لقد فرغ القارئ لتوه من قراءة أهم الدراسات التربوية والفيزيولوجية والطبية والنشوئية التي هيأت الأجواء لنشأة علم النفس وظهوره كعلم مستقل. ولعله يستعد الآن للاطلاع على ما شهدته الفترة اللاحقة من نشاطات ومناقشات على الساحة السيكولوجية. وربما يكون مثل هذا التوقع مشروعاً ومنطقياً. ولكنه من المنطقي أيضاً أن تُخص التأثيرات الإيجابية الأخرى في الفكر والتوجه السيكولوجيين باهتمام مواز، ومن هذا المنطلق ارتأينا تخصيص هذا الفصل لتناول مواقف بعض فلاسفة القرن التاسع عشر الذين وجّهت أعمالهم اهتمام الباحثين نحو الظواهر النفسية وآليات نشوئها وتطورها، ودفعت بعض المؤرخين إلى اعتبارها مجتمعة المدرسة الأولى في علم النفس.
وفي ضوء ذلك يكتسي استعراض آراء الفلاسفة الارتباطيين خلال القرن التاسع عشر أهمية خاصة ليس على صعيد التأريخ لعلم النفس فحسب، وإنما على صعيد فهم العديد من نظرياته وتعاليم مدارسه أيضاً. وهذا ما يجده المرء لدى النظر في أصولها وخلفياتها الفلسفية. وسوف يلمس القارئ عبر الفصول القادمة بصمات هؤلاء الفلاسفة وآثار أعمالهم واضحة في جزء هام من الدراسات والبحوث التي أجراها الجيل الأول من علماء النفس على وجه الخصوص.
ومن المعروف أن الارتباطيين- القدماء منهم والمحدثين- ينطلقون من مفهوم الارتباط Association كمبدأ أساسي تخضع له كافة الظواهر النفسية في نشأتها ونموها. وبالرغم من أن جون لوك هو الذي أكد ضرورة استعمال هذا المصطلح، إلا أنه لم يكن أول من حاول تفسير الواقعة النفسية بوساطته. فثمة إجماع بين مؤرخي الفكر الإنساني على أن أرسطو هو أول من طرح الارتباط في دراسة العمليات النفسية عامة، والتذكر خاصة. وقد ميز أرسطو ثلاثة أنواع من الارتباط: الارتباط بالتشابه، والارتباط بالتجاور أو الاقتران، والارتباط بالتناقض. وبين أرسطو ولوك عدد كبير من المفكرين الذين يمكن اعتبارهم ارتباطيين بدرجات متفاوتة ومنهم ابن سينا وابن رشد وديكارت وهوبز وسبينوزا. والجدير بالملاحظة هو أن الارتباطية عرفت تطوراً كبيراً خلال القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر. ولم يكن هذا التطور وحيد الاتجاه. فقد وضع لوك- كما سبقت الإشارة- الأساس لظهور اتجاهين متعارضين تحت يافطة مذهب الارتباط. وأبرز من مثل الاتجاه الأول، بعد هارتلي وبريستلي وكوندياك، داروين وسيجينيف وبافلوف وثورندايك وغيرهم. في حين واصل جيمس ميل وجون ستيوارت ميل وبراون وبين وسبنسر السير في الاتجاه الثاني الذي رسمه بركلي وهيوم.
يرى ممثلو الاتجاه الأول أن النشاط النفسي برمته قائم على الارتباط الفيزيولوجي الذي يتجلى باتحاد المسالك العصبية التي تمر بها المثيرات الخارجية وما تحدثه هذه الأخيرة من الاهتزازات في الدماغ. فها هو هارتلي يقرر أن موضوعات العالم الخارجي تؤثر في الأجزاء الدقيقة من الأعصاب والمخ. وتتناسب هذه الحركات من حيث شدتها وترددها مع الإحساسات والمشاعر والأفكار. ويكفي أن تتكرر إحداها لكي تحدث الاهتزازات الأخرى المرتبطة بها في أجزاء أخرى من الجملة العصبية.
ويعتقد هارتلي أن العملية الذهنية تتكون عن طريق الإحساسات التي تستدعيها مثيرات الواقع الموضوعي. ولقد قاده هذا الاعتقاد إلى القول بأن فهم أفكارنا وعواطفنا يتوقف على تحسين الوسائل والأدوات المستخدمة في الدراسة الفيزيولوجية لقوانين الارتباط.
ثم جاء بريستلي ليكمل ما بدأه هارتلي، ويحاول تطوير نظريته في الاهتزازات ويمضي في تصوراته إلى حد نفي وجود أي فرق جوهري بين الظواهر النفسية والعمليات الفيزيولوجية.
وعلى النقيض من ذلك يجد الارتباطيون المثاليون أن التداعيات(الارتباطات) نوع من أنواع العلاقة القائمة بين الظواهر النفسية الموجودة أصلاً في الوعي ذاته، ولا يحتاج إلى أي أساس عضوي لتشكلها. كما أنها تعتبر- بالنسبة لبركلي وهيوم- مبدأ لعمل الوعي وحركة الأفكار. فجميع تشكلات الوعي من أكثرها بساطة إلى أشدها تعقيداً، وكذلك موضوعات العالم الخارجي هي عبارة عن "حزم من الأفكار والتصورات" تؤلف بينها وتجمعها الارتباطات.
ويحذو توماس براون حذو بركلي وهيوم، فيعيد النشاط النفسي إلى الخبرة الداخلية للفرد. وهذه الخبرة تتسع وتتعمق بفضل قانون الارتباط. ولما كان براون شديد التحمس لتعاليم الدين، وأحد المتمسكين بالتقاليد القديمة والداعين إلى احترامها والعودة إليها، فإنه لم يخف ريبته في أن يكون بوسع الإنسان أن يكشف عن كنه النفس الإنسانية وأسرارها، وأن يقدم، بالتالي، تفسيرات كافية ومقنعة بصددها اعتماداً على مبدأ الارتباط وحده. ولهذا فإنه يعلن في مؤلفه "محاضرات في فلسفة العقل الإنساني"(1820) أن الروح هي الحقيقة الأزلية التي لا مناص من الاعتراف بوجودها كمبدأ عام، كلي، شامل يؤلف بين الخبرات الشعورية ويتحكم في ارتباطها وحركتها. وهذا يعني أن الأفكار والمشاعر لا ترتبط بعضها ببعض أو يستدعي بعضها بعضاً فقط، وإنما تتشابك وتتراكب أيضاً على نحوٍ يجعلها أقل طواعية للتحليل الميكانيكي المألوف.
وانطلاقاً من ذلك يبلور براون تفسيره لتداعي الأفكار وترابطها في مجموعة من القوانين التي عرضها بإيجاز في كتابه "تاريخ علم النفس الارتباطي". وتشمل هذه القوانين نشاط التذكّر والعوامل التي تؤثر فيه، إضافة إلى أنواع الخبرات والتجارب الحياتية عند الناس ودرجات تفاوتهم واختلافهم فيها.
ومع أن آراء براون أضافت الكثير من العناصر الجديدة إلى النظرية الارتباطية، إلا أنها لم تلق ما لقيته آراء جيمس ميل من ترحيب وعناية ومتابعة. وإلى ذلك يشير موقف بعض المؤرخين وحرصهم على إبراز فلسفة ميل والإشادة بجوانبها ومراحلها المختلفة وتأكيدهم على أن بفضلها بلغت الارتباطية الآلية ذروتها.
ينطلق جيمس ميل(1773-1836م) من أن الإحساس هو العنصر الأولي للأفكار والمشاعر. فالفكرة المعقدة تقوم على عدد من الأفكار الأقل تعقيداً وكل واحدة من هذه، بدورها، تتألف من أفكار بسيطة، وهكذا حتى نصل إلى الإحساس البسيط الذي لا يتجزأ. وعليه فإن بوسعنا أن نقف على بنية أفكارنا وأصولها عن طريق تحليلها إلى عواملها(عناصرها) الأولية المتمثلة في الإحساسات. بيد أن الارتباط الحسي لا ينشأ كمحصلة لتأثيرات العالم الخارجي على العضوية، ورد فعل هذه العضوية بالكيفية التي تضمن بقاءها واستمرارها(إن لم نقل تأثيرها وتأكيد سيطرتها) بل تتم داخل الوعي بوصفها سبباً لتجلياته.
إن اختزال آليات الوعي واختصار عوامل نشأته وتطوره وإرجاع ذلك كله إلى الارتباطات الحسية الداخلية يحجب مظاهر هذا الوعي وتجلياته المختلفة عن بصيرة الباحث، وتضعف إمكانيته على التمييز بين المستوى الحسي وبين التصورات والأفكار في النفس الإنسانية. زد على ذلك أن هذا الموقف ينكر على العقل فاعليته المتمثلة في عمليات المقارنة والتحليل والتركيب والتعميم وما ينتج عنها من مفاهيم.
ومهما يكن الموقف من آراء ميل وتقويمها، فإنها احتلت حيزاً هاماً من انشغال المفكرين الذين عاصروه والباحثين السيكولوجيين الذين أتوا من بعده. فقد سعى كل من ابنه جون ستيوارت وبين وسبنسر لإغنائها وتطويرها في الاتجاه الذي ينسجم مع المعطيات والتطورات العلمية الجديدة. كما بنى عليها ثورندايك، فيما بعد، أهم جوانب نظريته في التعلم. بينما عارضها أصحاب المدرسة الغشتالتية معارضة شديدة.
وربما كان من المفيد أن نفتح قوسين هنا لنشير إلى أن مصطلح علم النفس الارتباطي يستخدم في أدبيات علم النفس بمعنيين: أولهما عام، يشمل كافة التعاليم والاتجاهات المتعددة، السيكولوجية منها والفلسفية، التي تركز على فكرة الارتباط بين الظواهر النفسية. فالاعتراف بواقع الارتباطات أو التداعيات في هذه الحالة هو المبدأ الذي يخول للباحث إدخال شتى النظريات في هذا العلم. أما المعنى الثاني فيقتصر على جملة الأفكار والتصورات السيكولوجية التي وضعها جون ستيوارت ميل وبين وسبنسر، ولاقت رواجاً كبيراً من لدن علماء النفس الأولين.
وفي ضوء هذه الملاحظة يصبح من الضروري التمييز بين تاريخ المذهب الارتباطي بدءاً من المحاولات الأولى حتى الاجتهادات الفيزيولوجية، ومن ثم السيكولوجية التي تناولت مسألة الارتباط واستندت إليها في تفسير تجليات النفس أو بعضها من جهة، وبين تاريخ علم النفس الارتباطي كنسق محدد من الآراء والأفكار السيكولوجية التي أقيمت على أساس الارتباط الشامل من جهة ثانية. فبينما نجد أن هناك العشرات من المفكرين والعلماء ممن أسهموا في تطوير الفكر الارتباطي عبر التاريخ، لا نلقى إلا عدداً محدداً من المفكرين الانكليز الذين أسسوا علم النفس الارتباطي.
ينصح جون ستيوارت ميل(1806-1873م) بالعودة إلى أفكار بركلي المثالية لإقامة المذهب الارتباطي. ولا يختلف الكسندر بين(1818-1903م) وهربرت سبنسر(1820-1903م) عنه في جوهر الدعوة. ويعلن هؤلاء جميعاً فصل علم النفس عن الفلسفة انطلاقاً من أرضية علمية تجعل منه علماً ذا حدود وأبعاد واضحة، ويستخدم في الكشف عن مكوناتها وأسرارها تقنيات محددة. وقد بذلوا في هذا السبيل مساعي ضخمة، وحاولوا من خلالها وضع برنامج للنهوض بالعلم الجديد على أسس موضوعية وطرائق تجريبية لتمكينه من أن يستمد جوهره من العلوم الطبيعية التي أثبتت الحياة جدواها عبر النجاحات المتلاحقة التي أحرزتها. ولذا كان ديدنهم البحث عن تلك الأسس والطرائق، والعمل على اختبارها وتكييفها مع موضوعات العلم الجديد. إلا أن اهتمامهم بالجانب التقني وتأثرهم بالأساليب والطرائق التي يستخدمها علماء الطبيعة وسعيهم لإضفاء الصبغة العلمية على الدراسات النفسية المرجوة لم يواكبها أو يرافقها تغير في أفكارهم عن تلك الموضوعات. وبقيت تصوراتهم حول طبيعة النفس ونشاطها بمنأى عن تأثيرات هذا المنهج محتفظة بطابعها المثالي. فقد فصلوا بين الروح كجوهر مستقل وتجلياتها في الشعور. وأناطوا بالعلم الجديد مهمة وصف تلك التجليات دون التعرض لذلك الجوهر.
وفي ضوء ذلك يحاول ج.س. ميل أن يتجاوز المنطق السلوكي الذي فسر والده النفس بمقتضاه. ففي حين نظر ميل الأب إلى النسيج الفكري على أنه نتاج آلة تعمل وفق قوانين ميكانيكية، سجل ميل الابن تحفظه على هذا التفسير، واعتبر أن مثل هذه القوانين غير كافية لحل المسألة المطروحة. ووجد نفسه أمام مهمة البحث عن بدائل أكثر قدرة على أداء المهمة. وقاده أسلوبه في التفكير إلى اعتبار الصيغ المستخدمة في علم الكيمياء الناشئ مفتاح الحل الصحيح. ومن هذا المنطلق طرح مفهوم "الكيمياء العقلية" ليقدم من خلاله فهماً جديداً للأفكار المعقدة. ويتمثل هذا الفهم في أن الأفكار لا تتكون من التصورات، وإنها ليست مجرد حاصل جمع أو ائتلاف أفكار أبسط، وإنما هي شيء جديد ينتج عن اتحادها، ويختلف عن أي منها اختلاف المادة عن العناصر التي تدخل في تركيبها. يقول ج.س. ميل: "إن قوانين العقل تشبه أحياناً القوانين الميكانيكية، ولكنها تشبه القوانين الكيميائية أحياناً أخرى. فعندما تعمل عدة انطباعات أو أفكار معاً في العقل، فإنه تحدث أحياناً عملية من نفس نوع عمليات الاتحاد الكيميائي"(فلوجل 1979، 58).
غير أن ميل لا يختلف مع والده حول أصول هذه العمليات. فهي- في رأيه- لا تحدث عبر التفاعل بين الإنسان ومحيطه، وإنما هي نتاج النشاط الروحي(الداخلي) للذات. ويترجم هذا الرأي موقف ميل الابن من علاقة الذات بالموضوع، والنفس بالواقع الخارجي. حيث أنه يستبعد وجود عالم موضوعي خارج الذات ويتميز عنها، وينظر إلى هذا العالم بوصفه بناء سيكولوجيا قائماً على أساس الثقة في إمكانية مجموعة معينة من الإحساسات، يعتبر تزامن حدوثها وتعاقبه شرطاً لازماً لنشوء العمليات النفسية الأرقى كالتذكر والتفكير.
وبصرف النظر عن اختلاف الزاوية التي تناول ج.س.ميل وأ.بين من خلالها الموضوع، فإنهما يقفان موقفاً متماثلاً في النتيجة. فقد عمل الاثنان لتحقيق غاية واحدة، متأثرين بالاكتشافات العلمية، الأول في ميدان الكيمياء، والثاني في ميدان وظائف الأعضاء.
لقد شدد بين على أهمية دراسة الجهاز العصبي عند الإنسان وتعيين الوظائف التي يقوم بها والحقيقة أنه لم يفعل ذلك بدافع التعرف على العمليات الفيزيولوجية باعتبارها بعداً أو أساساً مادياً للعمليات النفسية، بل كان، بالنسبة له، غاية بحد ذاته. فهو عندما يتحدث في مؤلفيه "الحواس والعقل"(1855) و"الانفعالات والإرادة"(1859) عن المخ والأعصاب والعضلات وما تقوم به من وظائف، لم يكن يقصد من وراء ذلك ربط هذا الجانب(الفيزيولوجي) بالجانب النفسي للإنسان بقدر ما كان يحرص على إقامة حاجز يفصل بين الجانبين، وتأكيد عدم وجود نقاط أو لحظات تضيق عندها المسافة الفاصلة بينهما لتفسح المجال أمام تقاطعهما أو حتى تقاربهما. وهذا الأمر لم يدعه بين في دائرة التخمين والشك، ولم يتركه لاستنتاجات القارئ، بل أنه لم يدخر وسعاً في إبرازه حينما طرح مفهوم "التوازي النفسي والفيزيولوجي" الذي لا يعني سوى شيء واحد، هو استقلال العضوية عن العقل وأن كلاً منهما يقوم بوظائفه بمعزل عن الآخر.
اشتغل بين في تدريس المنطق في جامعة ابردين. وبذل الكثير من الجهد كي يصبح أستاذاً لعلم النفس. ولكنه أخفق في تحقيق طموحه. ولكي يدلل على كفاءته في ميدان علم النفس ويعبر عن ميله نحوه ألف، بالإضافة إلى كتابيه المذكورين، كتاباً آخر تحت عنوان "التربية كعلم". ويأخذ بين من خلال مؤلفه هذا على الفلاسفة والفيزيولوجيين بصورة خاصة مغالاتهم في تفسير العمليات العقلية ونظرتهم الخاطئة إلى أصولها وآليات نشوئها وتطورها. وبعد أن يبسط آراء العديد منهم يعقد مقارنة بينها ليصوغها، صياغة مبتكرة، ويضع تنظيماً جديداً لها يتحدد من خلاله موقفه المتميز. وخلاصة محاولته تتمثل في تقديم تفسيره المبسط لمستويات النشاط النفسي. حيث يجد أن هذا النشاط يبدأ بالحركات الخارجية مع الأشياء المادية وينتهي بالعمليات الذهنية الداخلية مروراً بالإحساسات والتصورات. وتتكون المستويات العليا من النفس، حسب اعتقاده، على قاعدة الارتباطات الأولية بين الاستجابات البسيطة التي يقوم بها الإنسان. فالإحساس اللمسي وما يحدثه على الصعيد الانفعالي من شعور بالرضا واللذة، مثلاً، هو الأساس في نشوء الحالات الانفعالية الإيجابية لدينا إزاء الآخرين والأشياء. وهنا يطرح أ. بين رأيه في الاستجابات الأولية أو "المحاولات والأخطاء" ويعتبرها مبدأً خاصاً تخضع له سلوكياتنا اليومية في تشكلها وتطورها. وتبعاً لذلك ينظر إلى التفكير على أنه اختيار لتركيب مضبوط من الكلمات يتم على نفس الأساس الذي يبنى عليه اختيار الحركات الضرورية لاكتساب المهارات. كتب أ. بين يقول: "تعتبر قاعدة(المحاولة والخطأ) الملاذ الرئيسي والنهائي في جميع العمليات الصعبة التي تتم من أجل الوصول إلى هدف أو قصد"(1868، 574).
إن طموحات أ. بين العريضة ومساعيه من أجل إقامة علم يعنى بدراسة الحياة العقلية وآراءه التي جمع في عرضها بين الوضوح والتسلسل والبساطة كانت هدفاً لحملات النقد والمعارضة مثلما كانت عامل حفز وتشجيع بعض العلماء البارزين على تأملها والكشف عما هو جديد فيها والإفادة منها في بناء فكره السيكولوجي.
وإذا كانت قوانين نيوتن قد انعكست على أفكار جيمس ميل وجون ستيوارت ميل والكسندر بين وأثرت في أفكارهم، فإن تطور المعرفة في ميدان علم الأحياء في أواسط القرن التاسع عشر أخذ يملي على الباحثين فهماً جديداً للعلاقة بين النفس والعضوية، الأمر الذي دفعهم نحو البحث عن الصلات والروابط القائمة بين علم النفس والبيولوجيا التطورية، وما فعله سبنسر يعتبر أولى المحاولات الجادة في هذا السبيل.
ترجع نزعة سبنسر التطورية واهتمامه بالظواهر النفسية وارتقائها إلى اطلاعه المبكر على آراء مشاهير المختصين في علوم الأرض والأحياء. وحسب ما رواه المؤرخون فقد قرأ كتاب "الجيولوجيا" الضخم للعالم ليل وهو في التاسعة عشرة من العمر.
بسط سبنسر آراءه في مجموعة من المقالات والكتب التي يتصدرها كتابه "أسس علم النفس" ولقد جلبت له الطبعة الثانية من هذا الكتاب(1870-1872م) شهرة واسعة كمؤسس لعلم النفس.
ينظر واضع "الأسس" إلى التطور باعتباره مفهوماً عاماً وشاملاً لكافة الكائنات في الطبيعة، وينطبق على جميع مظاهر النمو ومستوياته، فهو، بالنسبة له: "تغير من حالة متجانسة غير محددة وغير متماسكة إلى حالة متمايزة، محددة ومتماسكة". وما يعنينا، هنا، ليس هذا القانون الشامل بحد ذاته، وإنما مرتسماته على السلوك بصورة عامة. ولتعيين هذه المرتسمات لجأ سبنسر إلى ربط مظاهر هذا السلوك بحقائق البيولوجيا التطورية، مما مكنه من وضع خطة لإعادة تنظيم علم النفس على أسس جديدة.
اعتمد سبنسر في وضع خطته على الأطر العامة للمذهب الارتباطي، مستعيناً بقانونها الأساسي في تفسير مختلف أنماط الحياة. ولما كانت الحياة، برأيه "عملية تكيف مستمرة للعلاقات الداخلية مع العلاقات الخارجية" فإنه ينبغي النظر إلى الشعور كمظهر معقد من مظاهرها في ضوء التكيف البيولوجي. فما يقال عن العالم العضوي يصح على النفس. والقوانين التي يخضع لها الأول أثناء تطوره هي نفس القوانين التي نفسر بها نشوء السلوك وارتقاءه. إذ ما الفائدة من الوظائف النفسية إن لم تكن سلاحاً أو أداة تساعد العضوية في صراعها من أجل البقاء؟ وبهذا السؤال الذي يطرحه سبنسر مستنكراً أي فصل بين ما هو عضوي وما هو نفسي يقدم تصوره الجديد لنشأة النفس وتجلياتها المتعددة. فهو يقرر أن ذلك يتم بفعل الاصطفاء الطبيعي كيما تستطيع العضوية من التكيف مع الوسط، والبقاء على قيد الحياة.
ومن زاوية المهمة الأساسية لجميع التطورات التي تشهدها العضوية وحصرها في التكيف نظر سبنسر إلى الوقائع النفسية في ارتباطها بالعلاقات القائمة في الوسط الخارجي وليس من خلال ارتباطها بالعمليات العصبية التي تتم داخل العضوية أثناء تفاعلها مع الخارج كما رأى بعض الارتباطيين. إن علم النفس، والحالة هذه "يتميز عن سواه من العلوم التي يقوم على أساسها في أن موضوعاته تشمل الظواهر الداخلية والظواهر الخارجية في آن معاً. فبينما تعد الارتباطات بين الظواهر الداخلية مادة الفيزيولوجيا والارتباطات بين الظواهر الخارجية موضوعاً لعلوم أخرى، يكون موضوع علم النفس لا العلاقة بين الظواهر الداخلية، ولا العلاقة بين الظواهر الخارجية أيضاً، وإنما العلاقة بين هاتين العلاقتين"(132، 1885، Spenser).
وعلى هذا النحو يجد سبنسر أن الظواهر النفسية هي نتاج التفاعل، بل الصراع المستمر بين العضوية والبيئة، وهي حصيلة تكرار سلسلة من الاستجابات التي ترد بها الأجهزة أو الأدوات الداخلية على المثيرات الخارجية. وما دامت شروط التحدي موجودة وأسباب التهديد قائمة، فإن على الكائن الحي "الإنسان والحيوان" أن يكون بجسمه ونفسه مستعداً على الدوام لرد التحدي ودفع التهديد. وهذا يستلزم تطور الأجهزة العضوية والنفسية حسب ما يمليه قانون الاصطفاء الطبيعي. ويعرف سبنسر هذا على المستوى الفيزيولوجي بأنه التغيرات المتزامنة والمتعاقبة التي تطرأ على العلاقات العصبية. أما على المستوى السيكولوجي فهو المتغيرات المتعاقبة التي تحدث في الوعي. وينتقل سبنسر في تحليله لظواهر الوعي عند الإنسان وظروف نشأتها من التطور الفردي إلى التطور النوعي، محاولاً ربط السمات المعقدة والبسيطة التي يتسم بها سلوك الفرد بالتغيرات التي تطرأ على هذه الظواهر في مجرى حياته. ويخلص إلى القول بأن الخبرة التي يكتسبها تنتقل إلى أبنائه عن طريق الوراثة.
إن سبنسر، بتأكيده على أهمية العوامل الوراثية في انتقال الخصائص النفسية، ينحاز إلى معسكر أولئك الذين يرون في تاريخ السلالة مصدراً أساسياً لقدرات أفرادها والحكم على مستوى ذكائهم. وقد أعرب كثير من العلماء عن شكوكهم في إمكانية ميل الصفة التي يكتسبها الفرد إلى أن تصبح "ملكية فطرية للنوع كله". يقول فلوجل: "وباعتناق سبنسر لهذه الفكرة عرض نفسه للهجوم على أساس أنه قد غالى في تقدير ميل الصفات المكتسبة للانتقال، هذا إذا كانت تنقل على الإطلاق"(1979، 85).
بوح الروح
وفي ضوء ذلك يكتسي استعراض آراء الفلاسفة الارتباطيين خلال القرن التاسع عشر أهمية خاصة ليس على صعيد التأريخ لعلم النفس فحسب، وإنما على صعيد فهم العديد من نظرياته وتعاليم مدارسه أيضاً. وهذا ما يجده المرء لدى النظر في أصولها وخلفياتها الفلسفية. وسوف يلمس القارئ عبر الفصول القادمة بصمات هؤلاء الفلاسفة وآثار أعمالهم واضحة في جزء هام من الدراسات والبحوث التي أجراها الجيل الأول من علماء النفس على وجه الخصوص.
ومن المعروف أن الارتباطيين- القدماء منهم والمحدثين- ينطلقون من مفهوم الارتباط Association كمبدأ أساسي تخضع له كافة الظواهر النفسية في نشأتها ونموها. وبالرغم من أن جون لوك هو الذي أكد ضرورة استعمال هذا المصطلح، إلا أنه لم يكن أول من حاول تفسير الواقعة النفسية بوساطته. فثمة إجماع بين مؤرخي الفكر الإنساني على أن أرسطو هو أول من طرح الارتباط في دراسة العمليات النفسية عامة، والتذكر خاصة. وقد ميز أرسطو ثلاثة أنواع من الارتباط: الارتباط بالتشابه، والارتباط بالتجاور أو الاقتران، والارتباط بالتناقض. وبين أرسطو ولوك عدد كبير من المفكرين الذين يمكن اعتبارهم ارتباطيين بدرجات متفاوتة ومنهم ابن سينا وابن رشد وديكارت وهوبز وسبينوزا. والجدير بالملاحظة هو أن الارتباطية عرفت تطوراً كبيراً خلال القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر. ولم يكن هذا التطور وحيد الاتجاه. فقد وضع لوك- كما سبقت الإشارة- الأساس لظهور اتجاهين متعارضين تحت يافطة مذهب الارتباط. وأبرز من مثل الاتجاه الأول، بعد هارتلي وبريستلي وكوندياك، داروين وسيجينيف وبافلوف وثورندايك وغيرهم. في حين واصل جيمس ميل وجون ستيوارت ميل وبراون وبين وسبنسر السير في الاتجاه الثاني الذي رسمه بركلي وهيوم.
يرى ممثلو الاتجاه الأول أن النشاط النفسي برمته قائم على الارتباط الفيزيولوجي الذي يتجلى باتحاد المسالك العصبية التي تمر بها المثيرات الخارجية وما تحدثه هذه الأخيرة من الاهتزازات في الدماغ. فها هو هارتلي يقرر أن موضوعات العالم الخارجي تؤثر في الأجزاء الدقيقة من الأعصاب والمخ. وتتناسب هذه الحركات من حيث شدتها وترددها مع الإحساسات والمشاعر والأفكار. ويكفي أن تتكرر إحداها لكي تحدث الاهتزازات الأخرى المرتبطة بها في أجزاء أخرى من الجملة العصبية.
ويعتقد هارتلي أن العملية الذهنية تتكون عن طريق الإحساسات التي تستدعيها مثيرات الواقع الموضوعي. ولقد قاده هذا الاعتقاد إلى القول بأن فهم أفكارنا وعواطفنا يتوقف على تحسين الوسائل والأدوات المستخدمة في الدراسة الفيزيولوجية لقوانين الارتباط.
ثم جاء بريستلي ليكمل ما بدأه هارتلي، ويحاول تطوير نظريته في الاهتزازات ويمضي في تصوراته إلى حد نفي وجود أي فرق جوهري بين الظواهر النفسية والعمليات الفيزيولوجية.
وعلى النقيض من ذلك يجد الارتباطيون المثاليون أن التداعيات(الارتباطات) نوع من أنواع العلاقة القائمة بين الظواهر النفسية الموجودة أصلاً في الوعي ذاته، ولا يحتاج إلى أي أساس عضوي لتشكلها. كما أنها تعتبر- بالنسبة لبركلي وهيوم- مبدأ لعمل الوعي وحركة الأفكار. فجميع تشكلات الوعي من أكثرها بساطة إلى أشدها تعقيداً، وكذلك موضوعات العالم الخارجي هي عبارة عن "حزم من الأفكار والتصورات" تؤلف بينها وتجمعها الارتباطات.
ويحذو توماس براون حذو بركلي وهيوم، فيعيد النشاط النفسي إلى الخبرة الداخلية للفرد. وهذه الخبرة تتسع وتتعمق بفضل قانون الارتباط. ولما كان براون شديد التحمس لتعاليم الدين، وأحد المتمسكين بالتقاليد القديمة والداعين إلى احترامها والعودة إليها، فإنه لم يخف ريبته في أن يكون بوسع الإنسان أن يكشف عن كنه النفس الإنسانية وأسرارها، وأن يقدم، بالتالي، تفسيرات كافية ومقنعة بصددها اعتماداً على مبدأ الارتباط وحده. ولهذا فإنه يعلن في مؤلفه "محاضرات في فلسفة العقل الإنساني"(1820) أن الروح هي الحقيقة الأزلية التي لا مناص من الاعتراف بوجودها كمبدأ عام، كلي، شامل يؤلف بين الخبرات الشعورية ويتحكم في ارتباطها وحركتها. وهذا يعني أن الأفكار والمشاعر لا ترتبط بعضها ببعض أو يستدعي بعضها بعضاً فقط، وإنما تتشابك وتتراكب أيضاً على نحوٍ يجعلها أقل طواعية للتحليل الميكانيكي المألوف.
وانطلاقاً من ذلك يبلور براون تفسيره لتداعي الأفكار وترابطها في مجموعة من القوانين التي عرضها بإيجاز في كتابه "تاريخ علم النفس الارتباطي". وتشمل هذه القوانين نشاط التذكّر والعوامل التي تؤثر فيه، إضافة إلى أنواع الخبرات والتجارب الحياتية عند الناس ودرجات تفاوتهم واختلافهم فيها.
ومع أن آراء براون أضافت الكثير من العناصر الجديدة إلى النظرية الارتباطية، إلا أنها لم تلق ما لقيته آراء جيمس ميل من ترحيب وعناية ومتابعة. وإلى ذلك يشير موقف بعض المؤرخين وحرصهم على إبراز فلسفة ميل والإشادة بجوانبها ومراحلها المختلفة وتأكيدهم على أن بفضلها بلغت الارتباطية الآلية ذروتها.
ينطلق جيمس ميل(1773-1836م) من أن الإحساس هو العنصر الأولي للأفكار والمشاعر. فالفكرة المعقدة تقوم على عدد من الأفكار الأقل تعقيداً وكل واحدة من هذه، بدورها، تتألف من أفكار بسيطة، وهكذا حتى نصل إلى الإحساس البسيط الذي لا يتجزأ. وعليه فإن بوسعنا أن نقف على بنية أفكارنا وأصولها عن طريق تحليلها إلى عواملها(عناصرها) الأولية المتمثلة في الإحساسات. بيد أن الارتباط الحسي لا ينشأ كمحصلة لتأثيرات العالم الخارجي على العضوية، ورد فعل هذه العضوية بالكيفية التي تضمن بقاءها واستمرارها(إن لم نقل تأثيرها وتأكيد سيطرتها) بل تتم داخل الوعي بوصفها سبباً لتجلياته.
إن اختزال آليات الوعي واختصار عوامل نشأته وتطوره وإرجاع ذلك كله إلى الارتباطات الحسية الداخلية يحجب مظاهر هذا الوعي وتجلياته المختلفة عن بصيرة الباحث، وتضعف إمكانيته على التمييز بين المستوى الحسي وبين التصورات والأفكار في النفس الإنسانية. زد على ذلك أن هذا الموقف ينكر على العقل فاعليته المتمثلة في عمليات المقارنة والتحليل والتركيب والتعميم وما ينتج عنها من مفاهيم.
ومهما يكن الموقف من آراء ميل وتقويمها، فإنها احتلت حيزاً هاماً من انشغال المفكرين الذين عاصروه والباحثين السيكولوجيين الذين أتوا من بعده. فقد سعى كل من ابنه جون ستيوارت وبين وسبنسر لإغنائها وتطويرها في الاتجاه الذي ينسجم مع المعطيات والتطورات العلمية الجديدة. كما بنى عليها ثورندايك، فيما بعد، أهم جوانب نظريته في التعلم. بينما عارضها أصحاب المدرسة الغشتالتية معارضة شديدة.
وربما كان من المفيد أن نفتح قوسين هنا لنشير إلى أن مصطلح علم النفس الارتباطي يستخدم في أدبيات علم النفس بمعنيين: أولهما عام، يشمل كافة التعاليم والاتجاهات المتعددة، السيكولوجية منها والفلسفية، التي تركز على فكرة الارتباط بين الظواهر النفسية. فالاعتراف بواقع الارتباطات أو التداعيات في هذه الحالة هو المبدأ الذي يخول للباحث إدخال شتى النظريات في هذا العلم. أما المعنى الثاني فيقتصر على جملة الأفكار والتصورات السيكولوجية التي وضعها جون ستيوارت ميل وبين وسبنسر، ولاقت رواجاً كبيراً من لدن علماء النفس الأولين.
وفي ضوء هذه الملاحظة يصبح من الضروري التمييز بين تاريخ المذهب الارتباطي بدءاً من المحاولات الأولى حتى الاجتهادات الفيزيولوجية، ومن ثم السيكولوجية التي تناولت مسألة الارتباط واستندت إليها في تفسير تجليات النفس أو بعضها من جهة، وبين تاريخ علم النفس الارتباطي كنسق محدد من الآراء والأفكار السيكولوجية التي أقيمت على أساس الارتباط الشامل من جهة ثانية. فبينما نجد أن هناك العشرات من المفكرين والعلماء ممن أسهموا في تطوير الفكر الارتباطي عبر التاريخ، لا نلقى إلا عدداً محدداً من المفكرين الانكليز الذين أسسوا علم النفس الارتباطي.
ينصح جون ستيوارت ميل(1806-1873م) بالعودة إلى أفكار بركلي المثالية لإقامة المذهب الارتباطي. ولا يختلف الكسندر بين(1818-1903م) وهربرت سبنسر(1820-1903م) عنه في جوهر الدعوة. ويعلن هؤلاء جميعاً فصل علم النفس عن الفلسفة انطلاقاً من أرضية علمية تجعل منه علماً ذا حدود وأبعاد واضحة، ويستخدم في الكشف عن مكوناتها وأسرارها تقنيات محددة. وقد بذلوا في هذا السبيل مساعي ضخمة، وحاولوا من خلالها وضع برنامج للنهوض بالعلم الجديد على أسس موضوعية وطرائق تجريبية لتمكينه من أن يستمد جوهره من العلوم الطبيعية التي أثبتت الحياة جدواها عبر النجاحات المتلاحقة التي أحرزتها. ولذا كان ديدنهم البحث عن تلك الأسس والطرائق، والعمل على اختبارها وتكييفها مع موضوعات العلم الجديد. إلا أن اهتمامهم بالجانب التقني وتأثرهم بالأساليب والطرائق التي يستخدمها علماء الطبيعة وسعيهم لإضفاء الصبغة العلمية على الدراسات النفسية المرجوة لم يواكبها أو يرافقها تغير في أفكارهم عن تلك الموضوعات. وبقيت تصوراتهم حول طبيعة النفس ونشاطها بمنأى عن تأثيرات هذا المنهج محتفظة بطابعها المثالي. فقد فصلوا بين الروح كجوهر مستقل وتجلياتها في الشعور. وأناطوا بالعلم الجديد مهمة وصف تلك التجليات دون التعرض لذلك الجوهر.
وفي ضوء ذلك يحاول ج.س. ميل أن يتجاوز المنطق السلوكي الذي فسر والده النفس بمقتضاه. ففي حين نظر ميل الأب إلى النسيج الفكري على أنه نتاج آلة تعمل وفق قوانين ميكانيكية، سجل ميل الابن تحفظه على هذا التفسير، واعتبر أن مثل هذه القوانين غير كافية لحل المسألة المطروحة. ووجد نفسه أمام مهمة البحث عن بدائل أكثر قدرة على أداء المهمة. وقاده أسلوبه في التفكير إلى اعتبار الصيغ المستخدمة في علم الكيمياء الناشئ مفتاح الحل الصحيح. ومن هذا المنطلق طرح مفهوم "الكيمياء العقلية" ليقدم من خلاله فهماً جديداً للأفكار المعقدة. ويتمثل هذا الفهم في أن الأفكار لا تتكون من التصورات، وإنها ليست مجرد حاصل جمع أو ائتلاف أفكار أبسط، وإنما هي شيء جديد ينتج عن اتحادها، ويختلف عن أي منها اختلاف المادة عن العناصر التي تدخل في تركيبها. يقول ج.س. ميل: "إن قوانين العقل تشبه أحياناً القوانين الميكانيكية، ولكنها تشبه القوانين الكيميائية أحياناً أخرى. فعندما تعمل عدة انطباعات أو أفكار معاً في العقل، فإنه تحدث أحياناً عملية من نفس نوع عمليات الاتحاد الكيميائي"(فلوجل 1979، 58).
غير أن ميل لا يختلف مع والده حول أصول هذه العمليات. فهي- في رأيه- لا تحدث عبر التفاعل بين الإنسان ومحيطه، وإنما هي نتاج النشاط الروحي(الداخلي) للذات. ويترجم هذا الرأي موقف ميل الابن من علاقة الذات بالموضوع، والنفس بالواقع الخارجي. حيث أنه يستبعد وجود عالم موضوعي خارج الذات ويتميز عنها، وينظر إلى هذا العالم بوصفه بناء سيكولوجيا قائماً على أساس الثقة في إمكانية مجموعة معينة من الإحساسات، يعتبر تزامن حدوثها وتعاقبه شرطاً لازماً لنشوء العمليات النفسية الأرقى كالتذكر والتفكير.
وبصرف النظر عن اختلاف الزاوية التي تناول ج.س.ميل وأ.بين من خلالها الموضوع، فإنهما يقفان موقفاً متماثلاً في النتيجة. فقد عمل الاثنان لتحقيق غاية واحدة، متأثرين بالاكتشافات العلمية، الأول في ميدان الكيمياء، والثاني في ميدان وظائف الأعضاء.
لقد شدد بين على أهمية دراسة الجهاز العصبي عند الإنسان وتعيين الوظائف التي يقوم بها والحقيقة أنه لم يفعل ذلك بدافع التعرف على العمليات الفيزيولوجية باعتبارها بعداً أو أساساً مادياً للعمليات النفسية، بل كان، بالنسبة له، غاية بحد ذاته. فهو عندما يتحدث في مؤلفيه "الحواس والعقل"(1855) و"الانفعالات والإرادة"(1859) عن المخ والأعصاب والعضلات وما تقوم به من وظائف، لم يكن يقصد من وراء ذلك ربط هذا الجانب(الفيزيولوجي) بالجانب النفسي للإنسان بقدر ما كان يحرص على إقامة حاجز يفصل بين الجانبين، وتأكيد عدم وجود نقاط أو لحظات تضيق عندها المسافة الفاصلة بينهما لتفسح المجال أمام تقاطعهما أو حتى تقاربهما. وهذا الأمر لم يدعه بين في دائرة التخمين والشك، ولم يتركه لاستنتاجات القارئ، بل أنه لم يدخر وسعاً في إبرازه حينما طرح مفهوم "التوازي النفسي والفيزيولوجي" الذي لا يعني سوى شيء واحد، هو استقلال العضوية عن العقل وأن كلاً منهما يقوم بوظائفه بمعزل عن الآخر.
اشتغل بين في تدريس المنطق في جامعة ابردين. وبذل الكثير من الجهد كي يصبح أستاذاً لعلم النفس. ولكنه أخفق في تحقيق طموحه. ولكي يدلل على كفاءته في ميدان علم النفس ويعبر عن ميله نحوه ألف، بالإضافة إلى كتابيه المذكورين، كتاباً آخر تحت عنوان "التربية كعلم". ويأخذ بين من خلال مؤلفه هذا على الفلاسفة والفيزيولوجيين بصورة خاصة مغالاتهم في تفسير العمليات العقلية ونظرتهم الخاطئة إلى أصولها وآليات نشوئها وتطورها. وبعد أن يبسط آراء العديد منهم يعقد مقارنة بينها ليصوغها، صياغة مبتكرة، ويضع تنظيماً جديداً لها يتحدد من خلاله موقفه المتميز. وخلاصة محاولته تتمثل في تقديم تفسيره المبسط لمستويات النشاط النفسي. حيث يجد أن هذا النشاط يبدأ بالحركات الخارجية مع الأشياء المادية وينتهي بالعمليات الذهنية الداخلية مروراً بالإحساسات والتصورات. وتتكون المستويات العليا من النفس، حسب اعتقاده، على قاعدة الارتباطات الأولية بين الاستجابات البسيطة التي يقوم بها الإنسان. فالإحساس اللمسي وما يحدثه على الصعيد الانفعالي من شعور بالرضا واللذة، مثلاً، هو الأساس في نشوء الحالات الانفعالية الإيجابية لدينا إزاء الآخرين والأشياء. وهنا يطرح أ. بين رأيه في الاستجابات الأولية أو "المحاولات والأخطاء" ويعتبرها مبدأً خاصاً تخضع له سلوكياتنا اليومية في تشكلها وتطورها. وتبعاً لذلك ينظر إلى التفكير على أنه اختيار لتركيب مضبوط من الكلمات يتم على نفس الأساس الذي يبنى عليه اختيار الحركات الضرورية لاكتساب المهارات. كتب أ. بين يقول: "تعتبر قاعدة(المحاولة والخطأ) الملاذ الرئيسي والنهائي في جميع العمليات الصعبة التي تتم من أجل الوصول إلى هدف أو قصد"(1868، 574).
إن طموحات أ. بين العريضة ومساعيه من أجل إقامة علم يعنى بدراسة الحياة العقلية وآراءه التي جمع في عرضها بين الوضوح والتسلسل والبساطة كانت هدفاً لحملات النقد والمعارضة مثلما كانت عامل حفز وتشجيع بعض العلماء البارزين على تأملها والكشف عما هو جديد فيها والإفادة منها في بناء فكره السيكولوجي.
وإذا كانت قوانين نيوتن قد انعكست على أفكار جيمس ميل وجون ستيوارت ميل والكسندر بين وأثرت في أفكارهم، فإن تطور المعرفة في ميدان علم الأحياء في أواسط القرن التاسع عشر أخذ يملي على الباحثين فهماً جديداً للعلاقة بين النفس والعضوية، الأمر الذي دفعهم نحو البحث عن الصلات والروابط القائمة بين علم النفس والبيولوجيا التطورية، وما فعله سبنسر يعتبر أولى المحاولات الجادة في هذا السبيل.
ترجع نزعة سبنسر التطورية واهتمامه بالظواهر النفسية وارتقائها إلى اطلاعه المبكر على آراء مشاهير المختصين في علوم الأرض والأحياء. وحسب ما رواه المؤرخون فقد قرأ كتاب "الجيولوجيا" الضخم للعالم ليل وهو في التاسعة عشرة من العمر.
بسط سبنسر آراءه في مجموعة من المقالات والكتب التي يتصدرها كتابه "أسس علم النفس" ولقد جلبت له الطبعة الثانية من هذا الكتاب(1870-1872م) شهرة واسعة كمؤسس لعلم النفس.
ينظر واضع "الأسس" إلى التطور باعتباره مفهوماً عاماً وشاملاً لكافة الكائنات في الطبيعة، وينطبق على جميع مظاهر النمو ومستوياته، فهو، بالنسبة له: "تغير من حالة متجانسة غير محددة وغير متماسكة إلى حالة متمايزة، محددة ومتماسكة". وما يعنينا، هنا، ليس هذا القانون الشامل بحد ذاته، وإنما مرتسماته على السلوك بصورة عامة. ولتعيين هذه المرتسمات لجأ سبنسر إلى ربط مظاهر هذا السلوك بحقائق البيولوجيا التطورية، مما مكنه من وضع خطة لإعادة تنظيم علم النفس على أسس جديدة.
اعتمد سبنسر في وضع خطته على الأطر العامة للمذهب الارتباطي، مستعيناً بقانونها الأساسي في تفسير مختلف أنماط الحياة. ولما كانت الحياة، برأيه "عملية تكيف مستمرة للعلاقات الداخلية مع العلاقات الخارجية" فإنه ينبغي النظر إلى الشعور كمظهر معقد من مظاهرها في ضوء التكيف البيولوجي. فما يقال عن العالم العضوي يصح على النفس. والقوانين التي يخضع لها الأول أثناء تطوره هي نفس القوانين التي نفسر بها نشوء السلوك وارتقاءه. إذ ما الفائدة من الوظائف النفسية إن لم تكن سلاحاً أو أداة تساعد العضوية في صراعها من أجل البقاء؟ وبهذا السؤال الذي يطرحه سبنسر مستنكراً أي فصل بين ما هو عضوي وما هو نفسي يقدم تصوره الجديد لنشأة النفس وتجلياتها المتعددة. فهو يقرر أن ذلك يتم بفعل الاصطفاء الطبيعي كيما تستطيع العضوية من التكيف مع الوسط، والبقاء على قيد الحياة.
ومن زاوية المهمة الأساسية لجميع التطورات التي تشهدها العضوية وحصرها في التكيف نظر سبنسر إلى الوقائع النفسية في ارتباطها بالعلاقات القائمة في الوسط الخارجي وليس من خلال ارتباطها بالعمليات العصبية التي تتم داخل العضوية أثناء تفاعلها مع الخارج كما رأى بعض الارتباطيين. إن علم النفس، والحالة هذه "يتميز عن سواه من العلوم التي يقوم على أساسها في أن موضوعاته تشمل الظواهر الداخلية والظواهر الخارجية في آن معاً. فبينما تعد الارتباطات بين الظواهر الداخلية مادة الفيزيولوجيا والارتباطات بين الظواهر الخارجية موضوعاً لعلوم أخرى، يكون موضوع علم النفس لا العلاقة بين الظواهر الداخلية، ولا العلاقة بين الظواهر الخارجية أيضاً، وإنما العلاقة بين هاتين العلاقتين"(132، 1885، Spenser).
وعلى هذا النحو يجد سبنسر أن الظواهر النفسية هي نتاج التفاعل، بل الصراع المستمر بين العضوية والبيئة، وهي حصيلة تكرار سلسلة من الاستجابات التي ترد بها الأجهزة أو الأدوات الداخلية على المثيرات الخارجية. وما دامت شروط التحدي موجودة وأسباب التهديد قائمة، فإن على الكائن الحي "الإنسان والحيوان" أن يكون بجسمه ونفسه مستعداً على الدوام لرد التحدي ودفع التهديد. وهذا يستلزم تطور الأجهزة العضوية والنفسية حسب ما يمليه قانون الاصطفاء الطبيعي. ويعرف سبنسر هذا على المستوى الفيزيولوجي بأنه التغيرات المتزامنة والمتعاقبة التي تطرأ على العلاقات العصبية. أما على المستوى السيكولوجي فهو المتغيرات المتعاقبة التي تحدث في الوعي. وينتقل سبنسر في تحليله لظواهر الوعي عند الإنسان وظروف نشأتها من التطور الفردي إلى التطور النوعي، محاولاً ربط السمات المعقدة والبسيطة التي يتسم بها سلوك الفرد بالتغيرات التي تطرأ على هذه الظواهر في مجرى حياته. ويخلص إلى القول بأن الخبرة التي يكتسبها تنتقل إلى أبنائه عن طريق الوراثة.
إن سبنسر، بتأكيده على أهمية العوامل الوراثية في انتقال الخصائص النفسية، ينحاز إلى معسكر أولئك الذين يرون في تاريخ السلالة مصدراً أساسياً لقدرات أفرادها والحكم على مستوى ذكائهم. وقد أعرب كثير من العلماء عن شكوكهم في إمكانية ميل الصفة التي يكتسبها الفرد إلى أن تصبح "ملكية فطرية للنوع كله". يقول فلوجل: "وباعتناق سبنسر لهذه الفكرة عرض نفسه للهجوم على أساس أنه قد غالى في تقدير ميل الصفات المكتسبة للانتقال، هذا إذا كانت تنقل على الإطلاق"(1979، 85).
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح