تعد نظرية إدوارد تولمان(1886-1959م) واحدة من المحاولات البارزة التي استهدفت الجمع بين السلوكية والغشتالتية والتحليل النفسي. فقد انطلقت في مسعاها هذا من الفلسفة الإجرائية أو الوضعية المنطقية التي هي نسخة منقحة عن الفلسفة الوضعية. وتعنى هذه الفلسفة بتحليل النشاط العلمي والتعرف على العمليات التي بوساطتها يكشف العلم عن المعطيات والمفاهيم الجديدة. وهي، إذ تهتم بذلك، إنما تستمد اهتمامها من التعاليم الواتسونية التي تركز على استجابة العضوية وتعتبرها المادة الأساسية للدراسة السيكولوجية. ولذا يمكن اعتبار هذه الفلسفة دعوة إلى تطبيق مبادئ واتسون على سلوك العالم. وهي الدعوة التي أطلقها ب.بريجمان، أستاذ الرياضيات والفيزياء في جامعة هارفارد، عبر صفحات كتابه "منطق الفيزياء المعاصرة ـ THE LOGIC OF MODERN PHYSICS " حين قال: "إن مفهوم الطول يتحدد "يتثبت" عندما تتحدد "تتثبت" العمليات التي يقاس الطول بوساطتها. ولذا فإن مفهوم الطول لا يتضمن أكثر من مجموعة العمليات المناسبة"(ياروشيفسكي، 1985، 392).
وهكذا تسقط الإجرائية على لسان أحد أقطابها كل ماله صلة بالجانب النفسي من الواقعة النفسية، وتبقي على الجانب الأدائي منها فقط، أي على الأفعال الخارجية التي تخضع للملاحظة والقياس. ولكنها ـ كما يلاحظ ياروشيفسكي ـ فتحت الباب أمام نقل الظاهرة النفسية التي لا تدركها إلا الذات إلى لغة الأفعال والعمليات التي يمكن إخضاعها للملاحظة الموضوعية(ياروشيفسكي، 1985، 393). وكانت وجهة النظر هذه ـ بالنسبة لتولمان وغيره من علماء النفس الأمريكيين أمثال ستيفن وسكنر وبورينغ المدخل الذي كانوا يبحثون عنه لتجاوز قصور السلوكية وإلحاق الصورة والدافع اللذين أنكرتهما بالفعل الذي عرفت به.
ويرتبط توجه تولمان الإصلاحي بالمعطيات التجريبية، وبقدر مماثل بالتعرف على تعاليم الغشتالتية. فإذا كان واتسون قد اختار الاحتمال الأول من الاحتمالين اللذين توصل إليهما سمول، وهو أن الاستجابة العضليّة تعتبر مفتاح السلوك، فإن تولمان أخذ بالاحتمال الثاني الذي يمنح الإدراك المكاني الفضل في التعليم. فقد لعب اطلاع تولمان المبكر على مبادئ الغشتالتية دوراً هاماً في هذا الاختبار. حيث أنه اشتغل في علم النفس بعض الوقت تحت إشراف كوفكا عندما كان في ألمانيا. وهناك أيضاً بدأ يتعرف على التحليل النفسي. وفي بداية العشرينيات أصبح مدرساً لعلم النفس في جامعة كاليفورنيا ببركلي. وأثناء ذلك اطلع على نظرية واتسون وأعجب بها إعجاباً شديداً. وتركت هذه النظريات آثارها في فكر تولمان على خلفية ثقافته الهندسية. وشكلت عبر تفاعلها بعضها مع بعض ومعايرتها على محك المذهب الإجرائي مخططه النظري.
وفي ضوء ما تقدم يمكن تصوير منطلق تولمان على أنه احتجاج على تجريد السلوك من الصورة والدافع. فمن المؤكد، عنده، أن تكون هذه عمليات تجري داخل العضوية قبل قيام هذه الأخيرة بالرد على المنبهات الخارجية. ويستدل على وجود هذه العمليات عن طريق مؤشرات موضوعية قابلة للقياس.
لقد عرض تولمان نظريته في كتاب نشره عام 1932 تحت عنوان "السلوك القصدي عند الحيوانات والإنسان PURPOSIVE BEHAVIOUR IN ANIMALS AND MEN ". وعلى الرغم من صدور هذا الكتاب أكثر من مرة في طبعات معدلة ومنقحة، فإن المبادئ والأفكار العامة لهذه النظرية بقيت دونما تغيير. ويحتلّ مفهوم "القصد" أو "الغاية" الذي أضافه تولمان لوصف السلوك الإنساني والحيواني موقعاً هاماً بين تلك المبادئ والأفكار.
ولا عجب أن تعرف نظرية تولمان في أدبيات علم النفس بـ(السلوكية القصدية أو الغائية). على أنه ينبغي أن لا يفهم من ذلك تخلي تولمان عن السلوكية. فقد بقي الرجل متمسكاً بما اعتبره واتسون شرطاً لازماً لكي يجد علم النفس موقعه بين العلوم: الملاحظة الموضوعية، والقياس الدقيق للسلوك. وما عناه بمفهوم "القصد" هو أن السلوك يشمل، بالإضافة إلى الاستجابة على المنبه الخارجي، صورة هذا الأخير والدوافع التي تحرك العضوية نحوه باعتباره هدفاً لها.
إن سلوك الإنسان والحيوان عند تولمان، ليس مجرد استجابات تستجرها منبهات خارجية، بقدر ماهو موجه نحو أهداف وغايات محددة. وهو في سعيه للوصول إليها يستمد وسائله من المنبهات المتوفرة. وهذا ما يكسبه طابعاً كلياً. ولهذا أ طلق تولمان على سلوكيته مصطلح الكلية MOLAR معبراً عن موقفه من السلوك بوصفه عملية كلية، وبالتالي معارضته للسلوكية التجزيئية MOLECULAR التي ترى أن السلوك هو حصيلة تآلف الأفعال الحركية المنفصلة وتجمعها. فالكلام وقيادة الدراجة أو السيارة والضرب على الآلة الكاتبة هي، برأيها، ضروب من السلوك، يتألف كل واحد منها من عدد كبير من الاستجابات العضليّة المستقلة.
ووفقاً لهذا المدخل كان على تولمان أن يعرض للكيفيات التي تجعل من السلوك ظاهرة معقّدة، وليس مجرد حركات عضلية بسيطة ترد بها العضوية على المنبهات الخارجية. ولذا طرح مفهوم المتغيرات الوسيطية INTERVENING VARIABLES ليشير إلى الجانب المعرفي والدوافع باعتبارها حلقة تتوسط المنبه باعتباره متغيراً مستقلاً والاستجابة كمتغير تابع. ولكنه لم يميز في البداية من المتغيرات الوسيطية التي تنتمي إلى مجال المعرفة سوى الإدراك والقدرة على التمييز، ومن التي تنتمي إلى الدوافع إلاّ الحاجة إلى الطعام والجنس والأمن. وبعد مضي فترة من الزمن عاد إلى الموضوع وأعلن عن وجود ثلاثة أنواع من المتغيرات الوسيطية وهي: الحاجات والقيم والحقل السلوكي. وألحق بالمتغيرات المستقلة كلاً من الوراثة HEREDITY والسن AGE والتدريب TRAINING والغدد الصم ENDOCRINE معتبراً إياها مسؤولة عن وجود الفروق الفردية بين الناس. وبقيت الحاجات، بالنسبة له، مقتصرة على الجانب العضوي. أما القيم فقد قصد بها اتجاه الفرد نحو الموضوعات الخارجية وتفضيله بعضها على البعض الآخر. بينما وجد أن الحقل السلوكي هو الموقف الذي ينجز فيه الفعل
(TOLMAN, 1951).
إن محاولة تولمان إضافة مفاهيم حول التصور والإدراك والدوافع إلى تعاليم السلوكية ومضافرتها مع تعاليم الغشتالتية والتحليل النفسي تعكس إرادة التحدي لديه أمام الانتقادات العنيقة التي قوبلت بها من جانب السلوكيين بوجه خاص. فلم يكن يعترف هؤلاء إلا بما هو محسوس وقابل للقياس. وهذا ما لا يتوفر في اعتقادهم، إلا في الاستجابة. واعتبروا أن ما يحدث بين المنبه والاستجابة إنما هو استجابة, وكل ما عدا ذلك فهو ضرب من الخيال. وحيال ذلك أصر تولمان على أن مفهوم الإدراك أو التمييز لا يتنافى مع المبدأ العام للسلوكية ولا يتغاضى عن شرط إمكانية قياس الظاهرة، موضوع الدراسة. فالقول بأن إدراكنا للمحيط وتصوراتنا حول عناصره ومعتقداتنا بأنها تخضع إلى نظام معين، وأنها ليست ظواهر مادية لا يلغي، برأيه، موضوعيتها وقابليتها للقياس بصورة غير مباشرة. وعلى أساس هذه الحيثيات أقام تولمان حكمه على قانوني التدريب والأثر. فإذا كان التدريب عند ثورندايك وواتسون(ومن بعدهما سكنروميللر) يقوي الارتباط بين الاستجابة والمنبه، فإن أهميته بالنسبة لتولمان، تكمن في تشكيل لوحات معرفية محددة يستخدمها الإنسان والحيوان حينما تقتضي ذلك الحاجة للوصول إلى هدف ما. إن الإنسان الذي اعتاد أن يقضي بعض لوازمه من أحد المحلات التجارية باتباعه مسلك معين يستطيع أن يصل إلى نفس المحل عندما يسلك مسلكاً آخر بفضل الخارطة الإدراكية التي تكونت لديه عن المنطقة. والجرذ يتعلم اجتياز المتاهة واختيار الطريق المؤدي إلى الطعام بواسطة الخارطة الإدراكية التي تكونت لديه عن المتاهة، وليس نتيجة قيامه بعدد من الاستجابات الحركية. كما أن الإنسان والحيوان يميزان عناصر(إشارات) العالم الخارجي أثناء توجههما نحو الهدف بالاعتماد على توقعاتهما عنها. وبمقابلة الإشارات والتوقعات يتمكنان من الوصول إلى الهدف المطلوب. ففي كل مرة لا يجد التوقع فيها ما يؤكده من تلك الإشارات تتجدد المحاولة ويتغير السلوك. وهكذا فاللوحات المعرفية لا تتشكل لدى الكائن الحي بفضل الأثر المادي المتمثل في إشباع الحاجات العضوية، وإنما بالتوقع وبتأكيد هذا التوقع وترسيخه..
وللبرهان على صحة هذه الآراء أجرى تولمان ومساعدوه سلسلة من التجارب على الجرذان. ففي إحداها تعلمت الحيوانات الوصول إلى علبة الطعام عبر أحد ممرات المتاهة. وعندما أغلق هذا الممر وفتح أمام الجرذان عدد كبير من الممرات الأخرى لوحظ أنها كانت تختار من بينها ما يبدو لها أنه أقرب إلى الهدف بدلاً من اختيارها لممر أقرب إلى الممر الذي اعتادت اجتيازه في المرات السابقة كما يتوقع سلوكيون آخرون. ويرجع تولمان السبب في هذا الاختيار إلى تشكل لوحة إدراكية عن أجزاء المتاهة لدى الجرذان أثناء عبورها لها باتباع الممر الأول.
ولنفس الغاية اعتمد تولمان على التجربة التي أجراها بكستون BUXTON. وفيه وضعت الجرذان في متاهة طوال ليلة كاملة، دون أن تحصل خلالها على طعام. وخلال وجودها في المتاهة كان المجرب يخرجها بين الحين والآخر ومن أمكنة مختلفة من المتاهة بغية ضبط المتغيرات الجانبية، وتحقيق المساواة بين أجزاء المتاهة من حيث أهميتها بالنسبة للحيوانات. وبعد ذلك حرمت الجرذان يومين كاملين من الطعام ثم وضعت في المتاهة لتحصل على طعامها في علبة النهاية. وقد تبين أن نصف الجرذان على الأقل اجتاز المتاهة ووصل إلى علبة الطعام بسرعة كبيرة ومن غير أخطاء. في حين لم تتمكن مجموعة أخرى من الجرذان من الوصول إلى الطعام إلا بعد مضي وقت طويل وعدد كبير من الأخطاء. وبما أن جرذان المجموعة الأولى(التجريبية) لم تحصل على أي طعام في المرحلة الأولى، أي أن استجاباتها أثناء وجودها في المتاهة طيلة الليلة الأولى لم تتعزز، فإن ما أبدته من مهارة وحذق في اجتياز المتاهة خلال المرحلة الثانية، يعتبر، في رأي تولمان، نتيجة لوجود لوحة إدراكية لديها عن مختلف أجزاء المتاهة. ويعتقد تولمان أن هذه اللوحة التي كونها الجرذ خلال المرحلة الأولى من التجربة ظلت مستترة أو كامنة إلى أن واجه الحيوان موقفاً اقتضى استعمالها. وهذا ما أطلق عليه مصطلح "التعلم الكامن أو المؤجل LATEN LEARNING".
وبهذا المستوىمن التعلم أراد تولمان أن يبرهن على محدودية قانون الأثر الذي يرى أن تعلم استجابة ما يتوقف علىتعزيزها. إذ أن التعلم، في نظره، لا يشترط التعزيز دوماً. وهو يتم بدونه في كثير من الحالات والمواقف.
وربما تتضح محاولة تولمان لإنشاء نظرية تتقاطع فيها النظريات الثلاث بصورة أكثر عبر ما كتبه عن التعلم وأنواعه. فقدتكلم عن ستة أنواع من التعلم معتمداً على مفاهيم متعددة استمدها من تلك النظريات. ويعتبر التكثف CATHEXE أحد المفاهيم التي تضمنتها النظرية الفرويدية. وهو نوع من التعلم، أشار به تولمان إلى توجه المرء نحو موضوعات معينة دون سواها لإشباع دافع ما. وتتشكل التكثفات عند البشر عن طريق التنشئة الاجتماعية.
ويتجسد النوع الثاني من التعلم في عقائد المعادلة EQUIVALENCE BELIEFS. وهذا المفهوم يعكس مستوى من الإدراك يكتسبه الإنسان ويجعله يرى أن الموقف الذي يكافأ أو يعاقب فيه مساوٍ للمكافأة أو العقاب. وقد رمى تولمان من خلال طرح هذا النوع من التعلم إلى الربط بين التعزيز وتكون الإدراك.
أما النوعان الثالث والرابع من التعلم فيعتمدان على المفاهيم التي استقاها تولمان من النظرية الغشتالتية. فقد وجد أن التوقعات FIELD EXPECTANCIES هي إدراكات الفرد لبنية المحيط. وأن صيغ التمييز المجالي FIELD COGNITION MODES هي إدراك الوسائل والأدوات ومقارنتها بعضها ببعض، وتمييز الأنسب والأصلح منها والميل نحو استخدامه في المواقف الحياتية المختلفة.
ويرجع تولمان إلى الحاجات فيخصّص لها النوع الخامس من التعلم. وهو النوع الذي يطلق عليه اسم "تمييز الحاجات ـ DRIVE DISCRIMINATION".
وأخيراً يشير تولمان في النوع السادس من التعلم إلى اكتساب العادات والمهارات. ويطلق على هذا النوع اسم "الأنماط الحركية ـ MOTOR PATTERNS". ومع أنه لم يكترث أثناء دراسته للسلوك الكلي بالاستجابات العضلية. إلا أنه قرر فيما بعد الأخذ بها نزولاً عند انتقادات السلوكيين المتشددين. واعترف بصحة مبدأ الإشراط المتجاور الذي اعتمد عليه غاثري، وبقدرته على تفسير بعض المكتسبات السلوكية.
ومما كتبه تولمان عن أنواع التعلم يتضح أيضاً وقوفه في منتصف الطريق وعجزه عن مواصلة سيره على طريق الربط بين الأفعال التي يتوجه بها الفرد نحو الموضوعات الخارجية، وما يترتب عنها من تشكّل اللوحات المعرفية عن تلك الموضوعات وموقع الدوافع من ذلك كله. وبقيت العلاقة بين الفعل والشكل والدافع غامضة ومبهمة، ولم يظهر التأثر المتبادل بينها في نظريته عن التعلم. لقد تحدث عن أنواع أو مستويات للتعلم دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن القوانين التي تؤلف بينها في كل منظم ومتسلسل.
بوح الروح
وهكذا تسقط الإجرائية على لسان أحد أقطابها كل ماله صلة بالجانب النفسي من الواقعة النفسية، وتبقي على الجانب الأدائي منها فقط، أي على الأفعال الخارجية التي تخضع للملاحظة والقياس. ولكنها ـ كما يلاحظ ياروشيفسكي ـ فتحت الباب أمام نقل الظاهرة النفسية التي لا تدركها إلا الذات إلى لغة الأفعال والعمليات التي يمكن إخضاعها للملاحظة الموضوعية(ياروشيفسكي، 1985، 393). وكانت وجهة النظر هذه ـ بالنسبة لتولمان وغيره من علماء النفس الأمريكيين أمثال ستيفن وسكنر وبورينغ المدخل الذي كانوا يبحثون عنه لتجاوز قصور السلوكية وإلحاق الصورة والدافع اللذين أنكرتهما بالفعل الذي عرفت به.
ويرتبط توجه تولمان الإصلاحي بالمعطيات التجريبية، وبقدر مماثل بالتعرف على تعاليم الغشتالتية. فإذا كان واتسون قد اختار الاحتمال الأول من الاحتمالين اللذين توصل إليهما سمول، وهو أن الاستجابة العضليّة تعتبر مفتاح السلوك، فإن تولمان أخذ بالاحتمال الثاني الذي يمنح الإدراك المكاني الفضل في التعليم. فقد لعب اطلاع تولمان المبكر على مبادئ الغشتالتية دوراً هاماً في هذا الاختبار. حيث أنه اشتغل في علم النفس بعض الوقت تحت إشراف كوفكا عندما كان في ألمانيا. وهناك أيضاً بدأ يتعرف على التحليل النفسي. وفي بداية العشرينيات أصبح مدرساً لعلم النفس في جامعة كاليفورنيا ببركلي. وأثناء ذلك اطلع على نظرية واتسون وأعجب بها إعجاباً شديداً. وتركت هذه النظريات آثارها في فكر تولمان على خلفية ثقافته الهندسية. وشكلت عبر تفاعلها بعضها مع بعض ومعايرتها على محك المذهب الإجرائي مخططه النظري.
وفي ضوء ما تقدم يمكن تصوير منطلق تولمان على أنه احتجاج على تجريد السلوك من الصورة والدافع. فمن المؤكد، عنده، أن تكون هذه عمليات تجري داخل العضوية قبل قيام هذه الأخيرة بالرد على المنبهات الخارجية. ويستدل على وجود هذه العمليات عن طريق مؤشرات موضوعية قابلة للقياس.
لقد عرض تولمان نظريته في كتاب نشره عام 1932 تحت عنوان "السلوك القصدي عند الحيوانات والإنسان PURPOSIVE BEHAVIOUR IN ANIMALS AND MEN ". وعلى الرغم من صدور هذا الكتاب أكثر من مرة في طبعات معدلة ومنقحة، فإن المبادئ والأفكار العامة لهذه النظرية بقيت دونما تغيير. ويحتلّ مفهوم "القصد" أو "الغاية" الذي أضافه تولمان لوصف السلوك الإنساني والحيواني موقعاً هاماً بين تلك المبادئ والأفكار.
ولا عجب أن تعرف نظرية تولمان في أدبيات علم النفس بـ(السلوكية القصدية أو الغائية). على أنه ينبغي أن لا يفهم من ذلك تخلي تولمان عن السلوكية. فقد بقي الرجل متمسكاً بما اعتبره واتسون شرطاً لازماً لكي يجد علم النفس موقعه بين العلوم: الملاحظة الموضوعية، والقياس الدقيق للسلوك. وما عناه بمفهوم "القصد" هو أن السلوك يشمل، بالإضافة إلى الاستجابة على المنبه الخارجي، صورة هذا الأخير والدوافع التي تحرك العضوية نحوه باعتباره هدفاً لها.
إن سلوك الإنسان والحيوان عند تولمان، ليس مجرد استجابات تستجرها منبهات خارجية، بقدر ماهو موجه نحو أهداف وغايات محددة. وهو في سعيه للوصول إليها يستمد وسائله من المنبهات المتوفرة. وهذا ما يكسبه طابعاً كلياً. ولهذا أ طلق تولمان على سلوكيته مصطلح الكلية MOLAR معبراً عن موقفه من السلوك بوصفه عملية كلية، وبالتالي معارضته للسلوكية التجزيئية MOLECULAR التي ترى أن السلوك هو حصيلة تآلف الأفعال الحركية المنفصلة وتجمعها. فالكلام وقيادة الدراجة أو السيارة والضرب على الآلة الكاتبة هي، برأيها، ضروب من السلوك، يتألف كل واحد منها من عدد كبير من الاستجابات العضليّة المستقلة.
ووفقاً لهذا المدخل كان على تولمان أن يعرض للكيفيات التي تجعل من السلوك ظاهرة معقّدة، وليس مجرد حركات عضلية بسيطة ترد بها العضوية على المنبهات الخارجية. ولذا طرح مفهوم المتغيرات الوسيطية INTERVENING VARIABLES ليشير إلى الجانب المعرفي والدوافع باعتبارها حلقة تتوسط المنبه باعتباره متغيراً مستقلاً والاستجابة كمتغير تابع. ولكنه لم يميز في البداية من المتغيرات الوسيطية التي تنتمي إلى مجال المعرفة سوى الإدراك والقدرة على التمييز، ومن التي تنتمي إلى الدوافع إلاّ الحاجة إلى الطعام والجنس والأمن. وبعد مضي فترة من الزمن عاد إلى الموضوع وأعلن عن وجود ثلاثة أنواع من المتغيرات الوسيطية وهي: الحاجات والقيم والحقل السلوكي. وألحق بالمتغيرات المستقلة كلاً من الوراثة HEREDITY والسن AGE والتدريب TRAINING والغدد الصم ENDOCRINE معتبراً إياها مسؤولة عن وجود الفروق الفردية بين الناس. وبقيت الحاجات، بالنسبة له، مقتصرة على الجانب العضوي. أما القيم فقد قصد بها اتجاه الفرد نحو الموضوعات الخارجية وتفضيله بعضها على البعض الآخر. بينما وجد أن الحقل السلوكي هو الموقف الذي ينجز فيه الفعل
(TOLMAN, 1951).
إن محاولة تولمان إضافة مفاهيم حول التصور والإدراك والدوافع إلى تعاليم السلوكية ومضافرتها مع تعاليم الغشتالتية والتحليل النفسي تعكس إرادة التحدي لديه أمام الانتقادات العنيقة التي قوبلت بها من جانب السلوكيين بوجه خاص. فلم يكن يعترف هؤلاء إلا بما هو محسوس وقابل للقياس. وهذا ما لا يتوفر في اعتقادهم، إلا في الاستجابة. واعتبروا أن ما يحدث بين المنبه والاستجابة إنما هو استجابة, وكل ما عدا ذلك فهو ضرب من الخيال. وحيال ذلك أصر تولمان على أن مفهوم الإدراك أو التمييز لا يتنافى مع المبدأ العام للسلوكية ولا يتغاضى عن شرط إمكانية قياس الظاهرة، موضوع الدراسة. فالقول بأن إدراكنا للمحيط وتصوراتنا حول عناصره ومعتقداتنا بأنها تخضع إلى نظام معين، وأنها ليست ظواهر مادية لا يلغي، برأيه، موضوعيتها وقابليتها للقياس بصورة غير مباشرة. وعلى أساس هذه الحيثيات أقام تولمان حكمه على قانوني التدريب والأثر. فإذا كان التدريب عند ثورندايك وواتسون(ومن بعدهما سكنروميللر) يقوي الارتباط بين الاستجابة والمنبه، فإن أهميته بالنسبة لتولمان، تكمن في تشكيل لوحات معرفية محددة يستخدمها الإنسان والحيوان حينما تقتضي ذلك الحاجة للوصول إلى هدف ما. إن الإنسان الذي اعتاد أن يقضي بعض لوازمه من أحد المحلات التجارية باتباعه مسلك معين يستطيع أن يصل إلى نفس المحل عندما يسلك مسلكاً آخر بفضل الخارطة الإدراكية التي تكونت لديه عن المنطقة. والجرذ يتعلم اجتياز المتاهة واختيار الطريق المؤدي إلى الطعام بواسطة الخارطة الإدراكية التي تكونت لديه عن المتاهة، وليس نتيجة قيامه بعدد من الاستجابات الحركية. كما أن الإنسان والحيوان يميزان عناصر(إشارات) العالم الخارجي أثناء توجههما نحو الهدف بالاعتماد على توقعاتهما عنها. وبمقابلة الإشارات والتوقعات يتمكنان من الوصول إلى الهدف المطلوب. ففي كل مرة لا يجد التوقع فيها ما يؤكده من تلك الإشارات تتجدد المحاولة ويتغير السلوك. وهكذا فاللوحات المعرفية لا تتشكل لدى الكائن الحي بفضل الأثر المادي المتمثل في إشباع الحاجات العضوية، وإنما بالتوقع وبتأكيد هذا التوقع وترسيخه..
وللبرهان على صحة هذه الآراء أجرى تولمان ومساعدوه سلسلة من التجارب على الجرذان. ففي إحداها تعلمت الحيوانات الوصول إلى علبة الطعام عبر أحد ممرات المتاهة. وعندما أغلق هذا الممر وفتح أمام الجرذان عدد كبير من الممرات الأخرى لوحظ أنها كانت تختار من بينها ما يبدو لها أنه أقرب إلى الهدف بدلاً من اختيارها لممر أقرب إلى الممر الذي اعتادت اجتيازه في المرات السابقة كما يتوقع سلوكيون آخرون. ويرجع تولمان السبب في هذا الاختيار إلى تشكل لوحة إدراكية عن أجزاء المتاهة لدى الجرذان أثناء عبورها لها باتباع الممر الأول.
ولنفس الغاية اعتمد تولمان على التجربة التي أجراها بكستون BUXTON. وفيه وضعت الجرذان في متاهة طوال ليلة كاملة، دون أن تحصل خلالها على طعام. وخلال وجودها في المتاهة كان المجرب يخرجها بين الحين والآخر ومن أمكنة مختلفة من المتاهة بغية ضبط المتغيرات الجانبية، وتحقيق المساواة بين أجزاء المتاهة من حيث أهميتها بالنسبة للحيوانات. وبعد ذلك حرمت الجرذان يومين كاملين من الطعام ثم وضعت في المتاهة لتحصل على طعامها في علبة النهاية. وقد تبين أن نصف الجرذان على الأقل اجتاز المتاهة ووصل إلى علبة الطعام بسرعة كبيرة ومن غير أخطاء. في حين لم تتمكن مجموعة أخرى من الجرذان من الوصول إلى الطعام إلا بعد مضي وقت طويل وعدد كبير من الأخطاء. وبما أن جرذان المجموعة الأولى(التجريبية) لم تحصل على أي طعام في المرحلة الأولى، أي أن استجاباتها أثناء وجودها في المتاهة طيلة الليلة الأولى لم تتعزز، فإن ما أبدته من مهارة وحذق في اجتياز المتاهة خلال المرحلة الثانية، يعتبر، في رأي تولمان، نتيجة لوجود لوحة إدراكية لديها عن مختلف أجزاء المتاهة. ويعتقد تولمان أن هذه اللوحة التي كونها الجرذ خلال المرحلة الأولى من التجربة ظلت مستترة أو كامنة إلى أن واجه الحيوان موقفاً اقتضى استعمالها. وهذا ما أطلق عليه مصطلح "التعلم الكامن أو المؤجل LATEN LEARNING".
وبهذا المستوىمن التعلم أراد تولمان أن يبرهن على محدودية قانون الأثر الذي يرى أن تعلم استجابة ما يتوقف علىتعزيزها. إذ أن التعلم، في نظره، لا يشترط التعزيز دوماً. وهو يتم بدونه في كثير من الحالات والمواقف.
وربما تتضح محاولة تولمان لإنشاء نظرية تتقاطع فيها النظريات الثلاث بصورة أكثر عبر ما كتبه عن التعلم وأنواعه. فقدتكلم عن ستة أنواع من التعلم معتمداً على مفاهيم متعددة استمدها من تلك النظريات. ويعتبر التكثف CATHEXE أحد المفاهيم التي تضمنتها النظرية الفرويدية. وهو نوع من التعلم، أشار به تولمان إلى توجه المرء نحو موضوعات معينة دون سواها لإشباع دافع ما. وتتشكل التكثفات عند البشر عن طريق التنشئة الاجتماعية.
ويتجسد النوع الثاني من التعلم في عقائد المعادلة EQUIVALENCE BELIEFS. وهذا المفهوم يعكس مستوى من الإدراك يكتسبه الإنسان ويجعله يرى أن الموقف الذي يكافأ أو يعاقب فيه مساوٍ للمكافأة أو العقاب. وقد رمى تولمان من خلال طرح هذا النوع من التعلم إلى الربط بين التعزيز وتكون الإدراك.
أما النوعان الثالث والرابع من التعلم فيعتمدان على المفاهيم التي استقاها تولمان من النظرية الغشتالتية. فقد وجد أن التوقعات FIELD EXPECTANCIES هي إدراكات الفرد لبنية المحيط. وأن صيغ التمييز المجالي FIELD COGNITION MODES هي إدراك الوسائل والأدوات ومقارنتها بعضها ببعض، وتمييز الأنسب والأصلح منها والميل نحو استخدامه في المواقف الحياتية المختلفة.
ويرجع تولمان إلى الحاجات فيخصّص لها النوع الخامس من التعلم. وهو النوع الذي يطلق عليه اسم "تمييز الحاجات ـ DRIVE DISCRIMINATION".
وأخيراً يشير تولمان في النوع السادس من التعلم إلى اكتساب العادات والمهارات. ويطلق على هذا النوع اسم "الأنماط الحركية ـ MOTOR PATTERNS". ومع أنه لم يكترث أثناء دراسته للسلوك الكلي بالاستجابات العضلية. إلا أنه قرر فيما بعد الأخذ بها نزولاً عند انتقادات السلوكيين المتشددين. واعترف بصحة مبدأ الإشراط المتجاور الذي اعتمد عليه غاثري، وبقدرته على تفسير بعض المكتسبات السلوكية.
ومما كتبه تولمان عن أنواع التعلم يتضح أيضاً وقوفه في منتصف الطريق وعجزه عن مواصلة سيره على طريق الربط بين الأفعال التي يتوجه بها الفرد نحو الموضوعات الخارجية، وما يترتب عنها من تشكّل اللوحات المعرفية عن تلك الموضوعات وموقع الدوافع من ذلك كله. وبقيت العلاقة بين الفعل والشكل والدافع غامضة ومبهمة، ولم يظهر التأثر المتبادل بينها في نظريته عن التعلم. لقد تحدث عن أنواع أو مستويات للتعلم دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن القوانين التي تؤلف بينها في كل منظم ومتسلسل.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح