يرتبط علم النفس القصدي باسم وليم مكدوغال W.MCDOUGALL الذي كان واحداً من علماء النفس البارزين في العقود الأولى من القرن العشرين.
ولد مكدوغال في إنكلترا عام 1871، وتوفي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1938. وعمل مدرساً في جامعات كامبردج ولندن وأكسفورد. ثم ترك الجامعة إثر خلافه مع إدارتها بسبب موقفها الرافض لكل توجه سيكولوجي. وأمام هذا الوضع وجد نفسه مضطراً لمغادرة إنكلترا والسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1920، وهناك واصل نشاطه العلمي والتدريسي في جامعتي هارفارد وديوك.
بدأ مكدوغال بحوثه العلمية بدراسة النشاط العصبي. ووجه انتباهه بالدرجة الأولى نحو عمليات الكف. ونشر في هذا الموضوع كتاباً تحت عنوان "علم النفس الفيزيولوجي" عام 1905 بالإضافةإلى مجموعة مقالات منها "طبيعة عملية الكف في الجهاز العصبي"(1903) و"العوامل السيكولوجية لعملية الانتباه"(1905). غير أنه سرعان ما تحول إلى دراسة المسائل التي تندرج ضمن مادة علم النفس الاجتماعي لملء الفراغ الذي يرجع سببه إلى إغفال علماء النفس لهذا الجانب الحيوي وانصرافهم عنه للبحث في العمليات العقلية الداخلية. وبقيت هذه المسائل تشكل بؤرة اهتمامه حتى وفاته. وقد خصص لمعالجتها كافة أعماله اللاحقة التي يتصدرها كتاباه: "مدخل إلى علم النفس الاجتماعي ـ INTRODUCTION TO SOCIAL PSYCHOLOGY "
(1908) و"موجز علم النفس ـ OUTLINE OF PSYCHOLOGY "
(1923).
انطلق صاحب المدرسة القصدية من ضرورة تعميم الفائدة التي يمكن للدراسات السيكولوجية أن تقدمها لتشمل العلوم الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية. فما دام علم النفس يتقصى حقيقة السلوك الإنساني في مختلف مواقف الحياة، فإنه لحري به أن يتناول خلفيات هذا السلوك وأصوله، كما يتناول أغراضه ومقاصده. وهو، حينما يتصدى لدراسة هذه الإشكالية، يكون قد أضاف قدرة جديدة إلى قدراته على التقدم والارتقاء، وأعطى للعلوم القريبة البعد النفسي الذي تحتاج إليه. فهذه العلوم لن تجد ما تبحث عنه في آليات نشاط الوعي، وإنما في معرفة الأسباب والعوامل التي تجعل الناس يتصرفون على هذا النحو أو ذاك في ظروف ومواقف معينة. إن السياسي والاقتصادي بحاجة إلى التعرف على القوى المحركة لسلوك الإنسان أو المجموعة البشرية وطريقة توجيه هذا السلوك.
وهكذا يبدو لمكدوغال أن على علم النفس أن يركز اهتمامه نحو الدوافع إذا ما أراد أن يكون علماً نافعاً ومتفتحاً. وعليه أيضاً أن يتخلى عن الاستبطان بسبب قصوره كمنهج للبحث عن إدراك مشتملات الجانب الدافعي وعلاقاتها بعضها ببعض وآليات عملها. يقول في كتابه: "مدخل...": "على علماء النفس أن يدعوا جانباً الفكرة العقيمة والضيقة عن عملهم، تلك الفكرة التي تعرفه بأنه علم الشعور... وأن يؤكدوا دعواه بأنه العلم الموضوعي للنفس بجميع وجوهها وطرائق عملها. إنه، كما أفضل أن أقول، العلم الوضعي للتصرف أو السلوك. على علم النفس ألا يعتبر الوصف الاستبطاني لمجرى الشعور كل مهمته. ولكن عليه أن يعتبر هذا الوصف جزءاً تمهيدياً من عمله. إن مثل هذا الوصف الاستبطاني وهذه(السيكولوجيا المحضة) عاجزة عن أن تكون علماً، أو على الأقل عاجزة عن الارتفاع إلى مستوى العلم التفسيري. إنها عاجزة بحد ذاتها عن أن تكون ذات قيمة ونفع للعلوم الاجتماعية التي تتطلب جميعها أساساً من علم النفس المقارن والفيزيولوجي الذي يعتمد الطرائق الموضوعية وملاحظة سلوك البشر..."(عاقل، 1981، 98).
وفي الحين الذي ينطلق فيه مكدوغال مع السلوكيين من مواقع الوضعية ويتفق معهم حول ضرورة إقصاء منهج الاستبطان، وتطبيق المنهج الموضوعي، يعترض على تفسيرهم الآلي للسلوك. ولم يخفِ موقفه هذا أو يخفف من حدته. وظل يدافع عنه من غير تردد أو حرج. فقد كتب عام 1930، يقول: "تعامى علماء النفس الأميركان قبل خمسة عشر عاماً عن أهم صفات النشاط البشري والحيواني وأخص خصائصه، ألا وهو توجه هذا النشاط نحو الهدف. لقد كان كلّ عمل جسدي وكل وجوه الخبرة في نظرهم استجابات آلية للمثيرات.كما كان كل تعلم عبارة عن تحوير لهذه الاستجابات عن طريق إضافة استجابة إلى أخرى وفقاً لمبادئ الترابط الآلية"(عاقل، 1981، 260).
إن هذه الفقرة تبرز القصد أو الغاية كسمة جوهرية للسلوك الإنساني والحيواني التي دأب مكدوغال على تثبيتها والبرهان على أهميتها وقيمتها العلمية، مما جعلها عنواناً لنظريته. فأفعالنا وتصرفاتنا ـ كما يراها مكدوغال ـ لا تصدر عنا بصورة عشوائية أو عفوية، وإنما تتجه نحو هدف ما، كونها وسائل وأدوات تعين القوة الدافعية مادتها واتجاهها وقصدها. وهنا يتجلى أثر هانس دريش(1867 ـ 1941م) الذي هاجم الدعوات التي ظهرت في بداية هذا القرن، وجعلت من علم النفس علماً بيولوجياً. وذهب إلى القول بقوانين غير مادية مسؤولة عن نشوء الواقعة النفسية وتوجيهها.
لقد حدد مكدوغال موضوع علم النفس في أعماله المبكرة بأنه العلم الموضوعي الذي يدرس سلوك الفرد ويفسره بغية التحكم فيه وتكييفه مع المتغيرات الخارجية تكييفاً ناجحاً. والنشاط النفسي، عنده، هو طاقة من نوع خاص تحرك الفرد وتدفعه للقيام بفعل ما من شأنه أن يحقق هدفاً معيناً. ولذا فإن مهمة الباحث السيكولوجي، في هذه الحالة، تكمن في الكشف عن أسرار هذه الطاقة ومصادرها، والتعرف، بالتالي، على بنية النشاط النفسي ووظائفها. ومن خلال دراسة مكدوغال لهذه البنية وجد أنها تشتمل على جانبين رئيسيين: الجانب الدافعي، والجانب العقلي. واعتقد أن هذين الجانبين يعملان معاً على قاعدة الغرائز.
وتؤلف الغرائز حجر الزاوية في بناء مكدوغال النظري، وما تعنيه ضمن إطار هذا البناء يختلف إلى حد بعيد عما أوردته البحوث المتخصصة بشأنها. فقد قدم مكدوغال لها تفسيراً مغايراً لما قدمه غيره من العلماء، أمثال بافلوف وسبنسر وغيرهما ممن رأوا أن الغريزة هي سلسلة من الأفعال الانعكاسية المتصلة والمتعاقبة التي تكونت في الأزمنة السحيقة، وأصبحت منذئذ جزءاً من موروثات النوع والجنس.حيث اعتبرها دوافع أولية للسلوك. ووجد أن هذه الدوافع ليست حركات آلية تصدر عن الجهاز العضلي أو الحسي، أو حالة تصير إليها العضوية تحت تأثير المنبهات الخارجية، بل هي انفعال وعقل يجعل منها عملية فاعلة. ولذا فإنه ينظر إلى الفعل الغريزي على أنه "مفتاح فهم السلوك الإنساني"(MCDOUGALL , 1923, 70).
وللتعبير عن الغرائز استعمل مكدوغال الكلمة اليونانية HORME التي تعني الإثارة أو النزوع، مضفياً عليها صفة القصدية... فصارت تدل على الطابع القصدي الذي يكتسيه السلوك الإنساني. وفي ضوء ذلك تحدث مكدوغال عن وجود ثلاثة وظائف للغريزة: الوظيفة التوجهيّة، والوظيفة التنفيذية، والوظيفة الانفعالية. وتتمثل الأولى في استثارة المنبهات الخارجية للفاعلية، والثانية في قيام الفرد بالحركات والأفعال بقصد تعديل الموقف وإزالة العقبات. بينما يتولّى الانفعال الذي يحتل في هذا النظام موقعاً وسطاً بين التنبيه والفعل مهمة إيجاد النزوع المناسب.
وخلافاً لأصحاب النظريات الدافعية الأخرى الذين أقاموا نظرياتهم على وجود غريزة واحدة أو عدد قليل من الغرائز يعرض مكدوغال قائمة من الغرائز، بدءاً من غريزة البحث عن الطعام، وغريزة الجنس، وانتهاءً بالغريزة الاجتماعية، مروراً بغريزة الأبوة والأمومة، والفضول والضحك، والتملك والسيطرة والخضوع والهرب والمقاتلة. ووجد أن كل واحدة من هذه الغرائز تتألف من جانب إدراكي يمكن الإنسان من الإحساس بعناصر الموقف وتوجيه الانتباه نحوها، وجانب انفعالي يقرر النزوع، وجانب عملي يتجلى في الأفعال والحركات التي يقوم بها الإنسان تنفيذاً لذاك النزوع. فغريزة البحث عن الطعام تتضمن إدراك المرء الجائع للموضوعات الخارجية المختلفة وانتباهه إلى ما يصلح منها للأكل. كما تتضمن نزوعه إلى الطعام، وأخيراً كل ما يصدر عنه من استجابات لإحضاره وتناوله.
وتحدث مكدوغال كذلك عن انفعالات تستمد وجودها من الغرائز وتبقى ملازمة لها. فانفعال الجوع ينشأ عن غريزة البحث عن الطعام ويلازمها. وانفعال الرغبة الجنسية ينشأ عن الغريزة الجنسية ويلازمها. والانفعال الذي يولده الإحساس بالوحدة ينشأ عن الغريزة الاجتماعية، وهكذا...
وعلى الرغم من اختلاف مكدوغال مع الكثير من العلماء حول فهم الغرائز، فإنه يشاطرهم الرأي في تعيين محدداتها. حيث يؤكد أن الغرائز تصل إلى الإنسان من أسلافه عن طرائق الوراثة. وهو حين يتكلم عن دور الوراثة في تحديد الغرائز، فإنه لم يكن ليقصد الجانب الدافعي والانفعالي فقط، بل وقصد الجانب العقلي أيضاً. وليس في ذلك ما يدعو إلى التعجب، طالما أن العقل ـ كغيره من عمليات الذكاء ـ هو ـ في اعتقاده ـ "...". حالة من حالات النزوع الفردية"(MCDOUGALL, 1923, 215).
ويشير مؤسس المدرسة القصدية في استدراكاته اللاحقة التي جاءت كرد على انتقادات العلماء له بشأن الغرائز وعلاقتها بالانفعال إلى التغيرات التي تطرأ على الجانبين: التوجهي(الإدراكي) والتنفيذي(الحركي) من الغريزة تحت تأثير التعلّم. ويبدو ذلك في اختلاف تجليات غريزة المقاتلة من طور إلى طور آخر. فإذا كان بالإمكان استثارة الطفل الصغير عن طريق كف حركته أو المماطلة في تلبية رغبته، فإن الحال مختلف بالنسبة للراشد. إذ أن استثارته تتم في غالب الأحيان عن طريق تحديه وتهديده بقيمه ومعتقداته. كما أن التعبيرات الخارجية لهذه الغريزة تتخذ أشكالاً متفاوتة تبعاً لخبرة الفرد. فهي تتمثّل عند الصغير في الصراخ والعض والسب والشتم. بينما تكون عند الكبير أكثر تنوعاً وتعقيداً..
ولئن كانت هذه التغيرات تمس الجانبين المذكورين من الغريزة، فإن الجانب الانفعالي يظل ثابتاً وبعيداً عن كل تأثير. فتطور أشكال وأساليب التعبير عن الانفعال لا يرافقه أي تغير أو تعديل في الانفعال ذاته. وإن ما نراه من اختلاف في هذا الشأن عند الطفل والمراهق والراشد هو، في اعتقاد مكدوغال، مجرد تعبير عن ظاهرة ثابتة وموروثة.
ويذهب مكدوغال إلى القول بأن الشروط الاجتماعية المتنوعة تؤثر في مجرى الغرائز وتغير من اتجاهها نحو موضوعاتها. وينشأ عن ذلك تداخل وتضافر بعضها مع البعض الآخر حول موضوع واحد. وبهذا يفسر تكون العواطف والمشاعر الوجدانية عند الفرد. فالأمومة والوطنية والصداقة وسواها من العواطف والنزعات الوجدانية التي يحملها بنو البشر ليست غريزة واحدة أولية، بل هي ثمرة التقاء وتقاطع عدد من الغرائز. ففي الصداقة تلتقي غرائز التجمع والمقاتلة والهروب من الخطر. حيث أن الإنسان يحس بالوحدة والفراغ حين يكون بعيداً عن أصدقائه، وبالخوف عندما يتعرض لأي تهديد أو عدوان. وفي الأمومة، تتقاطع غرائز الهروب من الخطر والمقاتلة والأبوة. فالأم تحنو على طفلها وتشعر بالخوف إذا ابتعد عنها، وتغضب لمجرد توهمها بأن خطراً ما سوف يداهمه، وتفرح لنجاحه وتحزن لإخفاقه. وهذا أيضاً هو حال الوطني الغيور على بلده. إنه يحس بالخوف عليه من أي تهديد أو خطر، ويغضب عندما يتعرض لأي سوء، ويعتّز بانتمائه إليه ويفخر بماضيه وحاضره ويشعر بالراحة حينما يفعل شيئا ًمن أجل مستقبله.
وعلى هذا الأساس يقيم مكدوغال وجهة نظره حول تكون الجانب العاطفي والوجداني عند الفرد. فالغرائز ، حسب رأيه، هي التي تولد العواطف والنزعات الوجدانية بأنواعها المختلفة ودرجاتها المتفاوتة. ويجد أن هذه الأخيرة تخضع أثناء تشكلها وتطورها إلى نظام هرمي، تتوضع العواطف الدنيا في قاعدته العريضة، وتحتل العليا قمته. ومن بين هذه العواطف يميز مكدوغال عاطفة اعتبار الذات SELF ASSERTION التي تقع في رأس الهرم. ويخصها بدور استثنائي فيرى أن الجانب الخلقي للفرد يتوقف على طبيعتها واتجاهها وقوتها. وتتجسد الطبيعة السامية لهذه العاطفة في النزعة المثالية لدى الفرد الذي يتخذ من بعض الشخصيات التاريخية أو السياسية أو العلمية أو من المبادئ الفكرية أو الدينية نموذجاً له في العمل والسلوك.
إن ما كان يطمح إليه مكدوغال هو إقامة نظرية سيكولوجية جديدة تضع مبادئ علم النفس ومعطياته وقوانينه في خدمة العلوم المتاخمة له. ولقد أثار بما قدمه ردود أفعال كثيرة من جانب علماء النفس والاجتماع والاقتصاد. وكان منهم القليل من وقف في صفه وتحمس لنظريته. بينما راح الآخرون يشككون في أفكاره ويوجهون إليه أعنف الانتقادات، التي تركز جلّها حول الدور الريادي الذي تلعبه الغرائز في النظرية القصدية. ومع تسليم بعض النقاد بوجود غرائز فطرية عند الإنسان توجه سلوكه في المرحلة الأولى من حياته، إلا أنهم يرون أن دور هذه الغرائز سرعان ما يتراجع أمام ظهور الوعي وتشكل الدوافع التي يكتسبها الفرد في مجرى تفاعله مع محيطه الاجتماعي، وعندئذ يصير السلوك الإنساني خاضعاً لسلطان الوعي ويتحدد مساره ومقاصده بنوعية الدوافع المكتسبة وقوتها.
والحقيقة أن مكدوغال بتشديده على أهمية الغرائز الداخلية في الحياة النفسية وإنكاره للقوى الواعية حول الإنسان إلى كائن تحركه شحنات من الطاقة الموروثة نحو أهداف محددة سلفاً وسلبه إمكانيته على الاختيار.
وبصرف النظر عن هذه الاعتراضات الموجهة إلى النظرية القصدية، فإن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن مكدوغال كان أحد رواد علم النفس الاجتماعي وعلماً من أعلامه. وهذا ما يدلل عليه انتشار آرائه في الأوساط العلمية داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها والمكانة الرفيعة التي احتلها مؤلفه "مدخل إلى علم النفس الاجتماعي". حيث بقي المرجع الأول لأجيال عديدة من الدارسين والباحثين.
بوح الروح
ولد مكدوغال في إنكلترا عام 1871، وتوفي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1938. وعمل مدرساً في جامعات كامبردج ولندن وأكسفورد. ثم ترك الجامعة إثر خلافه مع إدارتها بسبب موقفها الرافض لكل توجه سيكولوجي. وأمام هذا الوضع وجد نفسه مضطراً لمغادرة إنكلترا والسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1920، وهناك واصل نشاطه العلمي والتدريسي في جامعتي هارفارد وديوك.
بدأ مكدوغال بحوثه العلمية بدراسة النشاط العصبي. ووجه انتباهه بالدرجة الأولى نحو عمليات الكف. ونشر في هذا الموضوع كتاباً تحت عنوان "علم النفس الفيزيولوجي" عام 1905 بالإضافةإلى مجموعة مقالات منها "طبيعة عملية الكف في الجهاز العصبي"(1903) و"العوامل السيكولوجية لعملية الانتباه"(1905). غير أنه سرعان ما تحول إلى دراسة المسائل التي تندرج ضمن مادة علم النفس الاجتماعي لملء الفراغ الذي يرجع سببه إلى إغفال علماء النفس لهذا الجانب الحيوي وانصرافهم عنه للبحث في العمليات العقلية الداخلية. وبقيت هذه المسائل تشكل بؤرة اهتمامه حتى وفاته. وقد خصص لمعالجتها كافة أعماله اللاحقة التي يتصدرها كتاباه: "مدخل إلى علم النفس الاجتماعي ـ INTRODUCTION TO SOCIAL PSYCHOLOGY "
(1908) و"موجز علم النفس ـ OUTLINE OF PSYCHOLOGY "
(1923).
انطلق صاحب المدرسة القصدية من ضرورة تعميم الفائدة التي يمكن للدراسات السيكولوجية أن تقدمها لتشمل العلوم الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية. فما دام علم النفس يتقصى حقيقة السلوك الإنساني في مختلف مواقف الحياة، فإنه لحري به أن يتناول خلفيات هذا السلوك وأصوله، كما يتناول أغراضه ومقاصده. وهو، حينما يتصدى لدراسة هذه الإشكالية، يكون قد أضاف قدرة جديدة إلى قدراته على التقدم والارتقاء، وأعطى للعلوم القريبة البعد النفسي الذي تحتاج إليه. فهذه العلوم لن تجد ما تبحث عنه في آليات نشاط الوعي، وإنما في معرفة الأسباب والعوامل التي تجعل الناس يتصرفون على هذا النحو أو ذاك في ظروف ومواقف معينة. إن السياسي والاقتصادي بحاجة إلى التعرف على القوى المحركة لسلوك الإنسان أو المجموعة البشرية وطريقة توجيه هذا السلوك.
وهكذا يبدو لمكدوغال أن على علم النفس أن يركز اهتمامه نحو الدوافع إذا ما أراد أن يكون علماً نافعاً ومتفتحاً. وعليه أيضاً أن يتخلى عن الاستبطان بسبب قصوره كمنهج للبحث عن إدراك مشتملات الجانب الدافعي وعلاقاتها بعضها ببعض وآليات عملها. يقول في كتابه: "مدخل...": "على علماء النفس أن يدعوا جانباً الفكرة العقيمة والضيقة عن عملهم، تلك الفكرة التي تعرفه بأنه علم الشعور... وأن يؤكدوا دعواه بأنه العلم الموضوعي للنفس بجميع وجوهها وطرائق عملها. إنه، كما أفضل أن أقول، العلم الوضعي للتصرف أو السلوك. على علم النفس ألا يعتبر الوصف الاستبطاني لمجرى الشعور كل مهمته. ولكن عليه أن يعتبر هذا الوصف جزءاً تمهيدياً من عمله. إن مثل هذا الوصف الاستبطاني وهذه(السيكولوجيا المحضة) عاجزة عن أن تكون علماً، أو على الأقل عاجزة عن الارتفاع إلى مستوى العلم التفسيري. إنها عاجزة بحد ذاتها عن أن تكون ذات قيمة ونفع للعلوم الاجتماعية التي تتطلب جميعها أساساً من علم النفس المقارن والفيزيولوجي الذي يعتمد الطرائق الموضوعية وملاحظة سلوك البشر..."(عاقل، 1981، 98).
وفي الحين الذي ينطلق فيه مكدوغال مع السلوكيين من مواقع الوضعية ويتفق معهم حول ضرورة إقصاء منهج الاستبطان، وتطبيق المنهج الموضوعي، يعترض على تفسيرهم الآلي للسلوك. ولم يخفِ موقفه هذا أو يخفف من حدته. وظل يدافع عنه من غير تردد أو حرج. فقد كتب عام 1930، يقول: "تعامى علماء النفس الأميركان قبل خمسة عشر عاماً عن أهم صفات النشاط البشري والحيواني وأخص خصائصه، ألا وهو توجه هذا النشاط نحو الهدف. لقد كان كلّ عمل جسدي وكل وجوه الخبرة في نظرهم استجابات آلية للمثيرات.كما كان كل تعلم عبارة عن تحوير لهذه الاستجابات عن طريق إضافة استجابة إلى أخرى وفقاً لمبادئ الترابط الآلية"(عاقل، 1981، 260).
إن هذه الفقرة تبرز القصد أو الغاية كسمة جوهرية للسلوك الإنساني والحيواني التي دأب مكدوغال على تثبيتها والبرهان على أهميتها وقيمتها العلمية، مما جعلها عنواناً لنظريته. فأفعالنا وتصرفاتنا ـ كما يراها مكدوغال ـ لا تصدر عنا بصورة عشوائية أو عفوية، وإنما تتجه نحو هدف ما، كونها وسائل وأدوات تعين القوة الدافعية مادتها واتجاهها وقصدها. وهنا يتجلى أثر هانس دريش(1867 ـ 1941م) الذي هاجم الدعوات التي ظهرت في بداية هذا القرن، وجعلت من علم النفس علماً بيولوجياً. وذهب إلى القول بقوانين غير مادية مسؤولة عن نشوء الواقعة النفسية وتوجيهها.
لقد حدد مكدوغال موضوع علم النفس في أعماله المبكرة بأنه العلم الموضوعي الذي يدرس سلوك الفرد ويفسره بغية التحكم فيه وتكييفه مع المتغيرات الخارجية تكييفاً ناجحاً. والنشاط النفسي، عنده، هو طاقة من نوع خاص تحرك الفرد وتدفعه للقيام بفعل ما من شأنه أن يحقق هدفاً معيناً. ولذا فإن مهمة الباحث السيكولوجي، في هذه الحالة، تكمن في الكشف عن أسرار هذه الطاقة ومصادرها، والتعرف، بالتالي، على بنية النشاط النفسي ووظائفها. ومن خلال دراسة مكدوغال لهذه البنية وجد أنها تشتمل على جانبين رئيسيين: الجانب الدافعي، والجانب العقلي. واعتقد أن هذين الجانبين يعملان معاً على قاعدة الغرائز.
وتؤلف الغرائز حجر الزاوية في بناء مكدوغال النظري، وما تعنيه ضمن إطار هذا البناء يختلف إلى حد بعيد عما أوردته البحوث المتخصصة بشأنها. فقد قدم مكدوغال لها تفسيراً مغايراً لما قدمه غيره من العلماء، أمثال بافلوف وسبنسر وغيرهما ممن رأوا أن الغريزة هي سلسلة من الأفعال الانعكاسية المتصلة والمتعاقبة التي تكونت في الأزمنة السحيقة، وأصبحت منذئذ جزءاً من موروثات النوع والجنس.حيث اعتبرها دوافع أولية للسلوك. ووجد أن هذه الدوافع ليست حركات آلية تصدر عن الجهاز العضلي أو الحسي، أو حالة تصير إليها العضوية تحت تأثير المنبهات الخارجية، بل هي انفعال وعقل يجعل منها عملية فاعلة. ولذا فإنه ينظر إلى الفعل الغريزي على أنه "مفتاح فهم السلوك الإنساني"(MCDOUGALL , 1923, 70).
وللتعبير عن الغرائز استعمل مكدوغال الكلمة اليونانية HORME التي تعني الإثارة أو النزوع، مضفياً عليها صفة القصدية... فصارت تدل على الطابع القصدي الذي يكتسيه السلوك الإنساني. وفي ضوء ذلك تحدث مكدوغال عن وجود ثلاثة وظائف للغريزة: الوظيفة التوجهيّة، والوظيفة التنفيذية، والوظيفة الانفعالية. وتتمثل الأولى في استثارة المنبهات الخارجية للفاعلية، والثانية في قيام الفرد بالحركات والأفعال بقصد تعديل الموقف وإزالة العقبات. بينما يتولّى الانفعال الذي يحتل في هذا النظام موقعاً وسطاً بين التنبيه والفعل مهمة إيجاد النزوع المناسب.
وخلافاً لأصحاب النظريات الدافعية الأخرى الذين أقاموا نظرياتهم على وجود غريزة واحدة أو عدد قليل من الغرائز يعرض مكدوغال قائمة من الغرائز، بدءاً من غريزة البحث عن الطعام، وغريزة الجنس، وانتهاءً بالغريزة الاجتماعية، مروراً بغريزة الأبوة والأمومة، والفضول والضحك، والتملك والسيطرة والخضوع والهرب والمقاتلة. ووجد أن كل واحدة من هذه الغرائز تتألف من جانب إدراكي يمكن الإنسان من الإحساس بعناصر الموقف وتوجيه الانتباه نحوها، وجانب انفعالي يقرر النزوع، وجانب عملي يتجلى في الأفعال والحركات التي يقوم بها الإنسان تنفيذاً لذاك النزوع. فغريزة البحث عن الطعام تتضمن إدراك المرء الجائع للموضوعات الخارجية المختلفة وانتباهه إلى ما يصلح منها للأكل. كما تتضمن نزوعه إلى الطعام، وأخيراً كل ما يصدر عنه من استجابات لإحضاره وتناوله.
وتحدث مكدوغال كذلك عن انفعالات تستمد وجودها من الغرائز وتبقى ملازمة لها. فانفعال الجوع ينشأ عن غريزة البحث عن الطعام ويلازمها. وانفعال الرغبة الجنسية ينشأ عن الغريزة الجنسية ويلازمها. والانفعال الذي يولده الإحساس بالوحدة ينشأ عن الغريزة الاجتماعية، وهكذا...
وعلى الرغم من اختلاف مكدوغال مع الكثير من العلماء حول فهم الغرائز، فإنه يشاطرهم الرأي في تعيين محدداتها. حيث يؤكد أن الغرائز تصل إلى الإنسان من أسلافه عن طرائق الوراثة. وهو حين يتكلم عن دور الوراثة في تحديد الغرائز، فإنه لم يكن ليقصد الجانب الدافعي والانفعالي فقط، بل وقصد الجانب العقلي أيضاً. وليس في ذلك ما يدعو إلى التعجب، طالما أن العقل ـ كغيره من عمليات الذكاء ـ هو ـ في اعتقاده ـ "...". حالة من حالات النزوع الفردية"(MCDOUGALL, 1923, 215).
ويشير مؤسس المدرسة القصدية في استدراكاته اللاحقة التي جاءت كرد على انتقادات العلماء له بشأن الغرائز وعلاقتها بالانفعال إلى التغيرات التي تطرأ على الجانبين: التوجهي(الإدراكي) والتنفيذي(الحركي) من الغريزة تحت تأثير التعلّم. ويبدو ذلك في اختلاف تجليات غريزة المقاتلة من طور إلى طور آخر. فإذا كان بالإمكان استثارة الطفل الصغير عن طريق كف حركته أو المماطلة في تلبية رغبته، فإن الحال مختلف بالنسبة للراشد. إذ أن استثارته تتم في غالب الأحيان عن طريق تحديه وتهديده بقيمه ومعتقداته. كما أن التعبيرات الخارجية لهذه الغريزة تتخذ أشكالاً متفاوتة تبعاً لخبرة الفرد. فهي تتمثّل عند الصغير في الصراخ والعض والسب والشتم. بينما تكون عند الكبير أكثر تنوعاً وتعقيداً..
ولئن كانت هذه التغيرات تمس الجانبين المذكورين من الغريزة، فإن الجانب الانفعالي يظل ثابتاً وبعيداً عن كل تأثير. فتطور أشكال وأساليب التعبير عن الانفعال لا يرافقه أي تغير أو تعديل في الانفعال ذاته. وإن ما نراه من اختلاف في هذا الشأن عند الطفل والمراهق والراشد هو، في اعتقاد مكدوغال، مجرد تعبير عن ظاهرة ثابتة وموروثة.
ويذهب مكدوغال إلى القول بأن الشروط الاجتماعية المتنوعة تؤثر في مجرى الغرائز وتغير من اتجاهها نحو موضوعاتها. وينشأ عن ذلك تداخل وتضافر بعضها مع البعض الآخر حول موضوع واحد. وبهذا يفسر تكون العواطف والمشاعر الوجدانية عند الفرد. فالأمومة والوطنية والصداقة وسواها من العواطف والنزعات الوجدانية التي يحملها بنو البشر ليست غريزة واحدة أولية، بل هي ثمرة التقاء وتقاطع عدد من الغرائز. ففي الصداقة تلتقي غرائز التجمع والمقاتلة والهروب من الخطر. حيث أن الإنسان يحس بالوحدة والفراغ حين يكون بعيداً عن أصدقائه، وبالخوف عندما يتعرض لأي تهديد أو عدوان. وفي الأمومة، تتقاطع غرائز الهروب من الخطر والمقاتلة والأبوة. فالأم تحنو على طفلها وتشعر بالخوف إذا ابتعد عنها، وتغضب لمجرد توهمها بأن خطراً ما سوف يداهمه، وتفرح لنجاحه وتحزن لإخفاقه. وهذا أيضاً هو حال الوطني الغيور على بلده. إنه يحس بالخوف عليه من أي تهديد أو خطر، ويغضب عندما يتعرض لأي سوء، ويعتّز بانتمائه إليه ويفخر بماضيه وحاضره ويشعر بالراحة حينما يفعل شيئا ًمن أجل مستقبله.
وعلى هذا الأساس يقيم مكدوغال وجهة نظره حول تكون الجانب العاطفي والوجداني عند الفرد. فالغرائز ، حسب رأيه، هي التي تولد العواطف والنزعات الوجدانية بأنواعها المختلفة ودرجاتها المتفاوتة. ويجد أن هذه الأخيرة تخضع أثناء تشكلها وتطورها إلى نظام هرمي، تتوضع العواطف الدنيا في قاعدته العريضة، وتحتل العليا قمته. ومن بين هذه العواطف يميز مكدوغال عاطفة اعتبار الذات SELF ASSERTION التي تقع في رأس الهرم. ويخصها بدور استثنائي فيرى أن الجانب الخلقي للفرد يتوقف على طبيعتها واتجاهها وقوتها. وتتجسد الطبيعة السامية لهذه العاطفة في النزعة المثالية لدى الفرد الذي يتخذ من بعض الشخصيات التاريخية أو السياسية أو العلمية أو من المبادئ الفكرية أو الدينية نموذجاً له في العمل والسلوك.
إن ما كان يطمح إليه مكدوغال هو إقامة نظرية سيكولوجية جديدة تضع مبادئ علم النفس ومعطياته وقوانينه في خدمة العلوم المتاخمة له. ولقد أثار بما قدمه ردود أفعال كثيرة من جانب علماء النفس والاجتماع والاقتصاد. وكان منهم القليل من وقف في صفه وتحمس لنظريته. بينما راح الآخرون يشككون في أفكاره ويوجهون إليه أعنف الانتقادات، التي تركز جلّها حول الدور الريادي الذي تلعبه الغرائز في النظرية القصدية. ومع تسليم بعض النقاد بوجود غرائز فطرية عند الإنسان توجه سلوكه في المرحلة الأولى من حياته، إلا أنهم يرون أن دور هذه الغرائز سرعان ما يتراجع أمام ظهور الوعي وتشكل الدوافع التي يكتسبها الفرد في مجرى تفاعله مع محيطه الاجتماعي، وعندئذ يصير السلوك الإنساني خاضعاً لسلطان الوعي ويتحدد مساره ومقاصده بنوعية الدوافع المكتسبة وقوتها.
والحقيقة أن مكدوغال بتشديده على أهمية الغرائز الداخلية في الحياة النفسية وإنكاره للقوى الواعية حول الإنسان إلى كائن تحركه شحنات من الطاقة الموروثة نحو أهداف محددة سلفاً وسلبه إمكانيته على الاختيار.
وبصرف النظر عن هذه الاعتراضات الموجهة إلى النظرية القصدية، فإن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن مكدوغال كان أحد رواد علم النفس الاجتماعي وعلماً من أعلامه. وهذا ما يدلل عليه انتشار آرائه في الأوساط العلمية داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها والمكانة الرفيعة التي احتلها مؤلفه "مدخل إلى علم النفس الاجتماعي". حيث بقي المرجع الأول لأجيال عديدة من الدارسين والباحثين.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح