ما إن أطلّ القرن العشرون حتى أخذت الساحة السيكولوجية تتمدد بصورة محسوسة، وتتوسع، من خلالها، البحوث والدراسات في الاتجاهين الأفقي والعمودي، ويحتدم الصراع، وترتفع حرارة المناظرات، وتستقطب أفواجاً جديدة من العلماء ليدلي كل منهم برأيه في قضايا العلم الفتيّ التي تتمحور أساساً حول موضوع هذا العلم ومنهجه. ولكي نلمّ بالصورة الكاملة لهذا الواقع في تلك الأعوام علينا أن نتفحص خطوطها العريضة وأشكالها الرئيسية. ذلك لأن إدراك اتجاه تلك الخطوط والأشكال ورصد أبعادها ومواقعها وعلاقاتها بعضها ببعض بصورة جيدة يشكلان الضمانة الأكيدة لفهم مجرى التطور اللاحق لعلم النفس. ونحن، وقد عرضنا مواقف فوندت وتعاليم الاتجاه الوظيفي وآراء تيتشنر، نجد أنه من اللازم، لاستكمال وصف حالة علم النفس ووضعه آنذاك، أن نبرز أهم نشاطات وأفكار مدرسة ورتسبورغ نظراً لدورها الذي لا يستهان به في تطور التصورات السيكولوجية.
ويرجع الفضل في ظهور هذه المدرسة إلى جهود مجموعة من الباحثين بزعامة أوسفالد كولب(1862-1915م)، أحد تلاميذ فوندت، الذي اتخذ من مدينة ورتسبورغ في مقاطعة بافاريا مركزاً لنشاط المجموعة. فأنشأ فيها مخبراً للبحوث النفسية في الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر. ومن أبرز أفراد هذه المجموعة كارل مارب(1869-1953م) وهنري وات(1879-1925م) وأوغست ميسير(1867-1937م) ونارسيس آش(1871-1946م) وكارل بيولر
(1879-1963م) وأوتو سيلز(1881-1944م) وكارل تيلر وأ.ماير و أ.أورت وغيرهم.
عرف كولب كباحث متمكن من خلال كتابه "مبادئ علم النفس"(1893). وكانت أفكاره وقتئذٍ قريبة من أفكار فوندت. ولكنه تحول فيما بعد إلى موقع آخر، ووقف من أستاذه موقفاً معارضاً، انعكس في سلسلة التجارب التي أشرف عليها في مخبر ورتسبورغ.
ولعل هذا التحول في فكر كولب جاء نتيجة فلسفة ماخ الوضعيّة ومذهب هوسرل الفنومنولوجي وإطلاعه عليهما وتأثره الكبير بهما. وهذا ما نلمسه في أعماله اللاحقة وانعكاساتها في الاتجاه العام للمجموعة ونشاطاتها النظرية والتجريبية.
والمتعقب لنشاطات كولب وجماعته يجد أن تأثير الوضعية والفنومنولوجية عليها لم يحدث دفعة واحدة، وفي وقت واحد، وإنما بصورة تدريجية وعبر سنوات عديدة. وبإمكانه بشيء من التمحيص والمتابعة أن يميز مرحلتين رئيسيتين لهذا التأثير وذاك التحول. فالوضعية والفنومنولوجية اللتان اعتمد عليهما كولب وزملاؤه، بعد انشقاقه عن فوندت، كمنطلق ووسيلة للتعامل مع المعطيات التجريبية، لم تكونا حاضرتين عندهم في ذات الوقت. فكثيراً ما كانت تحملهم تفسيراتهم واستنتاجاتهم التي كانوا يبنونها على وضعية ماخ في الأعوام التي أعقبت إنشاء المخبر على الريبة في صحتها ومنطقيتها الأمر الذي دفعهم إلى التفكير في منطلقات أخرى يمكنهم الاعتماد عليها من التحليل والتعليل الأكثر انسجاماً مع الأوضاع والظروف التجريبية. فوجدوا في فنومنولوجية هوسرل ما يستجيب لشروطهم ويلبي متطلباتهم.
إن الإشارة إلى هاتين المرحلتين وما تتسم به كل واحدة منهما من خصائص لا تعني انفصالهما بقدر ما تفيد التأكيد على علاقتهما التكاملية في فكر كولب على الأقل، واعتبار أولاهما مقدمة للثانية، وهذه استمراراً أو –إن شئتم- تطويراً لها.
بدأ كولب ومعاونوه نشاطهم التجريبي المخبري باستخدام المنهج الاستبطاني. وكان هذا المنهج، بالنسبة لهم –كما هو الشأن بالنسبة للمدرسة البنيوية-، الوسيلة الوحيدة لدراسة النفس. ومن غير أن نتوقف الآن عند هذه النقطة نسارع إلى القول بأن لتجارب ممثلي مدرسة ورتسبورغ فضلاً كبيراً على علم النفس في العقد الأول من القرن العشرين. وهذا ما يلاحظ من خلال اهتمامهم بتفصيلات الأوضاع التجريبية والتعديلات الهامة التي أدخلوها على مراحل تطبيق الاستبطان. فقد تمحورت جهودهم حول دراسة الظواهر السيكوفيزيائية، كقياس العتبات الحسية وزمن الرجع وسرعة الاستجابة. ومن المعروف بالنسبة للقارئ أن طرح مثل هذه الموضوعات على جدول أعمال البحث السيكولوجي في تلك الفترة ليس بالشيء الجديد. إذ سبق وأن طرحها علماء كثيرون منذ أكثر من نصف قرن. ولكن الجديد والهام معاً في تناول الورتسبورغيين لها يتمثلان في التقنيات المستخدمة والتعليمات الدقيقة والصارمة.
فالممارسة الميدانية برهنت لهم على عدم كفاية أن يطلب من المفحوص(الذي كان هو نفسه الفاحص)، مثلاً، الإجابة على سؤال أي الجسمين أثقل، أو الاستجابة بكلمة على الكلمة –المثير، بل وأكثر من ذلك، أن يصف العمليات التي تجري في وعيه بعد استقبال المنبه وقبل إصدار الحكم. ولعلّ أهم حيثيات الحكم على أهمية هذا الإجراء هو تأكيد أصحابه على ربط الاستجابة بحالة المفحوص ووعيه إلى جانب ربطها بالمثير.
لقد كانت المهمة الأساسية في ما مضى هي تحديد الفرق بين إحساسين، أو تعيين الكلمة التي تستجرها كلمة أخرى. بمعنى أن غرض الباحث من التقرير الشفهي الذي يقدمه المفحوص، كان ينحصر في التعرّف على الصورة النفسية، أي على أثر الفعل النفسي ونتاجه، وليس على الفعل ذاته. فجاءت مدرسة ورتسبورغ لتحول بؤرة الاهتمام من الصورة إلى الفعل.
وأغلب الظن أن يكون الورتسبورغيون قد استمدوا موقفهم هذا من فكرة ماخ عن الجسم بوصفه مجموعة من الإحساسات. وانطلاقاً من هذه الفكرة اعتبر تقرير المفحوص في التجربة المخبرية وصفاً لمظاهر النفس دون الأشياء الخارجية الفيزيائية. ومن خلالها يكون ماخ قد ألغى الفروق القائمة بين الاستبطان كنشاط نفسي إنساني ووصف الشروط الموضوعية المحيطة بالفرد، وأرجع جميع أنواع التقارير الشفهية إلى الاستبطان.
وفي ضوء هذا الفهم وجد علماء النفس الورتسبورغيون أن منهج الاستبطان هو المنهج الأصلح لدراسة الإحساسات والإدراك. فتقرير المفحوص حول نشاطه الذهني أثناء التجربة هو –في اعتقادهم- التعبير الحقيقي عن مجرى التفكير. ولكي يكون الأمر كذلك ألحوا على ضرورة التقيد بجملة من الشروط المعيارية، من مثل تقديم المثيرات والتعليمات ذاتها لجميع المفحوصين. وفي هذا الصدد عمد آش إلى ربط مشاعر المفحوصين وملاحظة ذواتهم بتغير الشروط الخارجية. وحكم على الملاحظة الذاتية بأنها عجفاء ما لم تتمكن من استدعاء تغيرات في المشاعر الداخلية بدرجة تتناسب مع تغير الشروط الخارجية للتجربة وتعليماتها.
ولسنا بحاجة إلى الكثير من الجهد لكي ندرك الاعتراف الضمني بأهمية المثيرات الخارجية وتأثيراتها على عملية التفكير الذي بنى عليه آش حكمه. ومع ذلك فإن قولاً كهذا لا يعدو كونه ضرباً من التوقع والتخمين تدفع به رغبة المرء في أن يجد هذا الاعتراف ترجمة له في أعمال آش وزملائه. فما أن نمضي قليلاً في قراءة نظرية ورتسبورغ حتى نفاجأ برؤية أخرى مخالفة لتلك القاعدة التي وضعها آش، ولكنها تعيد لمبادئ مدرسته انسجامها وتعبر عن تعاليمها أبلغ تعبير. ووفق هذه الرؤية فإن الظروف الخارجية ليست سوى بواعث أو أساليب لاستثارة النشاط الذهني.
إن فصل ما يحدث خارج الفرد عما يجري في داخله، أو التقليل من دور الطرف الأول في ظهور أي مستوى من مستويات السلوك الإنساني، هو السبب الذي حمل الكثير من السيكولوجيين، ومن بينهم جماعة ورتسبورغ إلى استخدام الاستبطان لدراسة موضوعات علم النفس. وثمة سبب آخر لا يقل، إن لم يكن أكثر، أهمية من الأول، وهو غياب الحدود بين جوهر الموضوع وتجلياته الخارجية، والفهم الخاطئ للعلاقة بينهما الذي قدمه علماء النفس الاستبطانيون حين طابقوا بين جوهر النشاط العقلي من جهة، وإحدى صور ذلك الجوهر التي تتجلى في الملاحظة الذاتية للفرد من جهة ثانية. فقد لاحظ بيولر أن ميسير كان يشعر أثناء قيامه يتجاربه على كولب بأنه ليس أكثر من منقح أو محرر لأقواله. كما أشارت ل.أنتسيفيروفا من بعد إلى أن المفحوص تحول في تجارب الورتسبورغيين إلى فاحص يتتبع تفكيره الخاص، وبالتالي فإن ملاحظة بيولر صحيحة، وتنطبق على جميع تلك التجارب. وفي معرض توضيح هذا الحكم تقول أنتسيفيروفا: "من وجهة نظر المدخل الموضوعي للنفس فإن التقرير الاسترجاعي عن الأفكار التي يستدعيها المثير لدى الشخص هو أمر مقبول تماماً... إلا أن هذا التقرير يعد المادة الخام التي يمكن أن تكون وسيلة احتياطية لاستعادة جريان العمليات النفسية. وعليه فإن الوقائع التي توصل إليها الورتسبورغيون تكتسي أهمية خاصة. ولكن تقارير الملاحظة الذاتية في ظل غياب نظرية في التفكير حتى ولو كانت مسبقة، قد لا تحمل سوى معطيات مجتزأة ومتقطعة وعرضية حول إدراك الإنسان لموضوعات تفكيره" (شاروخوفا، 1966، 62).
أما على الصعيد العملي فقد كشفت التجارب التي أجريت في مدرسة ورتسبورغ عن وجود أشكال من الوعي تربطها بالموضوعات صلات أبعد وأعمق من مجرد الإحساس بها وإدراكها، تجعل معرفة الإنسان بجوهر تلك الموضوعات تتجاوز الصور الحسية.
ولاشك في أن تلك الوقائع تتباين مع موضوعية ماخ التي ترجع مشاعر الإنسان برمتها إلى الإحساسات. كما بينت هذه التجارب أيضاً لدى الإنسان القدرة على إدراك أفعاله العقلية. وأمام هاتين الحقيقتين اضطر ممثلو مدرسة ورتسبورغ إلى التخلي عن مبادئ ماخ الفلسفية والبحث عن غطاء نظري يتسع لمدلولاتهما ويستوعب أبعادهما. فوجدوا هذا الغطاء في فلسفة هوسرل. وكان ذلك إيذاناً بنهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى في تاريخ هذه المدرسة.
وعلى الرغم من أن هوسرل انتقد وضعية ماخ، ولاسيما مبدأ "اقتصاد التفكير" الذي شكل جانباً هاماً منها، فإن فلسفته لم تكن نقيضاً لتلك الوضعية، بقدر ما كانت وثيقة الصلة بها. فقد اعترف هوسرل نفسه بفضل التحليل الذي قدمه ماخ للإحساسات ودوره الهام في التمهيد للمنهج الفنومنولوجي. بيد أن ذلك لم يمنع الاختلاف من أن يجد سبيله بين أفكار الرجلين. حيث كان لكل منهما رأيه في المصدر الذي يستمد منه الفرد خبراته وتجاربه. ففي حين رآه ماخ متمثلاً في الإحساس، قرر هوسرل البحث عنه في جوهر الموضوع والوعي معاً.
وعلى هذا فإن مهمة البحث، بمقتضى المنهج الفنومنولوجي، تنصب نحو دراسة ووصف الموضوعات التي يتجه إليها الفكر. وتجنباً لحدوث أي التباس قبل الدخول في تفاصيل التطبيقات الميدانية لهذا المنهج تجدر الإشارة إلى أن هوسرل لم يقصد من وراء طرحه لمفهوم الموضوع(الموضوعات) ماهو مادي وموضوعي، وإنما عني به تلك التشكيلات النفسية التي يدركها الفرد.
وهكذا تبين أن البحث في المنهجين: الاستبطاني والفنومنولوجي يتعامل مع مضمون وعي الفرد. ومع ملاحظة أن المنهج الثاني يركز على الموضوع الفنومنولوجي، وليس على المشاعر التي تنشأ تحت تأثيره.
لقد تناول ممثلو ورتسبورغ التفكير في بداية نشاطهم المخبري بوصفه مجموعة من حالات الوعي التي لا تتضمن أي عناصر حسية. ولكنهم عدلوا، فيما بعد، عن رأيهم، وأصبحوا ينظرون إليه على أنه المعرفة بالأشياء. ومع حلول المرحلة الجديدة، وبفعل تأثير الفنومنولوجيا أخذ التفكير يعني، بالنسبة لهم، معرفة جوهر الموضوعات، وليس معرفة صفاتها الخارجية فقط.
وأثناء هذه المرحلة ركزت مدرسة ورتسبورغ نشاطها على محورين. أولهما البحث في عناصر التفكير وطبيعتها والروابط القائمة بينها وتصنيفها. وثانيهما دراسة دينامية التفكير ومحاولة الوقوف على محدداته. ولعل الاهتمام بموضوعات المحور الأول قد أملته المفاهيم والأفكار التي كانت سائدة في فترة تأسيس المدرسة. فقد تصدر مفهوم الذرة والعنصر قائمة المفاهيم المتداولة في الفيزياء والكيمياء آنذاك. ونفس الأهمية بدأ يكتسبها مفهوم الخلية في علم الأحياء.
وأمام ذلك واعترافاً بالدور الذي قامت به الطريقة التحليلية في التقدم العلمي أقبل علماء النفس على استخدام هذه الطريقة للوصول إلى الوحدات الأساسية للنفس. وهذا ما فعله البنيويون، ووجدته مدرسة ورتسبورغ خياراً لا مناص منه. ولكن البحوث المخبرية التي أجراها ممثلو هذه المدرسة سرعان ما أقنعتهم بعدم جدوى تفسير الجهاز النفسي المعقد على أساس ذلك المخطط الذي يتألف من عناصر جامدة لا رابط بينها(الإحساسات والتصورات والمشاعر). كما تبين لهم أن الإنسان يدرك العلاقات بين الأشياء الخارجية والأفعال التجريبية وأفكاره الذاتية.
وعلى قاعدة علم نفس الوعي اختزلوا كافة أنواع العلاقات في علاقة واحدة، وهي علاقة الأفكار بالحالات النفسية. وأعلنوا أن "مشاعر العلاقات" هي عناصر التفكير الأساسية المجردة من كل ماهو حسي.
وعززت تجارب ماير واورت ومارب هذا التصور. فقد قام ماير واورت بدراسة تجريبية أطلقا عليها "دراسة نوعية للترابطات"، وكشفا من خلالها عن وجود عناصر من الوعي لا تحمل أي شيء حسي. ومع ذلك فإن الإنسان يشعر بها بصورة جلية. يقول الباحثان: "إننا نؤلف بين هذه الظواهر كافة تحت اسم حالات الوعي على الرغم من صفتها التي غالباً ما تكون مختلفة تماماً(شاروخوفا، 1966، 65).
وفي دراسة مارب التي تناولت الطابع النفسي للحكم إشارات واضحة إلى حالات الوعي، كالشك وعدم الثقة والتوقع والتعجب والموافقة والتعرف والإحساس بالتوتر والإحساس بالوهم.
ومما تجدر إليه الإشارة بشأن هاتين الدراستين هو أن حالات الوعي التي تحدثنا عنها لم تكن، في رأي الباحثين الثلاثة، سوى عناصر للنفس بديلة للعناصر التي حددها فوندت وتيتشنر. كما أنهما لم تتطرقا إلى مسألة العمليات العقلية. وبقيت هذه المسألة دون طرح إلى أن جاء آش وميز من بين تلك الحالات مجموعة من المشاعر غير الحسية والتي لا تمس موضوعاً بحد ذاته، وإنما جملة من العلاقات المعقدة التي تتبدى عبر كافة مراحل التجربة، بدءاً بالتعليمات وانتهاء بالاستجابة، مروراً بإدراك المثير والبحث عن الاستجابة المناسبة. وقد أطلق عليها آش مصطلح "العلاقات المعرفية".
أخضع آش مع نفر من زملائه كل واحدة من تلك العلاقات إلى بحث معمق، استخدم فيه طريقة الملاحظة الذاتية للتعرف على تركيبها. واقترح فيه أن تتدرج المهمات التجريبية في صعوبتها وتعقيدها، وأن تكون أكثر منطقية من ذي قبل. ففي تجارب الترابط، مثلاً، أصبح المطلوب من المفحوص أن يجيب بكلمة على موضوع بأكمله بدل الإجابة بكلمة تدل على جانب أو جزء من ذلك الموضوع. أي أن مهمة المفحوص تحولت إلى إدراك ماهو قائم بين المفاهيم من علاقات منطقية. وصارت هذه المهمة تلزم المفحوص بتتبع أفكاره بشكل جيد أثناء أدائه لها.
وكيما يدلل آش على وجود تلك العلاقات المعرفية أو المشاعر غير الحسية أجرى سلسلة من التجارب، كان يطالب مفحوصيه فيها بقراءة نصوص متفاوتة الصعوبة وشرح مضامينها. واستنتج من خلال تحليله للمعطيات التجريبية أن المفحوصين كانوا يفهمون النصوص المجردة والمعقدة بسهولة على الرغم من قلة التصورات التي كانت تتشكل في هذه المواقف. وقد فسر هذه النتيجة بوجود ما أسماه "النزعات الاسترجاعية" في الوعي. فبفضل إثارة هذه النزعات تضع المثيرات الكلامية عدداً من التصورات المرتبطة بها في حالة استعداد أو استنفار. ويشعر المرء بهذه الحالة على شكل فهم فكرة أو معنى ما يقرأه.
وفي هذا المنحى تابع ميسير عمله المخبري وحقق نجاحاً في مسألة مكونات التفكير. فقد عرض أمام مفحوصيه مهمات أكثر تعقيداً من تلك التي عرضها آش. وتوصل إلى القول بوجود أفكار مجردة يحملها الإنسان عن الصور والكلمات. وهذه إحدى النتائج الهامة التي جمع مقدماتها من تقارير المفحوصين الذين أخبروه بفهمهم للجمل ومعاني الكلمات دونما الاعتماد على أي تصور مهما كان.
ومن جانب آخر وجد ميسير أن مركبات الوعي غير الحسية تتمثل في العلاقات الزمانية والمكانية والسببية والتطابقية والمنطقية. وخص هذه الأخيرة(العلاقات المنطقية) بمجموعة مستقلة تضم علاقة الشكل والمضمون وعلاقة الذات والموضوع. واقترح استبدال مصطلح "حالات الوعي" بمصطلح "الأفكار" للتعبير عن هذه العلاقات.
تابع بيولر عمله انطلاقاً من استنتاجات ميسير حول الأفكار غير الحسية وخصص لهذا الموضوع جزءاً كاملاً من أحد مؤلفاته الهامة، أطلق عليه "الأفكار". وعرض فيه تجاربه واستنتاجاته.
كان بيولر يطلب من مفحوصيه تقديم تفسير لبعض الحكم والأقوال المأثورة في بعض تلك التجارب، والكشف عن التناقض في الجمل والفقرات التي يتألف منها النص في بعضها الآخر. وقاده تحليل البيانات المتوافرة إلى فصل الأفكار عن الحالات الشعورية كالتعجب والثقة والشّك... إلخ، وهذا ما عبّر عنه في قوله "... إن الأفكار وحدها فقط يمكن أن ينظر إليها كعناصر أساسية لشعورنا بالتفكير"(BUHLER, 1907, 317). كما وقف على علاقة الكلام بالتفكير. ونبه إلى ضرورة عدم الخلط بين هاتين الوظيفتين، أو النظر إلى الأولى(الكلام) كشرط لازم للثانية(التفكير). وفي هذا يقول "علينا أن نشير مرة أخرى بوجه خاص إلى أنه من غير الممكن النظر إلى الكلام الداخلي، أي التصورات البصرية أو السمعية أو الآلية كظواهر ملازمة وضرورية لسائر الأفكار غير الحسية"(BUHLER, 1907, 319).
إن اعتقاد بيولر باستقلالية التفكير الحقيقي عن الكلام والإدراكات الحسية والتصورات جعله يتجاوز ميسير في فهم المعرفة غير الحسية واعتبارها مرحلة من مراحل تطور الفكر البشري. ومن هذه الزاوية يتحدث عن وجود ثلاثة أنواع من الأفكار. يشتمل النوع الأول منها على وعي القواعد، والثاني على وعي العلاقات بين المفاهيم والأفكار، والثالث على الذكريات المركبة.
لقد كانت بحوث جماعة ورتسبورغ، لاسيما تجارب آش وميسير وبيولر بالنسبة لكولب مادة غنية وقيمة من الزاوية الفلسفية، فعمل على الربط بينها وتعميمها. وتوصل في النهاية إلى إضافة عمليات عقلية أخرى إلى المركبات غير الحسية التي تم الكشف عنها من قبل. وقد أشار إلى تلك العمليات وعرفها بقولـه: "ليس ما نعيه وما نعقله أو ما نفكر فيه وفي صفاته وعلائقه هو وحده الذي ينتمي إلى الظواهر غير المتأملة حسياً، وإنما هناك جوهر وقائع الحكم والتجليات المتنوعة لنشاطنا ووظائف علاقتنا النشطة بمضمون الوعي المعطى وبالضبط التجميع والتحديد والاعتراف أو النفي(كولب، 1914، 52).
ولعل في هذه الكلمات من الشفافية والوضوح ما ييسر على المتتبع إصدار الحكم بأنها تعكس التوجه الفلسفي الجديد لمدرسة ورتسبورغ الذي يتجسد حصراً في فنومنولوجية هوسرل. فكولب يضع من خلالها إشارة المساواة بين مضمون الأفكار والمعرفة وينفي التصورات والأشكال الحسية عن الطرف الثاني، أي عن المعرفة. وهو، إذ يفعل ذلك، إنما يعتمد على المنهج الفنومنولوجي ويعبّر عن حرصه على تطبيقه.
إن تجريد العقل عن الصور والأشكال الحسية على نحو ما قام به كولب ورفاقه يعني فصل العمليات العليا التي يتضمنها عن مصادرها ومنابعها، ويعني كذلك مصادرة أي إشارة لربط المستوى المجرد بالمستوى الحسي من المعرفة، وانطلاقاً من تصور الحياة النفسية كنسيج يتألف من مستويات متعددة ذات صلات معقدة ومتشعبة فيما بينها من جهة، وبينها وبين الواقع الخارجي من جهة ثانية.
ويذهب كولب إلى تبرير ذلك برسم صورة أخرى للحياة النفسية، ولعلاقة الجوهر "الشيء بذاته" بالظاهرة في الموضوع. فهو يعتقد أن الاتحاد القائم بين جوهر الموضوع وصفاته الخارجية هو اتحاد ظاهري محض، وأن معرفة الموضوع بصورة عميقة ودقيقة تقتضي تجاوز صفاته الظاهرية والتركيز على الجوهر. وهذا لا يتم، في تقديره، إلا عن طريق التفكير الخالص، لأنه، كما يقول، وحده القادر على تعريف الأشياء بذاتها، أي كما هي موجودة في الواقع. ومن غير الممكن أن يضطلع الباحث بهذه المهمة إن لم يتخلص كلية من "الشوائب" الحسية. فاختلاطها به يضعف قدرته على "النظر" في الجوهر، ويصرفه عنه ويشغله في أمور التعرف على الجوانب السطحية والعرضية في الموضوع.
لقد تحدث كولب عن التفكير الخالص، القادر على معرفة الجوهر الثابت، وشدد على أهميته المعرفية، معلناً، في ذات الوقت، أن الإدراك والتصورات تشكل حاجزاً يحول دون معرفة الإنسان للعالم معرفة حقيقية. فهي، حسب اعتقاده، لا تقدم سوى معلومات مضللة عن الموضوعات نظراً لأن هذه الأخيرة تتبدل فيها باستمرار.
إن آراء كولب ومساعديه حول استقلالية التفكير وعدم ارتباطه بالإدراكات والتصورات هي نتيجة منطقية لتأثرهم بالمنهج الاستبطاني والمنهج الفنومنولوجي.وبوسع المرء أن يعود إلى وصف بيولر للمعطيات التجريبية ليتعرف على الأطر التي يلزم هذان المنهجان الباحث بها.
فهذا الالتزام هو الذي حمل الرجل إلى القول بغياب كل ما يدل أو يشير إلى علاقة التفكير بالكلام في تقارير المفحوصين. وأن كل ما يفعله الكلام، حتى في أرقى أشكاله(الكلام الداخلي) لا يتعدى، في رأي بيولر، استعادة معطيات المسألة وتنظيم شروطها. وفي هذا المعنى يجد بيولر أن نتائج محاضر التجارب "تتحدث عن الكلام الداخلي في المقام الأول حين لا يكون المفحوص مهيئاً للمسألة على النحو الذي تطرح فيه، وحين يتوجب عليه إعادة صياغتها لنفسه أو تقسيمها إلى أجزاء"(BUHLER, 1907, 317). وهكذا يضع بيولر وظيفة الكلام إلى جانب وظيفة الإدراك، وينكر صلتها بالعمليات العقلية.
لم يجانب بيولر وكولب وغيرهما من ممثلي مدرسة ورتسبورغ الواقع كما قدمته وسائلهم في البحث. ولكن واقعهم هذا كان عاجزاً عن بلوغ الحقيقة التي حجبتها مقاومتهم لقبول مناهج واستخدام أدوات أخرى غير منهج الاستبطان والمنهج الفنومنولوجي. ذلك لأن كلاً من المنهجين يصرف الباحث عن رؤية الأساس الحسي للتفكير ويمنعه من تتبع أثر الكلام فيه أوصلته به. ومن هنا يمكن القول بأن الخطأ الذي ارتكبته مدرسة ورتسبورغ هو خطأ مبدئي ومنهجي. وكل ما يبنى على خطأ، فإن حظه من الصواب لن يكون كبيراً.
لقد واجهت هذه المدرسة حملة من الانتقادات المتعاظمة من غير أن تضعف إرادة ممثليها وتصميمهم على مواصلة العمل في الاتجاه الذي رسموه. ولعل قلة فاعلية تلك الانتقادات تكمن في أن أصحابها اعتمدوا على نفس المبادئ التي اعتمد عليها الورتسبورغيون، واستخدموا منهج الاستبطان الذي استخدمه هؤلاء مع بعض الاختلافات التي تمس أسلوب تطبيقه.
وبالإضافة إلى هذا فإن جماعة ورتسبورغ استمدت القوة على الاستمرار من رؤيتها المتقدمة لبعض القضايا المطروحة، ومنها على وجه التحديد سمة الدينامية والفعالية التي يتصف بها التفكير، وإخضاعها للدراسة والمعاينة، ومحاولتهم خلق ظروف تجريبية استبطانية تتناسب مع تلك الرؤية.
إن افتقار هؤلاء وأولئك لمنهج علمي ووسائل بحث موضوعية ساعد في إطالة عمر المناظرات والمماحكات بينهما. فلم يكن بوسع أي طرف تقديم الأدلة الكافية على صحة رأيه وخطأ الرأي الآخر. فقد بقي الاعتقاد مثلاً، باستقلالية النشاط الفكري عن النشاط الحسي والوظيفة الكلامية ناظماً وموجهاً لأعمال الورتسبورغيين حتى ظهرت طريقة التخطيط الكهرودماغي ELECTROENCEPHALOGRAMME وطريقة الرسم الكهروعضلي ELECTROMYAGRAPHIA. حيث مكنت هذه التقنية الباحثين من الوقوف على علاقة الكلام الداخلي بالتفكير، وذلك بتسجيل تغيرات النشاط الكهربائي التي تحدث في ذلك الجزء من القشرة الدماغية الذي يتلقى المثيرات من عضلة اللسان والحنجرة، وتسجيل الكمون الكهربائي في عضلة اللسان أثناء قيام الإنسان بنشاط ذهني.
أما المشكلة الثانية التي دأب ممثلو ورتسبورغ على معالجتها فهي آليات التفكير والقوانين التي تتحكم فيه. ومع أن هذه المشكلة تعتبر الوجه الآخر لأطروحتهم عن التفكير كعملية أو كحل للمسألة، إلا أنها بقيت أعواماً طويلة تنتظر حظها من الاهتمام. ذلك لأن الجميع كان مشغولاً عنها بإثبات عدم حسية التفكير. وعندما قرروا طرحها كان هدفهم الرئيسي من ذلك هو إثبات عجز النظرة الترابطية عن إعطاء صورة صحيحة عن التفكير من منطلق أنه أعقد من أن تحيط به آليات الترابط، وأن ثمة آليات وقوانين أخرى ينبغي على الباحث أن يقوم بالكشف عنها.
إن صياغة فرضية تتعلق بآليات عملية التفكير، ومحاولة إثبات صحتها تعتبران لحظة هامة في تاريخ الدراسات النفسية عامة، ودراسة التفكير خاصة. وتلك نقطة إيجابية تسجل لصالح مدرسة ورتسبورغ. فمن خلالها أرسى ممثلوها قاعدة صلبة للتفريق بين النشاط العقلي وعملية التفكير وتحديد معنى كل منهما ودوره في حياة الفرد. وقد أوصلتهم دراستهم إلى الحكم بعمومية الأول وشموليته بمقارنته مع الثاني. فإذا كان المقصود بالنشاط العقلي كل نشاط معرفي واع يقوم به الإنسان، فإن التفكير هو الجانب غير الحسي من ذلك النشاط، الذي يتجلى في صورته الخالصة حالما تعترض سبيل الإنسان مشكلة أو تطرح أمامه مسألة.
لقد أظهر تنوع التجارب في مخبر ورتسبورغ أنه في المراحل التحضيرية التي يستقبل المفحوص أثناءها التعليمات، تتشكل لديه حالة أو اتجاه نحو حل المسألة المقترحة، أطلق عليها كولب مصطلح "النزعة المحدِّدة". وما عرضه وات في أعماله المخصصة لدراسة تأثير المسألة على عملية التفكير يعد نموذجاً طيباً للكشف عن طبيعة تلك الآليات ودورها. فقد عرف الباحث المسألة بأنها تحول التعليمات التي يتلقاها المفحوص(الموضوعية) إلى تعليمات ذاتية. وتشرع هذه العمليات بأداء وظيفتها محددة الطابع الانتقائي لتفكير المفحوص، حيث يقوم المثير بتحريض مجموعة من النزعات الاسترجاعية التي تستدعي ظهور عدد من الكلمات والمفاهيم التي ارتبطت في خبرة الفرد بالمثير. فلما كان القليل فقط من تلك الكلمات والمفاهيم ذا علاقة بالمسألة المطروحة(الاستجابة بكلمة على الكلمة –المثير)، فإنه في هذه الأثناء تبرز الحاجة إلى آلية متممة تؤثر بصورة انتقائية على التداعيات المسترجعة مما يفسح المجال أمام تدخّل التعليمات الذاتية لتقوم بذلك، فتقوى تداعيات وتضعف أو تكف تداعيات أخرى.
والواقع أن ما عناه وات بالتعليمات الذاتية لم يكن سوى إعادة المفحوص لتعليمات التجربة بصمت عدداً من المرات. ثم تحل مرحلة يتوقف المفحوص خلالها عن وعي المسألة. ومع ذلك فإن المسألة، كما يلاحظ وات، تستمر في تأثيرها، وتدفع المفحوص إلى تقديم إجابات صحيحة عن غير وعي.
ويمضي بيولر أبعد من ذلك، فيجد أن مجرد طرح السؤال على الإنسان كفيل باستدعاء عملية التفكير لديه. بيد أنه لم يوظف هذا التصور في تحليل آليات التفكير، بل ورفض دراسة ما دعاه "جدلية التفكير". وقصر عمله على وصف العمليات العقلية غير الحسية. بينما التفت آش إلى اختبار النتائج التي توصل إليها وات وتطويرها. وعلى الرغم من اتفاقه معه في المقدمات، لاسيما في القول بانعدام وعي الإنسان بنشاطه الذهني وبعمليات تفكيره وآلياته، فإن ثمة إضافات وإيضاحات حملتها نتائج بحوثه التي تناولت الموضوع المركزي المطروح. ولعل أهمها إشارته إلى وجود آليات أخرى تتخلل التفكير إلى جانب "النزعات المحددة" وهي "تصورات الهدف". وتتم هذه الآليات بصورة غير شعورية، باستثناء بعض الحالات التي يعي فيها الإنسان تصوره عن الهدف من نشاطه.
أجرى آش تجارب عديدة على مفحوصين منوّمين مغناطيسياً. وخلالها كان يعرض أمام المفحوص بطاقتين تحمل كل منهما رقمين، ويطلب منه حساب حاصل جمع الرقمين في البطاقة الأولى وحاصل فرق الرقمين في البطاقة الثانية. وبعد أن يستفيق المفحوص يعرض الباحث أمامه بطاقة تحمل الرقمين 6/2، مثلاً. وقد لاحظ أنه ما إن ينظر المفحوص إلى الرقمين حتى يسارع إلى الاستجابة بالرقم(. ولدى سؤاله عن سبب ذكره للرقم(، كان يجيب بأنه يشعر بحاجة ملحة إلى قول ذلك.
وجدير بالإشارة أن ممثلي مدرسة ورتسبورغ لم يقصروا حديثهم عن النزعات المحددة على النشاط الذهني فقط، بل شملوا به، فيما بعد، ساحات أخرى من النفس، كالانفعال والتذكر والإدراك. فالمثير، عندهم، يتحلل إلى صورة وخلفية، إذ يبرز الجزء من المثير الذي تتجه صوبه النزعات المحددة وتصورات الهدف مكوناً الصورة. بينما يتراجع الجزء الآخر الذي تسقطه تلك النزعات إلى الوراء ليشكل الخلفية. وتنظم هذه الآلية سلوك الفرد في المواقف الحياتية المختلفة. فهو يدرك المعطيات قريبة بعضها إلى بعض حين ينزع إلى التأليف بينها. وتتجلى النزعات المحددة كذلك في استجابات الفرد التي لا يملك حيالها ما يفسر قيامه بها. وهذا ما وقف عليه آش ووات عبر مجموعة من التجارب. فقد كان المفحوص في كل مرة يبدي عجزه عن معرفة سبب استجابته على هذا النحو دون سواه(الاستجابة بهذه الكلمة تحديداً دون غيرها، الضغط على الزر بهذا الإصبع وليس بسواه.. الخ).
مما تقدم تبرز الأهمية الخاصة التي حملها الورتسبورغيون لمفهوم "النزعات المحددة" واندفاعهم نحو إيجاد مرتسماته في تجليات الوعي. ويبرز أيضاً نزوعهم نحو دحض المنهج الارتباطي والتدليل على محدوديته عبر البديل العلمي القادر على تفسير المستويات الأرقى من النشاط النفسي. وهم، وإن وجدوا البديل في منهج الاستبطان، فإنهم كانوا يؤكدون على الدوام تجاوز الشكل الذي اتخذه هذا المنهج عند فوندت وتيتشنر، ويرفضون محاولات حصره ضمن حدود الحصول على الخبرة الشعورية ووصفها كما هي. فمهمة الباحث السيكولوجي، في رأيهم، تتعدى مجرد النظر في التقارير الشفهية التي يقدمها المفحوص حول نشاطه النفسي إلى التعرف على الأسباب التي تكمن وراء ذلك النشاط وتدفع به إلى التشكل والظهور. ويضاف إلى هذا أن الاستبطان لا يسمح بالوقوف على جوهر الظاهرة النفسية وعزله عن تجلياتها في الملاحظة الذاتية.
لقد بينت تجارب آش ووات أن السمة الجوهرية للنشاط العقلي المتجسدة في غائيته وانتظامه تظل مستترة ومجهولة في الملاحظة الذاتية. وهي لا تظهر إلا بالطرق غير المباشرة. وبناء على هذا الاستنتاج أوصى الورتسبورغيون بضرورة تعزيز تقارير المفحوصين بإجاباتهم على أسئلة ترمي إلى معرفة الأسباب التي حملتهم على القيام بهذا العمل أو ذاك.
وأخيراً فإن تعاليم مدرسة ورتسبورغ تضمنت أطروحات جديدة أثرت، ولاشك، التراث السيكولوجي، وأثارت ردوداً متفاوتة بين التأييد والمعارضة. ومن الأمور التي استوقفت بعض النقاد تلك المتعلقة بماضي الأفعال العقلية والمفاهيم وأصولها. ويتساءل هؤلاء عما إذا كان من المفيد لعلم النفس أن يتناول النشاط النفسي، ويتتبع نموه خلال المراحل العمرية التي يمر بها الفرد. وأمام هذا التساؤل الذي لا يخفي اعتراض أصحابه على تجاهل الورتسبورغيين لهذا الأمر، يعترف آش في كتابه "حول تشكل المفاهيم" الصادر عام 1921 بضرورة الاعتماد على المدخل التكويني في دراسة التفكير. وأكثر من هذا فقد عمل الرجل على تجسيد اعترافه بخطأ موقفه السلبي من هذا المدخل في نشاطه العلمي. فوضع طريقة تقوده إلى استخلاص العمليات التي تؤلف آلية تشكل المفاهيم. وتلك خطوة قرّبت مدرسة ورتسبورغ من المنهج الموضوعي، وأبعدتها عن الفهم الاستبطاني للحياة النفسية.
وربما فعلت دراسات سيلز في هذا الاتجاه أكثر، وأمدت تراث ورتسبورغ بمعطيات جديدة أكسبتها القدرة على مواصلة التحدي وتدعيم مواقعها لفترة طويلة من الزمن.
كان سيلز آخر من التحق بمدرسة ورتسبورغ. فبعد أن نشر أصحابها مجموعة من الأعمال وسافر كولب إلى برلين، ومنها إلى ميونيخ، قدم سيلز إلى ورتسبورغ ليسهم في دراسة النشاط العقلي عند الإنسان. ولقد تزامن نشاطه مع بداية مرحلة من مراحل تطور علم النفس، تميزت بظهور اثنتين من كبريات المدارس السيكولوجية، وهما السلوكية والغشتالتية. وهو الأمر الذي مكنه من إجراء مراجعة شاملة ودقيقة لأفكار مدرسة ورتسبورغ، والعمل على تمثّل الأفكار الجديدة وتوظيفها في ذلك النشاط.
انطلق سيلز من الفلسفة الفنومنولوجية. وقبل بمبدأ كلية وشمولية الوعي الذي ينشأ عبر النشاط العقلي كنتيجة للمعالجة الذهنية للمشكلات التي تطرح على الإنسان. وتبعاً لذلك اعتبر الوعي موضوعاً محورياً لعلم النفس. وفي هذا يكمن اتفاقه مع جماعة ورتسبورغ. إلا أنه لا يجاريهم في قولهم أن الفرد يستطيع أن يدرك عمليات نشاطه الفكري ويبلغ عنها. فمع أن بناء التجربة عنده لا يختلف عن بنائها عندهم، إلا أنه رفض المضي في طريقهم، وحاول تحليل المعطيات من وجهة نظر العمليات العقلية. ولذا فقد اقترح، زيادة على التحليل الوضعي، الفنومنولوجي، القيام بتحليل مزدوج يشمل الجانب التكويني والجانب الوظيفي للعملية العقلية. ورأى أن من شأن التحليل التكويني أن يطلع الباحث على ميكانيزمات تشكل النتائج التي يتوصل الفرد إليها عن طريق نشاطه العقلي. واستخدام التحليل الوظيفي يساعد على إبراز دور كلّ مرحلة من مراحل هذا النشاط ويبين علاقتها بالمراحل الأخرى.
وفي هدي هذا المنهج يقيم سيلز نظريته في التفكير الإبداعي أو الابتكاري. ولقد سعى من خلال صياغته لها إلى تجاوز التناقض الذي أشارت إليه بعض النظريات، كالغشتالتية مثلاً، بين هذا المستوى من التفكير والتفكير الاسترجاعي أو الاجتراري. حيث تحدث عن نوعين أو مستويين من التفكير في علاقتهما المتبادلة أثناء النشاط الإنساني. ولم يجد ما يبرر القول بوجود أحدهما مع غياب الآخر. ويعيد سبب الوقوع في هذا الخطأ إلى النظرة الوضعية القاصرة عن إدراك ما تتسم به عمليات الاسترجاع من فعالية وإيجابية، فهي برأيه، ليست سلبية أو ترابطية كما توهم أصحاب تلك النظرة بدليل أنها لا تجري في الوعي بصورة غير إرادية. وعليه فإنها تؤلف مستوى من مستويات النشاط العقلي الذي يتعايش مع المستوى الإبداعي، بل ويحمل في طياته بذور الإبداع.
لقد أراد سيلز من خلال نظرته إلى التفكير الاسترجاعي وتأكيده أهميته في التفكير الإبداعي أن يشير أيضاً إلى أن هذا الأخير لا يستغني عن العمليات الاسترجاعية، بل إنه يتضمنها بالضرورة. وفي هذا يقول: "إننا من جديد نلفى تلك العمليات العقلية التي تشكل المجرى الاسترجاعي للفكر على صورة عمليات متكررة للتفكير الإبداعي"(SELZ. OP. CIT, S, VII). وهذا يعني أن التفكير الإبداعي يقوم في جزئه الهام على استخدام العمليات والطرائق المعروفة في تناوله للموضوع الجديد، ويتوقف على الكشف عن علائق جديدة وتكون نظرة أصيلة إلى العمليات العقلية المعهودة.
ولعلنا نجد في معالجة سيلز للمعطيات التجريبية ما يجسد حرصه على تطبيق أفكاره وطريقة تحليله للنشاط العقلي في الواقع. فعندما تطرح التجربة مسألة ما، فإن سيلز لا يعتبر معطياتها بحد ذاتها كافية للقول بوجود مشكلة تتطلب مخرجاً أو حلاً من قبل المفحوص. ولكي يكون الأمر كذلك يتوجب على هذا الأخير أن يؤلف بين عدد من المثيرات التي تحتويها شروط المسألة المطروحة. وبكلمات أوضح فإن المرحلة الأولى من التفكير هي معالجة الفرد لمعطيات المسألة ذهنياً، حيث يقوم بتجزئة العلاقات الحسية القائمة بين عناصر الموضوع وأجزائه. وهذا العمل، في نظر سيلز، يتمتع بصفة الإبداع أكثر مما يحمل من بُعد الاسترجاع.
أما المرحلة الثانية للنشاط الفكري فإنها تشتمل على العمليات المستخدمة في حل المسألة المطروحة. والحل يعني، بالنسبة لسيلز، تدارك النقص أو سد الثغرة في المسألة. وهنا يدخل سيلز مفهوم التوقع أو الإشراق ANTICIPATION ليدل به على معرفة ماهو مجهول أو مطلوب في المسألة.
إن العمليات التي تستدعيها المسألة التي يتحدث عنها سيلز تؤلف بمجموعها نوعاً من طرائق أو أساليب الحل. وتعتبر أساليب الحل الجاهزة أبسط العمليات العقلية. فهي تطبع نشاط الفرد حينما يواجه بمسألة قام في وقت سابق بحل ما يشبهها ولو مرة واحدة. وفي حالة كهذه تبرز العلاقات المادية التي تسم خصوصية المركب الإشكالي في المسألة.
ولقد أشار سيلز إلى أن تنشيط الأساليب يحمل طابعاً استرجاعياً، يمكن أن يفضي إلى ظهور نتاج جديد. بينما يتخذ إيجادها شكلاً مختلفاً مبدئياً. وهذا ما يتجلى في الشكل الذي يكتسيه تجريد الطريقة الاسترجاعية في الحل، حيث يتم تجريد أسلوب الحل الذي يستخدم في المسألة الجديدة عبر تعميم العلاقات التي تجمعها مع المسألة القديمة.
بيد أن المسائل التي يصادفها الإنسان ليست دائماً من النوع البسيط أو المتشابه. وكثيراً ما يواجه بمسائل معقدة وغير مألوفة. فكيف ينجز مثل هذه المهمات، ويتوصل إلى حل ما يصادفه من مسائل؟ وما هي العمليات التي بفضلها يتم له ذلك؟. إن الإجابة على هذا التساؤل تؤلف جزءاً هاماً من نظرية سيلز. وهي تتلخّص في أن الأساليب والعمليات العقلية لا ترتبط بالمسألة ارتباطاً خارجياً، وإنما تستمد من بنيتها وتشتق –تجريدياً- من مضمونها بصورة مباشرة.
وهنا يجيء تأكيد سيلز أن العلاقة بين بنية المسألة والعملية العامة والأفعال الجزئية ذات طبيعة دافعية وليست ترابطية. والدافعية هي توقع نتائج العملية والأفعال الجزئية التي تسبق التغيرات التي يفترض أن تشهدها بنية المسألة لدى تنفيذها. وقد أشار إلى أن شروط المسألة وما تستدعيه من عمليات لا تلعب دوراً مؤثراً في آليات البحث عما هو مطلوب. فهذا الدور يقتصر على توجيه سير تلك العمليات وتدقيقها.
وفي نفس السياق وجد سيلز أن حضور الطرائق المعروفة والتحليل الدقيق لمحتوى المسألة لا يمكنان الإنسان دوماً من الوصول إلى الحل الصحيح. وكيما يتم له ذلك عليه أن يوظف عملية جديدة، تتمثل في الملاحظة وتقويم الوقائع والمعطيات المختلفة في ضوء الهدف الذي يحدد هذه العملية. وهو الأمر الذي لا يتيسر إلا لفئة قليلة من الناس تكون قادرة على الإبداع العلمي. فالعالم القادر على إنجاز هذه العملية يتمكن من ملاحظة وإدراك مالا يستطيع الآخرون ملاحظته وإدراكه عن طريق ألف ملاحظة عادية.
ومن خلال ما تقدم يمكن استخلاص العمليات العقلية الرئيسية التي وقف عندها سيلز وركز عليها باعتبارها نواظم العقل البشري، وهي: إكمال المركب والتجريد واسترجاع التشابه. فالعملية الأولى(إكمال المركب) تتجلى في كل محاولة لحل المسألة. وهو، إذ يبرزها كعملية خاصة، يطرح سؤالا حول بنية النشاط الذي يسعى للخروج من إطار ماهو معلوم ومباشر في المسألة وربطه بما هو مجهول.
إن أفعال الإنسان التي تعد هذا النشاط وتتوجه به نحو تحليل وتجريد ماهو معلوم في المسألة ماهي إلا خلفية للنظر إلى عملية إكمال المركب. وتبعاً للمضمون المحدد للمسألة يمكن أن تكون هذه العملية مكملة للمركب الزماني والمكاني أو المفهومي. ويتوقف تركيب العمليات الجزئية التي تدخل في إكمال المركب على مضمون المسألة أيضاً.
وفي الحالة التي تكون العلاقات الزمانية والمكانية فيها هي الغالبة، والمعطيات المعروفة مطروحة بصورة محسوسة يجد سيلز أن العملية الخاصة الأولى هي "ولادة التصورات" أو "تبصر" المادة المعطاة. على أن التصور عنده لا ينشأ بسبب العلاقة الارتباطية بينه وبين الكلمة –المثير، بل لأنه عملية عقلية خاصة تلح على الوعي طالما أن التجربة السابقة أظهرت نجاعة هذه العملية في حل مسائل محددة بما تملكه من علاقة انعكاسية معها. وبعد ذلك تبدأ عملية تفحص ماهو خارج حدود المادة المتصوّرة، ومحاولة تحديد ما يحيط بها على أساس من توصيف ما لها من عناصر. وإذا لم ينجز إكمال المركب تتم المراجعة بالعودة إلى المادة ذاتها ليصار إلى تحليل صفاتها.
وبناء على هذا التحليل يقام محيط جديد وتجري محاولة إبراز المركب. وفي حالة الإخفاق يتدخل تحليل آخر، يحدث فيه تقليب الموضوع على كافة أوجهه. ويعاد تحديد محيط له من جديد وفق خصائص جديدة.
ويكتسي التجريد عند سيلز أهمية خاصة، إذ أنه يشمل العمليات الهامة التي تدخل في حل أية مسألة، كإبراز الخصائص المختلفة للمواد والوقوف على العلاقات بين أطراف المركب وعزلها. ولذا فهو يقوم بدور كبير في حل تلك المسائل التي تتطلب البحث عن مفهوم النوع والجنس وتحديد المفهوم المطروح على أساس ذلك. ومن العمليات الجزئية والأساليب المساعدة التي يشملها التجريد: المقارنة والتحليل والتركيب والتعميم. ويرتبط محتوى هذه العمليات والأساليب بخصائص المسائل ودرجة صعوبتها وتعقيدها.
وعلى الرغم من شمولية العمليتين السابقتين، فقد أضاف سيلز استرجاع التشابه كعملية رئيسية ثالثة ليرد بها على الارتباطيين وغيرهم ممن لم يتخلصوا من تأثيرات القوانين الارتباطية بعد. وقد قصد سيلز بهذه العملية توارد التصورات السابقة والمتشابهة مع ماهو مطروح في اللحظة الراهنة إلى الوعي. وتلك عملية عقليّة معقدة لا تحدث بصورة آلية أو غير إرادية مثلما يقول الارتباطيون. وهي تشتمل على تجزئة الموضوع إلى صفات محددة، باعتبارها عملية ضرورية ولازمة لتعريف الموضوع أو المفهوم، ومن ثم تسميته. وبدونها يكون من العسير على المرء أن يحدد المفهوم المشابه.
إن القراءة المتأنية لنظرية سيلز حول مراحل النشاط العقلي وعملياته تظهر جوانبها الإيجابية والأفكار الجديدة التي جاءت بها، مثلما تظهر نقاط الضعف فيها. وفي هذا الصدد ثمة شبه إجماع إن لم نقل إجماعاً كاملاً من جانب مؤرخي علم النفس على اعتبار سيلز أول من نظر إلى النشاط العقلي كعملية تتألف من مراحل تمهد كل واحدة منها الطريق أمام لاحقتها، وهذه تعتبر نتيجة لسابقتها، من غير أن يغفل الدور الهام الذي تلعبه الشروط الخارجية(معطيات المسألة وشروطها) في ذلك. ويؤكد هؤلاء المؤرخون على إيجابية محاولته إبراز العلاقة الجدلية بين التفكير الاسترجاعي والتفكير الإبداعي. ولكن الكثير منهم يأخذ عليه ضعف تحليله النظري للعمليات العقلية وتكاملها وتفاضلها، وقلة الأدلة والبراهين العلمية التي اعتمد عليها في عرضه لأدوار تلك العمليات ومكانتها في النشاط المعرفي عند الإنسان.
بوح الروح
ويرجع الفضل في ظهور هذه المدرسة إلى جهود مجموعة من الباحثين بزعامة أوسفالد كولب(1862-1915م)، أحد تلاميذ فوندت، الذي اتخذ من مدينة ورتسبورغ في مقاطعة بافاريا مركزاً لنشاط المجموعة. فأنشأ فيها مخبراً للبحوث النفسية في الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر. ومن أبرز أفراد هذه المجموعة كارل مارب(1869-1953م) وهنري وات(1879-1925م) وأوغست ميسير(1867-1937م) ونارسيس آش(1871-1946م) وكارل بيولر
(1879-1963م) وأوتو سيلز(1881-1944م) وكارل تيلر وأ.ماير و أ.أورت وغيرهم.
عرف كولب كباحث متمكن من خلال كتابه "مبادئ علم النفس"(1893). وكانت أفكاره وقتئذٍ قريبة من أفكار فوندت. ولكنه تحول فيما بعد إلى موقع آخر، ووقف من أستاذه موقفاً معارضاً، انعكس في سلسلة التجارب التي أشرف عليها في مخبر ورتسبورغ.
ولعل هذا التحول في فكر كولب جاء نتيجة فلسفة ماخ الوضعيّة ومذهب هوسرل الفنومنولوجي وإطلاعه عليهما وتأثره الكبير بهما. وهذا ما نلمسه في أعماله اللاحقة وانعكاساتها في الاتجاه العام للمجموعة ونشاطاتها النظرية والتجريبية.
والمتعقب لنشاطات كولب وجماعته يجد أن تأثير الوضعية والفنومنولوجية عليها لم يحدث دفعة واحدة، وفي وقت واحد، وإنما بصورة تدريجية وعبر سنوات عديدة. وبإمكانه بشيء من التمحيص والمتابعة أن يميز مرحلتين رئيسيتين لهذا التأثير وذاك التحول. فالوضعية والفنومنولوجية اللتان اعتمد عليهما كولب وزملاؤه، بعد انشقاقه عن فوندت، كمنطلق ووسيلة للتعامل مع المعطيات التجريبية، لم تكونا حاضرتين عندهم في ذات الوقت. فكثيراً ما كانت تحملهم تفسيراتهم واستنتاجاتهم التي كانوا يبنونها على وضعية ماخ في الأعوام التي أعقبت إنشاء المخبر على الريبة في صحتها ومنطقيتها الأمر الذي دفعهم إلى التفكير في منطلقات أخرى يمكنهم الاعتماد عليها من التحليل والتعليل الأكثر انسجاماً مع الأوضاع والظروف التجريبية. فوجدوا في فنومنولوجية هوسرل ما يستجيب لشروطهم ويلبي متطلباتهم.
إن الإشارة إلى هاتين المرحلتين وما تتسم به كل واحدة منهما من خصائص لا تعني انفصالهما بقدر ما تفيد التأكيد على علاقتهما التكاملية في فكر كولب على الأقل، واعتبار أولاهما مقدمة للثانية، وهذه استمراراً أو –إن شئتم- تطويراً لها.
بدأ كولب ومعاونوه نشاطهم التجريبي المخبري باستخدام المنهج الاستبطاني. وكان هذا المنهج، بالنسبة لهم –كما هو الشأن بالنسبة للمدرسة البنيوية-، الوسيلة الوحيدة لدراسة النفس. ومن غير أن نتوقف الآن عند هذه النقطة نسارع إلى القول بأن لتجارب ممثلي مدرسة ورتسبورغ فضلاً كبيراً على علم النفس في العقد الأول من القرن العشرين. وهذا ما يلاحظ من خلال اهتمامهم بتفصيلات الأوضاع التجريبية والتعديلات الهامة التي أدخلوها على مراحل تطبيق الاستبطان. فقد تمحورت جهودهم حول دراسة الظواهر السيكوفيزيائية، كقياس العتبات الحسية وزمن الرجع وسرعة الاستجابة. ومن المعروف بالنسبة للقارئ أن طرح مثل هذه الموضوعات على جدول أعمال البحث السيكولوجي في تلك الفترة ليس بالشيء الجديد. إذ سبق وأن طرحها علماء كثيرون منذ أكثر من نصف قرن. ولكن الجديد والهام معاً في تناول الورتسبورغيين لها يتمثلان في التقنيات المستخدمة والتعليمات الدقيقة والصارمة.
فالممارسة الميدانية برهنت لهم على عدم كفاية أن يطلب من المفحوص(الذي كان هو نفسه الفاحص)، مثلاً، الإجابة على سؤال أي الجسمين أثقل، أو الاستجابة بكلمة على الكلمة –المثير، بل وأكثر من ذلك، أن يصف العمليات التي تجري في وعيه بعد استقبال المنبه وقبل إصدار الحكم. ولعلّ أهم حيثيات الحكم على أهمية هذا الإجراء هو تأكيد أصحابه على ربط الاستجابة بحالة المفحوص ووعيه إلى جانب ربطها بالمثير.
لقد كانت المهمة الأساسية في ما مضى هي تحديد الفرق بين إحساسين، أو تعيين الكلمة التي تستجرها كلمة أخرى. بمعنى أن غرض الباحث من التقرير الشفهي الذي يقدمه المفحوص، كان ينحصر في التعرّف على الصورة النفسية، أي على أثر الفعل النفسي ونتاجه، وليس على الفعل ذاته. فجاءت مدرسة ورتسبورغ لتحول بؤرة الاهتمام من الصورة إلى الفعل.
وأغلب الظن أن يكون الورتسبورغيون قد استمدوا موقفهم هذا من فكرة ماخ عن الجسم بوصفه مجموعة من الإحساسات. وانطلاقاً من هذه الفكرة اعتبر تقرير المفحوص في التجربة المخبرية وصفاً لمظاهر النفس دون الأشياء الخارجية الفيزيائية. ومن خلالها يكون ماخ قد ألغى الفروق القائمة بين الاستبطان كنشاط نفسي إنساني ووصف الشروط الموضوعية المحيطة بالفرد، وأرجع جميع أنواع التقارير الشفهية إلى الاستبطان.
وفي ضوء هذا الفهم وجد علماء النفس الورتسبورغيون أن منهج الاستبطان هو المنهج الأصلح لدراسة الإحساسات والإدراك. فتقرير المفحوص حول نشاطه الذهني أثناء التجربة هو –في اعتقادهم- التعبير الحقيقي عن مجرى التفكير. ولكي يكون الأمر كذلك ألحوا على ضرورة التقيد بجملة من الشروط المعيارية، من مثل تقديم المثيرات والتعليمات ذاتها لجميع المفحوصين. وفي هذا الصدد عمد آش إلى ربط مشاعر المفحوصين وملاحظة ذواتهم بتغير الشروط الخارجية. وحكم على الملاحظة الذاتية بأنها عجفاء ما لم تتمكن من استدعاء تغيرات في المشاعر الداخلية بدرجة تتناسب مع تغير الشروط الخارجية للتجربة وتعليماتها.
ولسنا بحاجة إلى الكثير من الجهد لكي ندرك الاعتراف الضمني بأهمية المثيرات الخارجية وتأثيراتها على عملية التفكير الذي بنى عليه آش حكمه. ومع ذلك فإن قولاً كهذا لا يعدو كونه ضرباً من التوقع والتخمين تدفع به رغبة المرء في أن يجد هذا الاعتراف ترجمة له في أعمال آش وزملائه. فما أن نمضي قليلاً في قراءة نظرية ورتسبورغ حتى نفاجأ برؤية أخرى مخالفة لتلك القاعدة التي وضعها آش، ولكنها تعيد لمبادئ مدرسته انسجامها وتعبر عن تعاليمها أبلغ تعبير. ووفق هذه الرؤية فإن الظروف الخارجية ليست سوى بواعث أو أساليب لاستثارة النشاط الذهني.
إن فصل ما يحدث خارج الفرد عما يجري في داخله، أو التقليل من دور الطرف الأول في ظهور أي مستوى من مستويات السلوك الإنساني، هو السبب الذي حمل الكثير من السيكولوجيين، ومن بينهم جماعة ورتسبورغ إلى استخدام الاستبطان لدراسة موضوعات علم النفس. وثمة سبب آخر لا يقل، إن لم يكن أكثر، أهمية من الأول، وهو غياب الحدود بين جوهر الموضوع وتجلياته الخارجية، والفهم الخاطئ للعلاقة بينهما الذي قدمه علماء النفس الاستبطانيون حين طابقوا بين جوهر النشاط العقلي من جهة، وإحدى صور ذلك الجوهر التي تتجلى في الملاحظة الذاتية للفرد من جهة ثانية. فقد لاحظ بيولر أن ميسير كان يشعر أثناء قيامه يتجاربه على كولب بأنه ليس أكثر من منقح أو محرر لأقواله. كما أشارت ل.أنتسيفيروفا من بعد إلى أن المفحوص تحول في تجارب الورتسبورغيين إلى فاحص يتتبع تفكيره الخاص، وبالتالي فإن ملاحظة بيولر صحيحة، وتنطبق على جميع تلك التجارب. وفي معرض توضيح هذا الحكم تقول أنتسيفيروفا: "من وجهة نظر المدخل الموضوعي للنفس فإن التقرير الاسترجاعي عن الأفكار التي يستدعيها المثير لدى الشخص هو أمر مقبول تماماً... إلا أن هذا التقرير يعد المادة الخام التي يمكن أن تكون وسيلة احتياطية لاستعادة جريان العمليات النفسية. وعليه فإن الوقائع التي توصل إليها الورتسبورغيون تكتسي أهمية خاصة. ولكن تقارير الملاحظة الذاتية في ظل غياب نظرية في التفكير حتى ولو كانت مسبقة، قد لا تحمل سوى معطيات مجتزأة ومتقطعة وعرضية حول إدراك الإنسان لموضوعات تفكيره" (شاروخوفا، 1966، 62).
أما على الصعيد العملي فقد كشفت التجارب التي أجريت في مدرسة ورتسبورغ عن وجود أشكال من الوعي تربطها بالموضوعات صلات أبعد وأعمق من مجرد الإحساس بها وإدراكها، تجعل معرفة الإنسان بجوهر تلك الموضوعات تتجاوز الصور الحسية.
ولاشك في أن تلك الوقائع تتباين مع موضوعية ماخ التي ترجع مشاعر الإنسان برمتها إلى الإحساسات. كما بينت هذه التجارب أيضاً لدى الإنسان القدرة على إدراك أفعاله العقلية. وأمام هاتين الحقيقتين اضطر ممثلو مدرسة ورتسبورغ إلى التخلي عن مبادئ ماخ الفلسفية والبحث عن غطاء نظري يتسع لمدلولاتهما ويستوعب أبعادهما. فوجدوا هذا الغطاء في فلسفة هوسرل. وكان ذلك إيذاناً بنهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى في تاريخ هذه المدرسة.
وعلى الرغم من أن هوسرل انتقد وضعية ماخ، ولاسيما مبدأ "اقتصاد التفكير" الذي شكل جانباً هاماً منها، فإن فلسفته لم تكن نقيضاً لتلك الوضعية، بقدر ما كانت وثيقة الصلة بها. فقد اعترف هوسرل نفسه بفضل التحليل الذي قدمه ماخ للإحساسات ودوره الهام في التمهيد للمنهج الفنومنولوجي. بيد أن ذلك لم يمنع الاختلاف من أن يجد سبيله بين أفكار الرجلين. حيث كان لكل منهما رأيه في المصدر الذي يستمد منه الفرد خبراته وتجاربه. ففي حين رآه ماخ متمثلاً في الإحساس، قرر هوسرل البحث عنه في جوهر الموضوع والوعي معاً.
وعلى هذا فإن مهمة البحث، بمقتضى المنهج الفنومنولوجي، تنصب نحو دراسة ووصف الموضوعات التي يتجه إليها الفكر. وتجنباً لحدوث أي التباس قبل الدخول في تفاصيل التطبيقات الميدانية لهذا المنهج تجدر الإشارة إلى أن هوسرل لم يقصد من وراء طرحه لمفهوم الموضوع(الموضوعات) ماهو مادي وموضوعي، وإنما عني به تلك التشكيلات النفسية التي يدركها الفرد.
وهكذا تبين أن البحث في المنهجين: الاستبطاني والفنومنولوجي يتعامل مع مضمون وعي الفرد. ومع ملاحظة أن المنهج الثاني يركز على الموضوع الفنومنولوجي، وليس على المشاعر التي تنشأ تحت تأثيره.
لقد تناول ممثلو ورتسبورغ التفكير في بداية نشاطهم المخبري بوصفه مجموعة من حالات الوعي التي لا تتضمن أي عناصر حسية. ولكنهم عدلوا، فيما بعد، عن رأيهم، وأصبحوا ينظرون إليه على أنه المعرفة بالأشياء. ومع حلول المرحلة الجديدة، وبفعل تأثير الفنومنولوجيا أخذ التفكير يعني، بالنسبة لهم، معرفة جوهر الموضوعات، وليس معرفة صفاتها الخارجية فقط.
وأثناء هذه المرحلة ركزت مدرسة ورتسبورغ نشاطها على محورين. أولهما البحث في عناصر التفكير وطبيعتها والروابط القائمة بينها وتصنيفها. وثانيهما دراسة دينامية التفكير ومحاولة الوقوف على محدداته. ولعل الاهتمام بموضوعات المحور الأول قد أملته المفاهيم والأفكار التي كانت سائدة في فترة تأسيس المدرسة. فقد تصدر مفهوم الذرة والعنصر قائمة المفاهيم المتداولة في الفيزياء والكيمياء آنذاك. ونفس الأهمية بدأ يكتسبها مفهوم الخلية في علم الأحياء.
وأمام ذلك واعترافاً بالدور الذي قامت به الطريقة التحليلية في التقدم العلمي أقبل علماء النفس على استخدام هذه الطريقة للوصول إلى الوحدات الأساسية للنفس. وهذا ما فعله البنيويون، ووجدته مدرسة ورتسبورغ خياراً لا مناص منه. ولكن البحوث المخبرية التي أجراها ممثلو هذه المدرسة سرعان ما أقنعتهم بعدم جدوى تفسير الجهاز النفسي المعقد على أساس ذلك المخطط الذي يتألف من عناصر جامدة لا رابط بينها(الإحساسات والتصورات والمشاعر). كما تبين لهم أن الإنسان يدرك العلاقات بين الأشياء الخارجية والأفعال التجريبية وأفكاره الذاتية.
وعلى قاعدة علم نفس الوعي اختزلوا كافة أنواع العلاقات في علاقة واحدة، وهي علاقة الأفكار بالحالات النفسية. وأعلنوا أن "مشاعر العلاقات" هي عناصر التفكير الأساسية المجردة من كل ماهو حسي.
وعززت تجارب ماير واورت ومارب هذا التصور. فقد قام ماير واورت بدراسة تجريبية أطلقا عليها "دراسة نوعية للترابطات"، وكشفا من خلالها عن وجود عناصر من الوعي لا تحمل أي شيء حسي. ومع ذلك فإن الإنسان يشعر بها بصورة جلية. يقول الباحثان: "إننا نؤلف بين هذه الظواهر كافة تحت اسم حالات الوعي على الرغم من صفتها التي غالباً ما تكون مختلفة تماماً(شاروخوفا، 1966، 65).
وفي دراسة مارب التي تناولت الطابع النفسي للحكم إشارات واضحة إلى حالات الوعي، كالشك وعدم الثقة والتوقع والتعجب والموافقة والتعرف والإحساس بالتوتر والإحساس بالوهم.
ومما تجدر إليه الإشارة بشأن هاتين الدراستين هو أن حالات الوعي التي تحدثنا عنها لم تكن، في رأي الباحثين الثلاثة، سوى عناصر للنفس بديلة للعناصر التي حددها فوندت وتيتشنر. كما أنهما لم تتطرقا إلى مسألة العمليات العقلية. وبقيت هذه المسألة دون طرح إلى أن جاء آش وميز من بين تلك الحالات مجموعة من المشاعر غير الحسية والتي لا تمس موضوعاً بحد ذاته، وإنما جملة من العلاقات المعقدة التي تتبدى عبر كافة مراحل التجربة، بدءاً بالتعليمات وانتهاء بالاستجابة، مروراً بإدراك المثير والبحث عن الاستجابة المناسبة. وقد أطلق عليها آش مصطلح "العلاقات المعرفية".
أخضع آش مع نفر من زملائه كل واحدة من تلك العلاقات إلى بحث معمق، استخدم فيه طريقة الملاحظة الذاتية للتعرف على تركيبها. واقترح فيه أن تتدرج المهمات التجريبية في صعوبتها وتعقيدها، وأن تكون أكثر منطقية من ذي قبل. ففي تجارب الترابط، مثلاً، أصبح المطلوب من المفحوص أن يجيب بكلمة على موضوع بأكمله بدل الإجابة بكلمة تدل على جانب أو جزء من ذلك الموضوع. أي أن مهمة المفحوص تحولت إلى إدراك ماهو قائم بين المفاهيم من علاقات منطقية. وصارت هذه المهمة تلزم المفحوص بتتبع أفكاره بشكل جيد أثناء أدائه لها.
وكيما يدلل آش على وجود تلك العلاقات المعرفية أو المشاعر غير الحسية أجرى سلسلة من التجارب، كان يطالب مفحوصيه فيها بقراءة نصوص متفاوتة الصعوبة وشرح مضامينها. واستنتج من خلال تحليله للمعطيات التجريبية أن المفحوصين كانوا يفهمون النصوص المجردة والمعقدة بسهولة على الرغم من قلة التصورات التي كانت تتشكل في هذه المواقف. وقد فسر هذه النتيجة بوجود ما أسماه "النزعات الاسترجاعية" في الوعي. فبفضل إثارة هذه النزعات تضع المثيرات الكلامية عدداً من التصورات المرتبطة بها في حالة استعداد أو استنفار. ويشعر المرء بهذه الحالة على شكل فهم فكرة أو معنى ما يقرأه.
وفي هذا المنحى تابع ميسير عمله المخبري وحقق نجاحاً في مسألة مكونات التفكير. فقد عرض أمام مفحوصيه مهمات أكثر تعقيداً من تلك التي عرضها آش. وتوصل إلى القول بوجود أفكار مجردة يحملها الإنسان عن الصور والكلمات. وهذه إحدى النتائج الهامة التي جمع مقدماتها من تقارير المفحوصين الذين أخبروه بفهمهم للجمل ومعاني الكلمات دونما الاعتماد على أي تصور مهما كان.
ومن جانب آخر وجد ميسير أن مركبات الوعي غير الحسية تتمثل في العلاقات الزمانية والمكانية والسببية والتطابقية والمنطقية. وخص هذه الأخيرة(العلاقات المنطقية) بمجموعة مستقلة تضم علاقة الشكل والمضمون وعلاقة الذات والموضوع. واقترح استبدال مصطلح "حالات الوعي" بمصطلح "الأفكار" للتعبير عن هذه العلاقات.
تابع بيولر عمله انطلاقاً من استنتاجات ميسير حول الأفكار غير الحسية وخصص لهذا الموضوع جزءاً كاملاً من أحد مؤلفاته الهامة، أطلق عليه "الأفكار". وعرض فيه تجاربه واستنتاجاته.
كان بيولر يطلب من مفحوصيه تقديم تفسير لبعض الحكم والأقوال المأثورة في بعض تلك التجارب، والكشف عن التناقض في الجمل والفقرات التي يتألف منها النص في بعضها الآخر. وقاده تحليل البيانات المتوافرة إلى فصل الأفكار عن الحالات الشعورية كالتعجب والثقة والشّك... إلخ، وهذا ما عبّر عنه في قوله "... إن الأفكار وحدها فقط يمكن أن ينظر إليها كعناصر أساسية لشعورنا بالتفكير"(BUHLER, 1907, 317). كما وقف على علاقة الكلام بالتفكير. ونبه إلى ضرورة عدم الخلط بين هاتين الوظيفتين، أو النظر إلى الأولى(الكلام) كشرط لازم للثانية(التفكير). وفي هذا يقول "علينا أن نشير مرة أخرى بوجه خاص إلى أنه من غير الممكن النظر إلى الكلام الداخلي، أي التصورات البصرية أو السمعية أو الآلية كظواهر ملازمة وضرورية لسائر الأفكار غير الحسية"(BUHLER, 1907, 319).
إن اعتقاد بيولر باستقلالية التفكير الحقيقي عن الكلام والإدراكات الحسية والتصورات جعله يتجاوز ميسير في فهم المعرفة غير الحسية واعتبارها مرحلة من مراحل تطور الفكر البشري. ومن هذه الزاوية يتحدث عن وجود ثلاثة أنواع من الأفكار. يشتمل النوع الأول منها على وعي القواعد، والثاني على وعي العلاقات بين المفاهيم والأفكار، والثالث على الذكريات المركبة.
لقد كانت بحوث جماعة ورتسبورغ، لاسيما تجارب آش وميسير وبيولر بالنسبة لكولب مادة غنية وقيمة من الزاوية الفلسفية، فعمل على الربط بينها وتعميمها. وتوصل في النهاية إلى إضافة عمليات عقلية أخرى إلى المركبات غير الحسية التي تم الكشف عنها من قبل. وقد أشار إلى تلك العمليات وعرفها بقولـه: "ليس ما نعيه وما نعقله أو ما نفكر فيه وفي صفاته وعلائقه هو وحده الذي ينتمي إلى الظواهر غير المتأملة حسياً، وإنما هناك جوهر وقائع الحكم والتجليات المتنوعة لنشاطنا ووظائف علاقتنا النشطة بمضمون الوعي المعطى وبالضبط التجميع والتحديد والاعتراف أو النفي(كولب، 1914، 52).
ولعل في هذه الكلمات من الشفافية والوضوح ما ييسر على المتتبع إصدار الحكم بأنها تعكس التوجه الفلسفي الجديد لمدرسة ورتسبورغ الذي يتجسد حصراً في فنومنولوجية هوسرل. فكولب يضع من خلالها إشارة المساواة بين مضمون الأفكار والمعرفة وينفي التصورات والأشكال الحسية عن الطرف الثاني، أي عن المعرفة. وهو، إذ يفعل ذلك، إنما يعتمد على المنهج الفنومنولوجي ويعبّر عن حرصه على تطبيقه.
إن تجريد العقل عن الصور والأشكال الحسية على نحو ما قام به كولب ورفاقه يعني فصل العمليات العليا التي يتضمنها عن مصادرها ومنابعها، ويعني كذلك مصادرة أي إشارة لربط المستوى المجرد بالمستوى الحسي من المعرفة، وانطلاقاً من تصور الحياة النفسية كنسيج يتألف من مستويات متعددة ذات صلات معقدة ومتشعبة فيما بينها من جهة، وبينها وبين الواقع الخارجي من جهة ثانية.
ويذهب كولب إلى تبرير ذلك برسم صورة أخرى للحياة النفسية، ولعلاقة الجوهر "الشيء بذاته" بالظاهرة في الموضوع. فهو يعتقد أن الاتحاد القائم بين جوهر الموضوع وصفاته الخارجية هو اتحاد ظاهري محض، وأن معرفة الموضوع بصورة عميقة ودقيقة تقتضي تجاوز صفاته الظاهرية والتركيز على الجوهر. وهذا لا يتم، في تقديره، إلا عن طريق التفكير الخالص، لأنه، كما يقول، وحده القادر على تعريف الأشياء بذاتها، أي كما هي موجودة في الواقع. ومن غير الممكن أن يضطلع الباحث بهذه المهمة إن لم يتخلص كلية من "الشوائب" الحسية. فاختلاطها به يضعف قدرته على "النظر" في الجوهر، ويصرفه عنه ويشغله في أمور التعرف على الجوانب السطحية والعرضية في الموضوع.
لقد تحدث كولب عن التفكير الخالص، القادر على معرفة الجوهر الثابت، وشدد على أهميته المعرفية، معلناً، في ذات الوقت، أن الإدراك والتصورات تشكل حاجزاً يحول دون معرفة الإنسان للعالم معرفة حقيقية. فهي، حسب اعتقاده، لا تقدم سوى معلومات مضللة عن الموضوعات نظراً لأن هذه الأخيرة تتبدل فيها باستمرار.
إن آراء كولب ومساعديه حول استقلالية التفكير وعدم ارتباطه بالإدراكات والتصورات هي نتيجة منطقية لتأثرهم بالمنهج الاستبطاني والمنهج الفنومنولوجي.وبوسع المرء أن يعود إلى وصف بيولر للمعطيات التجريبية ليتعرف على الأطر التي يلزم هذان المنهجان الباحث بها.
فهذا الالتزام هو الذي حمل الرجل إلى القول بغياب كل ما يدل أو يشير إلى علاقة التفكير بالكلام في تقارير المفحوصين. وأن كل ما يفعله الكلام، حتى في أرقى أشكاله(الكلام الداخلي) لا يتعدى، في رأي بيولر، استعادة معطيات المسألة وتنظيم شروطها. وفي هذا المعنى يجد بيولر أن نتائج محاضر التجارب "تتحدث عن الكلام الداخلي في المقام الأول حين لا يكون المفحوص مهيئاً للمسألة على النحو الذي تطرح فيه، وحين يتوجب عليه إعادة صياغتها لنفسه أو تقسيمها إلى أجزاء"(BUHLER, 1907, 317). وهكذا يضع بيولر وظيفة الكلام إلى جانب وظيفة الإدراك، وينكر صلتها بالعمليات العقلية.
لم يجانب بيولر وكولب وغيرهما من ممثلي مدرسة ورتسبورغ الواقع كما قدمته وسائلهم في البحث. ولكن واقعهم هذا كان عاجزاً عن بلوغ الحقيقة التي حجبتها مقاومتهم لقبول مناهج واستخدام أدوات أخرى غير منهج الاستبطان والمنهج الفنومنولوجي. ذلك لأن كلاً من المنهجين يصرف الباحث عن رؤية الأساس الحسي للتفكير ويمنعه من تتبع أثر الكلام فيه أوصلته به. ومن هنا يمكن القول بأن الخطأ الذي ارتكبته مدرسة ورتسبورغ هو خطأ مبدئي ومنهجي. وكل ما يبنى على خطأ، فإن حظه من الصواب لن يكون كبيراً.
لقد واجهت هذه المدرسة حملة من الانتقادات المتعاظمة من غير أن تضعف إرادة ممثليها وتصميمهم على مواصلة العمل في الاتجاه الذي رسموه. ولعل قلة فاعلية تلك الانتقادات تكمن في أن أصحابها اعتمدوا على نفس المبادئ التي اعتمد عليها الورتسبورغيون، واستخدموا منهج الاستبطان الذي استخدمه هؤلاء مع بعض الاختلافات التي تمس أسلوب تطبيقه.
وبالإضافة إلى هذا فإن جماعة ورتسبورغ استمدت القوة على الاستمرار من رؤيتها المتقدمة لبعض القضايا المطروحة، ومنها على وجه التحديد سمة الدينامية والفعالية التي يتصف بها التفكير، وإخضاعها للدراسة والمعاينة، ومحاولتهم خلق ظروف تجريبية استبطانية تتناسب مع تلك الرؤية.
إن افتقار هؤلاء وأولئك لمنهج علمي ووسائل بحث موضوعية ساعد في إطالة عمر المناظرات والمماحكات بينهما. فلم يكن بوسع أي طرف تقديم الأدلة الكافية على صحة رأيه وخطأ الرأي الآخر. فقد بقي الاعتقاد مثلاً، باستقلالية النشاط الفكري عن النشاط الحسي والوظيفة الكلامية ناظماً وموجهاً لأعمال الورتسبورغيين حتى ظهرت طريقة التخطيط الكهرودماغي ELECTROENCEPHALOGRAMME وطريقة الرسم الكهروعضلي ELECTROMYAGRAPHIA. حيث مكنت هذه التقنية الباحثين من الوقوف على علاقة الكلام الداخلي بالتفكير، وذلك بتسجيل تغيرات النشاط الكهربائي التي تحدث في ذلك الجزء من القشرة الدماغية الذي يتلقى المثيرات من عضلة اللسان والحنجرة، وتسجيل الكمون الكهربائي في عضلة اللسان أثناء قيام الإنسان بنشاط ذهني.
أما المشكلة الثانية التي دأب ممثلو ورتسبورغ على معالجتها فهي آليات التفكير والقوانين التي تتحكم فيه. ومع أن هذه المشكلة تعتبر الوجه الآخر لأطروحتهم عن التفكير كعملية أو كحل للمسألة، إلا أنها بقيت أعواماً طويلة تنتظر حظها من الاهتمام. ذلك لأن الجميع كان مشغولاً عنها بإثبات عدم حسية التفكير. وعندما قرروا طرحها كان هدفهم الرئيسي من ذلك هو إثبات عجز النظرة الترابطية عن إعطاء صورة صحيحة عن التفكير من منطلق أنه أعقد من أن تحيط به آليات الترابط، وأن ثمة آليات وقوانين أخرى ينبغي على الباحث أن يقوم بالكشف عنها.
إن صياغة فرضية تتعلق بآليات عملية التفكير، ومحاولة إثبات صحتها تعتبران لحظة هامة في تاريخ الدراسات النفسية عامة، ودراسة التفكير خاصة. وتلك نقطة إيجابية تسجل لصالح مدرسة ورتسبورغ. فمن خلالها أرسى ممثلوها قاعدة صلبة للتفريق بين النشاط العقلي وعملية التفكير وتحديد معنى كل منهما ودوره في حياة الفرد. وقد أوصلتهم دراستهم إلى الحكم بعمومية الأول وشموليته بمقارنته مع الثاني. فإذا كان المقصود بالنشاط العقلي كل نشاط معرفي واع يقوم به الإنسان، فإن التفكير هو الجانب غير الحسي من ذلك النشاط، الذي يتجلى في صورته الخالصة حالما تعترض سبيل الإنسان مشكلة أو تطرح أمامه مسألة.
لقد أظهر تنوع التجارب في مخبر ورتسبورغ أنه في المراحل التحضيرية التي يستقبل المفحوص أثناءها التعليمات، تتشكل لديه حالة أو اتجاه نحو حل المسألة المقترحة، أطلق عليها كولب مصطلح "النزعة المحدِّدة". وما عرضه وات في أعماله المخصصة لدراسة تأثير المسألة على عملية التفكير يعد نموذجاً طيباً للكشف عن طبيعة تلك الآليات ودورها. فقد عرف الباحث المسألة بأنها تحول التعليمات التي يتلقاها المفحوص(الموضوعية) إلى تعليمات ذاتية. وتشرع هذه العمليات بأداء وظيفتها محددة الطابع الانتقائي لتفكير المفحوص، حيث يقوم المثير بتحريض مجموعة من النزعات الاسترجاعية التي تستدعي ظهور عدد من الكلمات والمفاهيم التي ارتبطت في خبرة الفرد بالمثير. فلما كان القليل فقط من تلك الكلمات والمفاهيم ذا علاقة بالمسألة المطروحة(الاستجابة بكلمة على الكلمة –المثير)، فإنه في هذه الأثناء تبرز الحاجة إلى آلية متممة تؤثر بصورة انتقائية على التداعيات المسترجعة مما يفسح المجال أمام تدخّل التعليمات الذاتية لتقوم بذلك، فتقوى تداعيات وتضعف أو تكف تداعيات أخرى.
والواقع أن ما عناه وات بالتعليمات الذاتية لم يكن سوى إعادة المفحوص لتعليمات التجربة بصمت عدداً من المرات. ثم تحل مرحلة يتوقف المفحوص خلالها عن وعي المسألة. ومع ذلك فإن المسألة، كما يلاحظ وات، تستمر في تأثيرها، وتدفع المفحوص إلى تقديم إجابات صحيحة عن غير وعي.
ويمضي بيولر أبعد من ذلك، فيجد أن مجرد طرح السؤال على الإنسان كفيل باستدعاء عملية التفكير لديه. بيد أنه لم يوظف هذا التصور في تحليل آليات التفكير، بل ورفض دراسة ما دعاه "جدلية التفكير". وقصر عمله على وصف العمليات العقلية غير الحسية. بينما التفت آش إلى اختبار النتائج التي توصل إليها وات وتطويرها. وعلى الرغم من اتفاقه معه في المقدمات، لاسيما في القول بانعدام وعي الإنسان بنشاطه الذهني وبعمليات تفكيره وآلياته، فإن ثمة إضافات وإيضاحات حملتها نتائج بحوثه التي تناولت الموضوع المركزي المطروح. ولعل أهمها إشارته إلى وجود آليات أخرى تتخلل التفكير إلى جانب "النزعات المحددة" وهي "تصورات الهدف". وتتم هذه الآليات بصورة غير شعورية، باستثناء بعض الحالات التي يعي فيها الإنسان تصوره عن الهدف من نشاطه.
أجرى آش تجارب عديدة على مفحوصين منوّمين مغناطيسياً. وخلالها كان يعرض أمام المفحوص بطاقتين تحمل كل منهما رقمين، ويطلب منه حساب حاصل جمع الرقمين في البطاقة الأولى وحاصل فرق الرقمين في البطاقة الثانية. وبعد أن يستفيق المفحوص يعرض الباحث أمامه بطاقة تحمل الرقمين 6/2، مثلاً. وقد لاحظ أنه ما إن ينظر المفحوص إلى الرقمين حتى يسارع إلى الاستجابة بالرقم(. ولدى سؤاله عن سبب ذكره للرقم(، كان يجيب بأنه يشعر بحاجة ملحة إلى قول ذلك.
وجدير بالإشارة أن ممثلي مدرسة ورتسبورغ لم يقصروا حديثهم عن النزعات المحددة على النشاط الذهني فقط، بل شملوا به، فيما بعد، ساحات أخرى من النفس، كالانفعال والتذكر والإدراك. فالمثير، عندهم، يتحلل إلى صورة وخلفية، إذ يبرز الجزء من المثير الذي تتجه صوبه النزعات المحددة وتصورات الهدف مكوناً الصورة. بينما يتراجع الجزء الآخر الذي تسقطه تلك النزعات إلى الوراء ليشكل الخلفية. وتنظم هذه الآلية سلوك الفرد في المواقف الحياتية المختلفة. فهو يدرك المعطيات قريبة بعضها إلى بعض حين ينزع إلى التأليف بينها. وتتجلى النزعات المحددة كذلك في استجابات الفرد التي لا يملك حيالها ما يفسر قيامه بها. وهذا ما وقف عليه آش ووات عبر مجموعة من التجارب. فقد كان المفحوص في كل مرة يبدي عجزه عن معرفة سبب استجابته على هذا النحو دون سواه(الاستجابة بهذه الكلمة تحديداً دون غيرها، الضغط على الزر بهذا الإصبع وليس بسواه.. الخ).
مما تقدم تبرز الأهمية الخاصة التي حملها الورتسبورغيون لمفهوم "النزعات المحددة" واندفاعهم نحو إيجاد مرتسماته في تجليات الوعي. ويبرز أيضاً نزوعهم نحو دحض المنهج الارتباطي والتدليل على محدوديته عبر البديل العلمي القادر على تفسير المستويات الأرقى من النشاط النفسي. وهم، وإن وجدوا البديل في منهج الاستبطان، فإنهم كانوا يؤكدون على الدوام تجاوز الشكل الذي اتخذه هذا المنهج عند فوندت وتيتشنر، ويرفضون محاولات حصره ضمن حدود الحصول على الخبرة الشعورية ووصفها كما هي. فمهمة الباحث السيكولوجي، في رأيهم، تتعدى مجرد النظر في التقارير الشفهية التي يقدمها المفحوص حول نشاطه النفسي إلى التعرف على الأسباب التي تكمن وراء ذلك النشاط وتدفع به إلى التشكل والظهور. ويضاف إلى هذا أن الاستبطان لا يسمح بالوقوف على جوهر الظاهرة النفسية وعزله عن تجلياتها في الملاحظة الذاتية.
لقد بينت تجارب آش ووات أن السمة الجوهرية للنشاط العقلي المتجسدة في غائيته وانتظامه تظل مستترة ومجهولة في الملاحظة الذاتية. وهي لا تظهر إلا بالطرق غير المباشرة. وبناء على هذا الاستنتاج أوصى الورتسبورغيون بضرورة تعزيز تقارير المفحوصين بإجاباتهم على أسئلة ترمي إلى معرفة الأسباب التي حملتهم على القيام بهذا العمل أو ذاك.
وأخيراً فإن تعاليم مدرسة ورتسبورغ تضمنت أطروحات جديدة أثرت، ولاشك، التراث السيكولوجي، وأثارت ردوداً متفاوتة بين التأييد والمعارضة. ومن الأمور التي استوقفت بعض النقاد تلك المتعلقة بماضي الأفعال العقلية والمفاهيم وأصولها. ويتساءل هؤلاء عما إذا كان من المفيد لعلم النفس أن يتناول النشاط النفسي، ويتتبع نموه خلال المراحل العمرية التي يمر بها الفرد. وأمام هذا التساؤل الذي لا يخفي اعتراض أصحابه على تجاهل الورتسبورغيين لهذا الأمر، يعترف آش في كتابه "حول تشكل المفاهيم" الصادر عام 1921 بضرورة الاعتماد على المدخل التكويني في دراسة التفكير. وأكثر من هذا فقد عمل الرجل على تجسيد اعترافه بخطأ موقفه السلبي من هذا المدخل في نشاطه العلمي. فوضع طريقة تقوده إلى استخلاص العمليات التي تؤلف آلية تشكل المفاهيم. وتلك خطوة قرّبت مدرسة ورتسبورغ من المنهج الموضوعي، وأبعدتها عن الفهم الاستبطاني للحياة النفسية.
وربما فعلت دراسات سيلز في هذا الاتجاه أكثر، وأمدت تراث ورتسبورغ بمعطيات جديدة أكسبتها القدرة على مواصلة التحدي وتدعيم مواقعها لفترة طويلة من الزمن.
كان سيلز آخر من التحق بمدرسة ورتسبورغ. فبعد أن نشر أصحابها مجموعة من الأعمال وسافر كولب إلى برلين، ومنها إلى ميونيخ، قدم سيلز إلى ورتسبورغ ليسهم في دراسة النشاط العقلي عند الإنسان. ولقد تزامن نشاطه مع بداية مرحلة من مراحل تطور علم النفس، تميزت بظهور اثنتين من كبريات المدارس السيكولوجية، وهما السلوكية والغشتالتية. وهو الأمر الذي مكنه من إجراء مراجعة شاملة ودقيقة لأفكار مدرسة ورتسبورغ، والعمل على تمثّل الأفكار الجديدة وتوظيفها في ذلك النشاط.
انطلق سيلز من الفلسفة الفنومنولوجية. وقبل بمبدأ كلية وشمولية الوعي الذي ينشأ عبر النشاط العقلي كنتيجة للمعالجة الذهنية للمشكلات التي تطرح على الإنسان. وتبعاً لذلك اعتبر الوعي موضوعاً محورياً لعلم النفس. وفي هذا يكمن اتفاقه مع جماعة ورتسبورغ. إلا أنه لا يجاريهم في قولهم أن الفرد يستطيع أن يدرك عمليات نشاطه الفكري ويبلغ عنها. فمع أن بناء التجربة عنده لا يختلف عن بنائها عندهم، إلا أنه رفض المضي في طريقهم، وحاول تحليل المعطيات من وجهة نظر العمليات العقلية. ولذا فقد اقترح، زيادة على التحليل الوضعي، الفنومنولوجي، القيام بتحليل مزدوج يشمل الجانب التكويني والجانب الوظيفي للعملية العقلية. ورأى أن من شأن التحليل التكويني أن يطلع الباحث على ميكانيزمات تشكل النتائج التي يتوصل الفرد إليها عن طريق نشاطه العقلي. واستخدام التحليل الوظيفي يساعد على إبراز دور كلّ مرحلة من مراحل هذا النشاط ويبين علاقتها بالمراحل الأخرى.
وفي هدي هذا المنهج يقيم سيلز نظريته في التفكير الإبداعي أو الابتكاري. ولقد سعى من خلال صياغته لها إلى تجاوز التناقض الذي أشارت إليه بعض النظريات، كالغشتالتية مثلاً، بين هذا المستوى من التفكير والتفكير الاسترجاعي أو الاجتراري. حيث تحدث عن نوعين أو مستويين من التفكير في علاقتهما المتبادلة أثناء النشاط الإنساني. ولم يجد ما يبرر القول بوجود أحدهما مع غياب الآخر. ويعيد سبب الوقوع في هذا الخطأ إلى النظرة الوضعية القاصرة عن إدراك ما تتسم به عمليات الاسترجاع من فعالية وإيجابية، فهي برأيه، ليست سلبية أو ترابطية كما توهم أصحاب تلك النظرة بدليل أنها لا تجري في الوعي بصورة غير إرادية. وعليه فإنها تؤلف مستوى من مستويات النشاط العقلي الذي يتعايش مع المستوى الإبداعي، بل ويحمل في طياته بذور الإبداع.
لقد أراد سيلز من خلال نظرته إلى التفكير الاسترجاعي وتأكيده أهميته في التفكير الإبداعي أن يشير أيضاً إلى أن هذا الأخير لا يستغني عن العمليات الاسترجاعية، بل إنه يتضمنها بالضرورة. وفي هذا يقول: "إننا من جديد نلفى تلك العمليات العقلية التي تشكل المجرى الاسترجاعي للفكر على صورة عمليات متكررة للتفكير الإبداعي"(SELZ. OP. CIT, S, VII). وهذا يعني أن التفكير الإبداعي يقوم في جزئه الهام على استخدام العمليات والطرائق المعروفة في تناوله للموضوع الجديد، ويتوقف على الكشف عن علائق جديدة وتكون نظرة أصيلة إلى العمليات العقلية المعهودة.
ولعلنا نجد في معالجة سيلز للمعطيات التجريبية ما يجسد حرصه على تطبيق أفكاره وطريقة تحليله للنشاط العقلي في الواقع. فعندما تطرح التجربة مسألة ما، فإن سيلز لا يعتبر معطياتها بحد ذاتها كافية للقول بوجود مشكلة تتطلب مخرجاً أو حلاً من قبل المفحوص. ولكي يكون الأمر كذلك يتوجب على هذا الأخير أن يؤلف بين عدد من المثيرات التي تحتويها شروط المسألة المطروحة. وبكلمات أوضح فإن المرحلة الأولى من التفكير هي معالجة الفرد لمعطيات المسألة ذهنياً، حيث يقوم بتجزئة العلاقات الحسية القائمة بين عناصر الموضوع وأجزائه. وهذا العمل، في نظر سيلز، يتمتع بصفة الإبداع أكثر مما يحمل من بُعد الاسترجاع.
أما المرحلة الثانية للنشاط الفكري فإنها تشتمل على العمليات المستخدمة في حل المسألة المطروحة. والحل يعني، بالنسبة لسيلز، تدارك النقص أو سد الثغرة في المسألة. وهنا يدخل سيلز مفهوم التوقع أو الإشراق ANTICIPATION ليدل به على معرفة ماهو مجهول أو مطلوب في المسألة.
إن العمليات التي تستدعيها المسألة التي يتحدث عنها سيلز تؤلف بمجموعها نوعاً من طرائق أو أساليب الحل. وتعتبر أساليب الحل الجاهزة أبسط العمليات العقلية. فهي تطبع نشاط الفرد حينما يواجه بمسألة قام في وقت سابق بحل ما يشبهها ولو مرة واحدة. وفي حالة كهذه تبرز العلاقات المادية التي تسم خصوصية المركب الإشكالي في المسألة.
ولقد أشار سيلز إلى أن تنشيط الأساليب يحمل طابعاً استرجاعياً، يمكن أن يفضي إلى ظهور نتاج جديد. بينما يتخذ إيجادها شكلاً مختلفاً مبدئياً. وهذا ما يتجلى في الشكل الذي يكتسيه تجريد الطريقة الاسترجاعية في الحل، حيث يتم تجريد أسلوب الحل الذي يستخدم في المسألة الجديدة عبر تعميم العلاقات التي تجمعها مع المسألة القديمة.
بيد أن المسائل التي يصادفها الإنسان ليست دائماً من النوع البسيط أو المتشابه. وكثيراً ما يواجه بمسائل معقدة وغير مألوفة. فكيف ينجز مثل هذه المهمات، ويتوصل إلى حل ما يصادفه من مسائل؟ وما هي العمليات التي بفضلها يتم له ذلك؟. إن الإجابة على هذا التساؤل تؤلف جزءاً هاماً من نظرية سيلز. وهي تتلخّص في أن الأساليب والعمليات العقلية لا ترتبط بالمسألة ارتباطاً خارجياً، وإنما تستمد من بنيتها وتشتق –تجريدياً- من مضمونها بصورة مباشرة.
وهنا يجيء تأكيد سيلز أن العلاقة بين بنية المسألة والعملية العامة والأفعال الجزئية ذات طبيعة دافعية وليست ترابطية. والدافعية هي توقع نتائج العملية والأفعال الجزئية التي تسبق التغيرات التي يفترض أن تشهدها بنية المسألة لدى تنفيذها. وقد أشار إلى أن شروط المسألة وما تستدعيه من عمليات لا تلعب دوراً مؤثراً في آليات البحث عما هو مطلوب. فهذا الدور يقتصر على توجيه سير تلك العمليات وتدقيقها.
وفي نفس السياق وجد سيلز أن حضور الطرائق المعروفة والتحليل الدقيق لمحتوى المسألة لا يمكنان الإنسان دوماً من الوصول إلى الحل الصحيح. وكيما يتم له ذلك عليه أن يوظف عملية جديدة، تتمثل في الملاحظة وتقويم الوقائع والمعطيات المختلفة في ضوء الهدف الذي يحدد هذه العملية. وهو الأمر الذي لا يتيسر إلا لفئة قليلة من الناس تكون قادرة على الإبداع العلمي. فالعالم القادر على إنجاز هذه العملية يتمكن من ملاحظة وإدراك مالا يستطيع الآخرون ملاحظته وإدراكه عن طريق ألف ملاحظة عادية.
ومن خلال ما تقدم يمكن استخلاص العمليات العقلية الرئيسية التي وقف عندها سيلز وركز عليها باعتبارها نواظم العقل البشري، وهي: إكمال المركب والتجريد واسترجاع التشابه. فالعملية الأولى(إكمال المركب) تتجلى في كل محاولة لحل المسألة. وهو، إذ يبرزها كعملية خاصة، يطرح سؤالا حول بنية النشاط الذي يسعى للخروج من إطار ماهو معلوم ومباشر في المسألة وربطه بما هو مجهول.
إن أفعال الإنسان التي تعد هذا النشاط وتتوجه به نحو تحليل وتجريد ماهو معلوم في المسألة ماهي إلا خلفية للنظر إلى عملية إكمال المركب. وتبعاً للمضمون المحدد للمسألة يمكن أن تكون هذه العملية مكملة للمركب الزماني والمكاني أو المفهومي. ويتوقف تركيب العمليات الجزئية التي تدخل في إكمال المركب على مضمون المسألة أيضاً.
وفي الحالة التي تكون العلاقات الزمانية والمكانية فيها هي الغالبة، والمعطيات المعروفة مطروحة بصورة محسوسة يجد سيلز أن العملية الخاصة الأولى هي "ولادة التصورات" أو "تبصر" المادة المعطاة. على أن التصور عنده لا ينشأ بسبب العلاقة الارتباطية بينه وبين الكلمة –المثير، بل لأنه عملية عقلية خاصة تلح على الوعي طالما أن التجربة السابقة أظهرت نجاعة هذه العملية في حل مسائل محددة بما تملكه من علاقة انعكاسية معها. وبعد ذلك تبدأ عملية تفحص ماهو خارج حدود المادة المتصوّرة، ومحاولة تحديد ما يحيط بها على أساس من توصيف ما لها من عناصر. وإذا لم ينجز إكمال المركب تتم المراجعة بالعودة إلى المادة ذاتها ليصار إلى تحليل صفاتها.
وبناء على هذا التحليل يقام محيط جديد وتجري محاولة إبراز المركب. وفي حالة الإخفاق يتدخل تحليل آخر، يحدث فيه تقليب الموضوع على كافة أوجهه. ويعاد تحديد محيط له من جديد وفق خصائص جديدة.
ويكتسي التجريد عند سيلز أهمية خاصة، إذ أنه يشمل العمليات الهامة التي تدخل في حل أية مسألة، كإبراز الخصائص المختلفة للمواد والوقوف على العلاقات بين أطراف المركب وعزلها. ولذا فهو يقوم بدور كبير في حل تلك المسائل التي تتطلب البحث عن مفهوم النوع والجنس وتحديد المفهوم المطروح على أساس ذلك. ومن العمليات الجزئية والأساليب المساعدة التي يشملها التجريد: المقارنة والتحليل والتركيب والتعميم. ويرتبط محتوى هذه العمليات والأساليب بخصائص المسائل ودرجة صعوبتها وتعقيدها.
وعلى الرغم من شمولية العمليتين السابقتين، فقد أضاف سيلز استرجاع التشابه كعملية رئيسية ثالثة ليرد بها على الارتباطيين وغيرهم ممن لم يتخلصوا من تأثيرات القوانين الارتباطية بعد. وقد قصد سيلز بهذه العملية توارد التصورات السابقة والمتشابهة مع ماهو مطروح في اللحظة الراهنة إلى الوعي. وتلك عملية عقليّة معقدة لا تحدث بصورة آلية أو غير إرادية مثلما يقول الارتباطيون. وهي تشتمل على تجزئة الموضوع إلى صفات محددة، باعتبارها عملية ضرورية ولازمة لتعريف الموضوع أو المفهوم، ومن ثم تسميته. وبدونها يكون من العسير على المرء أن يحدد المفهوم المشابه.
إن القراءة المتأنية لنظرية سيلز حول مراحل النشاط العقلي وعملياته تظهر جوانبها الإيجابية والأفكار الجديدة التي جاءت بها، مثلما تظهر نقاط الضعف فيها. وفي هذا الصدد ثمة شبه إجماع إن لم نقل إجماعاً كاملاً من جانب مؤرخي علم النفس على اعتبار سيلز أول من نظر إلى النشاط العقلي كعملية تتألف من مراحل تمهد كل واحدة منها الطريق أمام لاحقتها، وهذه تعتبر نتيجة لسابقتها، من غير أن يغفل الدور الهام الذي تلعبه الشروط الخارجية(معطيات المسألة وشروطها) في ذلك. ويؤكد هؤلاء المؤرخون على إيجابية محاولته إبراز العلاقة الجدلية بين التفكير الاسترجاعي والتفكير الإبداعي. ولكن الكثير منهم يأخذ عليه ضعف تحليله النظري للعمليات العقلية وتكاملها وتفاضلها، وقلة الأدلة والبراهين العلمية التي اعتمد عليها في عرضه لأدوار تلك العمليات ومكانتها في النشاط المعرفي عند الإنسان.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح