعل أرسطو للحواس دورا رئيسيا في المعرفة مع العقل إذ قسمها إلى حواس ظاهرة وباطنة. وجمع بين عملها وعمل العقل، بل صرح بأنه لا يمكن التعلم أو الفهم من غير الإحساس، وأن المحروم حاسة محروم المعارف المتعلقة بها، وجعل عمل العقل قائما على القوة المتخيلة من القوى الحاسة. ولعل أرسطو قد حاول أن يقف بهذا موقفا معتدلا بين الحسيين المتطرفين والعقليين المتطرفين، إذ جعل الحواس جزءا من النفس بالإضافة الى العقل، فعرف النفس بأنها "ما به نحيا ونحس وننتقل في المكان ونعقل أولا".
والحس عند الاتجاه العقلي الحديث كديكارت مثلا، ليس مصدر أساسيا للمعرفة، ولكنه مصدر أو طريق يقدم للفطرة بما فيها من أفكار فطرية مادة معرفة، والمعاني إنما تستنبط من النفس أو إنما تعود إلى الحدوس العقلية، بل إن الثقة بما تقدمه الحواس، إنما يعود إلى وضوح البديهيات العقلية وتميزها، أما المحسوسات قبل توثيق العقل لها فهي مصدر شك وخداع، وأنه لا قيمة لإحساسنا دون أن نعرفها معرفة واضحة متميزة، وإلا إذا التزمنا اعتبارها أفكارا فحسب، ومن ثم تكون لنا بها معرفة.
مآخذ على التجريبيين:
1_ إن في مذهبهم هذا تحديداً لطاقة الفكر البشري، وإنقاصا لفعالية العقل، ليس العقل بمفهومه التجريبي عندهم، وإنما العقل طريقا للمعرفة. كما أن اعتبارهم الحواس أو التجربة هي الطريق الوحيد للمعرفة يوقعهم في تناقض واضح. ذلك أن هذه القاعدة التي يقررونها في اعتبار الحواس طريقا للمعرفة هل هي قضية حسية أي ثبوتها بالحس أم لا؟ ومن المستحيل أن تكون ثابتة بالحس إذ أن التجربة أو الحس لا يمكن أن يكون دليلا على صدق نفسه، وإن لم تكن ثابتة بالحس فقد ثبت أنهم يؤمنون بحقائق وراء التجربة وليس ذلك إلا العقل.
2_ إن المعرفة لو كانت محصورة في التجربة مصدرا وحيدا لها، لما استطعنا أن نحكم باستحالة شيء مطلقا، ذلك أن الاستحالة بمعنى عدم إمكان وجود الشيء، ليس مما يدخل في نطاق التجربة، ولا يمكن للحواس أن تكشف عنه، وكل ما هو في قدرة الحواس أن تقول: إنها لم تقع على هذا الشيء، ولكن عدم قدرة الحواس على معرفة شيء لا يمكن أن يسلم إنكاره. ومن ثم فإن قول الحسيين إنه لا موجود إلا المحسوس بصيغة الحصر تجاوز لحدود اختصاصهم، ذلك لأنهم حينئذ إما "مستنبطون، وهو استنباط مجازفة تنقصه الأسس التي يقوم عليها الاستنباط الصحيح، وإما متحاملون".
ومن ثم فان الانتقال من الحكم باستحالة تصور شيء أو احساسه الى الحكم باستحالة وجوده في الخارج هو استنباط شيء من شيء، وهذا الاستنباط خارج على مذهب الحسيين أنفسهم.
إنه من المعلوم أن الحواس تخدع ومعارفها تحتمل الخطأ ومن ثم فإنه ينقصها الشرطان الأساسيان للمعرفة وهما الضرورة وصدق التعميم.
فالمعرفة القادمة لنا من الحواس، ما الذي يضمن لنا أنها ضرورية؟ إذ صدق ما تدل عليه الحواس لا يعرف إلا بالإحصاء، والتجربة، والمشاهدة، ولكن ما الذي يضمن لنا أن يكون هذا الصدق دائما وهو يخضع لعوامل التغير من جهة الأشياء والظروف، ومن جهة ملاحظتها ومشاهدتها، وكلنا يعلم أن تغير الشيء وتغير الظرف وتغير مكان وزمان المشاهدة، وبقية العوامل الاخرى يؤثر على نتائج التجربة أي يؤثر على المعطيات القادمة عن طريق الحواس.
3- كما أنه ما الذي يضمن لنا، والحالة كذلك، أن نعمم الحكم من الجزئي أو الفرد الذي أجرينا عليه التجربة على كافة أفراد النوع؟ فالتعميم نفسه تجاوز لمصدر الحس وليس مما يقع في خبرة الحواس.
وهذا كله يجعلنا أن نبحث عن آخر يضمن لنا الضرورة والتعميم في المعرفة، وحيث إن الحواس لا يمكن أن تحقق هذين الشرطين وتنقصهما المعرفة الحسية فلا بد إذن من العقل الذي يصحح خطأ الحواس ويوجهها، وتستند إيه في الضرورة وصدق التعميم، حتى نحصل على معرفة صحيحة صادقة.
4_ ثم ما الذي تمدنا به الحواس من معرفة حتى يصح لنا أن نعتبرها مصدرا وحيدا للمعرفة؟ إن غاية ما تمدنا به الحواس هي آثار حسية لا تعدو أن تكون سوى مادة خام أولية مفككة، فإذا ما اجتمعت حول شيء في زمان ومكان، تحولت إلى معرفة. وتحولت هذه الإحساسات إلى إدراك حسي أو إلى معرفة لا يكون بصورة آلية، ولا من تلقاء أنفسها، بل لابد لها من قوة إيجابية قادرة على تنظيمها وتصنيفها، وعلى إرادة تتوجه إلى هذه الإحساسات وهي العقل. ومن هنا نجد فهما يحترم الحواس والعقل معا طريقين بالاعتماد على العقل وهو الفهم الإسلامي بصفة أساسية في مصدره الرئيسي وهو القرآن الكريم، ومنعكسا على فهم فلاسفة المسلمين ومتكلميهم.
3_ الفهم الإسلامي لدور الحواس في المعرفة:
1_ إن القرآن لا يوافق أبداً على اعتبار الحواس طريقا وحيدا للمعرفة. كما أنه لا يوافق أبدا رفض الحواس طريقا من طرق المعرفة. وإنما يعتبر الحواس بابا للعقل في المعرفة، والحواس والعقل يعملان جميعا في عملية المعرفة. أما احترام القرآن للحواس واعتبارها طريقا للمعرفة، فلا أدل عليه من أنه ذكر السمع المتعلق بالإنسان وماله علاقة بهذه الحاسة ما يقارب من ثلاثمائة مرة، كما ذكر البصر ومتعلقاته في ما يقارب مائتين واربعة وستين موضعا، ويمدح الله سبحانه في القرآن من استعمل نعمة الحواس في الوصول إلى المعرفة، ويذم من اكتفى بهذه الحواس لتؤدي مجرد الدور الحيواني في الحياة وأفسد دورها المعرفي واستخدمت الحواس لتدل على العلم القوي حيث يقول سبحانه في كل ذلك:
(فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها)، (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم)، (لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون)، (إنما يستجيب الذين يسمعون).
ويقول ذامّاً لمن لا يجعل هذه الحواس طريقا لمعرفة الله: (ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون).
2_ وقد جعل القرآن من المشاهد المحسوسة، والآيات الكونية المنظورة دليلا على وجود الله ووحدانيته وعظمته، وطلب إلى الإنسان أن ينظر فيما حوله ومن حوله، وإلى كتاب الكون المفتوح ببصره وسمعه وسائر حواسه. اذ يقول سبحانه: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون)، ويقول سبحانه (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت* وإلى السماء كيف رفعت* وإلى الجبال كيف نصبت* وإلى الأرض كيف سطحت)، و (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).
3_ وقد جعل القرآن دور الحواس مع العقل في المعرفة، ولم يجعلها مصدرا مستقلا. فإنها وإن كانت مهمة بحيث إن تعطيلها يؤدي إلى تعطيل العقل كما قال سبحانه: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون). إلا أنه لم يجعلها مصدرا مستقلا، بل إن الآيات الكثيرة في القرآن لتشير إلى أن الدور الأهم والأساسي هو للعقل، مع كون الحواس طريقا أو بابا من أبواب المعرفة العقلية. بل إن العقل يحول المعرفة الحسية إلى معرفة عقلية. مما يدل على ذلك قوله سبحانه: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا).
فالحواس تؤدي دورها في تقديم مادة العقل، الذي يقف وراءها ليجعل من هذه الإحساسات إدراكات ومعارف حقيقية. ودور العقل هنا ليس ذلك الدور السلبي، كما عند جون لوك، وإنما هو دور إيجابي. وإذا كان الفكر حكما على الشيء فإن الحس أحد عوامل هذا الفكر بالإضافة إلى العوامل الأخرى وهي الواقع والدماغ والمعلومات السابقة أو العقل. فالواقع مصدر المعلومات الحسية والحواس تنقل هذا الواقع إلى الدماغ، والدماغ يميز هذا الانطباع للواقع، والمعلومات العقلية تربط هذه العوامل لتكوين حكم هو الفكر. والحس هنا في عملية المعرفة أو الفكر لدى الإنسان مختلف تماماً عن التمييز الغريزي الذي يتم لدى الحيوان من تكرار الإحساس بالواقع، من أجل إشباع مركز الإحساس أو الحاجة العضوية. ومن ثم فإن الحس يخدم الطريقة العلمية، لأنها تقوم على إجراء التجارب للوصول إلى الحقيقة، وذلك بإخضاع المادة لظروف وعوامل جديدة وملاحظتها ومقارنتها بظروفها وعواملها الأصيلة، ثم يستنتج من هذه العملية حقيقة علمية تجريبية. وبالملاحظة والتجربة ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على المقدمات العلمية، نصل إلى حقيقة علمية تكون مادة للتفكير، أو للطريقة العقلية التي هي أساس التفكير وأساس الحكم.
4_ وإذا كانت التجربة أو الحواس تساهم بقدر ما في عملية المعرفة، إلا أنه من الخطأ الكبير والمغالطة الواضحة اعتبارها مصدرا وحيدا وميدانا وحيدا للمعرفة. بل هي لا تعدو أن تكون فرعا واحدا من فروع المعرفة العقلية. وهنا يقف القرآن في وجه كل من المذاهب الفلسفية: التجريبية التي تعتبر التجربة المصدر الوحيد والميدان الوحيد للمعرفة، والعقلية التي تنكر دور الحواس في المعرفة، والنقدية التي تحد المعرفة بأنها المعرفة في حدود الظواهر التجريبية، أو في حدود عالم الشهادة بالتعبير القرآني الفريد. ذلك أن القرآن جعل من عالم الشهادة وما فيه من محسوسات، ينظر فيها بالنظر العقلي طريقا عقليا إلى معرفة جديدة غيبية، وهي وراء عالم الحس والشهادة، وعلى رأس هذه المعرفة الإيمان بوجود الله سبحانه ووحدانيته.
5_ وموقف القرآن هذا كله له أثره في آراء المتكلمين وفلاسفة المسلمين، من حيث المبدأ، وهو أن الحس خادم العقل، وتابع له يمده بما يحتاج إليه من صور المعلومات في مختلف الحقول والميادين.
ولعل تقدير دور الحواس والعقل في المعرفة في الإسلام، أدى إلى منهج تجريبي فيما يتعلق بعالم الشهادة، وجعل هذا المنهج خادما للإيمان. في الوقت الذي لا يصح فيه لهذا المنهج أن يُنصّبَ نفسه حكما أو معيارا لما هو خارج ميدانه. ومن هنا كانت المخالفة للمنهج التجريبي غير الإسلامي بالغة، لأنه لم يجعل لهذا المنهج ضابطا وهدفا كما فعل الإسلام، إذ إنه جعل التجربة متجاوزة لحدود العالم الحسي أو عالم الشهادة إلى عالم الغيب الذي لا يخضع لمقاييس التجربة متجاوزة لحدود العالم الحسي أو عالم الشهادة إلى عالم الغيب الذي لا يخضع لمقاييس التجربة الإنسانية، بينما جعل القرآن قوانين عالم الشهادة التجريبية لا تنفع إلا في عالم الشهادة، ولا يتجاوز دورها بالنسبة لعالم الغيب سوى أنها تسلم بوجوده. وهذا بخلاف نسبية "كانت" التي جعلت عالم الغيب خارجا عن نطاق قدرة العقل. بينما يرى الإسلام أن بإمكان العقل، ومن خلال قوانين عالم الشهادة، أن يسلم بوجود عالم الغيب وإن كان لا يستطيع أن يدلي بتفاصيل هذا العالم، وإنما تكون المعرفة التفصيلية عنه من طريق آخر فوق قدرة هذا الإنسان وهو طريق الوحي.
ب_ مجالات المعرفة الحسية وخصائصها وتقييمها
يمكننا بعد ذلك أن نذكر أهم خصائص المعرفة الحسية ومجالها وقيمتها في المعرفة فنقول:
1_ إن أهم خصائص المعرفة الحسية أنها معرفة متصلة بالمحسوسات المادية، فعالم الحس أو عالم الشهادة بتعبير القرآن هو مجال هذه المعرفة. إذ تقوم فيه الحواس بتأكيد واقعية عالم الشهادة وخارجيته واستقلاله عن الذات العارفة. ولكن هذه المعرفة في تأكيدها لدور الحواس في إثبات خارجية العالم الحسي وواقعيته، لا تستقل بها وحدها إذ ليس في الإحساس حكم وإنما الحكم للعقل، وإن كان العقل لا يستطيع أن يحكم بشيء في عالم المحسوسات دون أن تقدم له الحواس مادة المعرفة أو صورة عن هذه الأشياء في الواقع. فالمعرفة العلمية أو المعرفة التجريبية في طورها النهائي، إنما تقدم علما مجاله الكون أو عالم المحسوسات. وقيمة الحواس هنا أنها تقدم صورا متفرقة عن الأشياء تجتمع لدى العقل فينظمها ويصفها ويحكم عليها.
2_ ومجال الكون مجال واسع تطلعنا فيه الحواس على ظواهر الأشياء، ولا تستطيع أن تطلعنا على حقيقة الأشياء وكنهها. ومن هنا كان خطأ التجريبية التي تدعى أن الحواس والمعرفة الحسية، هي التي تعطينا صورة صادقة عن الواقع وعن حقائق الأشياء وكيفياتها، ومن ثم كان متكلمونا المسلمون يعلمون خطورة هذا الادعاء من مثل المذاهب التجريبية، فكان تقييدهم لدور الحواس وقيمتها في المعرفة ومجالها، فهي تؤكد وجود الأشياء ولا تعطي الأشياء وجودها، وتؤكد واقعية الأشياء ولكنها لا تستطيع أن تدعى أنها تصل إلى حقائقها وكيفياتها، ذلك أن أعلى أنواع المعرفة وهي معرفة الألوهية، ليست داخلة في حقيقتها في مجال الحواس والاستدلال على عالم الغيب ليس من لوازمه ولواحقه في المعرفة معرفة حقيقته وماهيته وفحواه وكنهه ومن ثم كان دور الحواس ومجالها قاصرا عن الدخول إلى هذا المجال وإن التقدم العلمي مهما بلغ في مجاله التجريبي لا يستطيع أن يعطينا أكثر من التأكيد على وجود العالم المحسوس، ولكنه سيبقى قاصرا عن الدخول إلى ساحة المجهول بالنسبة لنا وهو حقيقة الأشياء وكنهها.
3_ والمنهج القرآني هنا متميز في تقييم دور التجربة ومجالها عن كل المذاهب الفلسفية، ذلك أنه لا يقبل ادعاء المذهب التجريبي في الاقتصار على الحواس طريقا للمعرفة، والاقتصار على عالم الشهادة مجالا لها. كما يجعل الحواس بابا للمعرفة العقلية وأنه لا قيمة للحواس في عملية المعرفة بدون العقل الذي يوجهها ويضبطها ويجمعها ويرتب صورها ويعطي أحكاما على مجالاتها. كما يخالف تقييم المذهب الافلاطوني المتطرف في تقييم دور الحواس الذي يجعلها لا تعدو أن تكون أشباحا أو ظلالا للحقيقة العقلية ولا يعدو دورها التذكير، بل هي حجاب تحول دون الوصول إلى الحقيقة. كما يخالف المذهب النقدي لدى "كانت" الذي جعلها المضمون التجريبي للقوالب الفطرية أو لمقولتي المكان والزمان، وإن كان المذهب النقدي أقرب من سابقيه إلى الحقيقة، إلا أنه أخطأ إذ قصر دور العقل النظري في العمل مع الحواس فحسب أي اقتصر على الظواهر الحسية فحسب، وفطمه عن معرفة مجال علم الغيب. ونحن نقدر له محدودية الإنسان في معرفته وعجز عقله عن الوصول إلى كنه الأشياء وحقائقها، ولكننا نجعل للعقل دوراً مع الحواس ومن خلال النظر في عالم الشهادة وقوانينها، يمكنه به أن يستدل على مبدأ وجود عالم الغيب، وإن كان بحاجة بعد ذلك إلى الوحي لمعرفة تفصيلاته.
4_ كما أن من خصائص المعرفة الحسية أنها محكوم عليها بالتغير بحسب الشخص والظروف والعوامل التي تتحكم في التجربة. وكل هذا يدعو إلى ضرورة ارتباط الإدراك الحسي أو الإحساس بالعقل الذي يضبط ظروف التجربة، ويقوم بعملية الاستنباط والاستنتاج، فيعطي للمعرفة الحسية ثباتا حتى يتصف هذا الإحساس بأنه علم أو معرفة.
5_ كما أن المعرفة الحسية ذات طبيعة جزئية أي تدلنا على الأفراد والجزئيات ومن ثم فمجالها أن تعرفنا على ما يحتويه الكون أو عالم الشهادة من أفراد وطبائعها من خلال التجربة. وقد جعل القرآن التعرف بالحواس على هذه المخلوقات وأفرادها وطبائعها من دلائل عظمة الله، وتصلح لأن تكون دليلا على وجوده ووحدانيته وحكمته، كما قال سبحانه: (ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير). وذكر سبحانه بآلائه ونعمه المشاهدة فقال: (والأرض وضعها للأنام* فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام* والحب ذو العصف والريحان* فبأي آلاء ربكما تكذبان* خلق الإنسان من صلصال كالفخار* وخلق الجان من مارج من نار* فبأي آلاء ربكما تكذبان). وغير هذا كثير في القرآن من آيات تثير العقل لتوجيه نظر الحواس إلى أفراد المخلوقات، وإلى عالم الشهادة بما فيه من عجائب وطبائع وما يثير الاعجاب، لتكون هذه المعرفة الحسية أو العلمية التجريبية بهذه الأشياء طريقا لاستدلال العقل على وجود الله ووحدانيته وعظمته، مما يقتضي الإيمان به سبحانه وزيادة اليقين وإخلاص العبادة له وحده سبحانه.
6_ ولهذه المعرفة قيمة كذلك في تمهيد الطريق للعقل وتسهيل المعرفة للأشياء وتسهيل عقد الصلة بين الإنسان والكون: صلة الانتفاع والتسخير وصحة التأمل والاعتبار. ومن ثم فالحواس موظفة وخادمة للعقل في نظر القرآن. والخادم لا يكون بديلا عن سيده في حال من الأحوال. وإذا ما نظرنا إلى استعمال القرآن لهذه الحواس نجده يحرص على توظيفها في خدمة الإيمان، وخدمة الإنسان، وهو يؤدي دوره العرفي في الحياة، والذي يقع على قمة هذا الدور أمانة الهداية التي كلفها الإنسان كما قال تعالى (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا).
والمعرفة الحسية هي إحدى مقدمات الدليل العقلي، إذ تكون يقينية في تأكيدها على الأشخاص والأحداث المرئية في العالم الخارجي. وقد عدها فلاسفة المسلمين ومتكلموهم في مرتبة البديهيات، بل جعلوها قسيمة لها وجعلوهما _البديهيات والحسيات _قسمين للعلوم الضرورية، التي تقف عليها المعرفة النظرية.
7_ والحواس ذات طبيعة ناقصة لأنها تمثل جزءا من الوجود الإنساني الذي يقوم على كينونة إنسانية مزدوجة، تجمع بين الحواس والعقل، وبين المادة والروح وتهيىء للإيمان بعالم الشهادة وعالم الغيب. والكينونة الإنسانية كينونة ذات فعالية في عملية المعرفة، سواء في الإدراك الحسي أو في الإدراك العقلي. وليست سلبية تتلقى وتقبل أثر الاحساس وتتحكم فيها ظواهر الكون المحسوس. وإنه مع الاعتراف بنقص الحواس وعيوبها، إلا أن ذلك لا يبرر الهجوم عليها، لأنه يمكن إكمال هذا النقص وتصحيح هذه العيوب بالعقل وتوجيهه. كما أن الاعتراف بدور الحس في المعرفة لا يخوّل للمذهب التجريبي أن يجعلها هي المصدر الوحيد ذات القيمة الرئيسية في المعرفة مع إنكار دور العقل بصورته الإيجابية، وإلا أدى هذا الادعاء إلى موجات السفسطة والشك وإنكار الحقائق ونسبية المعرفة بل ضيق مجالها وانحسار ميدانها.
وعلى ذلك فإننا إذا كنا بصدد تقييم سليم للمعرفة الحسية فإنه يمكن القول: بأننا مع اعترافنا بعجز الحواس ومحدوديتها وعيوبها وفرديتها إلا أنها تقوم بدور في المعرفة مع العقل، فهي أبواب المعرفة العقلية المنفتحة إلى عالم الشهادة، والتي لولاها لما استطاع العقل أن يقدم حكما على هذا العالم المحسوس؛ ولكنها مع ذلك ليست مصدراً وحيداً للمعرفة كما أنها ليست مصدرا مستقلا. وإذا كانت المعرفة الحسية أو المعرفة العلمية _التجريبية _ بابا للمعرفة العقلية، فإن المعرفة العقلية أعم في دورها من العمل مع التجربة.
مع أجمل وأرق ألأمنيات.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح