إن من أبرز ما ميز النشاط السيكولوجي خلال المدة الزمنية التي أعقبت استقلال علم النفس واستمرت زهاء نصف قرن من الزمن هو الحوار الساخن بين أصحاب الدعوة إلى دراسة محتوى الوعي وبنيته من جهة، وممثلي الاتجاه الوظيفي الذين ألحوا على دراسة نشاط الوعي وفوائده ونقل مركز الاهتمام من داخل العضوية إلى خارجها.
لقد أشرنا فيما سبق إلى مدخل فوندت التحليلي في دراسة الوعي، ووقفنا على نشاطاته المتعددة، ومنها، بل وفي طليعتها عمله المخبري. كما رأينا كيف أن مخبره بقي لسنوات طويلة قبلة الباحثين الشباب الذين جاؤوا إليه من أنحاء مختلفة من العالم، تحدوهم الرغبة، والحماسة في الاطلاع عليه كحدثٍ جديد، والتعرف على كل ما يحيط به من أفكار. وبعد عودتهم إلى أوطانهم أنشأ معظمهم مخابر شبيهة به. ولكن القليل منهم حافظ على وفائه لتلك الأفكار. ويقدم لنا ر. موللر –فراينفيلس وصفاً للنهاية التي آلت إليها علاقة فوندت الفكرية بتلاميذه حين قال: "إن مأساة فوندت هي أنه جذب إليه الكثير من التلاميذ، ولكنه لم يحتفظ إلا بالقليل منهم"(84، 1935).
وتعزى هذه النتيجة إلى فقدان ثقة معظم تلاميذ فوندت بإمكانية تنفيذ مشروع معلمهم وتطبيق أفكاره في الميدان، وضعف مردودية النتائج المترتبة عن ذلك. ولم يشذ عن هذا الوضع سوى تيتشنر الذي بقي ملتزماً بأفكار فوندت، مخلصاً لها حتى وفاته.
ولد إدوارد تيتشنر في إنكلترا عام 1867. وبعد حصوله على الإجازة في الفلسفة من جامعة أكسفورد درس الفيزيولوجيا لأربع سنوات. ولقد ساعدت ثقافته الفلسفية وميله نحو علوم الطبيعة، كغيره من علماء تلك المرحلة، على تكون ميل قوي لديه نحو معالجة القضايا النفسية. فها هو يقرر السفر إلى لايبزيغ، وفيها يمكث عامين لمساعدة فوندت، يتمكن خلالهما من اكتساب تقنيات البحث السيكولوجي التجريبي. وبعد عودته إلى بلاده انتابه شعور بالإحباط وخيبة أمل لعدم تقبل المؤسسات العلمية آنذاك لإخضاع النفس البشرية للدراسة التجريبية. ففضل الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأنشأ في إحدى جامعاتها، وهي جامعة كورنيل، مخبراً عمل فيه مع لفيف من مساعديه وأنصاره تحت لواء الفكر البنيوي حتى وفاته سنة 1927.
وعبر خمسة وثلاثين عاماً من النشاط العلمي التجريبي كتب تيتشنر مؤلفات عديدة، أهمها "علم النفس التجريبي"(1901-1905) الذي وضعه في مصاف كبار علماء النفس، و"علم النفس"(1909). وعلى الرغم من قلة أتباعه، فإنه لم يفقد ثقته بالأفكار التي تبناها، وبقي متحمساً لها، يدافع عنها بدأب وعناد على أكثر من جبهة. فكان يرد على الانتقادات العنيفة التي كان يوجهها إليه الوظيفيون والسلوكيون من جانب، ويجادل، في ذات الوقت، ممثلي بعض المدارس والتيارات السيكولوجية الناشئة كمدرسة ورتسبورغ من جانب آخر.
تؤلف أفكار تيتشنر وآراؤه في مسائل علم النفس ومناهجه امتداداً مباشراً لفكر فوندت. فمهمة علم النفس الأولى، عنده، هي تحليل الوعي إلى عناصره والكشف عن قوانين حركتها وارتباطها، وأسباب تجمعها واتحادها على هذا الشكل أو ذاك. ومن زاوية النظر هذه يرى أن على الباحث السيكولوجي القيام بتحليل الإدراكات الحسية إلى الألوان والأصوات والروائح، والمشاعر المعقدة إلى مشاعر بسيطة(الغضب –السكينة، التوتر- الهدوء، الفرح- الحزن...)، وأن يعيد، من ثم، تركيبها وفق قوانين تآلفها وتنافرها.
أطلق تيتشنر على نظريته اسم "البنيوية" أو "الوجودية". ويجدر التنبيه، هنا، إلى ضرورة عدم الخلط بين هاتين التسميتين وبين الاتجاه البنيوي والمذهب الوجودي في الفلسفة الحديثة. وقد قصر تيتشنر استخدام مفهوم الوجودية على وقائع الوعي وحالاته، كالإدراك والتصوّر والانفعال. بينما عنى بمفهوم البنيوية مركبات تلك الوقائع والحالات وعناصرها.
وواضح أنه أسقط بعض الأبعاد التي يتضمنها مفهوم الوجودية. فلم يقصد به ما يمكن أن يتبادر للذهن من دلالات، ولاسيما التفاعل بين الفرد(الوعي) والبيئة الخارجية(الموضوع) والتغيرات التي يحدثها أحد الطرفين أو كلاهما معاً.
إن الوعي كما هو موجود بذاته ولذاته هو –برأي تيتشنر –قضية علم النفس الكبرى. وما عدا ذلك، أو ماهو خارج الوعي(المثيرات الخارجية)، فإنه من اختصاص علوم أخرى.
وصفوة القول فإن "وجودية" تيتشنر أو "بنيويته" النفسية تقبل على دراسة الخبرة المرتبطة بالذات التي تمتلكها، وتدبر عما سواها.
إن الدعوة إلى تقسيم النفس وتفتيتها إلى ذراتٍ هي فكرة قديمة جداً. ولكنها تطورت في القرن التاسع عشر تطوراً ملحوظاً بفضل الدراسات السيكو –فيزيولوجية التي شجع عليها انتشار المذهب الحسي والارتباطي وتطبيقاته على الظواهر النفسية. وتبلورت فيما بعد لتتخذ شكل النظرية. وقد عرفت بالنظرية الذرية.
بنيت هذه النظرية على أساس الاعتقاد بأن نجاح علم النفس مرهون باقتفاء أثر النشاطات العلمية في الفيزياء والكيمياء، وأخذ نتائجها الإيجابية وتطبيقاتها بعين الاعتبار. فالإنجازات التي أحرزها الفيزيائيون والكيميائيون تدلل بشكل قاطع على أهمية تجاوز النظرة العادية البسيطة للوقائع المادية، وضرورة المضي إلى ماهو أبعد وأعمق مما تقدمه من صفات ظاهرية للأشياء والظواهر بقصد تحليله إلى أجزاء وإعادة تركيبها.
ومن هذا المنطلق يميل الذريون إلى تناول الوعي كحصيلة لاتحاد عمليات بسيطة، أو كلوحة تتألف من عدد من الأشكال والألوان أو قطعة موسيقية مكونة من مجموعة من الأنغام.
وعندما جاء تيتشنر نحا المنحى ذاته، واعتبر الوعي بناء ومادة لهما من الخصوصية ما يجعل الملاحظة السطحية، المبتذلة عاجزة عن إمدادنا بأية بيانات أو معلومات صحيحة عنها. إنهما توجدان خلف الستار الخارجي للظواهر. فحال الوعي هذا شبيه بحال العمليات التي تؤلف جوهر الظاهرة الفيزيائية أو الكيميائية، والتي تقف النظرة العادية دون عتبة إدراك كنهها. وكيما يتوصل الباحث إلى معرفة بنية الوعي ومادته بدقة يتوجب عليه أن يتسلح بالاستبطان بصورته المعدلة أو المصقولة على حد تعبير تيتشنر. فما المقصود بالاستبطان المعدل أو المصقول الذي يقترحه زعيم مدرسة كورنيل؟
إن المعطيات الميدانية ما انفكت تمد الباحثين من فوندت حتى تيتشنر بالأدلة على ذاتية الاستبطان وعيوبه. وهذه الحقيقة التي كانت تتجلى في كل مرة يطبق فيها الاستبطان عبر تعارض النتائج هي التي دفعت تيتشنر –مثلما دفعت فوندت من قبله- إلى إدخال تعديلات على بعض الخطوات الإجرائية للاستبطان بدلاً من إعادة النظر في موقفهم منه بصورة جذرية. ومما أشار إليه تيتشنر في إطار التعديلات التي اقترحها هو تدريب المفحوص ليصبح قادراً على تجاوز ما أسماه "خطأ المنبه" الذي يفرض نفسه عليه بإلحاح ويلقي بظلاله الكثيفة على استجابته . وينتج هذا الخطأ عن الخلط بين العمليات النفسية والمثيرات الخارجية، ويتجلى في انصراف الفرد عن ملاحظة ما يجري في داخله إلى إدراك ما يحدث حوله. ولذا فإن العبارات التي يستخدمها المفحوصون غير المدربين في تقاريرهم الشفهية تصف الأشياء الخارجية أكثر ما تعبر عن عملية الإحساس بها.
وهكذا فالاستبطان المعدل يعني، بالنسبة لتيتشنر –تدريب المفحوص حتى يتمكن من فصل ماهو خارجي عما هو داخلي، وعزل ماهو مادي عن تجربته الشعورية الداخلية المباشرة أثناء تقديم تقريره في الموقف التجريبي.
واعتقد تيتشنر أن للاستبطان المعدل قيمة علمية، تتمثل في أنه يجنب الباحث التفسيرات الخاطئة للمادة التي تحتويها تقارير المفحوصين. ذلك لأن التقارير التي يتقدم بها أناس مدربون تعكس خبرتهم الشعورية الداخلية الخالصة. وينتفي منها كل ما يمس الواقع الخارجي. وما دام الأمر كذلك، فإن عمل الباحث يكون منصباً على الوعي وحده. ومنه فإن أي إهمال لهذا الإجراء أو تقصير نحوه يؤدي، حسب تقدير تيتشنر، إلى استنتاجات خاطئة.
لقد حكمت هذه القاعدة، موقف مدرسة كورنيل طوال المناقشات الحادة مع مدرسة ورتسبورغ التي تناولت مادة الوعي. فقد عارض ممثلوها تقسيم ممثلي مدرسة ورتسبورغ لمادة الوعي إلى محسوسات ومجردات. وقالوا بأنها ليست سوى حسية، لأنها لا تحتوي في الأصل إلا على الإحساسات والإدراكات فقط. ويرجع تيتشنر تعارض الموقفين إلى اختلاف الشكل والأسلوب الذي يطبق الطرفان بهما طريقة الاستبطان. ويأخذ على الطرف الآخر استمراره في تطبيق هذه الطريقة دون القيام بأي إجراء لتحليل وتنقية المعطيات التي يقدمها المفحوصون في تقاريرهم.
إنّ وضعاً كهذا يجده تيتشنر السبب الذي يعرض هؤلاء المفحوصين للوقوع في "خطأ المنبه"، ويشحن وعيهم بالموضوعات الخارجية، ويحملهم على الاعتقاد بأن معنى هذه الموضوعات هو شيء خاص لا يدخل البتة في البنية الحسية للخبرة.
ولما كانت العلوم الطبيعية بالنسبة لتيتشنر، كما كانت بالنسبة لفوندت، المثل الذي يحتذى به، فقد عمل ما بوسعه على تعميم معطياتها على ميدان علم النفس. وكرس نشاطه للتأكد من ذلك، بل والبرهان على صحته. وعكف على دراسة الظواهر النفسية المعقدة وتحليلها إلى عناصرها البسيطة سعياً وراء معرفة قوانين ارتباطها واتحادها. ولكن إصراره على فصل تلك الظواهر عن المثيرات الخارجية ورفضه لوجود أية علاقة بينهما، ونظرته لكل طرف منهما على أنه نقيض للطرف الآخر، ولا يملك معه أي شيء مشترك، كل ذلك قاده إلى طريق مسدود، رغم محاولاته معرفة أسباب اتحاد العناصر النفسية في صور ومفاهيم.
إن وجود الإنسان وسط عالم الأشياء والبشر والتأثيرات المتبادلة بينهما هو الأساس الموضوعي الذي يتوجب الانطلاق منه لتفسير تلك الصور والمفاهيم. وإن أي نظرة إلى الوعي كوجود مستقل تدفع صاحبها لا محالة إلى استنتاجات خاطئة، منها القول بأن عناصر الوعي هي الصفة الأولية للوعي. وهو ما فعله تيتشنر وأتباعه تماماً حينما أرادوا أن يدرسوا النفس، فاختاروا طريق تحليلها إلى عناصرها الأولية على غرار ما يفعله الكيميائي عندما يدرس المادة من خلال تحليلها إلى عناصرها والتعرف على خصائص كل واحدة منها. ومع أنهم لم ينسوا، أثناء محاكاتهم للكيميائي، أن يشيروا إلى اختلاف خصائص النفس عن خصائص مركباتها، وأن ينسبوا ذلك إلى حركتها واتحادها في مستويات مختلفة، فقد وقفوا دون القوانين التي تتحكم بتلك الحركة وتنظم هذا الاتحاد. وعجزوا عن إدراك الأسباب التي تكمن وراء تعاقب الأوضاع والحالات النفسية واتجاهها. وظلت هذه المسائل معلقة، ولم يهتد مؤسس مدرسة كورنيل أو أي من مساعديه إلى الطريق المؤدية إلى حلها رغم إحساسهم بأهمية هذا الهدف على صعيد الكشف عن طبيعة الواقعة النفسية.
بوح الروح
لقد أشرنا فيما سبق إلى مدخل فوندت التحليلي في دراسة الوعي، ووقفنا على نشاطاته المتعددة، ومنها، بل وفي طليعتها عمله المخبري. كما رأينا كيف أن مخبره بقي لسنوات طويلة قبلة الباحثين الشباب الذين جاؤوا إليه من أنحاء مختلفة من العالم، تحدوهم الرغبة، والحماسة في الاطلاع عليه كحدثٍ جديد، والتعرف على كل ما يحيط به من أفكار. وبعد عودتهم إلى أوطانهم أنشأ معظمهم مخابر شبيهة به. ولكن القليل منهم حافظ على وفائه لتلك الأفكار. ويقدم لنا ر. موللر –فراينفيلس وصفاً للنهاية التي آلت إليها علاقة فوندت الفكرية بتلاميذه حين قال: "إن مأساة فوندت هي أنه جذب إليه الكثير من التلاميذ، ولكنه لم يحتفظ إلا بالقليل منهم"(84، 1935).
وتعزى هذه النتيجة إلى فقدان ثقة معظم تلاميذ فوندت بإمكانية تنفيذ مشروع معلمهم وتطبيق أفكاره في الميدان، وضعف مردودية النتائج المترتبة عن ذلك. ولم يشذ عن هذا الوضع سوى تيتشنر الذي بقي ملتزماً بأفكار فوندت، مخلصاً لها حتى وفاته.
ولد إدوارد تيتشنر في إنكلترا عام 1867. وبعد حصوله على الإجازة في الفلسفة من جامعة أكسفورد درس الفيزيولوجيا لأربع سنوات. ولقد ساعدت ثقافته الفلسفية وميله نحو علوم الطبيعة، كغيره من علماء تلك المرحلة، على تكون ميل قوي لديه نحو معالجة القضايا النفسية. فها هو يقرر السفر إلى لايبزيغ، وفيها يمكث عامين لمساعدة فوندت، يتمكن خلالهما من اكتساب تقنيات البحث السيكولوجي التجريبي. وبعد عودته إلى بلاده انتابه شعور بالإحباط وخيبة أمل لعدم تقبل المؤسسات العلمية آنذاك لإخضاع النفس البشرية للدراسة التجريبية. ففضل الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأنشأ في إحدى جامعاتها، وهي جامعة كورنيل، مخبراً عمل فيه مع لفيف من مساعديه وأنصاره تحت لواء الفكر البنيوي حتى وفاته سنة 1927.
وعبر خمسة وثلاثين عاماً من النشاط العلمي التجريبي كتب تيتشنر مؤلفات عديدة، أهمها "علم النفس التجريبي"(1901-1905) الذي وضعه في مصاف كبار علماء النفس، و"علم النفس"(1909). وعلى الرغم من قلة أتباعه، فإنه لم يفقد ثقته بالأفكار التي تبناها، وبقي متحمساً لها، يدافع عنها بدأب وعناد على أكثر من جبهة. فكان يرد على الانتقادات العنيفة التي كان يوجهها إليه الوظيفيون والسلوكيون من جانب، ويجادل، في ذات الوقت، ممثلي بعض المدارس والتيارات السيكولوجية الناشئة كمدرسة ورتسبورغ من جانب آخر.
تؤلف أفكار تيتشنر وآراؤه في مسائل علم النفس ومناهجه امتداداً مباشراً لفكر فوندت. فمهمة علم النفس الأولى، عنده، هي تحليل الوعي إلى عناصره والكشف عن قوانين حركتها وارتباطها، وأسباب تجمعها واتحادها على هذا الشكل أو ذاك. ومن زاوية النظر هذه يرى أن على الباحث السيكولوجي القيام بتحليل الإدراكات الحسية إلى الألوان والأصوات والروائح، والمشاعر المعقدة إلى مشاعر بسيطة(الغضب –السكينة، التوتر- الهدوء، الفرح- الحزن...)، وأن يعيد، من ثم، تركيبها وفق قوانين تآلفها وتنافرها.
أطلق تيتشنر على نظريته اسم "البنيوية" أو "الوجودية". ويجدر التنبيه، هنا، إلى ضرورة عدم الخلط بين هاتين التسميتين وبين الاتجاه البنيوي والمذهب الوجودي في الفلسفة الحديثة. وقد قصر تيتشنر استخدام مفهوم الوجودية على وقائع الوعي وحالاته، كالإدراك والتصوّر والانفعال. بينما عنى بمفهوم البنيوية مركبات تلك الوقائع والحالات وعناصرها.
وواضح أنه أسقط بعض الأبعاد التي يتضمنها مفهوم الوجودية. فلم يقصد به ما يمكن أن يتبادر للذهن من دلالات، ولاسيما التفاعل بين الفرد(الوعي) والبيئة الخارجية(الموضوع) والتغيرات التي يحدثها أحد الطرفين أو كلاهما معاً.
إن الوعي كما هو موجود بذاته ولذاته هو –برأي تيتشنر –قضية علم النفس الكبرى. وما عدا ذلك، أو ماهو خارج الوعي(المثيرات الخارجية)، فإنه من اختصاص علوم أخرى.
وصفوة القول فإن "وجودية" تيتشنر أو "بنيويته" النفسية تقبل على دراسة الخبرة المرتبطة بالذات التي تمتلكها، وتدبر عما سواها.
إن الدعوة إلى تقسيم النفس وتفتيتها إلى ذراتٍ هي فكرة قديمة جداً. ولكنها تطورت في القرن التاسع عشر تطوراً ملحوظاً بفضل الدراسات السيكو –فيزيولوجية التي شجع عليها انتشار المذهب الحسي والارتباطي وتطبيقاته على الظواهر النفسية. وتبلورت فيما بعد لتتخذ شكل النظرية. وقد عرفت بالنظرية الذرية.
بنيت هذه النظرية على أساس الاعتقاد بأن نجاح علم النفس مرهون باقتفاء أثر النشاطات العلمية في الفيزياء والكيمياء، وأخذ نتائجها الإيجابية وتطبيقاتها بعين الاعتبار. فالإنجازات التي أحرزها الفيزيائيون والكيميائيون تدلل بشكل قاطع على أهمية تجاوز النظرة العادية البسيطة للوقائع المادية، وضرورة المضي إلى ماهو أبعد وأعمق مما تقدمه من صفات ظاهرية للأشياء والظواهر بقصد تحليله إلى أجزاء وإعادة تركيبها.
ومن هذا المنطلق يميل الذريون إلى تناول الوعي كحصيلة لاتحاد عمليات بسيطة، أو كلوحة تتألف من عدد من الأشكال والألوان أو قطعة موسيقية مكونة من مجموعة من الأنغام.
وعندما جاء تيتشنر نحا المنحى ذاته، واعتبر الوعي بناء ومادة لهما من الخصوصية ما يجعل الملاحظة السطحية، المبتذلة عاجزة عن إمدادنا بأية بيانات أو معلومات صحيحة عنها. إنهما توجدان خلف الستار الخارجي للظواهر. فحال الوعي هذا شبيه بحال العمليات التي تؤلف جوهر الظاهرة الفيزيائية أو الكيميائية، والتي تقف النظرة العادية دون عتبة إدراك كنهها. وكيما يتوصل الباحث إلى معرفة بنية الوعي ومادته بدقة يتوجب عليه أن يتسلح بالاستبطان بصورته المعدلة أو المصقولة على حد تعبير تيتشنر. فما المقصود بالاستبطان المعدل أو المصقول الذي يقترحه زعيم مدرسة كورنيل؟
إن المعطيات الميدانية ما انفكت تمد الباحثين من فوندت حتى تيتشنر بالأدلة على ذاتية الاستبطان وعيوبه. وهذه الحقيقة التي كانت تتجلى في كل مرة يطبق فيها الاستبطان عبر تعارض النتائج هي التي دفعت تيتشنر –مثلما دفعت فوندت من قبله- إلى إدخال تعديلات على بعض الخطوات الإجرائية للاستبطان بدلاً من إعادة النظر في موقفهم منه بصورة جذرية. ومما أشار إليه تيتشنر في إطار التعديلات التي اقترحها هو تدريب المفحوص ليصبح قادراً على تجاوز ما أسماه "خطأ المنبه" الذي يفرض نفسه عليه بإلحاح ويلقي بظلاله الكثيفة على استجابته . وينتج هذا الخطأ عن الخلط بين العمليات النفسية والمثيرات الخارجية، ويتجلى في انصراف الفرد عن ملاحظة ما يجري في داخله إلى إدراك ما يحدث حوله. ولذا فإن العبارات التي يستخدمها المفحوصون غير المدربين في تقاريرهم الشفهية تصف الأشياء الخارجية أكثر ما تعبر عن عملية الإحساس بها.
وهكذا فالاستبطان المعدل يعني، بالنسبة لتيتشنر –تدريب المفحوص حتى يتمكن من فصل ماهو خارجي عما هو داخلي، وعزل ماهو مادي عن تجربته الشعورية الداخلية المباشرة أثناء تقديم تقريره في الموقف التجريبي.
واعتقد تيتشنر أن للاستبطان المعدل قيمة علمية، تتمثل في أنه يجنب الباحث التفسيرات الخاطئة للمادة التي تحتويها تقارير المفحوصين. ذلك لأن التقارير التي يتقدم بها أناس مدربون تعكس خبرتهم الشعورية الداخلية الخالصة. وينتفي منها كل ما يمس الواقع الخارجي. وما دام الأمر كذلك، فإن عمل الباحث يكون منصباً على الوعي وحده. ومنه فإن أي إهمال لهذا الإجراء أو تقصير نحوه يؤدي، حسب تقدير تيتشنر، إلى استنتاجات خاطئة.
لقد حكمت هذه القاعدة، موقف مدرسة كورنيل طوال المناقشات الحادة مع مدرسة ورتسبورغ التي تناولت مادة الوعي. فقد عارض ممثلوها تقسيم ممثلي مدرسة ورتسبورغ لمادة الوعي إلى محسوسات ومجردات. وقالوا بأنها ليست سوى حسية، لأنها لا تحتوي في الأصل إلا على الإحساسات والإدراكات فقط. ويرجع تيتشنر تعارض الموقفين إلى اختلاف الشكل والأسلوب الذي يطبق الطرفان بهما طريقة الاستبطان. ويأخذ على الطرف الآخر استمراره في تطبيق هذه الطريقة دون القيام بأي إجراء لتحليل وتنقية المعطيات التي يقدمها المفحوصون في تقاريرهم.
إنّ وضعاً كهذا يجده تيتشنر السبب الذي يعرض هؤلاء المفحوصين للوقوع في "خطأ المنبه"، ويشحن وعيهم بالموضوعات الخارجية، ويحملهم على الاعتقاد بأن معنى هذه الموضوعات هو شيء خاص لا يدخل البتة في البنية الحسية للخبرة.
ولما كانت العلوم الطبيعية بالنسبة لتيتشنر، كما كانت بالنسبة لفوندت، المثل الذي يحتذى به، فقد عمل ما بوسعه على تعميم معطياتها على ميدان علم النفس. وكرس نشاطه للتأكد من ذلك، بل والبرهان على صحته. وعكف على دراسة الظواهر النفسية المعقدة وتحليلها إلى عناصرها البسيطة سعياً وراء معرفة قوانين ارتباطها واتحادها. ولكن إصراره على فصل تلك الظواهر عن المثيرات الخارجية ورفضه لوجود أية علاقة بينهما، ونظرته لكل طرف منهما على أنه نقيض للطرف الآخر، ولا يملك معه أي شيء مشترك، كل ذلك قاده إلى طريق مسدود، رغم محاولاته معرفة أسباب اتحاد العناصر النفسية في صور ومفاهيم.
إن وجود الإنسان وسط عالم الأشياء والبشر والتأثيرات المتبادلة بينهما هو الأساس الموضوعي الذي يتوجب الانطلاق منه لتفسير تلك الصور والمفاهيم. وإن أي نظرة إلى الوعي كوجود مستقل تدفع صاحبها لا محالة إلى استنتاجات خاطئة، منها القول بأن عناصر الوعي هي الصفة الأولية للوعي. وهو ما فعله تيتشنر وأتباعه تماماً حينما أرادوا أن يدرسوا النفس، فاختاروا طريق تحليلها إلى عناصرها الأولية على غرار ما يفعله الكيميائي عندما يدرس المادة من خلال تحليلها إلى عناصرها والتعرف على خصائص كل واحدة منها. ومع أنهم لم ينسوا، أثناء محاكاتهم للكيميائي، أن يشيروا إلى اختلاف خصائص النفس عن خصائص مركباتها، وأن ينسبوا ذلك إلى حركتها واتحادها في مستويات مختلفة، فقد وقفوا دون القوانين التي تتحكم بتلك الحركة وتنظم هذا الاتحاد. وعجزوا عن إدراك الأسباب التي تكمن وراء تعاقب الأوضاع والحالات النفسية واتجاهها. وظلت هذه المسائل معلقة، ولم يهتد مؤسس مدرسة كورنيل أو أي من مساعديه إلى الطريق المؤدية إلى حلها رغم إحساسهم بأهمية هذا الهدف على صعيد الكشف عن طبيعة الواقعة النفسية.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح