ولقد وجد فرويد في الدعوة التي وجهها إليه ستانلي هول رئيس جامعة كلارك ـ وورشستر في أيلول(سبتمبر) عام 1908، فرصة سانحة لتوسيع دائرة نشاطه ونشر أفكاره. وهناك بسط نظريته في خمس محاضرات جمعها فيما بعد ونشرها تحت عنوان "محاضرات في المدخل إلى التحليل النفسي".
ومما ينبغي إبرازه في هذا السياق هو ذلك الأثر الإيجابي الذي تركته زيارته للولايات المتحدة الأمريكية على صعيد حركة التحليل النفسي، الأمر الذي حدا به إلى التفكير في تأسيس رابطة دولية للمحللين النفسيين. وقد استغل فرصة انعقاد المؤتمر الثاني للتحليل النفسي في مدينة نورمبرغ عام 1910 فاختار فرنتزي وطلب منه عرض هذا الاقتراح على المؤتمرين. فلاقت الفكرة استحسان الجميع وتمت الموافقة على إنشاء الرابطة. وباقتراح من فرويد صوت الحاضرون لصالح يونغ لكي يكون رئيساً لها، واختاروا مدينة زيوريخ لتكون مقرها الدائم. بيد أنه سرعان ما بدأ الخلاف الفكري يطبع علاقة فرويد بعدد من أعضاء الرابطة. ولم يمضِ عام على تأسيس الرابطة حتى أعلن أدلر انفصاله عن فرويد، وتبعه شتيكل عام 1912، ثم يونغ عام 1913.
وعلى الرغم مما أثارته تلك الانقسامات من مخاوف على واقع حركة التحليل النفسي ومستقبلها لدى أعضاء الرابطة، فقد بقي فرويد متمسكاً بآرائه ومتحمساً لتطويرها وتعميقها ومسخراً كل جهوده وقدراته لجمع الأدلة والشواهد على صوابية نهجه وضرورة الاستمرار فيه. وتجسد ذلك في ميله نحو الفلسفة، وعلم الاجتماع، والدين، والأنتروبولوجيا، واهتمامه بما قيل أو كتب في هذه الميادين عن مكانة الغريزة الجنسية في الوعي الاجتماعي والممارسة البشرية وصولاً إلى مقاربات يجد فيها ومن خلالها البعد المادي والجذور التاريخية لأطروحاته. ولقد ابتغى من وراء بحثه في التاريخ البشري العثور على ما يثبت وجود الحقيقة الأوديبية فينا. كما أراد أن يتلمس في الروابط الاجتماعية القديمة ما يفسر الأعراض المرضية لدى الإنسان المعاصر. وقد أشار إلى ذلك بقوله: "وإني لأعلق أهمية كبرى على مشاركاتي في سيكولوجيا الدين،تلك التي استهلت عام 1907 بعقد تشابه ملحوظ بين عصاب الأفعال القهرية وبين الطقوس والشعائر الدينية. وقبل أن أفهم الصلات العميقة، وصفت عصاب القهر بأنه دين خاص مشوّه، والدين بأنه عصاب قهري عام. ثم أدت بي ملاحظات يونغ الصريحة عام 1912 في المشابهات القوية بين منتجات العصابيين النفسية وبين منتجات الشعوب البدائية إلى توجيه انتباهي إلى ذلك الموضوع"(فرويد، 1967، 76).
وللتدقيق في المقارنات والمشابهات التي شجعت ملاحظات يونغ عليها قرر فرويد اللجوء إلى ماقاله علماء الأجناس والسلالات والاحتكام إلى دراساتهم. فكانت مؤلفات مثل "الطوطمية والزواج الخارجي"، و"الغصن الذهبي"، لفريزر و"ديانة الساميين" لروبرتسون سميث أبرز ما اعتمد عليه من مصادر في هذا الميدان. حيث أخذ عن الأول ما أورده حول "تحريم قتل الطوطم، وتحريم الاتصال الجنسي بأية امرأة من عشيرة الطوطم"، وعن الثاني الطقوس الطوطمية المتمثلة في قتل الطوطم المقدّس مرة كل عام بمشاركة جميع أفراد العشيرة وأكله من قبلهم وفق مراسم محددة، وما يعقب ذلك من احتفالات وحزن ونواح. ولقد رأى فرويد في الخلفية التاريخية لهذه العلاقات والطقوس بداية تكون الرغبة البشرية في قتل الأب والزواج بالأم، وتشكل عقدة أوديب.
وعلى الرغم من ضعف الوثائق والمعطيات التي اعتمد عليها كل من فريزر وسميث وافتقارها إلى السند الموضوعي الصحيح، كما وصفها الباحثون، فقد قام فرويد بتعميمها، ووضع فرضية القبيلة البدائية التي كان يتزعمها أب طاغية استحوذ على جميع نسائها، ولم يسمح لأحد من أولاده بمشاركته، بل وعمل فيهم قتلاً وطرداً وتشريداً، تحسباً لأي مساس بسلطته وسلطانه.وكرد فعل على بطشه وطغيانه اجتمع الأبناء ذات يوم فقتلوه وافترسوه. وسرعان ما نشب الخلاف بينهم. إلا أنهم تحت وطأة الشعور بالإخفاق والندم تمكنوامن رأب صدعهم وجمع كلمتهم، وتشكيل قبيلة تحكمها قوانين الطوطمية. وتعاهدوا على العمل معاً من أجل تجنب كل ما من شأنه تكرار فعلتهم، فاتفقوا على التخلي عن الاتصال الجنسي بالنسوة اللائي كن سبباً في قتلهم لأبيهم، وأن يتخذوا من النساء خارج قبيلتهم موضوعاً لإشباع رغبتهم الجنسية. وصاروا يحيون ذكرى مقتل الأب على شكل وليمة تقام مرة كل عام تكفيراً عن خطيئتهم.
ويعتقد فرويد أن هذه القصة تكشف عن سر ظهور الدين والأخلاق وما يشتملان عليه من طقوس وشعائر وقيود. وقد عبر عن اعتقاده بقوله: "والآن سواء تصورنا أن احتمالاً هذا شأنه كان واقعة تاريخية أو لم يكن، فهو قد أدخل نشأة الدين ضمن مجال عقدة أوديب، وأقامه على أساس الازدواج العاطفي الذي يسيطر على هذه العقدة. وبعد أن لم يعد الحيوان الطوطم يقوم مقام الأب، أصبح هذا الأب ـ موضع الخوف والبغض، والتقديس والغيرة في آن واحد ـ أصبح نموذجاً أولياً للإله ذاته. وقام في نفس الابن صراع بين التمرد على أبيه وبين محبته له خلال محاولات متتالية للتوفيق بينهما، بغية التكفير عن فعلة اغتيال الأب من ناحية، وتدعيم المنافع التي أثمرت عنها من ناحية أخرى. هذه النظرة للديانة تلقي ضوءاً قوياً على الأساس السيكولوجي للديانة المسيحية، التي لا تزال "وليمة الطوطم" توجد فيها مع تحريف ضئيلٍ على شكل التناول(فرويد، 1967، 79). ولكي يرد فرويد عن نفسه تهمة التعصب الديني، ويغلق جميع الأبواب أمام دعاوي التهجم على الديانات الأخرى، فقد سارع إلى القول بأن الإشارة الأخيرة إلى الطوطمية واعتبارها أساساً للمسيحية مقتبسة عن الآخرين:"... إن تلك الملاحظة الأخيرة لم تكن ملاحظتي أنا، بل توجد في مؤلفات روبرتسون سميث وفريزر."(فرويد، 1967، 79). ويمثل هذا الاستنتاج الفكرة الأساسية التي قدمها في كتابه "الطوطم والتابو"(المقدس والمحرم) الذي تردد طويلاً في نشره بسبب ارتيابه في صحة محتواه، ولاسيما تلك الأحداث والوقائع التي تصور بداية العلاقات الاجتماعية والقائمة على المعايير الأخلاقية والأبعاد النفسية. وقد دفعته ريبته إلى الاستئناس بآراء تلاميذه والمقربين إليه في هذا العمل. ثم حزم أمره وقرر نشره عام 1913. وعندما سئل عن سر تردده، أمام هذه الخطوة، وهو صاحب "تفسير الأحلام" وبلوغ قلقه إلى هذا المستوى أجاب: "في تفسير الأحلام كنت أتكلم عن رغبة قتل الأب، أما الآن فإني أصف الحدث الفعلي: وشتان مابين الرغبة والفعل"ـ(رزق الله،
بلا تاريخ، 80).
يتألف "الطوطم والتابو" من أربع مقالات نشرت في مجلة(إيماجو ـ IMAGO) وهي على التواليتهيب سفاح القربى، التابو وازدواجية الانفعالات العاطفية، الأحيائية والسحر وطغيان الأفكار، العودة الطفولية إلى الطوطمية). وقد سعى فرويد من خلالها: "..... لتطبيق وجهات نظر ونتائج التحليل النفسي على مسائل غير محسوسة في سيكولوجية الشعوب"(فرويد، 1983، 19). وذلك بتحليل كل من الطوطمية والتابوية والقيام بإسقاطات تاريخية على واقع النمو النفسي للإنسان الحالي. وخلص إلى أن الطوطمية"... مؤسسة اجتماعية ـ دينية غريبة عن شعورنا الحالي، جرى منذ زمن بعيد التخلي عنها واستبدالها بأشكال أكثر حداثة ، ولم تخلف وراءها سوى آثار طفيفة في أديان وأعراف وعادات الشعوب الحضارية المعاصرة، وتحتم عليها أن تلاقي تقلبات كبيرة حتى لدى تلك الشعوب التي لا تزال تتمسك بها حتى اليوم"(فرويد 1983، 20).
أما التابوية فإنها لا تزال تعيش فينا. إنها برأيه، القوة المطلقة التي لا نملك إلا التسليم بها والخضوع لسلطانها. فلئن استطاع التقدم الحضاري للمجتمعات البشرية أن يحد من نفوذ الطوطمية فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للتابو وسلطته.
وباختصار فإن غرض فرويد من عمله هذا هو إثبات أن عقدة أوديب هي مصدر التراكم الحضاري الذي حققته الإنسانية، وسر تطور النوع البشري، مثلما هي شرط نمو الفرد وتبلور سمات شخصيته.
إن نظرية فرويد في نمو الغريزة الجنسية لدى الإنسان وما تضمنته من مفاهيم كعقدة أوديب ومراحل تمركز الشحنات الليبيدوية وانتقالها من عضو إلى آخر، لا تقوم على أسس علمية. لذا فإنها ـ كما جاء على لسان فالون ـ أقرب إلى الأسطورة منها إلى العلم كونها لا تخضع لقوانينه، ولا يمكن إثبات صدقها أو التحقق من صحتها عن طريق التجربة. ولكن فرويد لم يأبه كثيراً بالاعتراضات والانتقادات. ومضى في سبيله ليطور نظريته ويعدل أفكاره في ضوء ممارساته العيادية. فقد اهتدى منذ عام 1920 إلى وضع نظام نفسي جديد يتألف من "الهوID" و"الأناEGO" و"الأنا الأعلى SUPER EGO" بدلاً من النظام السابق الذي تقوم النفس فيه على اللاوعي وما قبل الوعي والوعي. ولعلنا نجد في كتبه "ما فوق مبدأ اللذة"،(1920) و"سيكولوجية الحشد وتحليل الأنا"(1921) و"الأنا والهو"(1923) و"الكبت والعرض والقلق"(1926) عرضاً لبنية الجهاز النفسي وموقع اللاوعي فيه ووظيفة كل من الهو والأنا والأنا الأعلى وعلاقتهم بعضهم ببعض. فالهو يعتبر النظام الأصلي من الجهاز النفسي الذي لا يعرف التغير أو التبدل. ويتكون من كل ماهو موروث وموجود سيكولوجياً عند الولادة بما في ذلك الغرائز. وهو خزان الطاقة النفسية الذي يزود الأنا والأنا الأعلى بها. كما أنه يستمد طاقته من العمليات الجسمية التي يتصل بها اتصالاً وثيقاً. وقد عرفه فرويد بأنه"الواقع النفسي الحقيقي". والهو يرفض أية زيادة في الطاقة. وإن حدث ذلك فإن الشخص يعاني من توتر، مما يدفعه إلى القيام بما من شأنه تفريغ الشحنات الطاقية الزائدة. وهذا ما جعل فرويد ينظر إليه كمحرك لنشاط الفرد. والهو متمرد على قوانين العقل والقيم الأخلاقية. إنه ـ قوة عمياء لا تخضع إلا لـ"مبدأ اللذة".
وهكذا يعمل الهو على التخلص من الضيق والألم اللذين يحدثهما التوتر وينشد اللذة. وسبيله في ذلك الأفعال الانعكاسية الفطرية كالعطس والمص والغمز وسواها. ويستخدم لهذا الهدف أيضاً العمليات الأولية التي تتجلى في الاستجابات السيكولوجية البسيطة. إذ بفضلها تتشكل صور موضوعات إشباع الحاجات الفطرية التي تساعد على تفريغ الشحنات الزائدة من الطاقة وتخفف من توتر الكائن البشري. وفي هذه الحالة يصبح تصور الأشياء والاحتفاظ بها في الذاكرة مكافئين لإدراكها. وتؤدي هذه العملية إلى خفض التوتر والشعور باللذة تماماً مثلما يحدث خلال تتابع الصور في الحلم.
غير أن العمليات الأولية بحد ذاتها لا تحقق الهدف المنشود. ذلك لأنها ليست قادرة على تخليص الشخص من الطاقة الزائدة تماماً وبصورة دائمة. فالصور المختزنة في الذاكرة عن الطعام أو الماء لا تشبع الجائع ولا تروي العطشان. وقد حملت هذه الحقيقة فرويد على الاعتقاد بأن سبب تكون العمليات النفسية الراقية يتمثل في العمليات النفسية الثانوية التي تؤلف مضمون الجزء الثاني من النظام النفسي وهو "الأنا".
ولما كان بقاء الإنسان واستمرار الإنسانية هدفاً نهائياً للوجود الإنساني؛ فإن على الفرد منذ طفولته المبكرة أن يلبي حاجاته بالفعل وليس بالتصور أو الوهم. ويستدعي منه ذلك أن يتعلم التمييز بين صور الأشياء وإدراكها الفعلي. وما شروع الطفل بوضع مخططات ذهنية ومحاولة تطبيقها بهدف اختبار الواقع إلا الخطوة الأولى في تكون الأنا. ومن زاوية النظر هذه يرى فرويد أن "الأنا" هو الجهاز الإداري المنفذ للشخصية. وهو يتحكم بـ"الهو" وينظمه من جهة، ويدير شؤون "الأنا الأعلى" ويضبطها من جهة ثانية، باعتباره جزءاً من "الهو" لصيقاً به ومنفتحاً على العالم الخارجي. وحين يحسن "الأنا" القيام بوظائفه ويتمكن من التوفيق بين حاجات "الهو" ومتطلبات "الأنا الأعلى"، فإنه يضمن للشخصية انسجامها وتوازنها. ولكنه حين يميل إلى أحد الطرفين ويقع تحت تأثيره، فإنه يسبب في اختلال توازن الشخصية واضطرابها.
ويصور فرويد علاقة "الأنا الأعلى" على أنها علاقة تسلط وتدمير. "فالأنا الأعلى" لا يسعى إلى إخضاع "الأنا" لسلطته فقط، بل وإلى نفيه والقضاء عليه. ويتجلى هذا المسعى في الإحساس بالذنب الذي يعاني منه مرضى العصاب، والذي ينشأ تحت ضغط "الأنا الأعلى". ومن هنا يفسر فرويد ظاهرة القلق. فيتحدث عن مصدرين اثنين للقلق الذي يصيب "الأنا": مصدر داخلي، وآخر خارجي، ويميز ثلاثة أنواع من القلق: القلق الواقعي، أو الموضوعي، ومصدره العالم الخارجي، والقلق الأخلاقي، ومصدره "الأنا الأعلى"، والقلق العصابي ومصدره "الهو".
ويحدد فرويد مهمة التحليل النفسي في تخليص "الأنا" من مختلف أشكال الضغوط، والعمل على زيادة قوته إلى المستوى الذي يجعله قادراً على أداء وظيفته بصورة متوازنة.
ولكي يتحرر "الأنا" من التوتر الناجم عن ضغوط "الهو و"الأنا الأعلى" ومتطلباتهما التي غالباً ما تكون متناقضة، يلجأ الفرد إلى اتباع أساليب محددة يطلق عليها فرويد "آليات الدفاع"، وهي: الكبت، والإسقاط، والتثبيت، والنكوص، والتصعيد(التسامي). ويقصد فرويد بالكبت تنحية المشاعر والأفكار من ساحة الوعي إلى ساحة اللاوعي تنحية نشطة. ولدى انتقالها إلى اللاوعي.
فإنها تستمر في تأثيرها، فتحفز الفرد على الإتيان بسلوكيات معينة، ومع أن الشخص لا يعيها، إلا أنه يحس بثقلها وضغطها، ويعتوره بسببها الإحساس بالقلق.
وبالإسقاط يشير فرويد إلى تحويل القلق العصابي أو القلق الأخلاقي إلى قلق موضوعي بغية التخفيف منه وتسهيل مواجهته.
والتثبيت يعني، عنده، توقف النمو النفسي عند مستوى معين من مستوياته المبكرة أو عند مرحلة من مراحله الأولى.
ويحدد النكوص بأنه الانحدار أو الرجوع إلى الدرجات الدنيا من السلوك والتفكير.
أما التصعيد فهو انتقال الطاقة الجنسية المحرمة إلى نشاط مقبول من جانب الفرد والمجتمع. ويعتبر فرويد الإبداع أرقى أشكال التصعيد وأكثرها سمواً، يقول فرويد:"ونستطيع أن نرى بسهولة أن الأنا هو ذلك القسم من الهو الذي تعدل بنتيجة تأثير العالم الخارجي فيه تأثيراً مباشراً بواسطة جهاز الإدراك الحسي ـ الشعور. وفضلاً عن ذلك فإن الأنا يقوم بنقل تأثير العالم الخارجي إلى الهو، وما فيه من نزعات، ويحاول أن يضع مبدأ الواقع محل مبدأ اللذة، الذي يسيطر على الهو. ويلعب الإدراك الحسي في الأنا نفس الدور الذي تلعبه الغريزة في الهو. ويمثل الأنا ما نسميه الحكمة وسلامة العقل، على خلاف الهو الذي يحوي الانفعالات(فرويد 1985 ، 42 ،43).
ويتجلى "مبدأ الواقع" في أن يحتمل المرء التوتر وينتظر تفريغ الطاقة حتى يتم إحضار الموضوع الذي يلبي الحاجة، ويتضح من خلال ذلك أن هذا المبدأ لا يلغي اللذة التي ينشدها الهو، بل إنه يسعى إليها بشكل واقعي ومناسب.
أما "الأنا الأعلى" فإنه يقوم على القيم الأخلاقية والمعايير الاجتماعية. ولذا فهو يمثل الجانب المثالي في نظام الشخصية، الذي يتولى مراقبة كيفية تفريغ الطاقة النفسية بتعليق "مبدأ الواقع" و"مبدأ اللذة". ويتشكل "الأنا الأعلى" كاستجابة للممكنات والممنوعات التي تتضمنها توجيهات الوالدين وقرارات وأحكام المؤسسات الاجتماعية المختلفة. وبتقمص الطفل للقيم الأخلاقية السائدة في المجتمع يتوجه بأفعاله نحو مراعاة ما ينبغي أن يكون ويعرض عما هو كائن بالفعل. ويعني هذا أن "الأنا الأعلى" يعمل لبلوغ الكمال. وفي مسعاه يقوم بكف اندفاعات "الهو" ذات الطابع الجنسي أو العدواني على وجه الخصوص من ناحية، وبإقناع الأنا بتجاوز الموضوعات الواقعية وإحلال المثل السامية مكانها من الناحية الثانية. وهكذا فـ"الأنا الأعلى" يشبه "الهو" في عدم خضوعه لأحكام العقل وقواعد المنطق، و"الأنا" في محاولته السيطرة على الغرائز وتقنين عملية إشباعها. ولكنه، بالمقابل، يختلف عن "الأنا" في أن محاولته لا تقتصر على تعليق الإشباع وتأجيله، وإنما يعمل على الحيلولة دون ذلك إلى إشعار تحدده قيم المجتمع.
ويُبرز هذا النموذج الجديد ذو الأبعاد الثلاثة تنوع الدوافع لدى الإنسان. "فالهو" يمثل الدافع البيولوجي، و"الأنا"يمثل الدافع النفسي الفردي(الذاتي)، و"الأنا الأعلى" يمثل الدافع الاجتماعي. ولكن هذه الدوافع تتخذ عند فرويد أشكالاً جامدة. فالدافع البيولوجي يقتصرعلى طاقة الليبيدو، والدافع الاجتماعي ينحصرفي الاتجاه النفسي للطفل. وبدا "الأنا المسكين" ـ على حد تعبير فرويد نفسه ـ ينوء بكلكل مهمة التوفيق بين مطالب "الهو" وسلطات "الأنا الأعلى"، ويواجه الأخطار المحدقة به "من العالم الخارجي،ومن ليبيدو "الهو"، ومن قسوة "الأنا الأعلى"(فرويد، 1985، 89)، الأمر الذي اعتبره فرويد سبباً في الإصابة بالأمراض النفسية.
وفضلاً عن ذلك فإن "الهو" كعنصر أولي وبدائي، يتمتع بقوة عمياء، هو الأرضية التي ينبثق عنها "الأنا" و"الأنا الأعلى" " مادام الأنا الأعلى" هو أول تقمص يبدأ به تكون "الأنا" بعد أن "يحل محل الشحنات النفسية التي كانت تصدر عن الهو والتي قد توقفت بعد ذلك"(فرويد، 1985، 78).
واشتمل النموذج الجديد أيضاً، زيادة على أقسام الشخصية، القوى المحركة للسلوك، فبعد أن شاهد فرويد ويلات الحرب العالمية الأولى، ووقف على ما تركته من موت ودمار وخراب، وما سببته من تشوهات واضطرابات في الأجسام والنفوس، أضاف إلى الايروس أوالغرائز الجنسية، غرائز أخرى، هي غرائز الموت. كتب فرويد يقول: "وقد اقتضت بعض الاعتبارات النظرية التي أيدها علم البيولوجيا أن نفترض غريزة الموت".(فرويد 1985، 67)، ويزعم أن تكون هذه الغريزة يرجع إلى تاريخ موغل في القدم، ففي أحد العصور الجيولوجية عرفت مصادر الكون مستوى من الاتحاد فيما بينها، تحولت معه إلى كائنات عضوية. ويتصور فرويد أن هذه الكائنات لم تعمر طويلاً، وعادت إلى حالتها السابقة، أي إلى الحالة غير العضوية. ومع بداية نشوء الحياة على الأرض، ورثت الكائنات الحية عن تلك العناصرنزعتها إلى الفناء. وهكذا فإن هذه الغريزة توجد في جميع الأحياء على الأرض. وبوجودها ينزع كل حي للعودة إلى الحالة التي كان عليها قبل ولادته، أي إلى حالة اللاعضوية.
وتتجلى غريزة الموت في النزعة العدوانية الموجهة نحو تدمير الذات أو تدمير الغير. وفي الوقت الذي يفصح فيه فرويد عن شكّه في تضاد الغريزة الجنسية وغريزة الموت، فإنه يترك الباب مفتوحاً أمام النشاط التحليلي الأكلينيكي للتدليل على اتحادهما. ويفترض بصورة أولية أن وجود إحداهما يقضي بحياد الأخرى أو بحلولها محلها.
وفي هذا المعنى يقول: "غير أن التمييز بين مجموعتي الغرائز لا يبدو مؤكداً تأكيداً كافياً، ومن المحتمل أن تأتي حقائق التحليل الأكلينيكي مخالفة لذلك"(فرويد، 1985، 70). ولكنه يستدرك ويشير إلى خبرته الشخصية قائلاً:"وتبين الملاحظة الأكلينيكية الآن أن الحب يكون دائماً مصحوباً بالكره(التناقض الوجداني) بشكل لم يكن متوقعاً، وأن الكره غالباً ما يكون مقدمة للحب في العلاقات الإنسانية... بل إنها تبين أيضاً أنه كثيراً ما يتحول الكره إلى حب، والحب الى كره. فإذا كان هذا التحول شيئاً أكثر من مجرد التعاقب الزمني، لأصبح من الواضح إذ أنه لا يوجد دليل لذلك التمييز الأساسي بين غرائز الحب وغرائز الموت، وهو التمييز الذي يقتضي وجود عمليات فيزيولوجية متعارضة"(فرويد، 1985، 70).
وفي مجرى الحديث عن الغرائز يعترف فرويد صراحة بصعوبة هذا الموضوع وغموض العديد من جوانبه. ولهذا فإنه يقيم آراءه فيه على الفرضيات وليس على معطيات التجربة الميدانية. لأن معرفته في هذا المجال تبقى عامة، وتقتصر على مجرد الإشارة إلى أن غرائز الموت تنجز وظيفتها بصورة حتمية وأكيدة. أما كيف تقوم بذلك؟، وكيف تستمر في عملها عبر علاقاتها المتقلبة بالغرائز الجنسية؟ فيظل أمراً مجهولاً، ومع ذلك فإن فرويد، لم يتردد في الحكم على أهمية تلك الغرائز في حياة الأفراد والجماعات البشرية واعتبارها السبب في اندلاع الحروب والعدوان والتدمير.
لقد ضاعفت فرضية وجود غرائز الموت لدى البشر من نزعة فرويد التشاؤمية ونظرته السوداوية إلى مستقبل الإنسانية. وبوسعنا أن نلاحظ ذلك
بوضوح في أعماله اللاحقة، خاصة في كتابيه "مستقبل وهم"(1927)، و"كدر في الحضارة"(1930)، وفي رسائله إلى أصدقائه. وهذا ما يبرزه مؤرخو علم النفس والتحليل النفسي. يقول كلفن هال: "لقد كان(فرويد ـ ب.ع ـ) يرى أن القوى غير المتعقلة في طبيعة الإنسان تبلغ من الشدة حداً يجعل للقوى المتعقلة فرصة ضئيلة للتغلب عليها. إن قلة محدودة من الناس هم الذين يستطيعون أن يحيوا حياة العقل. ولكن أغلب الناس يعيشون بالخرافات والخداع أفضل من أن يعيشوا في الحقيقة. لقد رأى فرويد عدداً عديداً من المرضى يقاتلون قتالاً عنيفاً للاحتفاظ بأوهامهم لكي لا يثقوا ثقة أعظم بقوة المنطق والعقل. إن الناس يقاومون معرفة الحقيقة عن أنفسهم. هذه النظرة التشاؤمية نجدها مبسوطة مصقولة في كتابه "مستقبل وهم". وإن كانت كامنة بين السطور في كثير من كتبه"(هال، 1970، 23).
إن القول بغرائز الموت ووظيفتها يعني ببساطة أن سلوك مجرمي الحرب وأفعال وتصرفات القادة والزعماء التي تؤدي إلى الاقتتال والتدمير أمر مسوغ طالما أن كل ذلك موجود لدى الإنسان على صورة غريزة أو طاقة فطرية موروثة. كما يستبعد أية محاولة لتجنيب الإنسان مخاطر الحرب ونتائجها المدمرة. ويعني ذلك أيضاً استحالة البحث في المجتمع والاقتصاد والسياسة والأخلاق عن أسباب الحروب والجرائم والقتل والاعتداء والانتحار مادام ذلك تفريغاً للشحنات الغريزية الموجودة لدى الفرد. و قد عبر فرويد عن ذلك في رسالة بعث بها إلى أنشتين عام 1931 أكد فيها فطرية النزعة العدوانية والتدميرية عند بني البشر، وعجزنا حيال جموحها وطغيانها.
ولعل من الأهمية بمكان أن نشير إلى أن النموذج الجديد الذي يعكس تصور فرويد المعدل للجهاز النفسي احتفظ بمكانة اللاوعي في شخصية الإنسان ودوره الريادي في تكون خصائصها وتطورها. وظل مؤسس التحليل النفسي وفياً لهذا المفهوم حتى آخر أيامه. فكتابه "الموجز في التحليل النفسي"، الذي بدأ بتأليفه في لندن(*) عام 1938 ولم يكمله بسبب وفاته عام 1939، يعتبر محاولة لصياغة نظريته في الشخصية ومركباتها ودينامياتها والأهمية المتميزة التي يكتسبها اللاوعي على صعيد تشكيل ملامحها وتبلورها.
ومن باب الإنصاف القول بأن لفرويد فضلاً في وضع اللاوعي داخل دائرة الضوء والوقوف عنده والتمعن فيه من أجل معرفة حدوده ومحتواه ونشاطاته ودوره في حياة الإنسان من غير أن ننسى مبالغته التي جعلت من اللاوعي ينهض بدور المحرك الأساسي لنشاط الشخصية وديناميتها. والحقيقة الموضوعية تفرض علينا أن نقول أيضاً بأن اللاوعي ليس من مبتكرات فرويد، وإنما هو أحد المفاهيم التي شغلت الكثير من الفلاسفة السابقين وأدلوا بآرائهم حولها. فالبحث في عمق الإنسان وباطنه لم يتوقف قط منذ أن ظهرت محبة الحكمة لدى الناس. وكان توزع أفعال البشر بين الخير والشر تدفع المفكرين إلى التساؤل عن أسباب ذلك. وقد اكتست إجاباتهم قديماً طابعاً مثالياً تمثل، على سبيل المثال، في الطبيعة الإنسانية ذات القطبية الثنائية. فإما أن تكون هذه الطبيعة خيرة، أو شريرة، أو أنها، في حالات أخرى، مزيج من الخير والشر. كما تمثل في تقسيم النفس إلى قوى عاقلة خاضعة، وأخرى شهوية مسيطرة. ويؤلف أصحاب الرأي الأخير تياراً متماوج الألوان، يبدأ بأفلاطون ويستمر حتى الآن، ماراً بديكارت وسبينوزا وكانت وهيوم وهيغل وفرويد نفسه وغيرهم.
ويعتبر ليبتنز أول من استخدم مفهوم اللاوعي عندما ميز عبر تأملاته في العقل البشري بين مستويين من العمليات العقلية: مستوى الأفعال الواعية، ومستوى الأفعال اللاواعية. ومنذئذ أصبح اللاوعي مفهوماً متداولاً بين المفكرين الذين تناولوا مسألة البنية النفسية.
ومن جانب آخر، أثارت فكرة ليبنتز مناقشات كثيرة وطويلة، تركزت حول إمكانية الإنسان على معرفة المستوى اللا وعي من الأفعال العقلية. فقد وقف الفيلسوف كانت من هذه الفرضية موقفاً إيجابياً. واعتقد أن بمقدور الإنسان معرفة مادعاه ليبنتـز "الإدراكات الصغيرة" أو ما أسماه هو بـ"التصورات الغامضة" معرفة غير مباشرة.
واحتل موضوع اللاوعي مكاناً هاماً في فلسفة هيغل. فقد انطلق هذا الفيلسوف من وجود مخبأ "لاواع" ومبهم في أغوار النفس الإنسانية. ووصف هذا المخبأ بأنه "عالم بلا حدود من الصور والتصورات الكثيرة التي ليس لها وجود في الوعي"(هيغل، 1972، ج3، 256، 257). وتحدث عن انتقال هذه الصور والتصورات وتحولها إلى وعي لتنضم إلى الخبرة الحياتية المباشرة للفرد.
أما آرثر شوبنهاور فقد ذهب مذهباً آخر في معالجة هذا الموضوع. حيث وجد في كتابه "العالم كإرادة وتصور"(1819) أن الإرادة هي أصل الأشياء وأساس كل ماهو موجود. وهي، بالنسبة له، قوة كونية عمياء، لا واعية، لا تخضع لأية قواعد منطقية أو أحكام عقلية أو أخلاقية. بينما اعتبر التصور مظهراً أولياً من مظاهر الوعي. وعن طريقه يتعرف الإنسان على الوقائع الوجودية.
ويبدو واضحاً ذاك البعد العالمي الذي أعطاه شوبنهاور للإرادة وتلك القدرة الخارقة التي منحها إياها باعتبارها علة الوجود. أما اللاوعي كمركب نفسي ذاتي فإنه يؤلف، في تصوره، حالة صغيرة ودقيقة من تجليات الإرادة الكونية اللاواعية. فهو ينشأ عنها أثناء التطور الإنساني.
وبالاعتماد على هذه المقدمة حدد شوبنهاور علاقة الوعي باللاوعي على النحو التالي: "إن الوعي هو الحالة البدائية والطبيعية للأشياء كلها. وبذلك يكون اللاوعي هو التربة التي منها تنمو لدى بعض أنواع الكائنات الحية زهرة الوعي السامية"(ليبين، 1981، 27).
وبذا يكون شوبنهاور قد مهد الطريق أمام ظهور تفسيرات ذات طابع لاعقلاني، كالتي قدمها فريدريك نيتشه(1844-1900م) وإدوارد فون هارتمان. فقد طرح نيتشه مسألة الإرادة والنزوع إلى السلطة، وحدد طبيعتها كقوة لا واعية مسؤولة عن كل ما يفعله الناس. وذهب هارتمان إلى القول بـ"ميتافيزياء اللاوعي". وعرض نظريته هذه في كتابه "فلسفة اللاوعي"(1869) وقد لاحظ ليبين أن هذه النظرية تتضمن جميع العناصر التي دخلت، فيما بعد، في نظرية فرويد:"الاعتراف بأهمية اللاشعور في النشاط الحيوي لكل إنسان، والوقوف ضد قصر النفس على الأفعال الشعورية وحدها، وتأكيد دور اللاشعور في الإبداع عند الفرد، ومحاولة تفسير تلك الروابط المتبادلة بين الشعور واللاشعور التي تجري في العالم الداخلي للإنسان، رغم أنه لا يعيها أحياناً"(ليبين،
1981، 27).
وإلى جانب الفلاسفة، كان علماء الطبيعة، بدورهم، يؤكدون وجود عمليات نفسية لا واعية. فقد قال فخنر بـ"الإحساس اللاواعي"، وهيلمهولتز بـ"الاستنتاج اللاواعي". وقد أشار كاربانتر، فيما بعد، إلى النشاط اللاواعي الذي يقوم به الدماغ البشري.
إن سنة التطور الفكري والعلمي تحتم علينا أن ننظر إلى الآراء المذكورة وما شابهها بوصفها الأرضية التي ظهرت عليها نظرية فرويد في اللاوعي.
وفي نفس الاتجاه يمكننا أن نمضي لتلمس الآثار التي خلفتها تعاليم هؤلاء الفلاسفة وغيرهم في موقف مؤسس التحليل النفسي من الدوافع الطبيعية وماتلعبه الغرائز الجنسية وغرائز الموت في نظره من دور في حياة الإنسان. ولعل هذه المهمة ليست بالأمر الصعب، إذا عرفنا أن تلك الآثار تتجسد في اقتباسات فرويد واستشهاداته والمراجع والمصادر التي يشير إليها في أعماله.
ولعلنا نتذكر الانطباع المتميز الذي سجله فرويد حول شخصية شاركو العلمية، وأنه لم يستطع مقاومة تأثيره أو إخفاء قوة جاذبية أفكاره وفضلها في توجيه انتباهه نحو الأسباب البعيدة لمرض الهستيريا. فهاهو يعيد على مسامعنا ما التقطه على لسان شاركو حينما كان هذا الأخير يصف ذات مرة حالة امرأة شابة مصابة باضطرابات عصابية: "في مثل تلك الحالات يكون الجنس دائماً هو أكثر الأشياء أهمية، دائماً، دائماً، دائماً"(فرويد، 1923، 26).
لم يكن شاركو ـ كما عرفنا في حينه ـ من ذوي النزعة الغريزية في تفسير الحالات المرضية التي كان يشرف على معالجتها. وأغلب الظن، أنه اعتمد في حكمه هذا على معطيات محددة ذات صلة مباشرة بأعراض مرضية خاصة ومتميزة. والكلام هنا يدور حول القصور الجنسي الذي يعاني منه زوج المريضة. ولكن عبارة شاركو التي همس بها إلى أحد زملائه استوقفت فرويد الذي كان يصغي إلى حديث الرجلين وهو على مقربة منهما. ووجدت لديه صدى كان يتسع ويتعمق بسرعة كلما ألحت عليه طموحاته ورغباته. وراح يجول ببصره وفكره في التراث الفلسفي والأنتروبولوجي والاجتماعي بحثاً عما يناسب منطلقه.
إننا نميل إلى التسليم بأن الإنشاءات الفرويدية لم تقم في فراغ، وأن التراث الإنساني هو من الغنى والتعدد والشمولية والتنوع، بحيث يمكن النظر إليه كبناء متدرج ومتكامل، ولو أنه، بطبيعة الحال، غير كامل، وينطبق هذا الكلام أكثر على القضايا الإنسانية بعامة والنفس أو الوعي بخاصة. فدوافع الأفعال الإنسانية هي إحدى المشكلات التي حظيت باهتمام المفكرين والباحثين منذ القديم. وقد ظهرت بشأنها آراء عديدة ومختلفة يصعب حصرها. ومن بين تلك الآراء ما يعتبر سلوك الفرد نتيجة لوجود الرغبة. ولكن مفهوم الرغبة بحد ذاته يختلف في قوته ودوره من مفكر إلى آخر. فقد قصر بعضهم دوره على جانب من السلوك(أرسطو)، ووسعه آخرون ليشمل مسؤولية الحفاظ على الجنس البشري(سبينوزا). بينما تحدّث فريق ثالث(أمبدوقل، مثلاً)، عن قوتين متعارضتين تحركان أفعالنا وتصرفاتنا. وهاتان القوتان هما الحب(أفروديت) والكراهية(آريس). ولا يخفى التشابه القائم بين ماجاء به فرويد وأمبدوقل. وهو ما اعترف به فرويد نفسه وأعطى رأيه من خلاله بأمبدوقل، واعتبره "أعظم وأبرز الشخصيات في الحضارة اليونانية"(ليبين، 1981، 45). كما اعترف بوجود تشابه بين رأيه ورأي شوبنهاور حول العلاقة بين غرائز حب البقاء وغرائز الموت. فعندما يؤكد مؤسس التحليل النفسي أن "الموت هو الهدف النهائي للحياة"، وأن جميع الغرائز والرغبات التي تنشأ على أساسها وتعبر عنها تتوجه بالكائن الحي عبر نشاطها وصراعها إلى ذلك الهدف، فإنه يعيد ماقاله شوبنهاور من أن "الموت هو الهدف الحقيقي للحياة"ـ(فرويد،
1985، 67).
وبالإضافة إلى كل ما سبق فإن بحث فرويد في التراث الفلسفي تعدى المبادئ والأفكار العامة ليتناول تفصيلات إنشاءاته النظرية. ونقصد بذلك الإسقاطات الميثولوجية التي لجأ إليها بعض الفلاسفة قبل فرويد. فقد اتخذ هيغل، مثلاً، من أسطورة أوديب وسيلة لإيضاح موقفه من الأفعال التي تجري في الجانب الغامض من النفس الإنسانية والتي لا يعيها الفرد، حيث يقول: ".... إنه لا يبين للابن أن الشخص الذي أهانه هو أبوه، وأن الملكة التي يتزوجها هي أمه"(هيغل، 1972، ج4، 251). وفعل أفلاطون، من قبل، الشيء ذاته ليدلل على أولوية النشاط اللاعقلاني الذي يقوم به الفرد من أجل إرواء غرائزه الطبيعية. فقد تدفعه غريزته الجنسية إلى حد محاولة معاشرة أمه دونما تردد أو تلكؤ(أفلاطون، 1971، ج1، 391).
ولئن كان هدف أفلاطون وهيغل من الاستشهاد بأسطورة أوديب هو إبراز سيطرة البداية البهيمية في النفس الإنسانية ولا عقلانية الغرائز وطغيانها على ما عداها من الجوانب النفسية الأخرى(بالنسبة للأول)، أو التأكيد على ضعف قدرة الإنسان على وعي جميع أفعاله ودوافعه(بالنسبة للثاني)، فإن فرويد اتخذ من هذه الأسطورة قانوناً عاماً يفسر به المظاهر الثقافية والاجتماعية والدينية والأخلاقية والنفسية. وعلى الرغم من أن بالإمكان تحميل أسطورة أوديب معاني ومدلولات عديدة بتعدد الزوايا التي ينظر إليها من خلالها، إلا أن فرويد لم يشأ أن يجد فيها أي شيء آخر سوى عبودية بني البشر لشهواتهم ورغباتهم الجنسية.
لقد تصدت أعمال فرويد للإجابة على أكثر محاور التساؤل المطروح على علم النفس أهمية. وهذا ما يتجسد في تناوله لبنية النفس وعوامل نشأتها ونموها والقوى المحركة لها(الدافعية). ولكنه بنى معالجته لهذا الموضوع على مسلمات وفرضيات من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الوصول إلى معطيات تجريبية أو ميدانية بشأن صحتها. فقد تصور الدافعية على شكل طاقة تنشط داخل نظام عضوي مغلق ومستقل. وأن هذه الطاقة ذات الطبيعة الجنسية تحدد في سنوات الطفولة الأولى نمط الشخصية ومصيرها.
ولعله من الحقائق العلمية والتاريخية القول بأن هذا التصور كان نقطة ضعف بارزة في مذهب التحليل النفسي الفرويدي استهدفتها غالبية الحملات الانتقادية التي وجهت إليه. كما كان سبباً مركزياً في تبرم واحتجاج أبرز أعضاء الرابطة الدولية للمحللين النفسيين.
ومما زاد من حدة مواقف هؤلاء، هو إصرار فرويد على ضرورة التسليم بالطاقة الليبيدوية كمبدأ عام وشامل يسري على الحالات المرضية والسوية في مختلف البيئات الثقافية، القديمة منها والحديثة. فقرروا الانفصال عنه وتكوين تيارات تعكس اتجاهاتهم وآراءهم في مسائل علم النفس والتحليل النفسي.
بوح الروح
ومما ينبغي إبرازه في هذا السياق هو ذلك الأثر الإيجابي الذي تركته زيارته للولايات المتحدة الأمريكية على صعيد حركة التحليل النفسي، الأمر الذي حدا به إلى التفكير في تأسيس رابطة دولية للمحللين النفسيين. وقد استغل فرصة انعقاد المؤتمر الثاني للتحليل النفسي في مدينة نورمبرغ عام 1910 فاختار فرنتزي وطلب منه عرض هذا الاقتراح على المؤتمرين. فلاقت الفكرة استحسان الجميع وتمت الموافقة على إنشاء الرابطة. وباقتراح من فرويد صوت الحاضرون لصالح يونغ لكي يكون رئيساً لها، واختاروا مدينة زيوريخ لتكون مقرها الدائم. بيد أنه سرعان ما بدأ الخلاف الفكري يطبع علاقة فرويد بعدد من أعضاء الرابطة. ولم يمضِ عام على تأسيس الرابطة حتى أعلن أدلر انفصاله عن فرويد، وتبعه شتيكل عام 1912، ثم يونغ عام 1913.
وعلى الرغم مما أثارته تلك الانقسامات من مخاوف على واقع حركة التحليل النفسي ومستقبلها لدى أعضاء الرابطة، فقد بقي فرويد متمسكاً بآرائه ومتحمساً لتطويرها وتعميقها ومسخراً كل جهوده وقدراته لجمع الأدلة والشواهد على صوابية نهجه وضرورة الاستمرار فيه. وتجسد ذلك في ميله نحو الفلسفة، وعلم الاجتماع، والدين، والأنتروبولوجيا، واهتمامه بما قيل أو كتب في هذه الميادين عن مكانة الغريزة الجنسية في الوعي الاجتماعي والممارسة البشرية وصولاً إلى مقاربات يجد فيها ومن خلالها البعد المادي والجذور التاريخية لأطروحاته. ولقد ابتغى من وراء بحثه في التاريخ البشري العثور على ما يثبت وجود الحقيقة الأوديبية فينا. كما أراد أن يتلمس في الروابط الاجتماعية القديمة ما يفسر الأعراض المرضية لدى الإنسان المعاصر. وقد أشار إلى ذلك بقوله: "وإني لأعلق أهمية كبرى على مشاركاتي في سيكولوجيا الدين،تلك التي استهلت عام 1907 بعقد تشابه ملحوظ بين عصاب الأفعال القهرية وبين الطقوس والشعائر الدينية. وقبل أن أفهم الصلات العميقة، وصفت عصاب القهر بأنه دين خاص مشوّه، والدين بأنه عصاب قهري عام. ثم أدت بي ملاحظات يونغ الصريحة عام 1912 في المشابهات القوية بين منتجات العصابيين النفسية وبين منتجات الشعوب البدائية إلى توجيه انتباهي إلى ذلك الموضوع"(فرويد، 1967، 76).
وللتدقيق في المقارنات والمشابهات التي شجعت ملاحظات يونغ عليها قرر فرويد اللجوء إلى ماقاله علماء الأجناس والسلالات والاحتكام إلى دراساتهم. فكانت مؤلفات مثل "الطوطمية والزواج الخارجي"، و"الغصن الذهبي"، لفريزر و"ديانة الساميين" لروبرتسون سميث أبرز ما اعتمد عليه من مصادر في هذا الميدان. حيث أخذ عن الأول ما أورده حول "تحريم قتل الطوطم، وتحريم الاتصال الجنسي بأية امرأة من عشيرة الطوطم"، وعن الثاني الطقوس الطوطمية المتمثلة في قتل الطوطم المقدّس مرة كل عام بمشاركة جميع أفراد العشيرة وأكله من قبلهم وفق مراسم محددة، وما يعقب ذلك من احتفالات وحزن ونواح. ولقد رأى فرويد في الخلفية التاريخية لهذه العلاقات والطقوس بداية تكون الرغبة البشرية في قتل الأب والزواج بالأم، وتشكل عقدة أوديب.
وعلى الرغم من ضعف الوثائق والمعطيات التي اعتمد عليها كل من فريزر وسميث وافتقارها إلى السند الموضوعي الصحيح، كما وصفها الباحثون، فقد قام فرويد بتعميمها، ووضع فرضية القبيلة البدائية التي كان يتزعمها أب طاغية استحوذ على جميع نسائها، ولم يسمح لأحد من أولاده بمشاركته، بل وعمل فيهم قتلاً وطرداً وتشريداً، تحسباً لأي مساس بسلطته وسلطانه.وكرد فعل على بطشه وطغيانه اجتمع الأبناء ذات يوم فقتلوه وافترسوه. وسرعان ما نشب الخلاف بينهم. إلا أنهم تحت وطأة الشعور بالإخفاق والندم تمكنوامن رأب صدعهم وجمع كلمتهم، وتشكيل قبيلة تحكمها قوانين الطوطمية. وتعاهدوا على العمل معاً من أجل تجنب كل ما من شأنه تكرار فعلتهم، فاتفقوا على التخلي عن الاتصال الجنسي بالنسوة اللائي كن سبباً في قتلهم لأبيهم، وأن يتخذوا من النساء خارج قبيلتهم موضوعاً لإشباع رغبتهم الجنسية. وصاروا يحيون ذكرى مقتل الأب على شكل وليمة تقام مرة كل عام تكفيراً عن خطيئتهم.
ويعتقد فرويد أن هذه القصة تكشف عن سر ظهور الدين والأخلاق وما يشتملان عليه من طقوس وشعائر وقيود. وقد عبر عن اعتقاده بقوله: "والآن سواء تصورنا أن احتمالاً هذا شأنه كان واقعة تاريخية أو لم يكن، فهو قد أدخل نشأة الدين ضمن مجال عقدة أوديب، وأقامه على أساس الازدواج العاطفي الذي يسيطر على هذه العقدة. وبعد أن لم يعد الحيوان الطوطم يقوم مقام الأب، أصبح هذا الأب ـ موضع الخوف والبغض، والتقديس والغيرة في آن واحد ـ أصبح نموذجاً أولياً للإله ذاته. وقام في نفس الابن صراع بين التمرد على أبيه وبين محبته له خلال محاولات متتالية للتوفيق بينهما، بغية التكفير عن فعلة اغتيال الأب من ناحية، وتدعيم المنافع التي أثمرت عنها من ناحية أخرى. هذه النظرة للديانة تلقي ضوءاً قوياً على الأساس السيكولوجي للديانة المسيحية، التي لا تزال "وليمة الطوطم" توجد فيها مع تحريف ضئيلٍ على شكل التناول(فرويد، 1967، 79). ولكي يرد فرويد عن نفسه تهمة التعصب الديني، ويغلق جميع الأبواب أمام دعاوي التهجم على الديانات الأخرى، فقد سارع إلى القول بأن الإشارة الأخيرة إلى الطوطمية واعتبارها أساساً للمسيحية مقتبسة عن الآخرين:"... إن تلك الملاحظة الأخيرة لم تكن ملاحظتي أنا، بل توجد في مؤلفات روبرتسون سميث وفريزر."(فرويد، 1967، 79). ويمثل هذا الاستنتاج الفكرة الأساسية التي قدمها في كتابه "الطوطم والتابو"(المقدس والمحرم) الذي تردد طويلاً في نشره بسبب ارتيابه في صحة محتواه، ولاسيما تلك الأحداث والوقائع التي تصور بداية العلاقات الاجتماعية والقائمة على المعايير الأخلاقية والأبعاد النفسية. وقد دفعته ريبته إلى الاستئناس بآراء تلاميذه والمقربين إليه في هذا العمل. ثم حزم أمره وقرر نشره عام 1913. وعندما سئل عن سر تردده، أمام هذه الخطوة، وهو صاحب "تفسير الأحلام" وبلوغ قلقه إلى هذا المستوى أجاب: "في تفسير الأحلام كنت أتكلم عن رغبة قتل الأب، أما الآن فإني أصف الحدث الفعلي: وشتان مابين الرغبة والفعل"ـ(رزق الله،
بلا تاريخ، 80).
يتألف "الطوطم والتابو" من أربع مقالات نشرت في مجلة(إيماجو ـ IMAGO) وهي على التواليتهيب سفاح القربى، التابو وازدواجية الانفعالات العاطفية، الأحيائية والسحر وطغيان الأفكار، العودة الطفولية إلى الطوطمية). وقد سعى فرويد من خلالها: "..... لتطبيق وجهات نظر ونتائج التحليل النفسي على مسائل غير محسوسة في سيكولوجية الشعوب"(فرويد، 1983، 19). وذلك بتحليل كل من الطوطمية والتابوية والقيام بإسقاطات تاريخية على واقع النمو النفسي للإنسان الحالي. وخلص إلى أن الطوطمية"... مؤسسة اجتماعية ـ دينية غريبة عن شعورنا الحالي، جرى منذ زمن بعيد التخلي عنها واستبدالها بأشكال أكثر حداثة ، ولم تخلف وراءها سوى آثار طفيفة في أديان وأعراف وعادات الشعوب الحضارية المعاصرة، وتحتم عليها أن تلاقي تقلبات كبيرة حتى لدى تلك الشعوب التي لا تزال تتمسك بها حتى اليوم"(فرويد 1983، 20).
أما التابوية فإنها لا تزال تعيش فينا. إنها برأيه، القوة المطلقة التي لا نملك إلا التسليم بها والخضوع لسلطانها. فلئن استطاع التقدم الحضاري للمجتمعات البشرية أن يحد من نفوذ الطوطمية فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للتابو وسلطته.
وباختصار فإن غرض فرويد من عمله هذا هو إثبات أن عقدة أوديب هي مصدر التراكم الحضاري الذي حققته الإنسانية، وسر تطور النوع البشري، مثلما هي شرط نمو الفرد وتبلور سمات شخصيته.
إن نظرية فرويد في نمو الغريزة الجنسية لدى الإنسان وما تضمنته من مفاهيم كعقدة أوديب ومراحل تمركز الشحنات الليبيدوية وانتقالها من عضو إلى آخر، لا تقوم على أسس علمية. لذا فإنها ـ كما جاء على لسان فالون ـ أقرب إلى الأسطورة منها إلى العلم كونها لا تخضع لقوانينه، ولا يمكن إثبات صدقها أو التحقق من صحتها عن طريق التجربة. ولكن فرويد لم يأبه كثيراً بالاعتراضات والانتقادات. ومضى في سبيله ليطور نظريته ويعدل أفكاره في ضوء ممارساته العيادية. فقد اهتدى منذ عام 1920 إلى وضع نظام نفسي جديد يتألف من "الهوID" و"الأناEGO" و"الأنا الأعلى SUPER EGO" بدلاً من النظام السابق الذي تقوم النفس فيه على اللاوعي وما قبل الوعي والوعي. ولعلنا نجد في كتبه "ما فوق مبدأ اللذة"،(1920) و"سيكولوجية الحشد وتحليل الأنا"(1921) و"الأنا والهو"(1923) و"الكبت والعرض والقلق"(1926) عرضاً لبنية الجهاز النفسي وموقع اللاوعي فيه ووظيفة كل من الهو والأنا والأنا الأعلى وعلاقتهم بعضهم ببعض. فالهو يعتبر النظام الأصلي من الجهاز النفسي الذي لا يعرف التغير أو التبدل. ويتكون من كل ماهو موروث وموجود سيكولوجياً عند الولادة بما في ذلك الغرائز. وهو خزان الطاقة النفسية الذي يزود الأنا والأنا الأعلى بها. كما أنه يستمد طاقته من العمليات الجسمية التي يتصل بها اتصالاً وثيقاً. وقد عرفه فرويد بأنه"الواقع النفسي الحقيقي". والهو يرفض أية زيادة في الطاقة. وإن حدث ذلك فإن الشخص يعاني من توتر، مما يدفعه إلى القيام بما من شأنه تفريغ الشحنات الطاقية الزائدة. وهذا ما جعل فرويد ينظر إليه كمحرك لنشاط الفرد. والهو متمرد على قوانين العقل والقيم الأخلاقية. إنه ـ قوة عمياء لا تخضع إلا لـ"مبدأ اللذة".
وهكذا يعمل الهو على التخلص من الضيق والألم اللذين يحدثهما التوتر وينشد اللذة. وسبيله في ذلك الأفعال الانعكاسية الفطرية كالعطس والمص والغمز وسواها. ويستخدم لهذا الهدف أيضاً العمليات الأولية التي تتجلى في الاستجابات السيكولوجية البسيطة. إذ بفضلها تتشكل صور موضوعات إشباع الحاجات الفطرية التي تساعد على تفريغ الشحنات الزائدة من الطاقة وتخفف من توتر الكائن البشري. وفي هذه الحالة يصبح تصور الأشياء والاحتفاظ بها في الذاكرة مكافئين لإدراكها. وتؤدي هذه العملية إلى خفض التوتر والشعور باللذة تماماً مثلما يحدث خلال تتابع الصور في الحلم.
غير أن العمليات الأولية بحد ذاتها لا تحقق الهدف المنشود. ذلك لأنها ليست قادرة على تخليص الشخص من الطاقة الزائدة تماماً وبصورة دائمة. فالصور المختزنة في الذاكرة عن الطعام أو الماء لا تشبع الجائع ولا تروي العطشان. وقد حملت هذه الحقيقة فرويد على الاعتقاد بأن سبب تكون العمليات النفسية الراقية يتمثل في العمليات النفسية الثانوية التي تؤلف مضمون الجزء الثاني من النظام النفسي وهو "الأنا".
ولما كان بقاء الإنسان واستمرار الإنسانية هدفاً نهائياً للوجود الإنساني؛ فإن على الفرد منذ طفولته المبكرة أن يلبي حاجاته بالفعل وليس بالتصور أو الوهم. ويستدعي منه ذلك أن يتعلم التمييز بين صور الأشياء وإدراكها الفعلي. وما شروع الطفل بوضع مخططات ذهنية ومحاولة تطبيقها بهدف اختبار الواقع إلا الخطوة الأولى في تكون الأنا. ومن زاوية النظر هذه يرى فرويد أن "الأنا" هو الجهاز الإداري المنفذ للشخصية. وهو يتحكم بـ"الهو" وينظمه من جهة، ويدير شؤون "الأنا الأعلى" ويضبطها من جهة ثانية، باعتباره جزءاً من "الهو" لصيقاً به ومنفتحاً على العالم الخارجي. وحين يحسن "الأنا" القيام بوظائفه ويتمكن من التوفيق بين حاجات "الهو" ومتطلبات "الأنا الأعلى"، فإنه يضمن للشخصية انسجامها وتوازنها. ولكنه حين يميل إلى أحد الطرفين ويقع تحت تأثيره، فإنه يسبب في اختلال توازن الشخصية واضطرابها.
ويصور فرويد علاقة "الأنا الأعلى" على أنها علاقة تسلط وتدمير. "فالأنا الأعلى" لا يسعى إلى إخضاع "الأنا" لسلطته فقط، بل وإلى نفيه والقضاء عليه. ويتجلى هذا المسعى في الإحساس بالذنب الذي يعاني منه مرضى العصاب، والذي ينشأ تحت ضغط "الأنا الأعلى". ومن هنا يفسر فرويد ظاهرة القلق. فيتحدث عن مصدرين اثنين للقلق الذي يصيب "الأنا": مصدر داخلي، وآخر خارجي، ويميز ثلاثة أنواع من القلق: القلق الواقعي، أو الموضوعي، ومصدره العالم الخارجي، والقلق الأخلاقي، ومصدره "الأنا الأعلى"، والقلق العصابي ومصدره "الهو".
ويحدد فرويد مهمة التحليل النفسي في تخليص "الأنا" من مختلف أشكال الضغوط، والعمل على زيادة قوته إلى المستوى الذي يجعله قادراً على أداء وظيفته بصورة متوازنة.
ولكي يتحرر "الأنا" من التوتر الناجم عن ضغوط "الهو و"الأنا الأعلى" ومتطلباتهما التي غالباً ما تكون متناقضة، يلجأ الفرد إلى اتباع أساليب محددة يطلق عليها فرويد "آليات الدفاع"، وهي: الكبت، والإسقاط، والتثبيت، والنكوص، والتصعيد(التسامي). ويقصد فرويد بالكبت تنحية المشاعر والأفكار من ساحة الوعي إلى ساحة اللاوعي تنحية نشطة. ولدى انتقالها إلى اللاوعي.
فإنها تستمر في تأثيرها، فتحفز الفرد على الإتيان بسلوكيات معينة، ومع أن الشخص لا يعيها، إلا أنه يحس بثقلها وضغطها، ويعتوره بسببها الإحساس بالقلق.
وبالإسقاط يشير فرويد إلى تحويل القلق العصابي أو القلق الأخلاقي إلى قلق موضوعي بغية التخفيف منه وتسهيل مواجهته.
والتثبيت يعني، عنده، توقف النمو النفسي عند مستوى معين من مستوياته المبكرة أو عند مرحلة من مراحله الأولى.
ويحدد النكوص بأنه الانحدار أو الرجوع إلى الدرجات الدنيا من السلوك والتفكير.
أما التصعيد فهو انتقال الطاقة الجنسية المحرمة إلى نشاط مقبول من جانب الفرد والمجتمع. ويعتبر فرويد الإبداع أرقى أشكال التصعيد وأكثرها سمواً، يقول فرويد:"ونستطيع أن نرى بسهولة أن الأنا هو ذلك القسم من الهو الذي تعدل بنتيجة تأثير العالم الخارجي فيه تأثيراً مباشراً بواسطة جهاز الإدراك الحسي ـ الشعور. وفضلاً عن ذلك فإن الأنا يقوم بنقل تأثير العالم الخارجي إلى الهو، وما فيه من نزعات، ويحاول أن يضع مبدأ الواقع محل مبدأ اللذة، الذي يسيطر على الهو. ويلعب الإدراك الحسي في الأنا نفس الدور الذي تلعبه الغريزة في الهو. ويمثل الأنا ما نسميه الحكمة وسلامة العقل، على خلاف الهو الذي يحوي الانفعالات(فرويد 1985 ، 42 ،43).
ويتجلى "مبدأ الواقع" في أن يحتمل المرء التوتر وينتظر تفريغ الطاقة حتى يتم إحضار الموضوع الذي يلبي الحاجة، ويتضح من خلال ذلك أن هذا المبدأ لا يلغي اللذة التي ينشدها الهو، بل إنه يسعى إليها بشكل واقعي ومناسب.
أما "الأنا الأعلى" فإنه يقوم على القيم الأخلاقية والمعايير الاجتماعية. ولذا فهو يمثل الجانب المثالي في نظام الشخصية، الذي يتولى مراقبة كيفية تفريغ الطاقة النفسية بتعليق "مبدأ الواقع" و"مبدأ اللذة". ويتشكل "الأنا الأعلى" كاستجابة للممكنات والممنوعات التي تتضمنها توجيهات الوالدين وقرارات وأحكام المؤسسات الاجتماعية المختلفة. وبتقمص الطفل للقيم الأخلاقية السائدة في المجتمع يتوجه بأفعاله نحو مراعاة ما ينبغي أن يكون ويعرض عما هو كائن بالفعل. ويعني هذا أن "الأنا الأعلى" يعمل لبلوغ الكمال. وفي مسعاه يقوم بكف اندفاعات "الهو" ذات الطابع الجنسي أو العدواني على وجه الخصوص من ناحية، وبإقناع الأنا بتجاوز الموضوعات الواقعية وإحلال المثل السامية مكانها من الناحية الثانية. وهكذا فـ"الأنا الأعلى" يشبه "الهو" في عدم خضوعه لأحكام العقل وقواعد المنطق، و"الأنا" في محاولته السيطرة على الغرائز وتقنين عملية إشباعها. ولكنه، بالمقابل، يختلف عن "الأنا" في أن محاولته لا تقتصر على تعليق الإشباع وتأجيله، وإنما يعمل على الحيلولة دون ذلك إلى إشعار تحدده قيم المجتمع.
ويُبرز هذا النموذج الجديد ذو الأبعاد الثلاثة تنوع الدوافع لدى الإنسان. "فالهو" يمثل الدافع البيولوجي، و"الأنا"يمثل الدافع النفسي الفردي(الذاتي)، و"الأنا الأعلى" يمثل الدافع الاجتماعي. ولكن هذه الدوافع تتخذ عند فرويد أشكالاً جامدة. فالدافع البيولوجي يقتصرعلى طاقة الليبيدو، والدافع الاجتماعي ينحصرفي الاتجاه النفسي للطفل. وبدا "الأنا المسكين" ـ على حد تعبير فرويد نفسه ـ ينوء بكلكل مهمة التوفيق بين مطالب "الهو" وسلطات "الأنا الأعلى"، ويواجه الأخطار المحدقة به "من العالم الخارجي،ومن ليبيدو "الهو"، ومن قسوة "الأنا الأعلى"(فرويد، 1985، 89)، الأمر الذي اعتبره فرويد سبباً في الإصابة بالأمراض النفسية.
وفضلاً عن ذلك فإن "الهو" كعنصر أولي وبدائي، يتمتع بقوة عمياء، هو الأرضية التي ينبثق عنها "الأنا" و"الأنا الأعلى" " مادام الأنا الأعلى" هو أول تقمص يبدأ به تكون "الأنا" بعد أن "يحل محل الشحنات النفسية التي كانت تصدر عن الهو والتي قد توقفت بعد ذلك"(فرويد، 1985، 78).
واشتمل النموذج الجديد أيضاً، زيادة على أقسام الشخصية، القوى المحركة للسلوك، فبعد أن شاهد فرويد ويلات الحرب العالمية الأولى، ووقف على ما تركته من موت ودمار وخراب، وما سببته من تشوهات واضطرابات في الأجسام والنفوس، أضاف إلى الايروس أوالغرائز الجنسية، غرائز أخرى، هي غرائز الموت. كتب فرويد يقول: "وقد اقتضت بعض الاعتبارات النظرية التي أيدها علم البيولوجيا أن نفترض غريزة الموت".(فرويد 1985، 67)، ويزعم أن تكون هذه الغريزة يرجع إلى تاريخ موغل في القدم، ففي أحد العصور الجيولوجية عرفت مصادر الكون مستوى من الاتحاد فيما بينها، تحولت معه إلى كائنات عضوية. ويتصور فرويد أن هذه الكائنات لم تعمر طويلاً، وعادت إلى حالتها السابقة، أي إلى الحالة غير العضوية. ومع بداية نشوء الحياة على الأرض، ورثت الكائنات الحية عن تلك العناصرنزعتها إلى الفناء. وهكذا فإن هذه الغريزة توجد في جميع الأحياء على الأرض. وبوجودها ينزع كل حي للعودة إلى الحالة التي كان عليها قبل ولادته، أي إلى حالة اللاعضوية.
وتتجلى غريزة الموت في النزعة العدوانية الموجهة نحو تدمير الذات أو تدمير الغير. وفي الوقت الذي يفصح فيه فرويد عن شكّه في تضاد الغريزة الجنسية وغريزة الموت، فإنه يترك الباب مفتوحاً أمام النشاط التحليلي الأكلينيكي للتدليل على اتحادهما. ويفترض بصورة أولية أن وجود إحداهما يقضي بحياد الأخرى أو بحلولها محلها.
وفي هذا المعنى يقول: "غير أن التمييز بين مجموعتي الغرائز لا يبدو مؤكداً تأكيداً كافياً، ومن المحتمل أن تأتي حقائق التحليل الأكلينيكي مخالفة لذلك"(فرويد، 1985، 70). ولكنه يستدرك ويشير إلى خبرته الشخصية قائلاً:"وتبين الملاحظة الأكلينيكية الآن أن الحب يكون دائماً مصحوباً بالكره(التناقض الوجداني) بشكل لم يكن متوقعاً، وأن الكره غالباً ما يكون مقدمة للحب في العلاقات الإنسانية... بل إنها تبين أيضاً أنه كثيراً ما يتحول الكره إلى حب، والحب الى كره. فإذا كان هذا التحول شيئاً أكثر من مجرد التعاقب الزمني، لأصبح من الواضح إذ أنه لا يوجد دليل لذلك التمييز الأساسي بين غرائز الحب وغرائز الموت، وهو التمييز الذي يقتضي وجود عمليات فيزيولوجية متعارضة"(فرويد، 1985، 70).
وفي مجرى الحديث عن الغرائز يعترف فرويد صراحة بصعوبة هذا الموضوع وغموض العديد من جوانبه. ولهذا فإنه يقيم آراءه فيه على الفرضيات وليس على معطيات التجربة الميدانية. لأن معرفته في هذا المجال تبقى عامة، وتقتصر على مجرد الإشارة إلى أن غرائز الموت تنجز وظيفتها بصورة حتمية وأكيدة. أما كيف تقوم بذلك؟، وكيف تستمر في عملها عبر علاقاتها المتقلبة بالغرائز الجنسية؟ فيظل أمراً مجهولاً، ومع ذلك فإن فرويد، لم يتردد في الحكم على أهمية تلك الغرائز في حياة الأفراد والجماعات البشرية واعتبارها السبب في اندلاع الحروب والعدوان والتدمير.
لقد ضاعفت فرضية وجود غرائز الموت لدى البشر من نزعة فرويد التشاؤمية ونظرته السوداوية إلى مستقبل الإنسانية. وبوسعنا أن نلاحظ ذلك
بوضوح في أعماله اللاحقة، خاصة في كتابيه "مستقبل وهم"(1927)، و"كدر في الحضارة"(1930)، وفي رسائله إلى أصدقائه. وهذا ما يبرزه مؤرخو علم النفس والتحليل النفسي. يقول كلفن هال: "لقد كان(فرويد ـ ب.ع ـ) يرى أن القوى غير المتعقلة في طبيعة الإنسان تبلغ من الشدة حداً يجعل للقوى المتعقلة فرصة ضئيلة للتغلب عليها. إن قلة محدودة من الناس هم الذين يستطيعون أن يحيوا حياة العقل. ولكن أغلب الناس يعيشون بالخرافات والخداع أفضل من أن يعيشوا في الحقيقة. لقد رأى فرويد عدداً عديداً من المرضى يقاتلون قتالاً عنيفاً للاحتفاظ بأوهامهم لكي لا يثقوا ثقة أعظم بقوة المنطق والعقل. إن الناس يقاومون معرفة الحقيقة عن أنفسهم. هذه النظرة التشاؤمية نجدها مبسوطة مصقولة في كتابه "مستقبل وهم". وإن كانت كامنة بين السطور في كثير من كتبه"(هال، 1970، 23).
إن القول بغرائز الموت ووظيفتها يعني ببساطة أن سلوك مجرمي الحرب وأفعال وتصرفات القادة والزعماء التي تؤدي إلى الاقتتال والتدمير أمر مسوغ طالما أن كل ذلك موجود لدى الإنسان على صورة غريزة أو طاقة فطرية موروثة. كما يستبعد أية محاولة لتجنيب الإنسان مخاطر الحرب ونتائجها المدمرة. ويعني ذلك أيضاً استحالة البحث في المجتمع والاقتصاد والسياسة والأخلاق عن أسباب الحروب والجرائم والقتل والاعتداء والانتحار مادام ذلك تفريغاً للشحنات الغريزية الموجودة لدى الفرد. و قد عبر فرويد عن ذلك في رسالة بعث بها إلى أنشتين عام 1931 أكد فيها فطرية النزعة العدوانية والتدميرية عند بني البشر، وعجزنا حيال جموحها وطغيانها.
ولعل من الأهمية بمكان أن نشير إلى أن النموذج الجديد الذي يعكس تصور فرويد المعدل للجهاز النفسي احتفظ بمكانة اللاوعي في شخصية الإنسان ودوره الريادي في تكون خصائصها وتطورها. وظل مؤسس التحليل النفسي وفياً لهذا المفهوم حتى آخر أيامه. فكتابه "الموجز في التحليل النفسي"، الذي بدأ بتأليفه في لندن(*) عام 1938 ولم يكمله بسبب وفاته عام 1939، يعتبر محاولة لصياغة نظريته في الشخصية ومركباتها ودينامياتها والأهمية المتميزة التي يكتسبها اللاوعي على صعيد تشكيل ملامحها وتبلورها.
ومن باب الإنصاف القول بأن لفرويد فضلاً في وضع اللاوعي داخل دائرة الضوء والوقوف عنده والتمعن فيه من أجل معرفة حدوده ومحتواه ونشاطاته ودوره في حياة الإنسان من غير أن ننسى مبالغته التي جعلت من اللاوعي ينهض بدور المحرك الأساسي لنشاط الشخصية وديناميتها. والحقيقة الموضوعية تفرض علينا أن نقول أيضاً بأن اللاوعي ليس من مبتكرات فرويد، وإنما هو أحد المفاهيم التي شغلت الكثير من الفلاسفة السابقين وأدلوا بآرائهم حولها. فالبحث في عمق الإنسان وباطنه لم يتوقف قط منذ أن ظهرت محبة الحكمة لدى الناس. وكان توزع أفعال البشر بين الخير والشر تدفع المفكرين إلى التساؤل عن أسباب ذلك. وقد اكتست إجاباتهم قديماً طابعاً مثالياً تمثل، على سبيل المثال، في الطبيعة الإنسانية ذات القطبية الثنائية. فإما أن تكون هذه الطبيعة خيرة، أو شريرة، أو أنها، في حالات أخرى، مزيج من الخير والشر. كما تمثل في تقسيم النفس إلى قوى عاقلة خاضعة، وأخرى شهوية مسيطرة. ويؤلف أصحاب الرأي الأخير تياراً متماوج الألوان، يبدأ بأفلاطون ويستمر حتى الآن، ماراً بديكارت وسبينوزا وكانت وهيوم وهيغل وفرويد نفسه وغيرهم.
ويعتبر ليبتنز أول من استخدم مفهوم اللاوعي عندما ميز عبر تأملاته في العقل البشري بين مستويين من العمليات العقلية: مستوى الأفعال الواعية، ومستوى الأفعال اللاواعية. ومنذئذ أصبح اللاوعي مفهوماً متداولاً بين المفكرين الذين تناولوا مسألة البنية النفسية.
ومن جانب آخر، أثارت فكرة ليبنتز مناقشات كثيرة وطويلة، تركزت حول إمكانية الإنسان على معرفة المستوى اللا وعي من الأفعال العقلية. فقد وقف الفيلسوف كانت من هذه الفرضية موقفاً إيجابياً. واعتقد أن بمقدور الإنسان معرفة مادعاه ليبنتـز "الإدراكات الصغيرة" أو ما أسماه هو بـ"التصورات الغامضة" معرفة غير مباشرة.
واحتل موضوع اللاوعي مكاناً هاماً في فلسفة هيغل. فقد انطلق هذا الفيلسوف من وجود مخبأ "لاواع" ومبهم في أغوار النفس الإنسانية. ووصف هذا المخبأ بأنه "عالم بلا حدود من الصور والتصورات الكثيرة التي ليس لها وجود في الوعي"(هيغل، 1972، ج3، 256، 257). وتحدث عن انتقال هذه الصور والتصورات وتحولها إلى وعي لتنضم إلى الخبرة الحياتية المباشرة للفرد.
أما آرثر شوبنهاور فقد ذهب مذهباً آخر في معالجة هذا الموضوع. حيث وجد في كتابه "العالم كإرادة وتصور"(1819) أن الإرادة هي أصل الأشياء وأساس كل ماهو موجود. وهي، بالنسبة له، قوة كونية عمياء، لا واعية، لا تخضع لأية قواعد منطقية أو أحكام عقلية أو أخلاقية. بينما اعتبر التصور مظهراً أولياً من مظاهر الوعي. وعن طريقه يتعرف الإنسان على الوقائع الوجودية.
ويبدو واضحاً ذاك البعد العالمي الذي أعطاه شوبنهاور للإرادة وتلك القدرة الخارقة التي منحها إياها باعتبارها علة الوجود. أما اللاوعي كمركب نفسي ذاتي فإنه يؤلف، في تصوره، حالة صغيرة ودقيقة من تجليات الإرادة الكونية اللاواعية. فهو ينشأ عنها أثناء التطور الإنساني.
وبالاعتماد على هذه المقدمة حدد شوبنهاور علاقة الوعي باللاوعي على النحو التالي: "إن الوعي هو الحالة البدائية والطبيعية للأشياء كلها. وبذلك يكون اللاوعي هو التربة التي منها تنمو لدى بعض أنواع الكائنات الحية زهرة الوعي السامية"(ليبين، 1981، 27).
وبذا يكون شوبنهاور قد مهد الطريق أمام ظهور تفسيرات ذات طابع لاعقلاني، كالتي قدمها فريدريك نيتشه(1844-1900م) وإدوارد فون هارتمان. فقد طرح نيتشه مسألة الإرادة والنزوع إلى السلطة، وحدد طبيعتها كقوة لا واعية مسؤولة عن كل ما يفعله الناس. وذهب هارتمان إلى القول بـ"ميتافيزياء اللاوعي". وعرض نظريته هذه في كتابه "فلسفة اللاوعي"(1869) وقد لاحظ ليبين أن هذه النظرية تتضمن جميع العناصر التي دخلت، فيما بعد، في نظرية فرويد:"الاعتراف بأهمية اللاشعور في النشاط الحيوي لكل إنسان، والوقوف ضد قصر النفس على الأفعال الشعورية وحدها، وتأكيد دور اللاشعور في الإبداع عند الفرد، ومحاولة تفسير تلك الروابط المتبادلة بين الشعور واللاشعور التي تجري في العالم الداخلي للإنسان، رغم أنه لا يعيها أحياناً"(ليبين،
1981، 27).
وإلى جانب الفلاسفة، كان علماء الطبيعة، بدورهم، يؤكدون وجود عمليات نفسية لا واعية. فقد قال فخنر بـ"الإحساس اللاواعي"، وهيلمهولتز بـ"الاستنتاج اللاواعي". وقد أشار كاربانتر، فيما بعد، إلى النشاط اللاواعي الذي يقوم به الدماغ البشري.
إن سنة التطور الفكري والعلمي تحتم علينا أن ننظر إلى الآراء المذكورة وما شابهها بوصفها الأرضية التي ظهرت عليها نظرية فرويد في اللاوعي.
وفي نفس الاتجاه يمكننا أن نمضي لتلمس الآثار التي خلفتها تعاليم هؤلاء الفلاسفة وغيرهم في موقف مؤسس التحليل النفسي من الدوافع الطبيعية وماتلعبه الغرائز الجنسية وغرائز الموت في نظره من دور في حياة الإنسان. ولعل هذه المهمة ليست بالأمر الصعب، إذا عرفنا أن تلك الآثار تتجسد في اقتباسات فرويد واستشهاداته والمراجع والمصادر التي يشير إليها في أعماله.
ولعلنا نتذكر الانطباع المتميز الذي سجله فرويد حول شخصية شاركو العلمية، وأنه لم يستطع مقاومة تأثيره أو إخفاء قوة جاذبية أفكاره وفضلها في توجيه انتباهه نحو الأسباب البعيدة لمرض الهستيريا. فهاهو يعيد على مسامعنا ما التقطه على لسان شاركو حينما كان هذا الأخير يصف ذات مرة حالة امرأة شابة مصابة باضطرابات عصابية: "في مثل تلك الحالات يكون الجنس دائماً هو أكثر الأشياء أهمية، دائماً، دائماً، دائماً"(فرويد، 1923، 26).
لم يكن شاركو ـ كما عرفنا في حينه ـ من ذوي النزعة الغريزية في تفسير الحالات المرضية التي كان يشرف على معالجتها. وأغلب الظن، أنه اعتمد في حكمه هذا على معطيات محددة ذات صلة مباشرة بأعراض مرضية خاصة ومتميزة. والكلام هنا يدور حول القصور الجنسي الذي يعاني منه زوج المريضة. ولكن عبارة شاركو التي همس بها إلى أحد زملائه استوقفت فرويد الذي كان يصغي إلى حديث الرجلين وهو على مقربة منهما. ووجدت لديه صدى كان يتسع ويتعمق بسرعة كلما ألحت عليه طموحاته ورغباته. وراح يجول ببصره وفكره في التراث الفلسفي والأنتروبولوجي والاجتماعي بحثاً عما يناسب منطلقه.
إننا نميل إلى التسليم بأن الإنشاءات الفرويدية لم تقم في فراغ، وأن التراث الإنساني هو من الغنى والتعدد والشمولية والتنوع، بحيث يمكن النظر إليه كبناء متدرج ومتكامل، ولو أنه، بطبيعة الحال، غير كامل، وينطبق هذا الكلام أكثر على القضايا الإنسانية بعامة والنفس أو الوعي بخاصة. فدوافع الأفعال الإنسانية هي إحدى المشكلات التي حظيت باهتمام المفكرين والباحثين منذ القديم. وقد ظهرت بشأنها آراء عديدة ومختلفة يصعب حصرها. ومن بين تلك الآراء ما يعتبر سلوك الفرد نتيجة لوجود الرغبة. ولكن مفهوم الرغبة بحد ذاته يختلف في قوته ودوره من مفكر إلى آخر. فقد قصر بعضهم دوره على جانب من السلوك(أرسطو)، ووسعه آخرون ليشمل مسؤولية الحفاظ على الجنس البشري(سبينوزا). بينما تحدّث فريق ثالث(أمبدوقل، مثلاً)، عن قوتين متعارضتين تحركان أفعالنا وتصرفاتنا. وهاتان القوتان هما الحب(أفروديت) والكراهية(آريس). ولا يخفى التشابه القائم بين ماجاء به فرويد وأمبدوقل. وهو ما اعترف به فرويد نفسه وأعطى رأيه من خلاله بأمبدوقل، واعتبره "أعظم وأبرز الشخصيات في الحضارة اليونانية"(ليبين، 1981، 45). كما اعترف بوجود تشابه بين رأيه ورأي شوبنهاور حول العلاقة بين غرائز حب البقاء وغرائز الموت. فعندما يؤكد مؤسس التحليل النفسي أن "الموت هو الهدف النهائي للحياة"، وأن جميع الغرائز والرغبات التي تنشأ على أساسها وتعبر عنها تتوجه بالكائن الحي عبر نشاطها وصراعها إلى ذلك الهدف، فإنه يعيد ماقاله شوبنهاور من أن "الموت هو الهدف الحقيقي للحياة"ـ(فرويد،
1985، 67).
وبالإضافة إلى كل ما سبق فإن بحث فرويد في التراث الفلسفي تعدى المبادئ والأفكار العامة ليتناول تفصيلات إنشاءاته النظرية. ونقصد بذلك الإسقاطات الميثولوجية التي لجأ إليها بعض الفلاسفة قبل فرويد. فقد اتخذ هيغل، مثلاً، من أسطورة أوديب وسيلة لإيضاح موقفه من الأفعال التي تجري في الجانب الغامض من النفس الإنسانية والتي لا يعيها الفرد، حيث يقول: ".... إنه لا يبين للابن أن الشخص الذي أهانه هو أبوه، وأن الملكة التي يتزوجها هي أمه"(هيغل، 1972، ج4، 251). وفعل أفلاطون، من قبل، الشيء ذاته ليدلل على أولوية النشاط اللاعقلاني الذي يقوم به الفرد من أجل إرواء غرائزه الطبيعية. فقد تدفعه غريزته الجنسية إلى حد محاولة معاشرة أمه دونما تردد أو تلكؤ(أفلاطون، 1971، ج1، 391).
ولئن كان هدف أفلاطون وهيغل من الاستشهاد بأسطورة أوديب هو إبراز سيطرة البداية البهيمية في النفس الإنسانية ولا عقلانية الغرائز وطغيانها على ما عداها من الجوانب النفسية الأخرى(بالنسبة للأول)، أو التأكيد على ضعف قدرة الإنسان على وعي جميع أفعاله ودوافعه(بالنسبة للثاني)، فإن فرويد اتخذ من هذه الأسطورة قانوناً عاماً يفسر به المظاهر الثقافية والاجتماعية والدينية والأخلاقية والنفسية. وعلى الرغم من أن بالإمكان تحميل أسطورة أوديب معاني ومدلولات عديدة بتعدد الزوايا التي ينظر إليها من خلالها، إلا أن فرويد لم يشأ أن يجد فيها أي شيء آخر سوى عبودية بني البشر لشهواتهم ورغباتهم الجنسية.
لقد تصدت أعمال فرويد للإجابة على أكثر محاور التساؤل المطروح على علم النفس أهمية. وهذا ما يتجسد في تناوله لبنية النفس وعوامل نشأتها ونموها والقوى المحركة لها(الدافعية). ولكنه بنى معالجته لهذا الموضوع على مسلمات وفرضيات من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الوصول إلى معطيات تجريبية أو ميدانية بشأن صحتها. فقد تصور الدافعية على شكل طاقة تنشط داخل نظام عضوي مغلق ومستقل. وأن هذه الطاقة ذات الطبيعة الجنسية تحدد في سنوات الطفولة الأولى نمط الشخصية ومصيرها.
ولعله من الحقائق العلمية والتاريخية القول بأن هذا التصور كان نقطة ضعف بارزة في مذهب التحليل النفسي الفرويدي استهدفتها غالبية الحملات الانتقادية التي وجهت إليه. كما كان سبباً مركزياً في تبرم واحتجاج أبرز أعضاء الرابطة الدولية للمحللين النفسيين.
ومما زاد من حدة مواقف هؤلاء، هو إصرار فرويد على ضرورة التسليم بالطاقة الليبيدوية كمبدأ عام وشامل يسري على الحالات المرضية والسوية في مختلف البيئات الثقافية، القديمة منها والحديثة. فقرروا الانفصال عنه وتكوين تيارات تعكس اتجاهاتهم وآراءهم في مسائل علم النفس والتحليل النفسي.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح