*** أخلاق الطبيب في الإسلام- الجزء الاول
تأريخ الطب وفروعه
[color=white]الحمد لله المعافي الذي قدّر الداء ودبّر الدواء ، وجعل إسمه دواء وذكره شفاء ، والصلاة والسلام على طبيب النفوس ومربّي الأرواح ومزكّيها ، محمّد المصطفى ، وعلى آله الأطهار ، الهداة الميامين أئمة الحقّ والدين وسادة الخلق أجمعين.
أمّا بعد:
فإنّ الطبّ من العلوم القديمة Medicine ، يعنى بدراسة الأمراض ومعالجتها والوقاية منها ، وهو أحد أقدم العلوم في العالم ، أمّا متى وكيف كان مبدأ علم الطبّ وظهوره ، ففيه اختلاف بين أرباب التأريخ ، ففي سومر وُضع أوّل دستور أخلاقي للطبّ والجراحة ، وفي بابل وضع حمورابي أنظمة خاصّة بممارسة الطبّ . ولقد عرف قدامى الهنود حركة الدمّ والصلة بين الجرذان والطاعون ، والصلة بين البعوض والملاريا.
وكان للمصريين القدماء اهتمام خاصّ بعلم الشفاء . ومنذ أقدم العصور مارس الصينيون التطبيب بطريقة الوخز الاُبري Acupunciune ، وأسهم اليونان إسهاماً كبيراً في علم الطبّ ، وبقراط الذي ينسب إليه الطبّ عني بالفحص السريري ومهّد الطريق لفهم الجسم البشري ، وإنّ أرسطو درس علم الأحياء وشرّح الحيوانات . وأنجبت الامبراطورية الرومانية جالينوس Galen الذي عُني بدراسة علم التشريح وعلم الفيسيولوجيا.
في ظلّ الحضارة العربية الإسلامية وصفت أمراض جديدة وركّبت أدوية نباتية عديدة ، ولمع نجم الشيخ الرئيس ابن سينا ومحمد بن زكريا الرازي ، وترجمت كتبهما كالقانون والحاوي إلى اللاتينية ، فكانت مرجعاً لطلاب الطبّ في أوربا طوال قرون عديدة ولا زالت ، وفي عصر أوربا برز اسم فيزيليوس Vesulius الذي يعدّ أبا علم التشريح الحديث ، واكتشف وليم هارفي Hurvey الدورة الدموية ، واكتشف إدورد جنر Jenner لقاحاً ضدّ الجدري ، وفي القرن التاسع عشر وثب الطبّ وثبات عريضة ، وقفزات سريعة ، فاستخدم جوزيف ليستر Lister مضادّات العفونة ، واستخدم وليم مورتون Morton الأثير Ether كمخدّر ، فكان بذلك بمثابة ثورة في الجراحة ، وتعقّب لويس باستور Pasteur وروبرت كوخ Koch الجراثيم وأنشأ علم البكتريا ، ثمّ كان القرن العشرين فخطا طبّ النفس أو الطبّ العقلي Psychiatny خطوات سريعة وواسعة إلى الأمام ، وشاع استخدام المهدّئات وعقاقير السلفا والمرديات والهرمونات الصنعية والفيتامينات ، ولا يمرّ يوم إلاّ وتطالعنا الصحف ووسائل الإعلام بأنباء تطوّر جديد في علم الطبّ.
وإنّ هذا العلم الجليل لا يزال يواكب المسيرة الحضارية والتقدّم والازدهار ، حتّى كاد أن يكون نتائجه وحاصله أشبه بالخوارق والكرامات ، ودخل في عالم الكومبيوتر والتكنولوجيا الجديدة وعصر الذرّة ، فأوجد ثورة علمية هائلة.
[1] الطب لغة : علاج الجسم ، والنفس ، والرفق ، والسحر . وفي الاصطلاح : علم باُصول تعرف بها أحوال أبدان البشر من جهة الصحّة وعدمها لتحفظ حاصلة ، وتحصل غير حاصلة ، وقد يقال بالاختصار : هو علم دفع الداء واجتنابه ، وقال الأقدمون : علم الشفاء ، وهو بلا ريب أوّل علم سعى الإنسان إلى تحصيله على أثر سعيه وراء الغذاء والكساء والمأوى . على أنّ هذا السعي لم يكن يتناول في أوّل الأمر ، إلاّ ما برّح بظاهر الجسم من جرح وكسر وصدع وما أشبه ، لأنّ الأدواء والأوبئة والعلل الباطنة ، لم تكن في نظر الإنسان لأوّل عهده إلاّ عقوبات يقتصّ بها الخالق من المخلوق ، أو فواعل روح خبيثة ، أو عين شريرة فيلجأ لدفعها إلى الكهانة والرقية والنذر والقربان ، لأ نّها لا تتأتّى عن سبب محسوس ، فلا يمكن دفعها بعلاج محسوس حالة كون الجرح وما هو من قبيله إن لم يكن ناشئاً عن فعل يد بشرية ، فالفاعل فيه سبب مشهود لا مانع من معالجته بيد البشر ولهذا سارت الجراحة شوطاً بعيداً أمام فروع الطبّ ، بل بلغت مبلغاً مذكوراً من الإتقان عند القدماء ، وهم لا يكادون يعرفون شيئاً من علاج الأمراض. ( دائرة المعارف ، البستاني .
وليس لدينا في التأريخ ما يرشدنا إلى كيفية تدرّج الاُمم القديمة في مراقي التقدّم بهذا الفنّ ، ولا سيّما ما غمض تأريخها منهنّ كقدماء الصينيين والهنود والفرس ... ثمّ يذكر الطبّ عند البابليين وإنّهم وصلوا إليه بالتجارب ، ثمّ ازدهاره عند المصريين وكشفهم العقاقير والأدوية والحجامات والضمادات والمسهلات والمقيّئات ، ثمّ العبرانيين واليونانيين من عهد هوميروس وعظّموا الأطباء حتّى نسب الطبّ إليهم حتّى نظموا خيرون القنطوري طبيبهم الأوّل وتلميذه اسقليبيوس في سلك الآلهة ، وشادوا لهما المعابد . واستمرّ الحال حتّى ظهر أبقراط المولود سنة 460 قبل الميلاد فألّف وصنّف في الطبّ ، حتّى لقّب بأبي الطبّ وذهب مذهب من تقدّمه أنّ العناصر أربعة ، وأنّ الأمزجة أربعة أيضاً دموية وبلغمية وصفراوية وسوداوية ، وإنّه يجب على الطبيب أن يراقب المرض في سيره منذ ظهوره إلى نهايته ، وإنّ الأمراض تتأتّى عن الغذاء والهواء فينبغي أن نتحرّى أسبابها في الماء والهواء والمنازل والفصول وألّف في ذلك كتابه « الماء والهواء والأمكنة » وكتب في الأمراض الحادّة وألّف كتابه « الفصول » وأودع فيه حكمته القائلة : « الصناعة طويلة والعمر قصير والوقت ضيّق والتجربة حظر والقضاء عسر » ، وله تآليف كثيرة ، ثمّ نبغ جالينوس في الطبّ من الرومانيين المولود سنة 130 بعد الميلاد وهو القائل : « إنّ الإنسان إلى اجتناب ما يضرّه أحوج منه إلى تناول ما ينفعه » ، وألّف كثيراً في الطبّ والفلسفة وشرح تآليف أبقراط ، ثمّ بزغ شموس الطبّ من بين المسلمين كمحمد بن زكريا الرازي والفارابي والشيخ الرئيس ابن سينا حتّى قيل : « كان الطبّ معدوماً فأوجده أبقراط ، وميّتاً فأحياه جالينوس ، ومتفرّقاً فجمعه الرازي ، وناقصاً فكمّله ابن سينا البخاري » . وبُنيت المستشفيات في زمن الخلفاء العباسيين قبل أوربا بقرون ، كما تكلّم النبيّ الأكرم محمد وأهل بيته الأطهار في الطبّ والمعالجات ، والتأريخ يشهد على ذلك.
أخلاق الطبيب في رحاب الدين الإسلامي
إنّ الله جلّ جلاله هو الطبيب الأوّل ، فهو المعافي والمشافي ، وقد ورد في نصوص الأدعية : « يا من اسمه دواء ، وذكره شفاء ، بيده أزمّة الاُمور طرّاً ، وهو القادر على كلّ شيء ، وهو العليم الحكيم.
خلق الإنسان وعلّمه البيان ، وركّبه من روح وجسد ، وابتلاه في جسده بالأسقام والأمراض ، واختلاف المزاج واعتداله وصحّته ، كما شاءت حكمته أن يبتليه بالصفات الذميمة والسجايا الحميدة ، فهداه النجدين ، إمّا شاكراً وإمّا كفوراً ، فإنّ الدنيا دار الامتحان والابتلاء:
(لِيَبْلُوَكُمْ أ يُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلا).
ثمّ من اللطف الرحماني أنزل إليه الكتب السماوية ، وبعث إليه الرسل والأنبياء ليهتدي إلى ما فيه الخير والصلاح ، وسعادته في الدارين.
فعلّمه علم الأديان وعلم الأبدان ، وقرّر لسلامة روحه من الأمراض النفسية والأخلاق الذميمة ، شريعة سمحاء تتمثّل بالصحف الإلهية ، وبهداية الأنبياء (عليهم السلام) ، وورثتهم كعلماء الأخلاق ، كما علّمه ما يعالج به أمراضه الجسدية من خلال تشخيص الأطباء ، الذين تشرّفوا بمظهريّتهم لاسمه الشافي والمعافي والطبيب والمحيي جلّ جلاله.
قال الله تعالى:
(وَمَنْ أحْياها فَكَأ نَّما أحْيا النَّاسَ جَميعاً).
والطبيب إنّما هو مظهر اسم الله المحيي والطبيب الشافي ، وإنّ الطبيب بمنزلة ماء الرحمة لمرضاه ، وهو الوسيط بين الرحمة الخالقية وافتقار المخلوق.
الإنسان ثمرة شجرة الوجود ، لقد كرّمه الله سبحانه ، وتمدّح بخلقه ، وسخّر له كلّ شيء ، وجعله خليفته في أرضه.
هذا الإنسان العظيم الكائن الذي لا يزال مجهولا ، معرّض للأمراض والأسقام ، والمتولّي لمعالجته ومراقبة سلامة بدنه إنّما هو الطبيب.
وقيل في تعريف علم الطبّ وبيان موضوعه : « موضوع علم الطبّ بدن الإنسان ، ومن البديهيات أنّ هذا الموضوع في عالم الكون والفساد أجلّ وأشرف من سائر الكائنات ، فلا جرم العلم به أجلّ وأشرف من سائر العلوم ، لا سيّما إذ ورد به الخبر المأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث قال : العلم علمان : علم الأبدان وعلم الأديان » وقدّم علم الأبدان على علم الأديان ضرورة أنّ اكتساب سائر العلوم يحتاج إلى فهم سليم ومزاج مستقيم ، فاحتجنا ضرورة إلى علم يحفظ به الصحّة وهو علم الطبّ .
والإنسان بطبعه مدني ، يحتاج إلى تشكيل المدينة الفاضلة التي يسودها العدل والحرية والأمن والسعادة ليتكامل فيها ، ويصل إلى اُنشودته ، وما خلق من أجله.
فهيكل الاجتماع المتكوّن من أفراد المجتمع لسلامته يفتقر إلى حكومة العدل الإلهي ، ولسلامة أبدان أفراده إلى طبيب حاذق ، ولسلامة أرواحهم إلى عالم بصير متّقي.
قال إمامنا الصادق (عليه السلام) : لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاثة يفزع إليه في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإن عدموا ذلك كانوا همجاً : فقيه عالم ورع ، وأمير خير مطاع ،وطبيب بصير ثقة.
فهؤلاء عمدة الأركان واُصول سعادة المجتمع ، وإن كان هناك عوامل اُخرى لسعادة المدينة الفاضلة كالتاجر الأمين والعامل المخلص والفلاّح الموفّق وغيرهم.
فسلامة البدن من وسائل التقدّم والازدهار ، ويقول الله سبحانه في حقّ نبيّه عيسى ويحيى:
(وَالسَّلامُ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ).
أي سلامة المولود ، فهي تعين الإنسان على سيره وسفره في أسرار الطبيعة وخزائن الكون.
وكمال الإنسان وطيّ مراحله العقليّة إنّما من عوامله الهامّة سلامة الجسد ، فإنّ البدن السقيم يشكل عليه الفكر المستقيم ، وإنّه بسفينته السليمة ومركبه السالم ـ أعني بدنه ـ إنّما يمكنه أن يخوض في بحار الوجود.
والمتكفّل لسلامة البدن وحفظه هو علم الطبّ الشريف . وإنّما أورث الله علم الطبّ الطبيب ، فأيّ نعمة للطبيب أعظم من هذه ، وأيّ موهبة أجمل من هذه.
أليس شكرها على الطبيب أن يتواضع لمريضه ، ويحسّ بآلامه وأسقامه ، فيتعامل معه بأخلاقه الحسنة وأنفاسه الطيّبة ، فإنّ نشاطه وانبساطه ونظراته تؤثّر في أعماق المريض وقلبه ، وكذا انقباضه وسوء خلقه وسريرته ، حتّى ثوبه الأبيض يفرّق بصره ويدخل السرور عليه ، كما أنّ الأسود قابض للبصر ، يجلب الحزن.
وما أكثر علاج الأمراض بخلق الطبيب الحسن ، وتدبيره النفساني ، وتأثير كلامه الروحاني ، ولطافة روحه.
لا يكفي العلم في إصلاح المجتمع والنفوس البشرية ، بل لا بدّ أيضاً من العمل
الصالح ، فإنّما يُحلّق الإنسان في آفاق السعادة بجناحي العلم النافع والعمل الصالح ، فلا بدّ من تربية النفس وإصلاحها وتعديل الغرائز والميول والعواطف ، ولولا ذلك لكان كالأنعام بل أضلّ سبيلا . ولمثل هذا أنزل الله الكتب وأرسل الرسول وبعث الأنبياء ، ومن ثمّ الأوصياء وخلفائهم العلماء الصلحاء ، فمقصودهم تربية الإنسان تربية صحيحة ليعيش بمعرفة وحياة طيّبة وسير تكاملي نحو الكمال المطلق ومطلق الكمال وهو الله سبحانه ، وإلى الله ترجع الاُمور:
(وَإنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيهِ).
وإلى الله المنتهى وإليه راجعون.
فلا بدّ من علم الأخلاق والحكمة العملية ، والأخلاق عبارة عن تزكية النفس وطهارتها من الرذائل والذمائم والسجايا السيّئة ، وتحلّيها بالأخلاق الحميدة والمكارم والمحاسن والكمالات الخُلقية ، وتجليتها لنيل سعادتها الأبدية.
والأخلاق جمع الخلق وهو بمعنى الفطرة والخلقة والطبيعة:
(فِطْرَةَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها).
وبالفطرة السليمة يمكن للإنسان أن يطوي مراحل السعادة لولا تأثير الأبوين والبيئة والمجتمع الفاسد ، فعن النبيّ الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) : « كلّ مولود يولد على الفطرة ، إلاّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه ».
وموضوع علم الأخلاق نفس الإنسان ، الذي بعث الأنبياء من أجل تكميل مكارم أخلاقها ، وهدايتها إلى فلسفة خلقتها ، ومبدئها ومعادها ...وكلّ واحد من الناس عليه أن يبدأ أوّلا من نفسه وباطنه ، لأنّ الله قد جعل فيه رأس المال الأخلاقي ، كما في قوله تعالى:
(فَألـْهَمَها فُجورَها وَتَقْواها).
ويقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) : « من لم يعن على نفسه حتّى يكون له منها واعظ وزاجر ، لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ
فلا بدّ من إعانة النفس على إصلاحها بضمير حيّ ووجدان واع ، ومن توفيقات الله أن يكون للإنسان واعظ من نفسه ، وأنّ وجدان الإنسان خير محكمة لا يحتاج فيها إلى قاض.
« كفاك أدباً لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك » ، « أحبب لأخيك ما تحبّ لنفسك ».
فالسعادة إنّما تتمّ بتأديب النفس وإصلاحها ، ومكمّل علم الإنسان عمله ، ولا خير في علم لا عمل فيه.
ومن أصلح سريرته فإنّه يفوق الملائكة ، ومن تبع شهوته وغلبه هواه ، فإنّه يكون أضلّ من الحيوانات.
ثمّ بين الطبّ والأخلاق علاقة وثيقة ، فإنّ الطبّ لسلامة البدن وهو المركوب ، والأخلاق لسلامة الروح وهو الراكب ، فلا بدّ منهما ، وربما لمثل هذه العلاقة الوثيقة ورد في الخبر « العلم علمان : علم الأبدان وعلم الأديان ».
فالطبّ حافظ الجسم ، والأخلاق تحامي الروح ، والأوّل يلطّف الأجواء الفيزياوية ، والثاني يساعد على تحسين الروابط الاجتماعية . فالتغافل عن أحدهما يساوي التعاسة في الحياة.
والأنبياء وورثتهم كما كانوا يهدون الناس إلى الصراط المستقيم ، كانوا يعالجون الناس في أجسادهم ، فتوارثنا كتب طبيّة ، كطبّ النبيّ وطبّ الإمام الصادق وطبّ الرضا وطبّ الأئمة (عليهم السلام) . فهي مجموعة دساتير طبّية وعلاجية.
وحينما عنونّا رسالتنا هذه « أخلاق الطبيب في الإسلام » إنّما نشير إلى علمين شريفين متقارنين ، أحدهما يتعلّق بجسم الإنسان والآخر بروحه ، وهما علم الطبّ وعلم الأخلاق.
والطبّ من علوم الدنيا والأخلاق من علوم الآخرة ، كما جاء إشارة ذلك في الحديث النبويّ الشريف : « إنّما العلم ثلاث : آية محكمة ، وسنّة قائمة ، وفريضة عادلة » ، أي علم الكلام وعلم الأخلاق وعلم الفقه ، فإنّ الذي يتكفّل تهذيب نفس الإنسان ، وصيقلة روحه ، وتنوير قلبه ، وسلامة فطرته ، هو علم الأخلاق.
والرسول الأعظم خاتم النبيّين محمد (صلى الله عليه وآله) يشير إلى فلسفة بعثته في قوله الكريم : « إنّما بُعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق » ، وإنّ الله قد مدح خُلقه في قوله تعالى:
(وَإنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظيم).
وإنّ عائشة قالت في بيان خلق النبيّ : « وكان خلقه القرآن » ، فكان (صلى الله عليه وآله)يجسّم ويمثّل القرآن الكريم ، والله سبحانه قد أعطى المعجون الأوّل لتربية الإنسان فألهمه الخير والشرّ بفطرته السليمةفَألـْهَمَها فُجورَها وَتَقْواها).
وهذا الإلهام يُعدّ الرأس المال الأوّل لعلم الأخلاق ، ومن عمل بما علم أورثه الله علم ما لا يعلم ، ومن سار في آيات الله الآفاقيّة والأنفسيّة يتبيّن له الحقّ ، ويصل إلى قمّة الكمال وذروة السعادة الأبديّة ، قاب قوسين أو أدنى.
قال الله تعالى:
(يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا هَلْ أدُلُّكُمْ عَلى تِجارَة تُنْجيكُمْ مِنْ عَذاب أليم تُؤْمِنونَ بِاللهِ وَرَسولِهِ وَتُجاهِدونَ في سَبيلِ اللهِ بِأمْوالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمونَ).
(الَّذينَ يَذْكُرونَ اللهَ قِياماً وَقُعوداً وَعلى جُنوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرونَ في خَلـْقِ السَّماواتِ وَالأرْضَ رَبَّنا ما خَلـَقْتَ هذا باطِلا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ).
(ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلوبَ).
فمن يؤمن بالمبدأ والمعاد ويذكر الله على كلّ حال وفي جميع الأحوال ، فإنّه يطمئنّ قلبه ويسعد في حياته:
(إنَّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ).
(وَما الحَياةُ الدُّنْيا إلاّ مَتاعُ الغُرورِ).
فمن غفل عن الله ويوم القيامة:
(يَعْلَمونَ ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ غافِلونَ).
فإنّ له معيشة ضنكاً ، وله في الآخرة عذاب أليم.
فالإنسان بإمكانه واختياره أن يتصبّغ بصبغة الله جلّ جلاله ، فيما لو تخلّق بأخلاق الله ، كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « تخلّقوا بأخلاق الله » ، ومن كان مظهراً لصفات الله وأسمائه الحسنى فإنّه يتخلّد في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وأمّا الحياة البشرية فلا ريب أنّ فيها الخير والشرّ والصلاح والسوء والحقّ والباطل والعقل والجهل ، ولكلّ منهما جنود كما ورد في الأخبار المروية عن أهل البيت (عليهم السلام).
والإنسان قد جعل في مفترق طرق لينتخب باختياره معسكر الخير أو معسكر الشرّ ، فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين.
فكان الخير والشرّ ، وهذا ما يحكم به العقل ويؤيّده النقل ، فليس الخير ما كان خيراً عند الشرع وحسب كما عند الأشاعرة ، بل نعتقد بالحسن والقبح الذاتيين العقليين ، وإنّ الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره ، كما إنّه ليس للإنسان إلاّ ما سعى ، وإنّ الله خلق النفس وألهمها فجورها وتقواها ، وإنّه يقسم في قوله:
(وَلا اُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة) وإنّما النفس تلوم نفسها لعلمها بالخير والشرّ عقلا ، إلاّ أنّ الإنسان لا يمكنه بعقله أن يطوي مراحل الكمال والهداية والصعود إلى الدرجات الرفيعة والمقامات العالية ، بل هلك من لم يكن له حكيم يرشده ، فيحتاج إلى معلّم ومربّي يأخذ بيده ليوصله إلى شاطيء السعادة وسواحل السلامة.فيحتاج الإنسان إلى دين إلهي ، وقوانين رصينة من الشريعة السماوية السمحاء ، فإنّ الشيطان جالس له بالمرصاد ليغويه عن الصراط المستقيم:
(لأغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعينَ إلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلِصينَ).
فالرحمة الإلهية واللطف الرباني اقتضى أن يرسل الله الأنبياء والمرسلين لهداية الناس وليقوموا بالقسط والعدل ، ويعلّموا الناس الأخلاق ويهدوهم إلى الحقّ ويتمّموا لهم مكارم الأخلاق.
لقد تقدّم العلم الحديث في الصناعة والتكنولوجيا وازدهر وتطوّر ، إلاّ أنّ البشرية أصابها الانحطاط الخلقي والفساد الاجتماعي ، لتخلّفهم عن الأديان السماوية واستدبارها ، فتفكّكت الاُسر ، وتهاوت صُرح الإيمان ، وتلاشت أبنية المعتقدات الدينية ، واندثرت معالم الأخلاق الإنسانية ، فترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، كلّ يجرّ النار إلى قرصه ، ويتكالب مع بني نوعه على حطام الدنيا ، ويوماً بعد يوم تزداد مشاكل البشرية ، والكلّ ينتظر بلهفة وحرقة يوم الخلاص ...
وممّـا يعيد السعادة الإنسانية إلى العالم البشري هو رجوعنا إلى الأخلاق والمثل العليا والحكمة المتعالية.
والحكمة إمّا نظرية وإمّا عمليّة ، والثانية التي تعني ( فلسفة الأخلاق ) قد قسّمها علماء الأخلاق إلى ثلاثة مراحل:
1 ـ تهذيب النفس.
2 ـ تدبير المنزل.
3 ـ سياسة المدن.
وبهذا المثلّث يسعد الإنسان ، وربما الآيات القرآنية تشير إليها في قوله تعالى:
(عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ).
(قُوا أنْفُسَكُمْ وَأهْليكُمْ ناراً وَقودُها النَّاسُ وَالحِجارَةُ).
(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرْ وَأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكينَ إنَّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئينَ).
فالإسلام ينظّم حياة الإنسان ، وإنّ كتابه المقدّس القرآن الكريم ، مصدر تشريعه الذي لا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين ، فيه تبيان كلّ شيء ، فإنّه يدعو إلى سلامة الروح والجسد ، فكما يقول سبحانه:
(قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاها).
(يُزَكَّيهِمْ وَيُعَلِّمْهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ).
كذلك يشير إلى أصل طبّي فائق في قوله تعالى:
(كُلوا وَاشْرَبوا وَلا تُسْرِفوا).
ثمّ النبيّ الأكرم وأهل بيته يفسّرون لنا الآيات القرآنية ، ويذكرون مصاديق كلّياته ، ويشرحون لنا مفهوم الإسراف وجزئياته ، وإنّ المعدة اُمّ الأمراض.
فالإسلام يدعو معتنقيه إلى الأخلاق الطيّبة ، إلاّ أ نّه تارة يدعو بصورة عامّة ، وربما يصحّ لو أطلقنا على دعوته الأخلاقية والإصلاحية العامّة بـ ( أخلاق عامة ) كالتواضع فإنّه حسن من كلّ أحد ، واُخرى يدعو إلى أخلاق خاصّة تتعلّق بطبقات خاصّة من المجتمع ، فإنّه لمكانتهم الاجتماعية وشريحتهم الخاصّة في المجتمع يمتازون عن غيرهم بأخلاق خاصّة ، أو يتجلّى فيهم الخلق العامّ أكثر من غيرهم.
فكأ نّما اختصّوا بهذا الخلق ، مثلا : التواضع ، فإنّه حسن من كلّ واحد كما ذكرنا ، ولكنّ التواضع من الأمير لرعيّته ، ومن العالم للمتعلّمين ومن الطبيب لمرضائه أحسن وأولى ، ولمثل هذا يقال من أخلاق الطبيب التواضع الخاصّ لمعالجيه ومرضائه.
فإنّما نقصد بأخلاق الطبيب بمثل هذه المفاهيم الأخلاقية ، وذلك من خلال نظرة الإسلام بالخصوص.
وعلى الأطباء أن ينظروا إلى طبّهم وعملهم الطبّي بمنظار العبادة ، لا الحرفة والتجارة ، فإنّما يمارسون الطبّ على أ نّه من الاُمور العبادية التي يتقرّب بها الإنسان إلى ربّه ، فمن أحيا نفساً كأ نّما أحيا الناس جميعاً.
وحينئذ لمّـا كان الطبّ أمراً عبادياً ، وليس من المهنة والحرفة التجارية ، فيلزم على الطبيب أن يراعي الأخلاق العامّة والخاصّة أكثر من غيره . هذا ما يحكم به العقل الرشيد والوجدان السليم والشرع المقدّس.
فالعمل الطبّي وظيفة شرعية ودينية ، كما أ نّها وظيفة إنسانية وعقلائية.
ويقال : طاء الطبّ عبارة عن الطهارة ، والباء عن الباطن ، وهذا يعني على الطبيب أن يطهّر باطنه من الأرجاس والآثام والمعاصي والخبائث ، ويتعلّق قلبه بالله ، ويتمكّن بنوره أن يشخّص الأمراض ويعرف معالجتها ، ويكون مظهراً لاسمه الطبيب المشافي المعافي جلّ جلاله.
وحينئذ كما يستحبّ بناء المساجد والمعابد ، كذلك ينبغي بناء المستشفيات والمستوصفات والمراكز الصحّية ، ومن هذا المنطلق كان بعض الأخيار يوقف ثروته على المستشفيات والمرضى.
فالطبيب لا بدّ أن يكون متخلّقاً بأخلاق الله وطاهراً مطهّراً من المعايب والآثام والأمراض الروحية ، وإلاّ فإنّه يلزم أن يكون من المثل المعروف : « طبيب يداوي الناس وهو عليل » ، ولو تجرّد من الأخلاق الكريمة ، فإنّه يصبح سفّاحاً للدماء ، فضّاحاً للأعراض.
فالطبيب مطالب في إعمال عقله وقمع هواه وتذليل شهواته ، بأن يكون قويّ الإرادة في ترك الملاذ التي تفقد سعادته ، ومن ثمّ يحقّق لغيره جزءاً من الهناء والسعادة بتخفيف آلامه وشفاء أسقامه.
لكل الشرائع ، بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : كان يسمّي الطبيب ( المعالج ) ، فقال موسى بن عمران : يا ربّ ، ممّن الداء ؟ قال : منّي . قال : فممّن الدواء ؟ قال : منّي . قال : فما يصنع الناس بالمعالج ؟ قال : يطيّب بذلك أنفسهم ، فسمّي الطبيب لذلك.
ومثله عن الكافي ، وقال العلاّمة المجلسي في بيانه : « يطيّب أنفسهم » في بعض النسخ بالباء الموحّدة ، وفي بعضها بالياء المثناة من تحت . قال الفيروزآبادي : طبّ تأنّى للاُمور وتلطّف . أي إنّما سمّوا بالطبيب لرفعهم الهمّ عن النفوس المرضى بالرفق ولطف التدبير ، وليس شفاء الأبدان منهم.
وأمّا على الثاني فليس المراد أنّ مبدأ اشتقاق الطبيب الطيب والتطبيب ، فإنّ أحدهما من المضاعف ، والآخر من المعتلّ.
بل المراد أنّ تسميتهم بالطبيب ليست لتداوي الأبدان عن الأمراض ، بل لتداوي النفوس عن الهموم والأحزان فتطيّب بذلك . قال الفيروزآبادي : الطبّ ـ مثلّة الفاء ـ علاج الجسم والنفس . انتهى كلامه رفع الله مقامه.
قال بعض المحقّقين : الطبيب : هو الحاذق في كلّ شيء ، وخصّ المعالج به عرفاً ، والطبّ نوعان : نوع طبّ جسد ، وهو المراد هنا ، وطبّ قلب ومعالجته خاصّة بما جاء به رسول الله عن ربّه تعالى : وأمّا طبّ الجسد فمنه ما جاء في المنقول عنه (صلى الله عليه وآله) ، ومنه ما جاء في غيره ، وغالبه راجع إلى التجربة.
ثمّ هو نوعان : نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر ، بل فطر الله عليه الحيوانات مثل ما يدفع الجوع والعطش ، ونوع يحتاج إلى الفكر والنظر كدفع ما يحدث في البدن ممّـا يخرجه عن الاعتدال ، وهو إمّا إلى حرارة أو برودة ، وكلّ منهما إمّا إلى رطوبة أو يبوسة ، أو إلى ما يتركّب منهما ، والدفع قد يقع من خارج البدن ، وقد يقع من داخله ، وهو أعسرهما ، والطريق إلى معرفته بتحقيق السبب والعلامة.
والطبيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق ما يضرّ بالبدن جمعه أو عكسه ، وفي تنقيص ما يضرّ بالبدن زيادته أو عكسه.
ومدار ذلك على ثلاثة أشياء : حفظ الصحّة ، والاحتماء عن المؤذي ، واستفراغ المادّة الفاسدة.
وقد اُشير إلى الثلاثة في القرآن الكريم : فالأوّل من قوله تعالى:
(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أوْ عَلى سَفَر فَعِدَّهٌ مِنْ أيَّام اُخَر).
وذلك إنّ السفر مظنّة النصب وهو من مغيّرات الصحّة ، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فاُبيح الفطر إبقاء على الجسد ، وكذا القول في المرض . والثاني وهو الحميّة من قوله تعالى:
(وَلا تَقْتُلوا أنْفُسَكُمْ ).
وإنّه استنبط منه جواز التيمّم عند خوف استعمال الماء البارد ، والثالث عن قوله:
(أوْ بِهِ أذىً مِنْ رَأسِهِ فَفِدْيَةٌ).
وإنّه اُشير بذلك إلى جواز حلق الرأس ، والذي مُنع منه المحرم ، لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس.
زبدة الكلام :
وزبدة المخاض أنّ الله سبحانه هو الطبيب الأوّل وبيده الداء والدواء ، وهو المعافي والمشافي ، كما قال في كتابه الكريم عن لسان إبراهيم الخليل (عليه السلام):
(وَإذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفينِ).
وإنّ الطبيب في الأرض كان خليفته في مظهريّة اسمه المبارك ، ولا بدّ له أن يتخلّق بأخلاق ربّه وخالقه.
باعتقادي أنّ الأطباء خلفاء الله في أرضه ، وسفرائه على خلقه ، واُمنائه في بريّته ، ليتجلّى فيهم صفاته الأفعالية من الشفاء والمعافاة والطبابة والمداواة والسلامة والقوّة . فإنّه الشافي المعافي الطبيب المداوي السلام القويّ جلّ جلاله ، وعمّ نواله وإحسانه ، وعظم شأنه.
ويقول الرازي في فضل الأطبّاء أ نّه : « قد اجتمع لهم خمس خصال لم تجتمع لغيرهم:
الاُولى : اتّفاق أهل الملل والأديان على تفضيل صناعتهم.
الثانية : اعتراف الملوك والسوقة بشدّة الحاجة إليهم ، إذ هم المفزع والغياث حين لا ينفع عُدّة ولا عشيرة.
الثالثة : مجاهدة ما غاب عن أبصارهم.
الرابعة : اهتمامهم الدائم بإدخال السرور والراحة على غيرهم.
الخامسة : الاسم المشتقّ من أسماء الله تعالى.
ولو لم يكن من فضل الطبيب ، إلاّ أنّ الإنسان ربما يتشوّق إليه ، حين يسأم أكرم الناس عليه ، فأخصّهم لديه ، فإنّه في العلل الصعبة ربما كره الإنسان لقاء أهله وولده ، ويشتاق إلى الطبيب ، ويتروّح لرؤيته ، وتطيب نفسه بحضوره ومشاهدته ، لكان فيه مندوحة دون غيره .
ثمّ لا ريب أنّ طبّ النفوس والأرواح أسمى وأشرف من طبّ الأبدان ، لأنّ الروح باقية والبدن ينعدم ، وإنّ طبّ الأبدان مهمّته إصلاح الصور والأعضاء وسلامة الجسد الفاني طيلة الحياة الدنيوية ، وطبّ النفوس غايته إصلاح المعاني وسلامة الروح الباقية في الحياة الاُخرويّة.
والمتكفّل لطبابة الأبدان هم الأطباء ، وأمّا سلامة الروح ونزاهتها ، فإنّها من الله سبحانه على لسان أنبيائه ورسله وأوصيائهم ، وما جاء في كتبه وصحفه.
فإنّ كتاب الإسلام دين الله القويم هو القرآن الكريم فيه تبيان كلّ شيء:
(ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِنْ شَيْء .
وأنزل فيه من كلّ حكمة ونبأ على نبيّه الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله):
( يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ).
وإنّ خلق القرآن والتكلّم به ، إنّما كان قبل خلق الإنسان ، الذي سخّر الله له كلّ شيء بحكمته : « فإنّ مرتبة تكلّم الحقّ بالقرآن سابقة على خلق الإنسان كما جاء في قوله تعالى:
(الرَّحْمنُ عَلَّمَ القُرْآنَ خَلَقَ الإنْسانَ عَلَّمَهُ البَيانَ).
فجاءت مرتبة علم القرآن سابقة على خلق الإنسان ، فتكون مرتبة التكلّم بالقرآن سابقة على مرتبتي علم القرآن وخلق الإنسان ، وإذا أمعنّا النظر بعناية وتدبّر في الآيات ، لوجدنا أنّ خلق الإنسان محاط بعلمين : الأوّل : علم القرآن ، والثاني : علم البيان ، فكأنّ علم القرآن منحة وعطاء من خالق الأرض والسماء حيث أتى بذروة العلوم ، وأرقى صنوف الحكمة في قوله سبحانه:
(ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِنْ شَيْء).
وقوله جلّ شأنه:
(وَشِفاءٌ لِما في الصُّدورِ).
وعلم البيان اختصّ بنعمة النطق والكشف عن أسرار الكون والطبيعة ، وما أودع الله فيهما من الأسرار ، والحقّ جلّ وعلا جعل القرآن محاطاً بسرّه المكنون الذي لا يبلغ منتهاه إلاّ هو ، وأنزل مقترناً بالحكمة في قوله:
(وَأنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ) ، الآية ، وقد جاء القرآن بأعلى مراتب الحكمة وصفوة الشفاء ، ورفع الخالق سبحانه قدر الإنسان وكرمه على سائر المخلوقات بالعقل ، وبوحي العلم وإدراك العقل ، جعله يأخذ من الطبيعة لكلّ داء دواء.
وتبارك المُنزل:
(وَعَلَّمَك ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظيماً).
وصلّى الله على سيّدنا محمد القائل : تداووا أ يّها الناس فإنّ الذي أنزل الداء أنزل الدواء.
ثمّ الإنسان خلقه الله مختاراً ، وجعله بين مبدء ومعاد ، وصراط متّصل بينهما ، فالمبدأ هو الله سبحانه ، علّة العلل واجب الوجود لذاته ، المستجمع لجميع صفات الجلال والجمال الكمال ، وهو الهدف في سير لإنسان وسلوكه ، فإنّ للإنسان هدفاً ووجهة في حياته هو المسؤول عنها ، وهو مولّيها ، وقد أشار الله في كتابه إلى هذا المعنى في قوله تعالى:
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها).
فالإنسان وليّ هذا الهدف وهو المسؤول عن كمّية وكيفيّة طيّ الطريق ونهجه ، وقد أتمّ الله الحجّة في كلّ شيء ، وقد سخّر للإنسان كلّ شيء:
(رَبَّنا أعْطى كُلَّ شَيْء خَلـْقَهُ ثُمَّ هَدى).
وأمّا المعاد فهو يوم القيامة يوم يبعثون ليرى الإنسان ما قدّم من عمل وليجزَ المطيع بثواب الله ويعاقب العاصي بعذاب الله ، يوم يرى الإنسان كلّ شيء محضراً ، ومن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره.
وأمّا الصراط المستقيم فهو عبارة عن النبوّة والإمامة ، والمتمثّلة في سلوك الإنسان بالعلم والعمل بالإيمان بالله واليوم الآخر وبرسل الله وكتبه ، والعمل الصالح ، وإنّ الإنسان لفي خسر في دنياه وآخرته ، إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر.
وإنّ الآيات القرآنية والروايات الشريفة وكلمات الحقّ كلّها تدور حول محاور ثلاثة:
1 ـ المبدأ.
2 ـ المعاد.
3 ـ الصراط.
والطبيب الإسلامي من كان يؤمن بالله والمعاد ويكون في صراط الله ، علماً وعملا ، جوانحاً وجوارحاً ، فكراً وعقيدة ، إيماناً وسلوكاً ، ويكون مظهراً لأسماء الله وصفاته العليا ، وإنّ قلب الإنسان المؤمن يطمئنّ بذكر الله:
(ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلوبُ ).
فلا بدّ للطبيب المسلم أن يكون موضعاً للطمأنينة الإلهية بالنسبة إلى مريضه ، ولا بدّ للمريض أن يطمئن قلبه إلى طبيبه ، وذلك لو وجد طبيبه متحلّياً بالأخلاق الحميدة والآداب المجيدة ، وقد ورد في الخبر الشريف : « لا ميراث كالأدب » ، « الآداب حللٌ مجدّدة » ، وإنّ امتياز الإنسان عن الحيوانات إنّما هو بعقله وناطقيّته ووجدانه وسجاياه الأخلاقية الفاضلة ، ولولا ذلك لكان الإنسان كالأنعام ، بل أضلّ سبيلا ، وقيمة كلّ امرء ما يحسنه ، وقدر الرجل على قدر همّته.
وذهب جمع إلى أنّ الأخلاق إنّما هو الحدّ الوسط بين الإفراط والتفريط ، واُصولها أربعة : العفّة والشجاعة والحكمة والعدالة . وقد ورد في الخبر النبويّ الشريف : « خير الاُمور أوسطها » ، فالكمال والفضيلة إنّما عبارة عن الحدّ الوسط بين الإفراط والتفريط ، فبين الجبن والتهوّر الخلق الحسن هو الشجاعة ، وبين البخل والإسراف الاقتصاد ، وبين التكبّر والحقارة التواضع ، وبين العصبية والمداهنة الرفق والمجاملة ، وهكذا باقي الصفات الأخلاقية ، كما هي مذكورة في كتب الأخلاق ، كجامع السعادات للمحقّق المولى النراقي (قدس سره) ، فراجع.وزبدة الكلام كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « تخلّقوا بأخلاق الله » . وقال الإمام السجّاد في دعاء مكارم الأخلاق : « وهب لي معالي الأخلاق » ، فصاحب الهمّة العالية إنّما يطلب من ربّه معالي الأخلاق وسموّها ، وهي أخلاق الله المتجلّية في أسماءه الحسنى وصفاته العليا سبحانه وتعالى.
والكمال المطلق هو الله سبحانه ، وكلّما قرب الإنسان من ربّه زاد في كماله ، ويكون ذلك برعاية ما وجب على الإنسان من الحقوق الخاصّة والعامّة ، بتعديل غرائزه وعواطفه ، ورعاية الحقّ والعدالة ، والمقصود من العدل هو وضع الشيء في موضعه ، فكلّ شيء في موضعه يكون من الخلق الحسن.
فإذا كانت الرحمة والشفقة الإلهية في نطاق العدل الإلهي ، كذلك غضبه وقهاريّته في نطاق العدل ، فهو أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة ، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة ، فالعدل هو الأصل الأوّلي في الأخلاقيات.
والطبيب المتخلّق بأخلاق الله ، من كان يراعي العدالة في حياته الطبّية ، كما عليه أن يراعيها في كلّ جوانب الحياة وحقولها ، بإيمان وإخلاص ، مع رعاية حقوق الآخرين ، قال الله تعالى:
(الَّذينَ آمَنوا وَلَمْ يُلـْبِسوا إيْمانَهُمْ بِظُلـْم اُولـئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدونَ)[45].
والإيمان بالله واليوم الآخر هو العامل الأساسي في تحكيم المباني الأخلاقية في الفرد والمجتمع ، كما لا بدّ من الاعتقاد باختيار الإنسان وخلوده حتّى تتمّ الأخلاق وتحيى ، ويعيش الإنسان في مدينة فاضلة رغيداً سعيداً.
وعظمة الإنسان بأخلاقه السامية الرفيعة ، وأولى الناس بالأخلاق الأطباء والعلماء . فهم أطباء الروح والجسد.
وإنّ الطبيب إنّما يعاشر في حياته آلاف المرضى الذين يتصارعون مع الموت ، وبان الانكسار على وجوههم وأصابهم اليأس والخمول ، يتململون كتململ السليم من شدّة الأوجاع والآلام ، لم يبرحوا عن السرير أياماً ، شهوراً ، يقضون أيامهم الأخيرة وربما أنفاسهم الأخيرة ، قد غسلوا أيديهم عن الحياة وانهارت أعصابهم يتصارعون مع الفقر والحبوب والأقراص والإبر والعمليات ذات القيم الباهضة ، وتكسّرت ضلوعهم بين الأنين والحسرات ، وليس لهم إلاّ برحمة الله المتجلّية في محيّا الطبيب ووجهه الباسم ، وأخلاقه الطيّبة التي تزرع في وجود المريض روح الأمل وعشق الحياة.
فلو لم يكن الطبيب خلوقاً ، ولم يحمل بين حناياه الرحمة واللطف ، ولم يتّصف بالأخلاق الحسنة ، ولم يحبّ الإنسان ، عارياً من الشفقة والعطوفة ، يركض وراء الماديات والملاذّ والشهوات ، محبّاً للجاه والمقام ، هلوعاً طمّاعاً سيء الخلق ، كيف يسعد المريض بعلاجه وطبابته ؟ ! !
ومن هنا يعلم الأهمية البالغة لدروس الأخلاق في الجامعات الطبية ، ومع كلّ الأسف الشديد تفقد جامعاتنا هذا الجانب الأساسي في حياة الطبيب.
ثمّ علم الطبّ ليس من العلوم الطبيعية وحسب كما هو المشهور والمعروف ، بل في الواقع يعدّ من العلوم الإلهية أيضاً ، فإنّه من خير السبل إلى معرفة الله سبحانه وتوحيده ، فإنّ الطبيب عندما يقف على صنع بدن الإنسان يبقى مندهشاً ومتحيّراً من دقّة النظام والحكمة ولطافة الخلقة والأسرار المودعة في وجوده ، فيسبّح الله على حكمته وعظيم صنعه:
(إنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوْم يَتَفَكَّرونَ).
وفي الحديث النبويّ والعلويّ الشريف : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » ،وقال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم:
(سَنُريهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وَفي أنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أ نَّهُ الحَقُّ).
كما إنّ الطبّ من الواجبات الكفائية التوصّلية في الفقه الإسلامي ، فلولاه لاختلّ النظام الاجتماعي ، فلا بدّ من ثلّة صالحة أن تقوم بهذا الواجب ، وإلاّ فإنّه يأثم الجميع ، وهذا يعني أنّ الطبابة للطبيب ليست وظيفة اجتماعية وحسب ، بل من الوظائف الإلهية أيضاً ، وربما يكون الكفائي عينياً فيما لو انفرد قيام الواجب به ، كما هو مذكور في علم الفقه ، ولو كان في بلد من به الكفاية من طبيب ، فعلى الآخر أن يذهب إلى المناطق التي تحتاجه وتفتقر إليه ، وأن يبذل الطبيب كلّ جهده في معالجة مرضى البلد.
ولمّـا كان موضوع الطبّ هو الإنسان فعلى الطبيب أن يعرفه في كلّ أبعاده ، لا سيّما في البعدين الأساسيين ، وهما : الروح والجسد ، فلا بدّ أن يعرف روح الإنسان كما يعرف خفايا بدنه ، لأنّ الطبيب بطبّه ، ليس مع ماكنة متحرّكة من دون روح ، حتّى يهتمّ بالظاهر وبالحركة الفيزيكية ، بل لا بدّ أن يطّلع على العالم الميتافيزيقي أيضاً . فلا بدّ للطبيب أن يكون طبيب الروح والجسد ( الطبيب الروحاني والطبيب الجسماني ) ( الطبّ الروحاني والطبّ الجسماني ) والمتكفّل لمعرفة الطبّ الروحاني هو علم الأخلاق ، فيلزم على الطبيب أن يكون متخلّقاً بالطبّ الروحاني وبالأخلاق الطبّية الروحية.
ثمّ هنا روابط وعلائق وثيقة بين الروح والجسد ، فكلّ واحد يؤثّر على الآخر ، فإنّ العقل السليم في الجسم السليم ، وإنّ الخجل يؤثّر على احمرار الوجه ، كما أنّ صفعة الوجه توجب احمراره . وربما العقد النفسية تخلق أمراضاً جسدية ، تزول العقد ولكن يبقى الأثر من الأمراض والأسقام . والعمدة في الأخلاق ، ليس الأخلاق الفطرية والحكمة النظرية ، بل الأخلاق العملية وتطبيق الحكمة النظرية في مقام العمل ، وربما تكون دروس النظريات سهلة التناول والحفظ ، ولكن ما أصعب العمل . فالأخلاق نور ينفذ في القلوب المظلمة ، وإفاضات تحيط الروح الإنسانية الخالدة.
فالأخلاق لا بدّ فيها من وجدان يقظ وضمير حيّ ، ومن تذوّقها ، لا مَن سمعها ، ومن لمسها ، لا من قرأها . كما قال سبحانه وتعالى:
(إنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلـْبٌ وَألـْقى السَّمْعَ وَهُوَ شَهيد)[48].
فلا بدّ في حكومة الأخلاق في وجود الفرد والمجتمع من ضمان ، ألا وهو الإيمان الراسخ في الصدور بالله ويوم القيامة ، الذي جاء به الشرائع السماوية ، لتعديل الغرائز البشرية وتهذيب العواطف الإنسانية ، وتوحيد الوجدان المختلف فيه ، كما قاله سبحانه في فلسفة بعثة الأنبياء:
(كانَ النَّاسُ اُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرينَ وَأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فيما اخْتَلَفوا فيهِ).
فمن آمن بالله واليوم الآخر ، وعلم أن هناك يوماً يحاسب فيه على كلّ صغيرة وكبيرة:
(وَقِفوهُمْ إنَّهُمْ مَسْؤولون).
فإنّه يراعي الأخلاقيات الحسنة ويلتزم بها ، ويعلم أنّ الوجدان بوحده لا يكفي في تنفيذ حكومة الأخلاق في الفرد والمجتمع ، ولمثل هذا نرى الأنبياء يبشّرون الناس بثواب أعمالهم ، كما ينذرونهم بالعقاب وبسوء أفعالهم.
وبعد الإيمان إنّما شرف الإنسان بعلمه ، وإنّ الله سبحانه يقول:
(يَرْفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنوا وَالَّذينَ اُوتوا العِلـْمَ دَرَجات).
فالرفعة للمؤمن العالم ، وإنّما فضل آدم (عليه السلام) على الملائكة لما يحمل من العلم الوسيع:
(وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها).
حتّى صار مسجوداً للملائكة وكان خليفة الله في أسمائه وصفاته في الأرض ، وإنّ الإسلام يدعو الناس إلى العلم والتعلّم ، وإنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ، وإنّ الله يحبّ بغاة العلم ، والعلم في الإسلام يعمّ كلّ العلوم البشرية ، وإنّ العلماء من عباد الله يخشون الله سبحانه:
(إنَّما يَخْشى اللهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ).
وإنّ العالم هنا لا ينحصر بعلم الشريعة والفقه والأخلاق ، بل حتّى العالم بالطبّ عندما يقف على حكمة خلق الإنسان وعظمته يخشع أمام خالقه وصانعه.
وقد اهتمّ الإسلام بعلم الطب ، فمن أحياها ( النفس ) فكأ نّما أحيا الناس
جميعاً . والإمام الصادق (عليه السلام) يقول : لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاثة يفزع إليه في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإن عدموا ذلك كانوا همجاً ( أي بمنزلة الحيوانات ) : فقيه بارع ورع ، وأمير مطاع ، وطبيب بصير ثقة.
وقال (عليه السلام) : كان المسيح (عليه السلام) يقول : إنّ لتارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة ، وذلك أنّ الجارح أراد فساد المجروح ، والتارك لإشفائه لم يشأ صلاحه ، فإذا لم يشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطراراً
وهذه الرواية إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على عظمة مسؤولية الأطباء والجرّاحين تجاه مرضاهم ، فإنّ إهمالهم إيّاهم بمنزلة قتلهم ، ومن قتل نفساً فكأ نّما قتل الناس جميعاً ، فتدبّر.
ولا بدّ من التخصّص في علم الطبّ ، لأنّ الله سبحانه يقول:
(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلـْمٌ).
فكيف يجوّز الدواء من لم يكن عالماً بالداء ، فعلى الطبيب أن يكون حاذقاً بصيراً كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) ، فيلزمه أن يكمل علمه حتّى يجوز له الطبابة ، وإلاّ فهو ضامن كما قال الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) : « من تطبّب ولم يعلم منه الطبّ ( قبل ذلك ) فهو ضامن » ، فيما لو أوجب نقص عضو أو تلف نفس أو ما شابه ذلك . قال (صلى الله عليه وآله) : « من تطبّب ولم يكن بالطبّ معروفاً ، فإذا أصاب نفساً فما دونها فهو ضامن ».
وما أروع ما يقوله أمير المؤمنين (عليه السلام) في تعيين وظائف الإمام والسلطان
الفقيه المبسوط اليد ، قال (عليه السلام) : « يجب على الإمام أن يحبس الفسّاق من العلماء والجهّال من الأطباء »[57].
فيلزم الطبيب أن يكمل دراساته الطبية بجدّ ومثابرة وتواصل ، ولا يقطع المشاورة مع الأطباء ، ويواكب الحضارة الطبية بمطالعة آخر تطوّراته وحوادثه ، وأن لا يتدخّل بما لا اختصاص له فيه ، فإذا كان طبيب القلب ، فلا يجيز الدواء لمريض الكبد ، بل يرجعه إلى ذوي الاختصاص . وإنّما يجوز الدواء بعد تشخيص المرض والداء ، لا أن يمتحن الدواء على مريضه ويتصوّره من جرذان التجربة.
فكلّ إنسان ولا سيّما أطباء الروح والجسد ، إنّما هو مسؤول أمام نِعَم وآلاء الله:
(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنِ النَّعيمِ)[58].
كما إنّه مسؤول أمام خلق الله ، كما إنّ كلّ صاحب حرفة وصنعة مسؤول عن حسن العمل وإخلاصه ، كما إنّ الطبيب مسؤول أمام خالقه وعلمه وشعبه وحرفته وأساتذته والعلماء الذين حفظوا له هذا العلم المقدّس ، وإنّه مسؤول أمام مريضه.
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : ألا وإنّ من البلاء الفاقة ، وأشدّ من الفاقة مرض البدن ، وأشدّ من مرض البدن مرض القلب[59].
فطالب كلية الطبّ عليه أن يقدّر هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله عليه من دون زملائه في الثانوية ، فلا يضيّع وقته بالبطالة والجهالة ، فإنّ ذلك من الخيانة بشبابه وأهله وشعبه وبيت المال وحكومته ، وبذلك يعدّ جرمه من أعظم الجرائم ، فمن لم يبذل كلّ جهده ، ويستفرغ كلّ وسعه ، في تكميل علمه ، فإنّ ضرره أكثر من نفعه ، فالحياة عقيدة وجهاد من اجل تلك العقيدة ، وسعادة المرء ومجتمعه إنّما مرهونة بهذين العاملين : العقيدة والفكر الصحيح ، والجهاد والعمل المستمرّ . فلا ضجر ولا كسل ، فإنّهما عاملان يهدّمان الحياة.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : إيّاك وخصلتين : الضجر والكسل فإنّك إن ضجرت لم تصبر على حقّ ، وإن كسلت لم تؤدّ حقّاً.
ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : إيّاك والكسل فإنّه من كسل لم يؤدّ حقّ الله عزّ وجلّ.
وقال لقمان لابنه : للكسلان ثلاث علامات : يتوانى حتّى يفرّط ، ويفرّط حتّى يضيّع ، ويضيّع حتّى يأثم.
والشعب الذي يفقد الفكر السليم والعمل الدؤوب ، فإنّ الاستعمار يتسحمره وينهب ثرواته ويسمّيه وحشياً ، ويتعامل معه معاملة الوحوش ، كما نرى ذلك في العالم الثالث ـ على حدّ تعبيرهم ـ فلا بدّ من إصلاح الفرد والمجتمع وسوقهم إلى السعادة الدنيوية والاُخروية ، وذلك بالتقوى وتزكية النفس وبالتعبّد والتقرّب إلى الله سبحانه.
والوقاية خير من العلاج ، وإنّما حفظ الشيء ممّـا يؤذيه ويضرّه ، وجعل النفس في وقاية ممّـا يخاف.
وأوّل قدم في السير والسلوك إلى الله سبحانه هو التقوى ، ولا ينفع اجتهاد لا ورع فيه ، وإلاّ فإنّ عاقبة من لم يكن متّقياً من الذنوب والمعاصي على سوء وضلالة ، كما قال الله سبحانه:
(ثُمَّ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ أساؤوا السُّوأى أنْ كَذَّبوا بِآياتِ اللهِ وَكانوا بِها يَسْتَهْزِئونَ).
وفي الحديث الشريف : « ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة ، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال حتّى تغلب عليه ، فيصير أعلاه أسفله ».فلو أدرك الإنسان هذه الحقيقة ، أنّ القلب وعاء وخير القلوب أوعاها ، وإنّها تتقبّل الفيوضات الإلهية والرحمة الرحمانية والرحيمية ، لو كان الإناء صحيحاً في وضعه ، وأمام الرحمة والفيض ، أمّا إذا انقلب وانعكس ، وكان أعلاه أسفله من أثر الذنوب والمعاصي المتكرّرة من دون التوبة ، فإنّه من المستحيل أن يكون موضعاً للعلم الإلهي ووعاءً للرحمة الإلهية.
مع أجمل وأرق الأمنيات.
بوح الروح
تأريخ الطب وفروعه
[color=white]الحمد لله المعافي الذي قدّر الداء ودبّر الدواء ، وجعل إسمه دواء وذكره شفاء ، والصلاة والسلام على طبيب النفوس ومربّي الأرواح ومزكّيها ، محمّد المصطفى ، وعلى آله الأطهار ، الهداة الميامين أئمة الحقّ والدين وسادة الخلق أجمعين.
أمّا بعد:
فإنّ الطبّ من العلوم القديمة Medicine ، يعنى بدراسة الأمراض ومعالجتها والوقاية منها ، وهو أحد أقدم العلوم في العالم ، أمّا متى وكيف كان مبدأ علم الطبّ وظهوره ، ففيه اختلاف بين أرباب التأريخ ، ففي سومر وُضع أوّل دستور أخلاقي للطبّ والجراحة ، وفي بابل وضع حمورابي أنظمة خاصّة بممارسة الطبّ . ولقد عرف قدامى الهنود حركة الدمّ والصلة بين الجرذان والطاعون ، والصلة بين البعوض والملاريا.
وكان للمصريين القدماء اهتمام خاصّ بعلم الشفاء . ومنذ أقدم العصور مارس الصينيون التطبيب بطريقة الوخز الاُبري Acupunciune ، وأسهم اليونان إسهاماً كبيراً في علم الطبّ ، وبقراط الذي ينسب إليه الطبّ عني بالفحص السريري ومهّد الطريق لفهم الجسم البشري ، وإنّ أرسطو درس علم الأحياء وشرّح الحيوانات . وأنجبت الامبراطورية الرومانية جالينوس Galen الذي عُني بدراسة علم التشريح وعلم الفيسيولوجيا.
في ظلّ الحضارة العربية الإسلامية وصفت أمراض جديدة وركّبت أدوية نباتية عديدة ، ولمع نجم الشيخ الرئيس ابن سينا ومحمد بن زكريا الرازي ، وترجمت كتبهما كالقانون والحاوي إلى اللاتينية ، فكانت مرجعاً لطلاب الطبّ في أوربا طوال قرون عديدة ولا زالت ، وفي عصر أوربا برز اسم فيزيليوس Vesulius الذي يعدّ أبا علم التشريح الحديث ، واكتشف وليم هارفي Hurvey الدورة الدموية ، واكتشف إدورد جنر Jenner لقاحاً ضدّ الجدري ، وفي القرن التاسع عشر وثب الطبّ وثبات عريضة ، وقفزات سريعة ، فاستخدم جوزيف ليستر Lister مضادّات العفونة ، واستخدم وليم مورتون Morton الأثير Ether كمخدّر ، فكان بذلك بمثابة ثورة في الجراحة ، وتعقّب لويس باستور Pasteur وروبرت كوخ Koch الجراثيم وأنشأ علم البكتريا ، ثمّ كان القرن العشرين فخطا طبّ النفس أو الطبّ العقلي Psychiatny خطوات سريعة وواسعة إلى الأمام ، وشاع استخدام المهدّئات وعقاقير السلفا والمرديات والهرمونات الصنعية والفيتامينات ، ولا يمرّ يوم إلاّ وتطالعنا الصحف ووسائل الإعلام بأنباء تطوّر جديد في علم الطبّ.
وإنّ هذا العلم الجليل لا يزال يواكب المسيرة الحضارية والتقدّم والازدهار ، حتّى كاد أن يكون نتائجه وحاصله أشبه بالخوارق والكرامات ، ودخل في عالم الكومبيوتر والتكنولوجيا الجديدة وعصر الذرّة ، فأوجد ثورة علمية هائلة.
[1] الطب لغة : علاج الجسم ، والنفس ، والرفق ، والسحر . وفي الاصطلاح : علم باُصول تعرف بها أحوال أبدان البشر من جهة الصحّة وعدمها لتحفظ حاصلة ، وتحصل غير حاصلة ، وقد يقال بالاختصار : هو علم دفع الداء واجتنابه ، وقال الأقدمون : علم الشفاء ، وهو بلا ريب أوّل علم سعى الإنسان إلى تحصيله على أثر سعيه وراء الغذاء والكساء والمأوى . على أنّ هذا السعي لم يكن يتناول في أوّل الأمر ، إلاّ ما برّح بظاهر الجسم من جرح وكسر وصدع وما أشبه ، لأنّ الأدواء والأوبئة والعلل الباطنة ، لم تكن في نظر الإنسان لأوّل عهده إلاّ عقوبات يقتصّ بها الخالق من المخلوق ، أو فواعل روح خبيثة ، أو عين شريرة فيلجأ لدفعها إلى الكهانة والرقية والنذر والقربان ، لأ نّها لا تتأتّى عن سبب محسوس ، فلا يمكن دفعها بعلاج محسوس حالة كون الجرح وما هو من قبيله إن لم يكن ناشئاً عن فعل يد بشرية ، فالفاعل فيه سبب مشهود لا مانع من معالجته بيد البشر ولهذا سارت الجراحة شوطاً بعيداً أمام فروع الطبّ ، بل بلغت مبلغاً مذكوراً من الإتقان عند القدماء ، وهم لا يكادون يعرفون شيئاً من علاج الأمراض. ( دائرة المعارف ، البستاني .
وليس لدينا في التأريخ ما يرشدنا إلى كيفية تدرّج الاُمم القديمة في مراقي التقدّم بهذا الفنّ ، ولا سيّما ما غمض تأريخها منهنّ كقدماء الصينيين والهنود والفرس ... ثمّ يذكر الطبّ عند البابليين وإنّهم وصلوا إليه بالتجارب ، ثمّ ازدهاره عند المصريين وكشفهم العقاقير والأدوية والحجامات والضمادات والمسهلات والمقيّئات ، ثمّ العبرانيين واليونانيين من عهد هوميروس وعظّموا الأطباء حتّى نسب الطبّ إليهم حتّى نظموا خيرون القنطوري طبيبهم الأوّل وتلميذه اسقليبيوس في سلك الآلهة ، وشادوا لهما المعابد . واستمرّ الحال حتّى ظهر أبقراط المولود سنة 460 قبل الميلاد فألّف وصنّف في الطبّ ، حتّى لقّب بأبي الطبّ وذهب مذهب من تقدّمه أنّ العناصر أربعة ، وأنّ الأمزجة أربعة أيضاً دموية وبلغمية وصفراوية وسوداوية ، وإنّه يجب على الطبيب أن يراقب المرض في سيره منذ ظهوره إلى نهايته ، وإنّ الأمراض تتأتّى عن الغذاء والهواء فينبغي أن نتحرّى أسبابها في الماء والهواء والمنازل والفصول وألّف في ذلك كتابه « الماء والهواء والأمكنة » وكتب في الأمراض الحادّة وألّف كتابه « الفصول » وأودع فيه حكمته القائلة : « الصناعة طويلة والعمر قصير والوقت ضيّق والتجربة حظر والقضاء عسر » ، وله تآليف كثيرة ، ثمّ نبغ جالينوس في الطبّ من الرومانيين المولود سنة 130 بعد الميلاد وهو القائل : « إنّ الإنسان إلى اجتناب ما يضرّه أحوج منه إلى تناول ما ينفعه » ، وألّف كثيراً في الطبّ والفلسفة وشرح تآليف أبقراط ، ثمّ بزغ شموس الطبّ من بين المسلمين كمحمد بن زكريا الرازي والفارابي والشيخ الرئيس ابن سينا حتّى قيل : « كان الطبّ معدوماً فأوجده أبقراط ، وميّتاً فأحياه جالينوس ، ومتفرّقاً فجمعه الرازي ، وناقصاً فكمّله ابن سينا البخاري » . وبُنيت المستشفيات في زمن الخلفاء العباسيين قبل أوربا بقرون ، كما تكلّم النبيّ الأكرم محمد وأهل بيته الأطهار في الطبّ والمعالجات ، والتأريخ يشهد على ذلك.
أخلاق الطبيب في رحاب الدين الإسلامي
إنّ الله جلّ جلاله هو الطبيب الأوّل ، فهو المعافي والمشافي ، وقد ورد في نصوص الأدعية : « يا من اسمه دواء ، وذكره شفاء ، بيده أزمّة الاُمور طرّاً ، وهو القادر على كلّ شيء ، وهو العليم الحكيم.
خلق الإنسان وعلّمه البيان ، وركّبه من روح وجسد ، وابتلاه في جسده بالأسقام والأمراض ، واختلاف المزاج واعتداله وصحّته ، كما شاءت حكمته أن يبتليه بالصفات الذميمة والسجايا الحميدة ، فهداه النجدين ، إمّا شاكراً وإمّا كفوراً ، فإنّ الدنيا دار الامتحان والابتلاء:
(لِيَبْلُوَكُمْ أ يُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلا).
ثمّ من اللطف الرحماني أنزل إليه الكتب السماوية ، وبعث إليه الرسل والأنبياء ليهتدي إلى ما فيه الخير والصلاح ، وسعادته في الدارين.
فعلّمه علم الأديان وعلم الأبدان ، وقرّر لسلامة روحه من الأمراض النفسية والأخلاق الذميمة ، شريعة سمحاء تتمثّل بالصحف الإلهية ، وبهداية الأنبياء (عليهم السلام) ، وورثتهم كعلماء الأخلاق ، كما علّمه ما يعالج به أمراضه الجسدية من خلال تشخيص الأطباء ، الذين تشرّفوا بمظهريّتهم لاسمه الشافي والمعافي والطبيب والمحيي جلّ جلاله.
قال الله تعالى:
(وَمَنْ أحْياها فَكَأ نَّما أحْيا النَّاسَ جَميعاً).
والطبيب إنّما هو مظهر اسم الله المحيي والطبيب الشافي ، وإنّ الطبيب بمنزلة ماء الرحمة لمرضاه ، وهو الوسيط بين الرحمة الخالقية وافتقار المخلوق.
الإنسان ثمرة شجرة الوجود ، لقد كرّمه الله سبحانه ، وتمدّح بخلقه ، وسخّر له كلّ شيء ، وجعله خليفته في أرضه.
هذا الإنسان العظيم الكائن الذي لا يزال مجهولا ، معرّض للأمراض والأسقام ، والمتولّي لمعالجته ومراقبة سلامة بدنه إنّما هو الطبيب.
وقيل في تعريف علم الطبّ وبيان موضوعه : « موضوع علم الطبّ بدن الإنسان ، ومن البديهيات أنّ هذا الموضوع في عالم الكون والفساد أجلّ وأشرف من سائر الكائنات ، فلا جرم العلم به أجلّ وأشرف من سائر العلوم ، لا سيّما إذ ورد به الخبر المأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث قال : العلم علمان : علم الأبدان وعلم الأديان » وقدّم علم الأبدان على علم الأديان ضرورة أنّ اكتساب سائر العلوم يحتاج إلى فهم سليم ومزاج مستقيم ، فاحتجنا ضرورة إلى علم يحفظ به الصحّة وهو علم الطبّ .
والإنسان بطبعه مدني ، يحتاج إلى تشكيل المدينة الفاضلة التي يسودها العدل والحرية والأمن والسعادة ليتكامل فيها ، ويصل إلى اُنشودته ، وما خلق من أجله.
فهيكل الاجتماع المتكوّن من أفراد المجتمع لسلامته يفتقر إلى حكومة العدل الإلهي ، ولسلامة أبدان أفراده إلى طبيب حاذق ، ولسلامة أرواحهم إلى عالم بصير متّقي.
قال إمامنا الصادق (عليه السلام) : لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاثة يفزع إليه في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإن عدموا ذلك كانوا همجاً : فقيه عالم ورع ، وأمير خير مطاع ،وطبيب بصير ثقة.
فهؤلاء عمدة الأركان واُصول سعادة المجتمع ، وإن كان هناك عوامل اُخرى لسعادة المدينة الفاضلة كالتاجر الأمين والعامل المخلص والفلاّح الموفّق وغيرهم.
فسلامة البدن من وسائل التقدّم والازدهار ، ويقول الله سبحانه في حقّ نبيّه عيسى ويحيى:
(وَالسَّلامُ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ).
أي سلامة المولود ، فهي تعين الإنسان على سيره وسفره في أسرار الطبيعة وخزائن الكون.
وكمال الإنسان وطيّ مراحله العقليّة إنّما من عوامله الهامّة سلامة الجسد ، فإنّ البدن السقيم يشكل عليه الفكر المستقيم ، وإنّه بسفينته السليمة ومركبه السالم ـ أعني بدنه ـ إنّما يمكنه أن يخوض في بحار الوجود.
والمتكفّل لسلامة البدن وحفظه هو علم الطبّ الشريف . وإنّما أورث الله علم الطبّ الطبيب ، فأيّ نعمة للطبيب أعظم من هذه ، وأيّ موهبة أجمل من هذه.
أليس شكرها على الطبيب أن يتواضع لمريضه ، ويحسّ بآلامه وأسقامه ، فيتعامل معه بأخلاقه الحسنة وأنفاسه الطيّبة ، فإنّ نشاطه وانبساطه ونظراته تؤثّر في أعماق المريض وقلبه ، وكذا انقباضه وسوء خلقه وسريرته ، حتّى ثوبه الأبيض يفرّق بصره ويدخل السرور عليه ، كما أنّ الأسود قابض للبصر ، يجلب الحزن.
وما أكثر علاج الأمراض بخلق الطبيب الحسن ، وتدبيره النفساني ، وتأثير كلامه الروحاني ، ولطافة روحه.
لا يكفي العلم في إصلاح المجتمع والنفوس البشرية ، بل لا بدّ أيضاً من العمل
الصالح ، فإنّما يُحلّق الإنسان في آفاق السعادة بجناحي العلم النافع والعمل الصالح ، فلا بدّ من تربية النفس وإصلاحها وتعديل الغرائز والميول والعواطف ، ولولا ذلك لكان كالأنعام بل أضلّ سبيلا . ولمثل هذا أنزل الله الكتب وأرسل الرسول وبعث الأنبياء ، ومن ثمّ الأوصياء وخلفائهم العلماء الصلحاء ، فمقصودهم تربية الإنسان تربية صحيحة ليعيش بمعرفة وحياة طيّبة وسير تكاملي نحو الكمال المطلق ومطلق الكمال وهو الله سبحانه ، وإلى الله ترجع الاُمور:
(وَإنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيهِ).
وإلى الله المنتهى وإليه راجعون.
فلا بدّ من علم الأخلاق والحكمة العملية ، والأخلاق عبارة عن تزكية النفس وطهارتها من الرذائل والذمائم والسجايا السيّئة ، وتحلّيها بالأخلاق الحميدة والمكارم والمحاسن والكمالات الخُلقية ، وتجليتها لنيل سعادتها الأبدية.
والأخلاق جمع الخلق وهو بمعنى الفطرة والخلقة والطبيعة:
(فِطْرَةَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها).
وبالفطرة السليمة يمكن للإنسان أن يطوي مراحل السعادة لولا تأثير الأبوين والبيئة والمجتمع الفاسد ، فعن النبيّ الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) : « كلّ مولود يولد على الفطرة ، إلاّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه ».
وموضوع علم الأخلاق نفس الإنسان ، الذي بعث الأنبياء من أجل تكميل مكارم أخلاقها ، وهدايتها إلى فلسفة خلقتها ، ومبدئها ومعادها ...وكلّ واحد من الناس عليه أن يبدأ أوّلا من نفسه وباطنه ، لأنّ الله قد جعل فيه رأس المال الأخلاقي ، كما في قوله تعالى:
(فَألـْهَمَها فُجورَها وَتَقْواها).
ويقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) : « من لم يعن على نفسه حتّى يكون له منها واعظ وزاجر ، لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ
فلا بدّ من إعانة النفس على إصلاحها بضمير حيّ ووجدان واع ، ومن توفيقات الله أن يكون للإنسان واعظ من نفسه ، وأنّ وجدان الإنسان خير محكمة لا يحتاج فيها إلى قاض.
« كفاك أدباً لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك » ، « أحبب لأخيك ما تحبّ لنفسك ».
فالسعادة إنّما تتمّ بتأديب النفس وإصلاحها ، ومكمّل علم الإنسان عمله ، ولا خير في علم لا عمل فيه.
ومن أصلح سريرته فإنّه يفوق الملائكة ، ومن تبع شهوته وغلبه هواه ، فإنّه يكون أضلّ من الحيوانات.
ثمّ بين الطبّ والأخلاق علاقة وثيقة ، فإنّ الطبّ لسلامة البدن وهو المركوب ، والأخلاق لسلامة الروح وهو الراكب ، فلا بدّ منهما ، وربما لمثل هذه العلاقة الوثيقة ورد في الخبر « العلم علمان : علم الأبدان وعلم الأديان ».
فالطبّ حافظ الجسم ، والأخلاق تحامي الروح ، والأوّل يلطّف الأجواء الفيزياوية ، والثاني يساعد على تحسين الروابط الاجتماعية . فالتغافل عن أحدهما يساوي التعاسة في الحياة.
والأنبياء وورثتهم كما كانوا يهدون الناس إلى الصراط المستقيم ، كانوا يعالجون الناس في أجسادهم ، فتوارثنا كتب طبيّة ، كطبّ النبيّ وطبّ الإمام الصادق وطبّ الرضا وطبّ الأئمة (عليهم السلام) . فهي مجموعة دساتير طبّية وعلاجية.
وحينما عنونّا رسالتنا هذه « أخلاق الطبيب في الإسلام » إنّما نشير إلى علمين شريفين متقارنين ، أحدهما يتعلّق بجسم الإنسان والآخر بروحه ، وهما علم الطبّ وعلم الأخلاق.
والطبّ من علوم الدنيا والأخلاق من علوم الآخرة ، كما جاء إشارة ذلك في الحديث النبويّ الشريف : « إنّما العلم ثلاث : آية محكمة ، وسنّة قائمة ، وفريضة عادلة » ، أي علم الكلام وعلم الأخلاق وعلم الفقه ، فإنّ الذي يتكفّل تهذيب نفس الإنسان ، وصيقلة روحه ، وتنوير قلبه ، وسلامة فطرته ، هو علم الأخلاق.
والرسول الأعظم خاتم النبيّين محمد (صلى الله عليه وآله) يشير إلى فلسفة بعثته في قوله الكريم : « إنّما بُعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق » ، وإنّ الله قد مدح خُلقه في قوله تعالى:
(وَإنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظيم).
وإنّ عائشة قالت في بيان خلق النبيّ : « وكان خلقه القرآن » ، فكان (صلى الله عليه وآله)يجسّم ويمثّل القرآن الكريم ، والله سبحانه قد أعطى المعجون الأوّل لتربية الإنسان فألهمه الخير والشرّ بفطرته السليمةفَألـْهَمَها فُجورَها وَتَقْواها).
وهذا الإلهام يُعدّ الرأس المال الأوّل لعلم الأخلاق ، ومن عمل بما علم أورثه الله علم ما لا يعلم ، ومن سار في آيات الله الآفاقيّة والأنفسيّة يتبيّن له الحقّ ، ويصل إلى قمّة الكمال وذروة السعادة الأبديّة ، قاب قوسين أو أدنى.
قال الله تعالى:
(يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا هَلْ أدُلُّكُمْ عَلى تِجارَة تُنْجيكُمْ مِنْ عَذاب أليم تُؤْمِنونَ بِاللهِ وَرَسولِهِ وَتُجاهِدونَ في سَبيلِ اللهِ بِأمْوالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمونَ).
(الَّذينَ يَذْكُرونَ اللهَ قِياماً وَقُعوداً وَعلى جُنوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرونَ في خَلـْقِ السَّماواتِ وَالأرْضَ رَبَّنا ما خَلـَقْتَ هذا باطِلا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ).
(ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلوبَ).
فمن يؤمن بالمبدأ والمعاد ويذكر الله على كلّ حال وفي جميع الأحوال ، فإنّه يطمئنّ قلبه ويسعد في حياته:
(إنَّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ).
(وَما الحَياةُ الدُّنْيا إلاّ مَتاعُ الغُرورِ).
فمن غفل عن الله ويوم القيامة:
(يَعْلَمونَ ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ غافِلونَ).
فإنّ له معيشة ضنكاً ، وله في الآخرة عذاب أليم.
فالإنسان بإمكانه واختياره أن يتصبّغ بصبغة الله جلّ جلاله ، فيما لو تخلّق بأخلاق الله ، كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « تخلّقوا بأخلاق الله » ، ومن كان مظهراً لصفات الله وأسمائه الحسنى فإنّه يتخلّد في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وأمّا الحياة البشرية فلا ريب أنّ فيها الخير والشرّ والصلاح والسوء والحقّ والباطل والعقل والجهل ، ولكلّ منهما جنود كما ورد في الأخبار المروية عن أهل البيت (عليهم السلام).
والإنسان قد جعل في مفترق طرق لينتخب باختياره معسكر الخير أو معسكر الشرّ ، فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين.
فكان الخير والشرّ ، وهذا ما يحكم به العقل ويؤيّده النقل ، فليس الخير ما كان خيراً عند الشرع وحسب كما عند الأشاعرة ، بل نعتقد بالحسن والقبح الذاتيين العقليين ، وإنّ الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره ، كما إنّه ليس للإنسان إلاّ ما سعى ، وإنّ الله خلق النفس وألهمها فجورها وتقواها ، وإنّه يقسم في قوله:
(وَلا اُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة) وإنّما النفس تلوم نفسها لعلمها بالخير والشرّ عقلا ، إلاّ أنّ الإنسان لا يمكنه بعقله أن يطوي مراحل الكمال والهداية والصعود إلى الدرجات الرفيعة والمقامات العالية ، بل هلك من لم يكن له حكيم يرشده ، فيحتاج إلى معلّم ومربّي يأخذ بيده ليوصله إلى شاطيء السعادة وسواحل السلامة.فيحتاج الإنسان إلى دين إلهي ، وقوانين رصينة من الشريعة السماوية السمحاء ، فإنّ الشيطان جالس له بالمرصاد ليغويه عن الصراط المستقيم:
(لأغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعينَ إلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلِصينَ).
فالرحمة الإلهية واللطف الرباني اقتضى أن يرسل الله الأنبياء والمرسلين لهداية الناس وليقوموا بالقسط والعدل ، ويعلّموا الناس الأخلاق ويهدوهم إلى الحقّ ويتمّموا لهم مكارم الأخلاق.
لقد تقدّم العلم الحديث في الصناعة والتكنولوجيا وازدهر وتطوّر ، إلاّ أنّ البشرية أصابها الانحطاط الخلقي والفساد الاجتماعي ، لتخلّفهم عن الأديان السماوية واستدبارها ، فتفكّكت الاُسر ، وتهاوت صُرح الإيمان ، وتلاشت أبنية المعتقدات الدينية ، واندثرت معالم الأخلاق الإنسانية ، فترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، كلّ يجرّ النار إلى قرصه ، ويتكالب مع بني نوعه على حطام الدنيا ، ويوماً بعد يوم تزداد مشاكل البشرية ، والكلّ ينتظر بلهفة وحرقة يوم الخلاص ...
وممّـا يعيد السعادة الإنسانية إلى العالم البشري هو رجوعنا إلى الأخلاق والمثل العليا والحكمة المتعالية.
والحكمة إمّا نظرية وإمّا عمليّة ، والثانية التي تعني ( فلسفة الأخلاق ) قد قسّمها علماء الأخلاق إلى ثلاثة مراحل:
1 ـ تهذيب النفس.
2 ـ تدبير المنزل.
3 ـ سياسة المدن.
وبهذا المثلّث يسعد الإنسان ، وربما الآيات القرآنية تشير إليها في قوله تعالى:
(عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ).
(قُوا أنْفُسَكُمْ وَأهْليكُمْ ناراً وَقودُها النَّاسُ وَالحِجارَةُ).
(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرْ وَأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكينَ إنَّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئينَ).
فالإسلام ينظّم حياة الإنسان ، وإنّ كتابه المقدّس القرآن الكريم ، مصدر تشريعه الذي لا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين ، فيه تبيان كلّ شيء ، فإنّه يدعو إلى سلامة الروح والجسد ، فكما يقول سبحانه:
(قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاها).
(يُزَكَّيهِمْ وَيُعَلِّمْهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ).
كذلك يشير إلى أصل طبّي فائق في قوله تعالى:
(كُلوا وَاشْرَبوا وَلا تُسْرِفوا).
ثمّ النبيّ الأكرم وأهل بيته يفسّرون لنا الآيات القرآنية ، ويذكرون مصاديق كلّياته ، ويشرحون لنا مفهوم الإسراف وجزئياته ، وإنّ المعدة اُمّ الأمراض.
فالإسلام يدعو معتنقيه إلى الأخلاق الطيّبة ، إلاّ أ نّه تارة يدعو بصورة عامّة ، وربما يصحّ لو أطلقنا على دعوته الأخلاقية والإصلاحية العامّة بـ ( أخلاق عامة ) كالتواضع فإنّه حسن من كلّ أحد ، واُخرى يدعو إلى أخلاق خاصّة تتعلّق بطبقات خاصّة من المجتمع ، فإنّه لمكانتهم الاجتماعية وشريحتهم الخاصّة في المجتمع يمتازون عن غيرهم بأخلاق خاصّة ، أو يتجلّى فيهم الخلق العامّ أكثر من غيرهم.
فكأ نّما اختصّوا بهذا الخلق ، مثلا : التواضع ، فإنّه حسن من كلّ واحد كما ذكرنا ، ولكنّ التواضع من الأمير لرعيّته ، ومن العالم للمتعلّمين ومن الطبيب لمرضائه أحسن وأولى ، ولمثل هذا يقال من أخلاق الطبيب التواضع الخاصّ لمعالجيه ومرضائه.
فإنّما نقصد بأخلاق الطبيب بمثل هذه المفاهيم الأخلاقية ، وذلك من خلال نظرة الإسلام بالخصوص.
وعلى الأطباء أن ينظروا إلى طبّهم وعملهم الطبّي بمنظار العبادة ، لا الحرفة والتجارة ، فإنّما يمارسون الطبّ على أ نّه من الاُمور العبادية التي يتقرّب بها الإنسان إلى ربّه ، فمن أحيا نفساً كأ نّما أحيا الناس جميعاً.
وحينئذ لمّـا كان الطبّ أمراً عبادياً ، وليس من المهنة والحرفة التجارية ، فيلزم على الطبيب أن يراعي الأخلاق العامّة والخاصّة أكثر من غيره . هذا ما يحكم به العقل الرشيد والوجدان السليم والشرع المقدّس.
فالعمل الطبّي وظيفة شرعية ودينية ، كما أ نّها وظيفة إنسانية وعقلائية.
ويقال : طاء الطبّ عبارة عن الطهارة ، والباء عن الباطن ، وهذا يعني على الطبيب أن يطهّر باطنه من الأرجاس والآثام والمعاصي والخبائث ، ويتعلّق قلبه بالله ، ويتمكّن بنوره أن يشخّص الأمراض ويعرف معالجتها ، ويكون مظهراً لاسمه الطبيب المشافي المعافي جلّ جلاله.
وحينئذ كما يستحبّ بناء المساجد والمعابد ، كذلك ينبغي بناء المستشفيات والمستوصفات والمراكز الصحّية ، ومن هذا المنطلق كان بعض الأخيار يوقف ثروته على المستشفيات والمرضى.
فالطبيب لا بدّ أن يكون متخلّقاً بأخلاق الله وطاهراً مطهّراً من المعايب والآثام والأمراض الروحية ، وإلاّ فإنّه يلزم أن يكون من المثل المعروف : « طبيب يداوي الناس وهو عليل » ، ولو تجرّد من الأخلاق الكريمة ، فإنّه يصبح سفّاحاً للدماء ، فضّاحاً للأعراض.
فالطبيب مطالب في إعمال عقله وقمع هواه وتذليل شهواته ، بأن يكون قويّ الإرادة في ترك الملاذ التي تفقد سعادته ، ومن ثمّ يحقّق لغيره جزءاً من الهناء والسعادة بتخفيف آلامه وشفاء أسقامه.
لكل الشرائع ، بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : كان يسمّي الطبيب ( المعالج ) ، فقال موسى بن عمران : يا ربّ ، ممّن الداء ؟ قال : منّي . قال : فممّن الدواء ؟ قال : منّي . قال : فما يصنع الناس بالمعالج ؟ قال : يطيّب بذلك أنفسهم ، فسمّي الطبيب لذلك.
ومثله عن الكافي ، وقال العلاّمة المجلسي في بيانه : « يطيّب أنفسهم » في بعض النسخ بالباء الموحّدة ، وفي بعضها بالياء المثناة من تحت . قال الفيروزآبادي : طبّ تأنّى للاُمور وتلطّف . أي إنّما سمّوا بالطبيب لرفعهم الهمّ عن النفوس المرضى بالرفق ولطف التدبير ، وليس شفاء الأبدان منهم.
وأمّا على الثاني فليس المراد أنّ مبدأ اشتقاق الطبيب الطيب والتطبيب ، فإنّ أحدهما من المضاعف ، والآخر من المعتلّ.
بل المراد أنّ تسميتهم بالطبيب ليست لتداوي الأبدان عن الأمراض ، بل لتداوي النفوس عن الهموم والأحزان فتطيّب بذلك . قال الفيروزآبادي : الطبّ ـ مثلّة الفاء ـ علاج الجسم والنفس . انتهى كلامه رفع الله مقامه.
قال بعض المحقّقين : الطبيب : هو الحاذق في كلّ شيء ، وخصّ المعالج به عرفاً ، والطبّ نوعان : نوع طبّ جسد ، وهو المراد هنا ، وطبّ قلب ومعالجته خاصّة بما جاء به رسول الله عن ربّه تعالى : وأمّا طبّ الجسد فمنه ما جاء في المنقول عنه (صلى الله عليه وآله) ، ومنه ما جاء في غيره ، وغالبه راجع إلى التجربة.
ثمّ هو نوعان : نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر ، بل فطر الله عليه الحيوانات مثل ما يدفع الجوع والعطش ، ونوع يحتاج إلى الفكر والنظر كدفع ما يحدث في البدن ممّـا يخرجه عن الاعتدال ، وهو إمّا إلى حرارة أو برودة ، وكلّ منهما إمّا إلى رطوبة أو يبوسة ، أو إلى ما يتركّب منهما ، والدفع قد يقع من خارج البدن ، وقد يقع من داخله ، وهو أعسرهما ، والطريق إلى معرفته بتحقيق السبب والعلامة.
والطبيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق ما يضرّ بالبدن جمعه أو عكسه ، وفي تنقيص ما يضرّ بالبدن زيادته أو عكسه.
ومدار ذلك على ثلاثة أشياء : حفظ الصحّة ، والاحتماء عن المؤذي ، واستفراغ المادّة الفاسدة.
وقد اُشير إلى الثلاثة في القرآن الكريم : فالأوّل من قوله تعالى:
(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أوْ عَلى سَفَر فَعِدَّهٌ مِنْ أيَّام اُخَر).
وذلك إنّ السفر مظنّة النصب وهو من مغيّرات الصحّة ، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فاُبيح الفطر إبقاء على الجسد ، وكذا القول في المرض . والثاني وهو الحميّة من قوله تعالى:
(وَلا تَقْتُلوا أنْفُسَكُمْ ).
وإنّه استنبط منه جواز التيمّم عند خوف استعمال الماء البارد ، والثالث عن قوله:
(أوْ بِهِ أذىً مِنْ رَأسِهِ فَفِدْيَةٌ).
وإنّه اُشير بذلك إلى جواز حلق الرأس ، والذي مُنع منه المحرم ، لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس.
زبدة الكلام :
وزبدة المخاض أنّ الله سبحانه هو الطبيب الأوّل وبيده الداء والدواء ، وهو المعافي والمشافي ، كما قال في كتابه الكريم عن لسان إبراهيم الخليل (عليه السلام):
(وَإذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفينِ).
وإنّ الطبيب في الأرض كان خليفته في مظهريّة اسمه المبارك ، ولا بدّ له أن يتخلّق بأخلاق ربّه وخالقه.
باعتقادي أنّ الأطباء خلفاء الله في أرضه ، وسفرائه على خلقه ، واُمنائه في بريّته ، ليتجلّى فيهم صفاته الأفعالية من الشفاء والمعافاة والطبابة والمداواة والسلامة والقوّة . فإنّه الشافي المعافي الطبيب المداوي السلام القويّ جلّ جلاله ، وعمّ نواله وإحسانه ، وعظم شأنه.
ويقول الرازي في فضل الأطبّاء أ نّه : « قد اجتمع لهم خمس خصال لم تجتمع لغيرهم:
الاُولى : اتّفاق أهل الملل والأديان على تفضيل صناعتهم.
الثانية : اعتراف الملوك والسوقة بشدّة الحاجة إليهم ، إذ هم المفزع والغياث حين لا ينفع عُدّة ولا عشيرة.
الثالثة : مجاهدة ما غاب عن أبصارهم.
الرابعة : اهتمامهم الدائم بإدخال السرور والراحة على غيرهم.
الخامسة : الاسم المشتقّ من أسماء الله تعالى.
ولو لم يكن من فضل الطبيب ، إلاّ أنّ الإنسان ربما يتشوّق إليه ، حين يسأم أكرم الناس عليه ، فأخصّهم لديه ، فإنّه في العلل الصعبة ربما كره الإنسان لقاء أهله وولده ، ويشتاق إلى الطبيب ، ويتروّح لرؤيته ، وتطيب نفسه بحضوره ومشاهدته ، لكان فيه مندوحة دون غيره .
ثمّ لا ريب أنّ طبّ النفوس والأرواح أسمى وأشرف من طبّ الأبدان ، لأنّ الروح باقية والبدن ينعدم ، وإنّ طبّ الأبدان مهمّته إصلاح الصور والأعضاء وسلامة الجسد الفاني طيلة الحياة الدنيوية ، وطبّ النفوس غايته إصلاح المعاني وسلامة الروح الباقية في الحياة الاُخرويّة.
والمتكفّل لطبابة الأبدان هم الأطباء ، وأمّا سلامة الروح ونزاهتها ، فإنّها من الله سبحانه على لسان أنبيائه ورسله وأوصيائهم ، وما جاء في كتبه وصحفه.
فإنّ كتاب الإسلام دين الله القويم هو القرآن الكريم فيه تبيان كلّ شيء:
(ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِنْ شَيْء .
وأنزل فيه من كلّ حكمة ونبأ على نبيّه الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله):
( يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ).
وإنّ خلق القرآن والتكلّم به ، إنّما كان قبل خلق الإنسان ، الذي سخّر الله له كلّ شيء بحكمته : « فإنّ مرتبة تكلّم الحقّ بالقرآن سابقة على خلق الإنسان كما جاء في قوله تعالى:
(الرَّحْمنُ عَلَّمَ القُرْآنَ خَلَقَ الإنْسانَ عَلَّمَهُ البَيانَ).
فجاءت مرتبة علم القرآن سابقة على خلق الإنسان ، فتكون مرتبة التكلّم بالقرآن سابقة على مرتبتي علم القرآن وخلق الإنسان ، وإذا أمعنّا النظر بعناية وتدبّر في الآيات ، لوجدنا أنّ خلق الإنسان محاط بعلمين : الأوّل : علم القرآن ، والثاني : علم البيان ، فكأنّ علم القرآن منحة وعطاء من خالق الأرض والسماء حيث أتى بذروة العلوم ، وأرقى صنوف الحكمة في قوله سبحانه:
(ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِنْ شَيْء).
وقوله جلّ شأنه:
(وَشِفاءٌ لِما في الصُّدورِ).
وعلم البيان اختصّ بنعمة النطق والكشف عن أسرار الكون والطبيعة ، وما أودع الله فيهما من الأسرار ، والحقّ جلّ وعلا جعل القرآن محاطاً بسرّه المكنون الذي لا يبلغ منتهاه إلاّ هو ، وأنزل مقترناً بالحكمة في قوله:
(وَأنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ) ، الآية ، وقد جاء القرآن بأعلى مراتب الحكمة وصفوة الشفاء ، ورفع الخالق سبحانه قدر الإنسان وكرمه على سائر المخلوقات بالعقل ، وبوحي العلم وإدراك العقل ، جعله يأخذ من الطبيعة لكلّ داء دواء.
وتبارك المُنزل:
(وَعَلَّمَك ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظيماً).
وصلّى الله على سيّدنا محمد القائل : تداووا أ يّها الناس فإنّ الذي أنزل الداء أنزل الدواء.
ثمّ الإنسان خلقه الله مختاراً ، وجعله بين مبدء ومعاد ، وصراط متّصل بينهما ، فالمبدأ هو الله سبحانه ، علّة العلل واجب الوجود لذاته ، المستجمع لجميع صفات الجلال والجمال الكمال ، وهو الهدف في سير لإنسان وسلوكه ، فإنّ للإنسان هدفاً ووجهة في حياته هو المسؤول عنها ، وهو مولّيها ، وقد أشار الله في كتابه إلى هذا المعنى في قوله تعالى:
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها).
فالإنسان وليّ هذا الهدف وهو المسؤول عن كمّية وكيفيّة طيّ الطريق ونهجه ، وقد أتمّ الله الحجّة في كلّ شيء ، وقد سخّر للإنسان كلّ شيء:
(رَبَّنا أعْطى كُلَّ شَيْء خَلـْقَهُ ثُمَّ هَدى).
وأمّا المعاد فهو يوم القيامة يوم يبعثون ليرى الإنسان ما قدّم من عمل وليجزَ المطيع بثواب الله ويعاقب العاصي بعذاب الله ، يوم يرى الإنسان كلّ شيء محضراً ، ومن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره.
وأمّا الصراط المستقيم فهو عبارة عن النبوّة والإمامة ، والمتمثّلة في سلوك الإنسان بالعلم والعمل بالإيمان بالله واليوم الآخر وبرسل الله وكتبه ، والعمل الصالح ، وإنّ الإنسان لفي خسر في دنياه وآخرته ، إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر.
وإنّ الآيات القرآنية والروايات الشريفة وكلمات الحقّ كلّها تدور حول محاور ثلاثة:
1 ـ المبدأ.
2 ـ المعاد.
3 ـ الصراط.
والطبيب الإسلامي من كان يؤمن بالله والمعاد ويكون في صراط الله ، علماً وعملا ، جوانحاً وجوارحاً ، فكراً وعقيدة ، إيماناً وسلوكاً ، ويكون مظهراً لأسماء الله وصفاته العليا ، وإنّ قلب الإنسان المؤمن يطمئنّ بذكر الله:
(ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلوبُ ).
فلا بدّ للطبيب المسلم أن يكون موضعاً للطمأنينة الإلهية بالنسبة إلى مريضه ، ولا بدّ للمريض أن يطمئن قلبه إلى طبيبه ، وذلك لو وجد طبيبه متحلّياً بالأخلاق الحميدة والآداب المجيدة ، وقد ورد في الخبر الشريف : « لا ميراث كالأدب » ، « الآداب حللٌ مجدّدة » ، وإنّ امتياز الإنسان عن الحيوانات إنّما هو بعقله وناطقيّته ووجدانه وسجاياه الأخلاقية الفاضلة ، ولولا ذلك لكان الإنسان كالأنعام ، بل أضلّ سبيلا ، وقيمة كلّ امرء ما يحسنه ، وقدر الرجل على قدر همّته.
وذهب جمع إلى أنّ الأخلاق إنّما هو الحدّ الوسط بين الإفراط والتفريط ، واُصولها أربعة : العفّة والشجاعة والحكمة والعدالة . وقد ورد في الخبر النبويّ الشريف : « خير الاُمور أوسطها » ، فالكمال والفضيلة إنّما عبارة عن الحدّ الوسط بين الإفراط والتفريط ، فبين الجبن والتهوّر الخلق الحسن هو الشجاعة ، وبين البخل والإسراف الاقتصاد ، وبين التكبّر والحقارة التواضع ، وبين العصبية والمداهنة الرفق والمجاملة ، وهكذا باقي الصفات الأخلاقية ، كما هي مذكورة في كتب الأخلاق ، كجامع السعادات للمحقّق المولى النراقي (قدس سره) ، فراجع.وزبدة الكلام كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « تخلّقوا بأخلاق الله » . وقال الإمام السجّاد في دعاء مكارم الأخلاق : « وهب لي معالي الأخلاق » ، فصاحب الهمّة العالية إنّما يطلب من ربّه معالي الأخلاق وسموّها ، وهي أخلاق الله المتجلّية في أسماءه الحسنى وصفاته العليا سبحانه وتعالى.
والكمال المطلق هو الله سبحانه ، وكلّما قرب الإنسان من ربّه زاد في كماله ، ويكون ذلك برعاية ما وجب على الإنسان من الحقوق الخاصّة والعامّة ، بتعديل غرائزه وعواطفه ، ورعاية الحقّ والعدالة ، والمقصود من العدل هو وضع الشيء في موضعه ، فكلّ شيء في موضعه يكون من الخلق الحسن.
فإذا كانت الرحمة والشفقة الإلهية في نطاق العدل الإلهي ، كذلك غضبه وقهاريّته في نطاق العدل ، فهو أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة ، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة ، فالعدل هو الأصل الأوّلي في الأخلاقيات.
والطبيب المتخلّق بأخلاق الله ، من كان يراعي العدالة في حياته الطبّية ، كما عليه أن يراعيها في كلّ جوانب الحياة وحقولها ، بإيمان وإخلاص ، مع رعاية حقوق الآخرين ، قال الله تعالى:
(الَّذينَ آمَنوا وَلَمْ يُلـْبِسوا إيْمانَهُمْ بِظُلـْم اُولـئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدونَ)[45].
والإيمان بالله واليوم الآخر هو العامل الأساسي في تحكيم المباني الأخلاقية في الفرد والمجتمع ، كما لا بدّ من الاعتقاد باختيار الإنسان وخلوده حتّى تتمّ الأخلاق وتحيى ، ويعيش الإنسان في مدينة فاضلة رغيداً سعيداً.
وعظمة الإنسان بأخلاقه السامية الرفيعة ، وأولى الناس بالأخلاق الأطباء والعلماء . فهم أطباء الروح والجسد.
وإنّ الطبيب إنّما يعاشر في حياته آلاف المرضى الذين يتصارعون مع الموت ، وبان الانكسار على وجوههم وأصابهم اليأس والخمول ، يتململون كتململ السليم من شدّة الأوجاع والآلام ، لم يبرحوا عن السرير أياماً ، شهوراً ، يقضون أيامهم الأخيرة وربما أنفاسهم الأخيرة ، قد غسلوا أيديهم عن الحياة وانهارت أعصابهم يتصارعون مع الفقر والحبوب والأقراص والإبر والعمليات ذات القيم الباهضة ، وتكسّرت ضلوعهم بين الأنين والحسرات ، وليس لهم إلاّ برحمة الله المتجلّية في محيّا الطبيب ووجهه الباسم ، وأخلاقه الطيّبة التي تزرع في وجود المريض روح الأمل وعشق الحياة.
فلو لم يكن الطبيب خلوقاً ، ولم يحمل بين حناياه الرحمة واللطف ، ولم يتّصف بالأخلاق الحسنة ، ولم يحبّ الإنسان ، عارياً من الشفقة والعطوفة ، يركض وراء الماديات والملاذّ والشهوات ، محبّاً للجاه والمقام ، هلوعاً طمّاعاً سيء الخلق ، كيف يسعد المريض بعلاجه وطبابته ؟ ! !
ومن هنا يعلم الأهمية البالغة لدروس الأخلاق في الجامعات الطبية ، ومع كلّ الأسف الشديد تفقد جامعاتنا هذا الجانب الأساسي في حياة الطبيب.
ثمّ علم الطبّ ليس من العلوم الطبيعية وحسب كما هو المشهور والمعروف ، بل في الواقع يعدّ من العلوم الإلهية أيضاً ، فإنّه من خير السبل إلى معرفة الله سبحانه وتوحيده ، فإنّ الطبيب عندما يقف على صنع بدن الإنسان يبقى مندهشاً ومتحيّراً من دقّة النظام والحكمة ولطافة الخلقة والأسرار المودعة في وجوده ، فيسبّح الله على حكمته وعظيم صنعه:
(إنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوْم يَتَفَكَّرونَ).
وفي الحديث النبويّ والعلويّ الشريف : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » ،وقال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم:
(سَنُريهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وَفي أنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أ نَّهُ الحَقُّ).
كما إنّ الطبّ من الواجبات الكفائية التوصّلية في الفقه الإسلامي ، فلولاه لاختلّ النظام الاجتماعي ، فلا بدّ من ثلّة صالحة أن تقوم بهذا الواجب ، وإلاّ فإنّه يأثم الجميع ، وهذا يعني أنّ الطبابة للطبيب ليست وظيفة اجتماعية وحسب ، بل من الوظائف الإلهية أيضاً ، وربما يكون الكفائي عينياً فيما لو انفرد قيام الواجب به ، كما هو مذكور في علم الفقه ، ولو كان في بلد من به الكفاية من طبيب ، فعلى الآخر أن يذهب إلى المناطق التي تحتاجه وتفتقر إليه ، وأن يبذل الطبيب كلّ جهده في معالجة مرضى البلد.
ولمّـا كان موضوع الطبّ هو الإنسان فعلى الطبيب أن يعرفه في كلّ أبعاده ، لا سيّما في البعدين الأساسيين ، وهما : الروح والجسد ، فلا بدّ أن يعرف روح الإنسان كما يعرف خفايا بدنه ، لأنّ الطبيب بطبّه ، ليس مع ماكنة متحرّكة من دون روح ، حتّى يهتمّ بالظاهر وبالحركة الفيزيكية ، بل لا بدّ أن يطّلع على العالم الميتافيزيقي أيضاً . فلا بدّ للطبيب أن يكون طبيب الروح والجسد ( الطبيب الروحاني والطبيب الجسماني ) ( الطبّ الروحاني والطبّ الجسماني ) والمتكفّل لمعرفة الطبّ الروحاني هو علم الأخلاق ، فيلزم على الطبيب أن يكون متخلّقاً بالطبّ الروحاني وبالأخلاق الطبّية الروحية.
ثمّ هنا روابط وعلائق وثيقة بين الروح والجسد ، فكلّ واحد يؤثّر على الآخر ، فإنّ العقل السليم في الجسم السليم ، وإنّ الخجل يؤثّر على احمرار الوجه ، كما أنّ صفعة الوجه توجب احمراره . وربما العقد النفسية تخلق أمراضاً جسدية ، تزول العقد ولكن يبقى الأثر من الأمراض والأسقام . والعمدة في الأخلاق ، ليس الأخلاق الفطرية والحكمة النظرية ، بل الأخلاق العملية وتطبيق الحكمة النظرية في مقام العمل ، وربما تكون دروس النظريات سهلة التناول والحفظ ، ولكن ما أصعب العمل . فالأخلاق نور ينفذ في القلوب المظلمة ، وإفاضات تحيط الروح الإنسانية الخالدة.
فالأخلاق لا بدّ فيها من وجدان يقظ وضمير حيّ ، ومن تذوّقها ، لا مَن سمعها ، ومن لمسها ، لا من قرأها . كما قال سبحانه وتعالى:
(إنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلـْبٌ وَألـْقى السَّمْعَ وَهُوَ شَهيد)[48].
فلا بدّ في حكومة الأخلاق في وجود الفرد والمجتمع من ضمان ، ألا وهو الإيمان الراسخ في الصدور بالله ويوم القيامة ، الذي جاء به الشرائع السماوية ، لتعديل الغرائز البشرية وتهذيب العواطف الإنسانية ، وتوحيد الوجدان المختلف فيه ، كما قاله سبحانه في فلسفة بعثة الأنبياء:
(كانَ النَّاسُ اُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرينَ وَأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فيما اخْتَلَفوا فيهِ).
فمن آمن بالله واليوم الآخر ، وعلم أن هناك يوماً يحاسب فيه على كلّ صغيرة وكبيرة:
(وَقِفوهُمْ إنَّهُمْ مَسْؤولون).
فإنّه يراعي الأخلاقيات الحسنة ويلتزم بها ، ويعلم أنّ الوجدان بوحده لا يكفي في تنفيذ حكومة الأخلاق في الفرد والمجتمع ، ولمثل هذا نرى الأنبياء يبشّرون الناس بثواب أعمالهم ، كما ينذرونهم بالعقاب وبسوء أفعالهم.
وبعد الإيمان إنّما شرف الإنسان بعلمه ، وإنّ الله سبحانه يقول:
(يَرْفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنوا وَالَّذينَ اُوتوا العِلـْمَ دَرَجات).
فالرفعة للمؤمن العالم ، وإنّما فضل آدم (عليه السلام) على الملائكة لما يحمل من العلم الوسيع:
(وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها).
حتّى صار مسجوداً للملائكة وكان خليفة الله في أسمائه وصفاته في الأرض ، وإنّ الإسلام يدعو الناس إلى العلم والتعلّم ، وإنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ، وإنّ الله يحبّ بغاة العلم ، والعلم في الإسلام يعمّ كلّ العلوم البشرية ، وإنّ العلماء من عباد الله يخشون الله سبحانه:
(إنَّما يَخْشى اللهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ).
وإنّ العالم هنا لا ينحصر بعلم الشريعة والفقه والأخلاق ، بل حتّى العالم بالطبّ عندما يقف على حكمة خلق الإنسان وعظمته يخشع أمام خالقه وصانعه.
وقد اهتمّ الإسلام بعلم الطب ، فمن أحياها ( النفس ) فكأ نّما أحيا الناس
جميعاً . والإمام الصادق (عليه السلام) يقول : لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاثة يفزع إليه في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإن عدموا ذلك كانوا همجاً ( أي بمنزلة الحيوانات ) : فقيه بارع ورع ، وأمير مطاع ، وطبيب بصير ثقة.
وقال (عليه السلام) : كان المسيح (عليه السلام) يقول : إنّ لتارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة ، وذلك أنّ الجارح أراد فساد المجروح ، والتارك لإشفائه لم يشأ صلاحه ، فإذا لم يشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطراراً
وهذه الرواية إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على عظمة مسؤولية الأطباء والجرّاحين تجاه مرضاهم ، فإنّ إهمالهم إيّاهم بمنزلة قتلهم ، ومن قتل نفساً فكأ نّما قتل الناس جميعاً ، فتدبّر.
ولا بدّ من التخصّص في علم الطبّ ، لأنّ الله سبحانه يقول:
(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلـْمٌ).
فكيف يجوّز الدواء من لم يكن عالماً بالداء ، فعلى الطبيب أن يكون حاذقاً بصيراً كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) ، فيلزمه أن يكمل علمه حتّى يجوز له الطبابة ، وإلاّ فهو ضامن كما قال الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) : « من تطبّب ولم يعلم منه الطبّ ( قبل ذلك ) فهو ضامن » ، فيما لو أوجب نقص عضو أو تلف نفس أو ما شابه ذلك . قال (صلى الله عليه وآله) : « من تطبّب ولم يكن بالطبّ معروفاً ، فإذا أصاب نفساً فما دونها فهو ضامن ».
وما أروع ما يقوله أمير المؤمنين (عليه السلام) في تعيين وظائف الإمام والسلطان
الفقيه المبسوط اليد ، قال (عليه السلام) : « يجب على الإمام أن يحبس الفسّاق من العلماء والجهّال من الأطباء »[57].
فيلزم الطبيب أن يكمل دراساته الطبية بجدّ ومثابرة وتواصل ، ولا يقطع المشاورة مع الأطباء ، ويواكب الحضارة الطبية بمطالعة آخر تطوّراته وحوادثه ، وأن لا يتدخّل بما لا اختصاص له فيه ، فإذا كان طبيب القلب ، فلا يجيز الدواء لمريض الكبد ، بل يرجعه إلى ذوي الاختصاص . وإنّما يجوز الدواء بعد تشخيص المرض والداء ، لا أن يمتحن الدواء على مريضه ويتصوّره من جرذان التجربة.
فكلّ إنسان ولا سيّما أطباء الروح والجسد ، إنّما هو مسؤول أمام نِعَم وآلاء الله:
(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنِ النَّعيمِ)[58].
كما إنّه مسؤول أمام خلق الله ، كما إنّ كلّ صاحب حرفة وصنعة مسؤول عن حسن العمل وإخلاصه ، كما إنّ الطبيب مسؤول أمام خالقه وعلمه وشعبه وحرفته وأساتذته والعلماء الذين حفظوا له هذا العلم المقدّس ، وإنّه مسؤول أمام مريضه.
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : ألا وإنّ من البلاء الفاقة ، وأشدّ من الفاقة مرض البدن ، وأشدّ من مرض البدن مرض القلب[59].
فطالب كلية الطبّ عليه أن يقدّر هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله عليه من دون زملائه في الثانوية ، فلا يضيّع وقته بالبطالة والجهالة ، فإنّ ذلك من الخيانة بشبابه وأهله وشعبه وبيت المال وحكومته ، وبذلك يعدّ جرمه من أعظم الجرائم ، فمن لم يبذل كلّ جهده ، ويستفرغ كلّ وسعه ، في تكميل علمه ، فإنّ ضرره أكثر من نفعه ، فالحياة عقيدة وجهاد من اجل تلك العقيدة ، وسعادة المرء ومجتمعه إنّما مرهونة بهذين العاملين : العقيدة والفكر الصحيح ، والجهاد والعمل المستمرّ . فلا ضجر ولا كسل ، فإنّهما عاملان يهدّمان الحياة.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : إيّاك وخصلتين : الضجر والكسل فإنّك إن ضجرت لم تصبر على حقّ ، وإن كسلت لم تؤدّ حقّاً.
ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : إيّاك والكسل فإنّه من كسل لم يؤدّ حقّ الله عزّ وجلّ.
وقال لقمان لابنه : للكسلان ثلاث علامات : يتوانى حتّى يفرّط ، ويفرّط حتّى يضيّع ، ويضيّع حتّى يأثم.
والشعب الذي يفقد الفكر السليم والعمل الدؤوب ، فإنّ الاستعمار يتسحمره وينهب ثرواته ويسمّيه وحشياً ، ويتعامل معه معاملة الوحوش ، كما نرى ذلك في العالم الثالث ـ على حدّ تعبيرهم ـ فلا بدّ من إصلاح الفرد والمجتمع وسوقهم إلى السعادة الدنيوية والاُخروية ، وذلك بالتقوى وتزكية النفس وبالتعبّد والتقرّب إلى الله سبحانه.
والوقاية خير من العلاج ، وإنّما حفظ الشيء ممّـا يؤذيه ويضرّه ، وجعل النفس في وقاية ممّـا يخاف.
وأوّل قدم في السير والسلوك إلى الله سبحانه هو التقوى ، ولا ينفع اجتهاد لا ورع فيه ، وإلاّ فإنّ عاقبة من لم يكن متّقياً من الذنوب والمعاصي على سوء وضلالة ، كما قال الله سبحانه:
(ثُمَّ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ أساؤوا السُّوأى أنْ كَذَّبوا بِآياتِ اللهِ وَكانوا بِها يَسْتَهْزِئونَ).
وفي الحديث الشريف : « ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة ، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال حتّى تغلب عليه ، فيصير أعلاه أسفله ».فلو أدرك الإنسان هذه الحقيقة ، أنّ القلب وعاء وخير القلوب أوعاها ، وإنّها تتقبّل الفيوضات الإلهية والرحمة الرحمانية والرحيمية ، لو كان الإناء صحيحاً في وضعه ، وأمام الرحمة والفيض ، أمّا إذا انقلب وانعكس ، وكان أعلاه أسفله من أثر الذنوب والمعاصي المتكرّرة من دون التوبة ، فإنّه من المستحيل أن يكون موضعاً للعلم الإلهي ووعاءً للرحمة الإلهية.
مع أجمل وأرق الأمنيات.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح