في العام 1912 الذي نشر فيه ورتايمر مقاله الأول كان واتسون يضع اللمسات الأخيرة على إعلانه عن تأسيس مدرسة سيكولوجية جديدة، عرفت بالمدرسة السلوكية. وحتى ذلك التاريخ كانت الشروط الموضوعية لنشأة هذه المدرسة قد بلغت درجة من النضج لم يكن من الصعب معها على المراقب الذي يتتبع بشيء من العناية والتركيز طبيعتها وتقاطعاتها أن يتنبأ بولادتها. فبالإضافة إلى المأزق الذي آلت إليه النظريات والمدارس السيكولوجية السابقة عرفت تعاليم كونت الوضعية والمبادئ والمفاهيم البراغماتية التي استمدها جيمس وديوي وأنجيل من النظريات التطورية انتشاراً واسعاً وسريعاً بين المثقفين والمتعلمين في الولايات المتحدة الأمريكية. وانعكس هذا الواقع الجديد في العدد الكبير من الدراسات والطرائق التي استخدمت فيها والنتائج التي خلصت إليها، الأمر الذي مهد السبيل لظهور السلوكية التي ميزت علم النفس الأمريكي وطبعته بطابعها طوال هذا القرن، بل وامتد تأثيرها إلى كليات ومعاهد علم النفس في أنحاء متعددة من العالم. ومن أشهر تلك الدراسات ما قام به إدوار ثورندايك EDWARD THORNDIKE(1874-1949م).
ومع أن ثورندايك يؤكد على انتمائه الارتباطي، ويرفض أن يوصف بالسلوكي، إلا أن مواقفه في ميادين علم النفس المختلفة التي اشتغل فيها تعارض ادعاءه، وتجعل منه رائداً من رواد السلوكية. وهذا ما نلمسه من خلال المقابلة بين تلك المواقف من جهة، ومبادئ السلوكية وأفكارها من جهة ثانية. فقد جاءت السلوكية، مثلما هو الحال بالنسبة للغشتالتية، لتعيد بناء علم النفس على قواعد وركائز جديدة. وخلافاً للغشتالتية، وجدت السلوكية أن الخطوة الأولى في إنجاز هذه المهمة يجب أن يبدأ بإعادة النظر في موضوع علم النفس ومناهج البحث فيه.
وفي حين أبقى الغشتالتيون على الوعي كمادة للبحث، والاستبطان بوجهه الغشتالتي الذي اقترحه برنتانو كمنهج لدراسة هذه المادة، أكدت السلوكية ضرورة تحول اهتمام السيكولوجي إلى دراسة التغيرات التي تطرأ على عضوية الإنسان أو الحيوان، أي إلى دراسة السلوك، باستخدام الطرائق الموضوعية. فالسبب في وجود الأزمة في علم النفس يكمن، حسب رأي مؤسسيها، في التمسك بالوعي موضوعاً، وبالملاحظة الذاتية منهجاً.
لم تكن وجهة النظر هذه جديدة على الفكر السيكولوجي. فقد سبق وأن عبر عنها عدد من العلماء، ولاسيما ممن درس منهم سلوك الحيوان. وترك هؤلاء رصيداً هاماً من المعطيات التي عملت السلوكية على توظيفها في صياغة مبادئها والدفاع عنها. وتحت التأثير المباشر للحركة التجريبية النشيطة التي عرفها هذا الميدان في الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر تبلورت معالم اتجاه حديث ينزع إلى التخلي عن المنهج الذاتي في البحث ليحل مكانه المنهج الموضوعي. ويقضي المنهج المقترح بأن يقوم الباحث بملاحظة أفعال المفحوص وتصرفاته الخارجية بدلاً من مطالبته بتقديم تقرير حول ما يجري في داخله. ولعلنا نجد هذه الوقائع واضحة في أعمال ثورندايك.
ظهر ميل ثورندايك نحو دراسة السلوك منذ شبابه. وزاد من شدة هذا الميل اطلاعه على كتاب جيمس "مبادئ علم النفس". ودفعه إعجابه الشديد بهذا المؤلف إلى السفر للقاء صاحبه الذي كان يعمل أيامها في جامعة هارفارد.
ومن المفيد أن نشير هنا إلى تجارب ثورندايك المبكرة التي أجراها على أطفال مرحلة ما قبل المدرسة(والتي لم تنشر قط). فقد كان يعرض على المفحوصين الصغار مختلف الموضوعات والأعداد والكلمات بصورة ذهنية. ثم يطلب من الطفل الذي يجلس أمامه أن يحزر أو يخمن الأشياء التي يفكر بها المجرب. وفي حالة تمكنه من الإجابة الصحيحة تقدم له قطعة من الحلوى.
إن تحليل الوضعية التجريبية التي قدمها ثورندايك يبرز أثر التصور الذي كان سائداً آنذاك حول العلاقة المباشرة بين الفكر واللغة، والتي تتمثل في أن التفكير الداخلي يكون مرفوقاً بتغيرات في أقسام الجهاز الكلامي لا يعيها الفرد ذاته، ولا يدركها الآخر. وأمام هذه الحقيقة تحاول وضعية ثورندايك أن تجيب على سؤال عما إذا كان بالإمكان زيادة حساسية الآخرين بهذه التغيرات كيما يصبح بمقدورهم إدراك تلك الحركات الكلامية الدقيقة، وبالتالي معرفة الأفكار التي تقابلها.
لقد اعتمد ثورندايك في محاولته هذه على تكوين الميل إلى التخمين أو الحزر عن طريق التعزيز، وإمكانية زيادة شدة الحساسية تدريجياً مع الاستمرار في التجربة وتكرار المحاولة(المحاولات) الناجحة.
ومما يلاحظ بشأن هذه الوضعية أيضاً هو غياب الوعي فيها واهتمامها بالمنبهات المتمثلة في التغيرات التي تطرأ على عضلات وجه المجرب أثناء عملية التفكير، وباستجابات المفحوصين المتمثلة في تخمين أو حزر المنبهات دون أن يكونوا على دراية بالعلاقات التي يستندون إليها في أداء مهمتهم، وأخيراً تأكيدها على دور التعزيز كعامل حاسم في اكتساب الخبرة الحياتية.
ولكن ثورندايك لم يتمكن من إتمام هذه المجموعة من التجارب بسبب القرار الذي أصدرته إدارة جامعة هارفارد والقاضي بمنع إجراء التجارب على الأطفال. فانصرف بعد ذلك إلى دراسة السلوك الحيواني، حيث شرع بتعليم الحيوانات(الدجاج) اجتياز المتاهة. ويروي المؤرخون عن ثورندايك أنه قام بتأسيس مخبر متواضع في قبو المنزل الذي كان يسكنه جيمس. وعلى الرغم من بساطة هذا المخبر فقد كان أول مخبر في تاريخ علم النفس الحيواني. وعقب عودة كاتل من ألمانيا وتأسيسه لمخبره في جامعة كولومبيا وذيوع صيته آثر ثورندايك الالتحاق به والتعرف على نشاطاته والعمل تحت إشرافه. فهاهو يودع جيمس ويقصد كاتل صاحب الخبرة في ميدان التجريب، مصطحباً فرخين من الدجاج مدربين تدريباً جيداً. ولدى وصوله إلى جامعة كولومبيا لاقى كل الترحيب والتشجيع من قبل كاتل. فأقام هناك وواصل بحوثه وتجاربه على الحيوانات. وبعد مضي بعض الوقت صمم جهازاً خاصاً سمي بالمحارة PUZZLE BOX. وهذا الجهاز هو عبارة عن قفص محاط بقضبان معدنية(حديدية) وفيه باب لا يتمكن الحيوان الموجود في داخله من فتحه إلا برفع مزلاج أو تحريك سقاط في اتجاه محدد. وقد لاحظ ثورندايك بعد قيامه بسلسلة من التجارب مع استخدام المحارة أن الحيوان(القط) يقوم في المحاولة الأولى بحركات عشوائية(عض القضبان، تسلق جدران القفص، القفز في مختلف الاتجاهات...) تستغرق وقتاً طويلاً نسبياً قبل أن يرفع المزلاج صدفة بفضل إحداها ثم يفتح الباب، ويخرج من القفص ويحصل على الطعام. وأن هذه الحركات العشوائية تتناقص تدريجياً، ويتناقص معها الوقت المستغرق في حل المشكلة من محاولة إلى أخرى. فإذا كان الوقت الذي يستغرقه الحيوان في المحاولة الأولى –حسب ما سجله ثوراندايك- هو 3 دقائق، فإنه لا يتجاوز في المحاولة الثانية 90 ثانية و 60 ثانية في المحاولة الخامسة، وتنخفض في المحاولة العشرين لتصل إلى بضع ثوان". وقد استخلص ثورندايك من هذه المعطيات أن الحيوان يكتسب خبرته عن طريق "المحاولة والخطأ".
عرض ثورندايك تلك الملاحظات والاستنتاجات في رسالته التي أهلته لنيل شهادة الدكتوراه عام 1898 تحت عنوان "ذكاء الحيوان. دراسة تجريبية للعمليات الارتباطية عند الحيوانات". وكانت رسالته هذه أول عمل له يتصدر قائمة طويلة من أعماله التي قدرت بنحو 507 عمل بين كتاب ومقالة ومداخلة.
ليس في عنوان الرسالة ما يفاجئ القارئ. فمصطلح "ذكاء الحيوان" أصبح من المصطلحات المألوفة عند الحديث عن سلوك الحيوان عقب ظهور عشرات الأعمال في ميدان علم النفس الحيواني. كما أن تفسير الذكاء من وجهة النظر الارتباطية أمر معروف منذ مئات السنين. وقد أصبح على يد هوبز ومن بعده لوك اتجاهاً مسيطراً في الفلسفة والتربية وعلم النفس. غير أن الجديد في فكر ثورندايك هو العناصر أو الأطراف التي يحدث الارتباط بينها. ففي حين يجد الاتجاه الارتباطي أن الذكاء أو العقل أو العملية النفسية بوجه عام تنشأ بفعل الارتباط بين الأفكار بعضها مع بعض، أو بينها وبين الحركات، يرى ثورندايك أن هذا الارتباط إنما يتم بين الحركات والمواقف. وخلافاً للتيار الارتباطي المادي الذي ينفي أي دور للوراثة، ويعطي للتجربة الحسية في علاقة الكائن الحي مع العالم الخارجي أهمية قصوى في تشكل العملية النفسية، ينطلق ثورندايك من الوراثة كعامل أساسي في تحديد مستوى الذكاء. فالكائن الحي، حسب رأيه، يولد وهو مزوّد بجهاز عصبي مع ما يشتمل عليه من خلايا وأنسجة ووصلات. ويختلف الذكاء من فرد إلى آخر، ومن حيوان إلى آخر، تبعاً لعدد تلك الخلايا والأنسجة والوصلات. أي أن مستوى الذكاء يتوقف على عدد الوصلات العصبية؛ فكلما كان هذا العدد كبيراً كان مستوى ذكاء الكائن عالياً.
ويتحدث ثورندايك عن دور الوصلات أو الربطات العصبية في أول قانون من قوانين التعلم التي توصل إليها، وهو قانون الاستعداد THE LAW OF READINESS. ومن خلاله ينصح بضرورة توفير الاستعداد عند الوصلة(الوصلات) العصبية، وتمكين الكائن الحي من القيام بعملية الاتصال(التعلم) عندما يتحقق ذلك. فالاكتساب في هذه الحالة يكون سهلاً على الحيوان أو(الإنسان) لما يحدثه من رضا وسرور على مستوى العضوية.
إن ما يقوم به الحيوان من استجابات أثناء تفاعله مع البيئة الخارجية يتم وفق مبدأ المحاولة والخطأ. ولكي يكتسب مهارة أو خبرة ما، فإنه يقطع طريقاً طويلاً من الحركات العشوائية التي قد ينجح بعضها صدفة في إيصاله إلى هدفه ويحقق حالة الرضا. ومع استمرار الحيوان في محاولاته تثبت تلك الحركات(الاستجابات) الناجحة بفضل تعزيزها. فالتعزيز، عند ثورندايك، يضطلع بمهمة تقوية العلاقات بين الوصلات العصبية وتوطيدها.
ولعل ثورندايك بطرحه مفهوم المحاولات والأخطاء لتفسير تطور السلوك عند الكائنات الحية، يقتفي أثر أصحاب النظريات التطورية، ويكيف تعاليمهم مع "البيئة الجديدة". ولا يحتاج الكشف عن هذا الجانب من شخصية ثورندايك العلمية إلى كثير من الجهد والتحليل. فقد أظهر الرجل حماساً شديداً وميلاً قوياً نحو الاطلاع على تلك النظريات والإحاطة بمبادئها ومفاهيمها منذ أن كان طالباً. فلم يفوت فرصة وجود لويد مورغان في الولايات المتحدة الأمريكية، واستمع إلى جميع محاضراته. وانكب خلال دراسته الجامعية على قراءة أعمال سبنسر وداروين كما أن صلته الوثيقة بالوظيفتين عمقت من فهمه لتلك الأعمال وزادته إعجاباً ودفعته إلى التقرب أكثر من محتوياتها. ولهذا نجده يستخدم المفاهيم(الموضوعية) التي درجت على ألسنة التطوريين وتواترت في مؤلفاتهم. فالمحاولات والأخطاء التي اعتبرها المبدأ الذي ينظم سلوك الحيوان هي إحدى الأفكار الرئيسية في نظرية بين ومن بعده لويد مورغان وجينينغز. كما أن داروين أبرز دورها الفعال في عملية نشوء الكائنات الحية وتطورها عبر صراعها الدائم مع العالم الخارجي. وأرجع نجاح الاستجابات التي تصدر عن العضوية إلى العدد الكبير من المحاولات العشوائية التي تبذلها العضوية من أجل الرد على المتغيرات الطارئة والمحافظة على حالة التكيف مع الخارج. ولم يعزها إلى الاختيار الغائي والواعي.
ويبدو لنا أن الانطلاق من مبدأ المحاولة والخطأ الذي يعني الاحتمال والصدفة قد ساعد ثورندايك على تجاوز النظرة الميكانيكية إلى نشأة السلوك الحيواني وتطوره، ومكنه من تقديم تفسير متقدم للطبيعة التكيفية لاستجابات الحيوان واكتسابه لها. ففي ضوء هذا المبدأ وجد أن العلاقة(استجابة "R" استجابة "R") ليست هي ما ينبغي على الباحث أن يبدأ به طالما أن الاستجابة تصدر عن الكائن الحي كرد فعل على موقف خارجي. ولهذا فإن الأصح، بالنسبة لثورندايك، هو أن تكون العلاقة(موقف –استجابة) موضوع الاهتمام. وتحتوي هذه العلاقة على أربعة عناصر:
1-الموقف الإشكالي.
2-الكائن الحي ككل في الجانب المقابل.
3-الحركات النشطة والدؤوبة التي يقوم بها الكائن الحي للخروج من المشكلة.
4-تعلم الاستجابة الناجحة عن طريق التدريب.
لقد بينت تجارب ثورندايك أن الاستجابة التي تخرج الحيوان من الورطة أو المشكلة لا تتحول إلى أداة ثابتة، ولا تأخذ مكانها في مخطط سلوكه إلا بعد أن يواجه نفس الموقف الإشكالي مرات عديدة، ويقوم في كل مرة بفعل ما فعله في المرة الأولى. وانتهى ثورندايك من خلال ملاحظته هذه إلى القول بوجود قانون آخر للتعلم، هو قانون التدريب LAW OF EXERCISE الذي يتخذ مظهرين: الاستعمال والترك. فالارتباطات بين الوصلات تقوى وتتوطد عندما تتاح الفرصة أمام الحيوان للإتيان بالاستجابة مرات عديدة في الموقف ذاته. بينما تضعف تلك الارتباطات وتمّحي في حال غياب مثل هذه الإمكانية.
وإذا كان فهم ثورندايك للعمليات الارتباطية عند الحيوان يشكل تحدياً للنظرية الارتباطية التقليدية، فإلى أي مدى يتفق مع الوظيفيين(ومع ديوي بوجه خاص) في تصورهم لهذه المسألة؟ يلتقي ثورندايك مع الوظيفيين في النظرة إلى الذكاء باعتباره أداة لحل المشكلات المطروحة. فالحل لا يتحقق عن طريق التأمل بقدر ماهو حصيلة لفاعلية الفرد التي تؤمن له الانسجام والتوافق مع البيئة المحيطة. ولكنه يختلف معهم حول طبيعة هذه الفاعلية. فوظيفيو مدرسة شيكاغو يعتبرون الوعي سمة الفعالية، وإدراك الفرد للهدف وسعيه الواعي للوصول إليه عاملاً محركاً وموجهاً لسلوكه. بينما يرفض ثورندايك أن تكون أفعال الكائن الحي(والإنسان ضمناً) واعية، ويشدد على طابعها العشوائي واللا إرادي.
ومن المنطقي أن يوجه إلى عنوان مدرسة شيكاغو سؤال حول مصدر الطابع الواعي لأفعال الفرد. ومن غير انتظار يعاجلنا هؤلاء برد لا يرقى إلى سمعة هذه المدرسة. فهم يرون أن هذا الأمر لا يحتاج إلى تفسير لأن الإرادة هي العلة الأولى لكل المظاهر النفسية.
ومن المنطق ذاته يطرح سؤال آخر على ثورندايك حول كيفية اكتساب الكائن الحي لهذه الأفعال أو تلك لتصبح جزءاً من سلوكه. لقد تحدثنا منذ قليل عن قانوني الاستعداد والتدريب اللذين أكد ثورندايك على دورهما في عملية التعلم. ولكنه رأى في الوقت نفسه أنهما غير كافيين ليحصل الحيوان أو الإنسان على خبرته. ولهذا يضيف إليهما قانوناً هاماً أطلق عليه "قانون الأثر LAW OF EFFECT". فلكي تكتسب الاستجابة يجب أن توصل الكائن الحي إلى حالة الرضا كلما قام بها في مجرى محاولاته للرد على الموقف الإشكالي. وهذه الحالة لا تتحقق بمجرد تكرار الاستجابة الناجحة أو التدرب عليها، ذلك لأن التكرار لا يخلص العضوية من وضعها السلبي(الانزعاج الذي يسببه الجوع). وما يقوم بهذه العملية هو الأثر الذي تتركه الاستجابة في العضوية. إن الأثر بحديه: الإيجابي والسلبي، أي الثواب والعقاب، هو، في نظر ثورندايك، شرط لازم لاكتساب مختلف المهارات. فتعزيز ارتباط ما يتوقف على أثره الطيب، واستبعاد أو حذف استجابة غير مرغوبة مرهون بما تتركه من أثر سيِّئ. يقول ثورندايك: "إنه إذا قام ارتباط قابل للتغيير وكان مصحوباً أو متبوعاً بحالة مُرضية فإن قوة الارتباط تزيد. أما إذا قام الارتباط وكان متبوعاً أو مصحوباً بحالة مزعجة فإن قوته تضعف".(عاقل، 1981، 149).
ويعتبر قانون الأثر مرحلة هامة في تطوير نظرية ثورندايك، فقد انتقلت هذه النظرية بفضله من الحتمية البيولوجية إلى الحتمية البيوسيكولوجية. وهذا ما أشار إليه ياروشيفسكي حين قال: "إذا كان التواتر والقوة والتقارب حتميات ميكانيكية والمحاولات والأخطاء حتميات بيولوجية فإن ما يفهم من "الآثار" تلك الحالات الخاصة التي تنتمي إلى المستوى البيوسيكولوجي من تحديد السلوك"
(1985، 341). ووفقاً لهذا القانون لم تعد المحاولات والأخطاء بحد ذاتها هي التي تحدد السلوك الحيواني، بقدر ماتحدده تلك الحالات التي تنتاب العضوية(الرضا، الانزعاج).
فلا عجب أن يثير هذا القانون موجة من الانتقادات التي وجهها السلوكيون إلى ثورندايك. فقد عابوا عليه استعماله لمصطلحات تعكس الحالة الداخلية للكائن الحي، كالرضا والانزعاج لدى تكون الارتباطات بين الاستجابات الحركية والمواقف الخارجية. وزعموا أن مصطلحات كهذه هي مصطلحات ذاتية تحرف السلوكي عن موضوعيته.
وعلى الرغم مما قاله السلوكيون الأولون بصدد الجانب السيكولوجي أو الجانب الفيزيولوجي من نظرية ثورندايك، وبصرف النظر عما قاله هو عن نفسه، فقد أعطى ما لم يعطه عالم آخر من جهد وفكر كان لنتاجهما عظيم الفضل على السلوكية. وأن الاتفاق الذي جمع ثورندايك والسلوكيين حول الكثير من المبادئ والمفاهيم والذي أشرنا إليه وبينا محاوره وحدوده، يمدنا بمسوغات الاحتفاظ بالحق في تسجيل الملاحظات على الطرفين معاً بعد إتمام المهمة الرئيسية لهذا الفصل وعرض ما نراه ضرورياً من التراث السلوكي التقليدي.
ولعل السلوكية التي اتسم بها اتجاه ثورندايك تتضح أكثر لدى استكمال مقابلة آرائه بتعاليم السلوكية كما وردت في أعمال مؤسسها واتسون.
تلقى جون برادوس واتسون JOHN B.WATSON(1878-1958م) تعليمه العالي في جامعة شيكاغو ودرس علم النفس على يد أنجيل وديوي. وكان شغوفاً بالبحث التجريبي في ميدان علم نفس الحيوان. وقد كرس رسالته التي أعدها لنيل شهادة الدكتوراه(1903) لدراسة تطور سلوك الفئران البيض. واشتغل بعض الوقت مع روبرت بيركس(1876-1956م) الذي أصبح في وقت لاحق أحد أشهر الباحثين في بيوسيكولوجيا الحيوانات الراقية. وقد ابتكرا سوياً وسيلة لتحديد قدرة الحيوان على التمييز بين المثيرات البصرية.
وفي جامعة شيكاغو أيضاً درس واتسون على يد جاك لوب الذي عرف باتجاهه الفيزيائي –الكيميائي في وصف سلوك الكائنات الحية.
وإذا ما انتقلنا من البيئة العلمية الضيقة التي تعلم فيها واتسون إلى البيئة الأوسع وجدنا ما يشبه الإجماع لدى السيكولوجيين الأمريكيين على رفض أن يكون علم النفس علم الوعي أو الشعور، وأن يكون الاستبطان منهجه. وقد عبر عن هذا الموقف عالم النفس الأمريكي كاتل الذي مثل علم النفس في معرض عالمي أقيم عام 1904 في سانت لويس حيث قال أمام الحاضرين: "لست قانعاً بوجوب حصر علم النفس في دراسة الشعور بحد ذاته، وبوصفه ممكن التمييز عن العالم الفيزيائي... وليس ثمة تضارب بين التحليل الاستبطاني والتجريب الموضوعي. ولكن القول الشائع بأن علم النفس غير ممكن الوجود بدون استبطان قول تكذبه الحقائق الواقعة. ويبدو لي أن معظم البحوث التي قمت بها أنا وأجريت في مختبري لا تقل تحرراً من الاستبطان عن بحوث الفيزياء أو علم الحيوان(عاقل 1981، 96، 97).
ومما لا ريب فيه أن الفلسفة البراغماتية والنشاط المكثف لعلماء الحيوان كانا وراء موقف علماء النفس الأمريكيين. ولكنهما لم يكونا المصدر الوحيد الذي استمدوا منه حيثيات موقفهم ومسوغاته. فقد كان للفلسفة الوضعية أنصار كثيرون بينهم. وكان لتعاليمها أثر قوي في توجّهاتهم وآرائهم. ففي ضوء هذه التعاليم عرف مكدوغال علم النفس بقوله: "إنه العلم الوضعي الذي يدرس سلوك الكائنات الحية". وتحت تأثيرها أيضاً أعلن بللسبوري أحد تلاميذ تيتشنر، في كتابه "أساسيات علم النفس"(1911) أن علم النفس هو "علم السلوك البشري".
ومع الإشارة إلى الانتماءات المختلفة لكل من كاتل ومكدوغال وبللسبوري، حيث أن كلاً منهم يمثل اتجاهاً أو مدرسة، فإنهم جميعاً استمدوا آراءهم من المناخ الفكري الذي كان سائداً آنذاك، والذي كانت الوضعية مكوناً من مكوناته. ولذا فبإمكاننا القول بكثير من الثقة والموضوعية أن نشوء السلوكية اقترن بانتشار وضعية كونت والتعديلات التي أدخلها أتباعه عليها فيما بعد.
ومما يميز وضعية كونت هو ثورتها على التفسيرات الغيبية التي تنطلق من وجود قوى خفية وراء الظواهر المرئية، ووقوفها ضد النظريات الميتافيزيائية التي تتخذ من الجواهر الخاصة مبداً وأسلوباً في وصف الوقائع. وبالرغم من أهمية هذه المقدمات وصحتها، فإن كونت لم يتمكن من الوصول إلى وضع أدلة منطقية ومقنعة على أهمية وصحة منهجه. فبدلاً من أن يقدم تعريفاً علمياً لمفهوم الجوهر وقيمته بالنسبة للشيء أو الموضوع، اختار أن يجتنبه ويبقي على مفهوم الظاهرة. وهذا يعني أن المنهج الوضعي الذي اقترحه كونت يرفض معرفة الأسباب الداخلية للظواهر، ويحث على معرفة القوانين الواقعية لها، أي "... معرفة علاقاتها الثابتة في تعاقبها وتشابهها، من خلال التوفيق بين المحاكمة والملاحظة"(كونت، 1900، 4).
إن تعميم هذا الفهم على ميدان علم النفس هو الذي قاد كونت إلى رفض المنهج الاستبطاني ومن ثم إنكاره لحق هذا العلم في الاستقلال. فلكي يصير علم النفس علماً كباقي العلوم يتعين عليه أن يستخدم منهج الملاحظة الخارجية أو "الملاحظة خارج الذات" حسب تعبير كونت.
وقد تعزز موقف كونت إزاء مهمة علم النفس بمقولة النشاط والوظيفة الحيوية التي يؤديها هذا النشاط والمتمثلة في تكيف الكائن الحي مع وسطه الخارجي كما طرحتها الفلسفة البراغماتية. على أن مؤسسي هذه الفلسفة لم يحصروا تلك الوظيفة في نشاط الأجهزة العضوية والفيزيولوجية فقط، بل وأناطوها بأجهزة الوعي أيضاً. ومن المناسب أن نستعيد في هذا الصدد ما قاله جيمس من أن أفكارنا ونظرياتنا إن هي إلا أدواتنا للتكيف مع العالم الخارجي. وهكذا تتضاءل الفوارق(إن لم نقل أنها تزول) عند البراغماتي بين الإنسان والحيوان، وينتفي في فلسفته دور التفكير في المعرفة عندما توكل إليه المهمة التي يؤديها أي جهاز من أجهزة العضوية.
وجد واتسون في إسقاط الوظيفة المعرفية عن التفكير المدخل الصالح والمناسب. ومن نافلة القول أن اعترافاً كهذا لا يدعو للاستغراب طالما أن الرجل نهل من الفلسفة البراغماتية، وتتلمذ على يد رواد الاتجاه الوظيفي السيكولوجي. وكانت تعاليم هذا الاتجاه ومبادئ تلك الفلسفة من بين محددات شخصيته العلمية. ولقد وصف ج.ميللر، فيما بعد، علاقة واتسون السلوكي بالمذهب البراغماتي، فقال: "السلوكية هي النظرية البراغماتية في النفس"
(MILLER, 1967, 82).
ولكن واتسون لم ير في هذا المدخل كل ما كان يطمح إليه ليقيم علماً موضوعياً إذا ما تم تناوله ضمن الإطار للوظيفة. والأمر هنا يتعلق برفضه لما أبداه الوظيفيون من حرص على دراسة الإدراك والتفكير والإرادة وسواها من وظائف الوعي. وقد أعرب عن موقفه بقوله: "لقد شهدت الأعوام الخمسة عشر الأخيرة نموّ ما يسمى بعلم النفس الوظيفي... إنه يتحدث بلغة تبدو متشددة في قيمة المعنى البيولوجي للعمليات الشعورية أكثر من تشددها في تحليل الحالات الشعورية إلى عناصر يمكن عزلها استبطانياً. بيد أن الفرق بين علم النفس الوظيفي وعلم النفس البنائي –بالشكل الذي يذكره الوظيفيون- فرق لا يدرك. ذلك لأن الإحساس والإدراك والعاطفة والانفعال والإرادة وما إليها من مصطلحات مازالت ترد على ألسنة الوظيفيين قدر ورودها على ألسنة البنائيين"(عاقل، 1981، 95).
وتوضح هذه الفقرة موقف واتسون المتشدد من محاولات استعمال المصطلحات الدالة على الوعي، أو التي تشير بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى وجود أي من مكوناته. وقد حرص على إظهار موقفه هذا في المقال الذي نشره عام 1913 بعنوان "علم النفس كما يراه السلوكي"، والذي أطلق عليه البعض: "البيان السلوكي".
يتناول واتسون في مقاله المذكور نقطتين أساسيتين: تتعلق الأولى بموضوع علم النفس، والثانية بمنهجه وطرائقه. وبالنسبة للنقطة الأولى فإنه يرى أن ما درج الناس على استعماله من مفاهيم ومصطلحات سيكولوجية مثل الإدراك والتفكير والذاكرة هو خطأ وقع فيه العلماء والباحثون. وقد حان الوقت لتصحيح هذا الخطأ ونقل تلك المصطلحات إلى لغة سلوكية. فالمصطلحات المتداولة حتى الآن، إن دلت على شيء، إنما تدل –في اعتقاده- على قصور أولئك الذين يستعملونها وعدم قدرتهم على التخلص من موروثات القرون الوسطى. ويقترح واتسون، في النتيجة، أن يكون السلوك موضوع علم النفس بدلاً من الوعي.(من هنا جاءت تسمية هذه المدرسة بالسلوكية BEHAVIORISM. والكلمة بالإنكليزية مشتقة من كلمة BEHAVIOR أي سلوك) وأن تحل المصطلحات السلوكية كالمنبه أو المثير STIMUL والاستجابة أو الانعكاس REACTION والمهارات والعادات محل المصطلحات التقليدية البالية. وتؤلف هذه الفكرة محور أعماله اللاحقة ففي بداية كتابه "السلوك، مدخل إلى علم النفس المقارن"(1914) ومقاله "علم النفس من وجهة نظر السلوكي"(1919) وكتابه "السلوكية"(1924) يستحضر أبرز الخطوط التي تميز النظريات السيكولوجية التي ظهرت على ساحة علم النفس حتى بداية القرن العشرين. ويربط بين تلك النظريات على قاعدة المبادئ والأسس المتداخلة فيما بينها ليبين، من ثم، خطأها وعجزها عن تطوير العلم الجديد وتقديم ما ينتظر منه من منفعة للفرد والمجتمع. وعلى هذه الخلفية يعرض واتسون بديله الذي يتمثل في دراسة السلوك، ولا شيء آخر غير السلوك القابل للملاحظة الموضوعية الخارجية ووحدته الأساسية المنبه "S" –الاستجابة "R"، مستعيناً أثناء ذلك بتجاربه الميدانية. ولا بأس أن نقتبس المقطع التالي من مقدمة كتابه "السلوك، مدخل إلى علم النفس المقارن" الذي يردد فيه ما كتبه قبل عام. يقول: "علم النفس، كما يراه السلوكي، فرع موضوعي وتجريبي محض من فروع العلوم الطبيعية. هدفه النظري التنبؤ عن السلوك وضبطه. وليس الاستبطان قسماً هاماً من طرائقه، كما أن القيمة العلمية للمعلومات التي يحصل عليها ليست متوقفة على إمكان تفسيرها بالشعور.. ويبدو أن الوقت قد حان ليتخلص علم النفس من كل إشارة إلى الشعور ومن ملاحظة الحالات النفسية.. إن من الممكن كتابة علم النفس دون الإشارة إلى(الشعور) و(الحالات النفسية) و(النفس) و(فحوى الخبرة) و(الإرادة) و(التصور) وما إلى ذلك... إن من الممكن كتابته ضمن حدود(المثير والاستجابة) و(تكوين العادات)..."(عاقل، 1981، 92).
وبعد أن نفى واتسون وجود الوعي واعتبر الحديث عنه ملكاً للتاريخ كان عليه أن يخطو الخطوة التالية ويقدم مصطلحات تتناسب مع منطلقاته وتعكس المستويات المختلفة والمتفاوتة للسلوك. ولما كانت وحدة السلوك(المنبه- الاستجابة) تبدأ بإثارة عضو الإحساس وتنتهي بالفعل الحركي، فقد قام بوصف كافة الظواهر النفسية، أو لنقل بلغة السلوكية، جميع مستويات السلوك باعتبارها استجابات حركية. فالكلام حركة(أو حركات) ذات طبيعة معينة، والتفكير مجموعة من الحركات(المهارات) اليدوية والكلامية، وآخر مراحل التطور الكلامي وأرقاها، وهي مرحلة الكلام الداخلي.
وتتمثل هذه المراحل التي حددها واتسون في:
1- مرحلة الاستجابات الكلامية الخارجية.
2- مرحلة الهمس.
3- مرحلة الاستجابات الكلامية الداخلية. وهكذا فالتفكير، عند واتسون، هو الكلام دون صوت(التفكير = الكلام –الصوت).
وعلى أساس النظرة إلى سلوك الحيوان أو الإنسان على أنه مجرد استجابات بسيطة أو معقدة على ما تستقبله العضوية من منبهات خارجية، بنى واتسون رأيه في التعلم. إذ وجد أن نجاح هذا النشاط يتوقف بالدرجة الأولى على تحليل المعلم للمادة الدراسية إلى منبهات وتحديد الاستجابات التي يتوجب على المتعلم أن يقوم بها كي يستوعب مضمون هذه المادة. إن تعلم مهارة ما، كالسباحة أو الكتابة أو العد، مثلاً، يتم، حسب تصور واتسون، عن طريق التحديد المسبق لكل من المنبهات والاستجابات التي تستجرها تلك المنبهات. فإذا كانت الاستجابات أ، ب، ج، د، هـ... الخ تشكل بتسلسلها وتتابعها مهارة من المهارات المذكورة، وكانت أَ، بَ، جَ، دَ، هَـ... الخ هي سلسلة المنبهات التي يتوقف على ظهورها القيام بتلك الاستجابات، فإن الوصول إلى الهدف(تعلم المهارة) يضحي أمراً واضحاً ويسيراً حيث يكفي أن يتكرر، تبعاً لذلك، القيام بالاستجابات أ، ب، ج، د، هـ... الخ مرات عديدة حتى التأكد من تعلم المهارة.
أما بالنسبة للذاكرة فقد عبر عنها واتسون بأنها نظام الاستجابات الصحيحة الصادرة عن الكائن الحي لدى مواجهته لموقف معين.
ولعل فهم العملية التعليمية والتربوية على نحو ما تقدم هو الذي دفع بصاحبه إلى أن يرفع أمام جمهور المربين وعلماء النفس تحديه المعروف عبر صفحات كتابه "السلوكية". حيث أعلن عن استعداده لتكوين السمات التي يريدها لدى عينة من الأطفال، فيجعل منهم الطبيب والفنان والمهندس والمحامي والعامل واللص بصرف النظر عن استعداداتهم وميولهم وإمكانياتهم وانتماءاتهم العرقية.
ولئن كان تعريف واتسون لعلم النفس بدءاً من عام 1913 هو أنه العلم الطبيعي والموضوعي الذي يتناول السلوك، فما هو المنهج الذي يجب على هذا العلم أن يستخدمه؟. لقد ألمحنا في مجرى الحديث عن محتوى المقال الأول الذي أعلن فيها واتسون عن ميلاد السلوكية إلى أنه رفض الاستبطان واعتبره منهجاً خاطئاً يبعد علم النفس عن غاياته في التعرف على تكون السلوك وآليات ضبطه والتحكم فيه، ويقلل من إمكانية الإفادة العملية من معطياته وتطبيقاتها في الحياة. ولكنه، بالمقابل، لم يقترح خلال عمله المذكور المنهج البديل، بل ولم يتعرض للأسس العامة التي يبنى عليها ذلك المنهج. ومن المرجح أن يكون سبب خلو هذا المقال، الذي وصفه كثير من العلماء بأنه مخطط شامل للسلوكية، من التصريح أو حتى التلميح بالمنهج الذي ينوي استخدامه، هو أن واتسون لم يكن قد حدد منهجه العلمي بعد. ولهذا فإن حديثه حول هذه النقطة لم يتعد دائرة الهجوم على الاستبطان.
ومن القضايا التي يتناقلها بعض الباحثين والمؤرخين على أنها حقائق ثابتة تلك القضية التي تتصل بتبني واتسون لمنهج الانعكاس الشرطي البافلوفي، واقتران ظهور السلوكية بهذا المنهج.
والحقيقة أن أفكار بافلوف بعامة لم تصل إلى واتسون إلا في وقت متأخر نسبياً وبصورة تدريجية. ولعل الوقفة الأولى لواتسون مع أفكار بافلوف ترجع إلى عام 1909 عبر المقال الذي نشره بيركس بالتعاون مع تلميذه مارغوليس، الروسي الأصل، واستعرضا فيه تجارب بافلوف حول تكوين الأفعال الانعكاسية الشرطية(1909 YERKS, MARGULIS,). وكان على واتسون أن ينتظر سبع سنوات أخرى ليتعرف على نظرية بافلوف بصورة مفصلة. وقبل ذلك بعامين، أي في عام 1914، اطلع على كتاب "علم النفس الموضوعي" للعالم الروسي بختيرف. وكان بختيرف يدرس عملية اكتساب الحيوانات للمهارات والخبرات بطريقة الانعكاسات الحركية. بينما كان بافلوف يستخدم طريقة الانعكاسات الشرطية في دراسته للسلوك الإنساني والحيواني. والفرق بين الطريقتين أو المنهجين يكمن في أن بختيرف كان يشدد على الجانب الحركي، الخارجي من السلوك، بينما كان بافلوف يركز على الجانب الإشاري. ولدى مقارنة واتسون للطريقتين امتدح طريقة الانعكاس الشرطي مشيراً إلى فوائدها في دراسة السلوك الحيواني. ولكنه وجد أن طريقة الانعكاسات الحركية التي وضعها بختيرف هي الأفضل والأنسب. ومع ذلك فإنه لم يستخدم في تجاربه أياً من الطريقتين. واعتمد على المبدأ العام في تكوين أشكال جديدة من السلوك عن طريق تأثير المنبهات الخارجية على العضوية واستجابات هذه الأخيرة عليها، ويتمثل هذا المبدأ في أن السلوك يتكون تدريجياً بفعل التأثيرات الخارجية. وهكذا بدأ بدراسة مجموعة من الأطفال حديثي الولادة، تناول، فيها ظاهرة استخدام اليد اليمنى بهدف تبيان ما إذا كانت هذه الظاهرة فطرية، أم أنها تتشكل تحت تأثير المحيط. وتمشيا مع منطلقاته قرر الأخذ بالفرضية الثانية.
ويخبرنا واتسون أنه لم يجد لدى أغلب الأطفال الذين أخضعوا لملاحظته أي تفضيل ليد على اليد الأخرى. واستخلص أن الاستجابات التي يقوم بها الأطفال تحت إشراف الأهل والمربين وتوجيهاتهم تجعلهم يستخدمون اليد اليمنى في جميع نشاطاتهم الحياتية. أما الأطفال الذين يميلون نحو استخدام إحدى اليدين بعد الولادة فيشير واتسون إلى أن سبب ذلك يعود إلى الوضعيات التي تتخذها العضوية في المرحلة الجنينية.
وتأتي هذه الدراسة على أطفال البشر استمراراً للخط الذي رسمه واتسون في مقاله الأول، وتنفيذاً لمشروعه الذي يرمي إلى إخضاع النشاط الإنساني و(السلوك الحيواني) للملاحظة الموضوعية، وتفسيره على أساس ارتباط الاستجابات بالمنبهات. وقد تمثلت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه بإجراء مجموعة من التجارب التي أجراها على الحيوانات، وعرضها في كتابه "السلوك، مدخل إلى علم النفس المقارن". وقد يكون انتقاله من التجريب على الحيوان إلى التجريب على البشر رداً على الانتقادات التي ارتاب أصحابها في إمكانية تعميم صيغة "منبه استجابة" على سلوك الإنسان. فبعد أن سرح واتسون من الجيش الأمريكي في نهاية الحرب العالمية الأولى حيث قضى قرابة العامين في القوات الجوية كضابط احتياطي، استأنف نشاطه التجريبي، ولكن هذه المرة على الإنسان ليبرهن على وحدة القوانين التي يخضع لها سلوك الكائنات الحية جميعاً، وأن ما نفسّر بموجبه سلوك الحيوانات يصح، بل ويجب أن يفسر به سلوك الإنسان. وفي هذا السياق جاءت التجربة المذكورة كحلقة في سلسلة من التجارب التي قام بها واتسون على البشر، وعالج فيها ظواهر نفسية متعددة ومتفاوتة التعقيد. وكان الانفعال من بين تلك الظواهر التي أراد واتسون من وراء طرحها أن يرد على فرضية جيمس –لانغ حول أولوية التغيرات العضوية وثانوية أو تبعية الحالات الانفعالية. ومن الطبيعي أن يعترض واتسون على تلك الفرضية، طالما أنها تتعارض مع مبادئ نظريته.
وخلاصة ما يراه واتسون هو أن الانفعال ليس إلا تغيرات عضوية داخلية وتعبيرات خارجية. وعليه فإنه يلح على ضرورة التخلي عن التصورات الخاطئة حول وجود مشاعر وإحساسات ذاتية في الانفعال. وبعد أن يحدد الانفعال على هذا النحو يمضي إلى ماهو أساسي في مشروعه، أي نحو التحقق من إمكانية توجيه هذه الظاهرة وفق البرنامج المقرر.
إن موقف الفرد من الموضوعات الخارجية وتفضيله بعضها على البعض الآخر، وميله نحو أشياء، ونفوره من أشياء أخرى، كل ذلك يتكون، في اعتقاد واتسون، تحت التأثير الخارجي والمتكرر(الإيجابي أو السلبي) للأشياء والموضوعات. وللبرهان على صحة هذه الفرضية أجرى واتسون وروزاليارينور تجربة على الأطفال الصغار، تضمنت تكوين استجابات انفعالية شرطية لدى الطفل، حيث يقترن ظهور منبه محايد(أرنب) بمنبه يثير خوف الطفل(صوت قوي، مثلاً). وبعد تكرار عرض المنبهين عدداً من المرات بدأ المنبه الأول(الأرنب) يثير انفعال الخوف عند الطفل لمجرد رؤيته له وحده دون المنبه الآخر(الصوت)، بل وإن هذه الاستجابة(الخوف) أصبحت تظهر لدى الأطفال الذين شاركوا في التجربة عند إدراكهم للأشياء المغطاة بالوبر أو عند رؤيتهم لإنسان يحمل أرنباً.
ومثلما يتكون السلوك الانفعالي بفعل المنبهات الخارجية وتأثيرها، فإنه يزول بالطريقة ذاتها. وهذا ما حاول واتسون التدليل عليه في تجربة مكملة لتجربته السابقة، حدد من خلالها الكيفية التي يتم بها علاج الخوف وتخليص الناس منه. فبعد أن استعمل بالتعاون مع ميري جونس أساليب قديمة ومعرفة لمحو الانفعال، كالإقناع والابتعاد عن الموضوعات التي تثيره، أو الاقتراب منها والتعامل معها بشكل دائم، وعرض نماذج اجتماعية إيجابية(ضرب أمثلة على أناس لا يخيفهم الموضوع، عرض حالات عيانية لأناس لا يثير لديهم الموضوع أي انفعال سلبي... الخ). وتبين لـه عدم جدوى هذه الأساليب وعجزها عن بلوغ الغاية المرجوة، لجأ إلى أسلوب آخر مبني على قاعدة: الإحساس الإيجابي يطرد الإحساس السلبي. وعملاً بهذه القاعدة كان الفاحص يقدم قطعة من الحلوى للطفل في الوقت الذي يدرك فيه الأخير المنبه الذي يثير خوفه عن مسافة بعيدة. ويتوالى تقديم الحلوى للطفل مع تقريب المسافة التي تفصله عن المنبه شيئاً فشيئاً إلى أن يصبح قادراً على مسه وأن يحس بالأمن أثناء الإمساك به.
وقد انتهى واتسون في نهاية تجاربه إلى نتيجة مؤداها أن انفعالاتنا الإيجابية والسلبية تتكون في السنوات الأولى من حياتنا على أساس العلاقات الانعكاسية الشرطية بين المنبهات الخارجية والاستجابات التي قمنا بها مراراً تحت إلحاح المحيط ومتطلباته.
لقد بدا واتسون لجمهور العلماء والمثقفين وكأنه ألف في نظريته بين أفضل ما تضمنته الوضعية والبراغماتية من مفاهيم وتصورات على نحو مبدع وخلاق. فكانت لأفكاره أصداء إيجابية واسعة، مما جعله يتبوأ مكانة الريادة في الفكر الأمريكي المعاصر. وتجسد ذلك في انتخابه رئيساً لرابطة علماء النفس الأمريكيين عام 1915، وهو لم يتجاوز بعد السابعة والثلاثين من العمر. كما كتبت الصحيفة اللندنية "نيوشين" في تعليق لها بعد صدور كتاب "السلوكية" تقول: إن هذا الكتاب لا يطمح إلى تطوير علم النفس فحسب بل ويمثل منظومة فكرية تدعو إلى تثوير الأخلاق والدين والتحليل النفسي". وفي نفس المناسبة وحول نفس الموضوع ذهبت صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أبعد من ذلك حيث وجدت أن واتسون قد دشن، بعمله هذا، بداية عصر جديد في تاريخ الفكر الإنساني.
وهكذا أصبح مصطلح "السلوكية" يدل على الاتجاه السيكولوجي الذي يخالف الاتجاهات التي سبقته. ولقد وصف أحد العلماء المراحل التي مرت بها دراسة النفس منذ بداية الفكر الإنساني حتى السلوكية بأن علم النفس كان في بداياته يهتم بالروح، ثم اتجه هذا الاهتمام نحو الوعي ليتحول على أيدي السلوكيين إلى "سيكولوجيا دون نفس". ويحمل هذا الوصف إشارة واضحة إلى إهمال السلوكية للحياة النفسية، واكتفائها بدراسة ماهو خارجي أو ظاهري منها. فالسلوكيون عرفوا السلوك بأنه النشاط الذي يقوم به الكائن الحي. ولا فرق عندهم إن تجسد هذا النشاط في حركات بسيطة أو في أفكار. فهذه وتلك استجابات تصدر عن العضوية ردّاً على المنبهات الخارجية. لذا فإن مهمة السلوكي تنحصر في الوقوف على العلاقة المباشرة بين المنبهات والاستجابات.
ويبدو للوهلة الأولى أن تحديد مهمة علم النفس على هذا النحو يعكس فهماً موضوعياً ومادياً لأبعاد واتجاه ومحتوى العلاقة بين الكائن الحي والوسط الخارجي. ولكن إمعان النظر في هذا الفهم يكشف لنا عكس ذلك. فواتسون ومن قبله ثورندايك لم يتحدثا عن وجود وقائع وأشياء إلا من خلال إثارتها للعضوية في لحظة معينة. وهذا يعني أن وجود الوقائع والأشياء الخارجية ليس وجوداً موضوعياً ومستقلاً عنا، وإنما هو وجود ذاتي مرهون بأفعالنا واستجاباتنا. وقد عبر ف.بريد أحد منظري السلوكية عن تبعية عالمنا لعضويتنا، حيث قال: "نحن الذين نصنع عالمنا، وحتى عندما نموت فإننا نأخذه معنا..."
(NATIONAL SOCIETY , 1942, 100).
وهناك مسألة أخرى تستوقفنا لدى استعراضنا لنظرية واتسون، وتتعلق بالجانب العضوي من علاقة(المنبه الاستجابة). فقد وجد مؤسس السلوكية أن هذه العلاقة هي علاقة ثابتة لا تتغير مطلقاً، إذ أن منبهاً ما يستجر استجابة محددة بغض النظر عن حالة العضوية. وبذلك يلغي واتسون إيجابية وفعالية دور العضوية في السلوك.
إن الوقائع التي كشفت عنها التجارب العلمية تدل بوضوح على أن منبهاً بعينه قد يستدعي عدداً من الاستجابات المتنوعة حسب ما يكون عليه حال العضوية وتعقيداتها. فهي، أي العضوية، ليست طرفاً منفعلاً أو سلبياً في علاقاتها مع المحيط الخارجي. وإنما تؤثر فيه وتتأثر به بأشكال مختلفة، وبدرجات متفاوتة بفضل الأجهزة التي تتألف منها، وفي مقدمتها الجهاز العصبي.
لقد أراد واتسون أن يخلص علم النفس من أزمته بجعله علماً طبيعياً يدرس السلوك والتكيف عند البشر والحيوانات عن طريق الملاحظة الخارجية لأفعالهم وتصرفاتهم. ووجد أن هذا السلوك يتكون من الاستجابات العضلية والغددية تحديداً. وأصل فكرة واتسون هذه يرجع إلى النتائج التي توصل إليها و.سمول W.SMALL، أستاذ علم النفس الحيواني في جامعة كلارك، من خلال تجاربه التي أجراها على الفئران في بداية القرن الحالي. وقد صاغ هذا العالم نتائجه على شكل فرضيتين. تحدث في إحداهما عن إمكانية أن تكون الفئران قد عثرت على الطعام في علبة النهاية من المتاهة بفضل الإحساسات العضلية. ومنذ عام 1907 شرع واتسون بإجراء سلسلة من التجارب حاكى فيها تجارب سمول مع إدخال متغيرات جديدة وتقنيات تجريبية حديثة. حيث كان في كل تجربة يستبعد حاسة من حواس الفأر بواسطة عملية جراحية. وتوصل في النهاية إلى أن حرمان الحيوان من حاسة البصر ثم السمع فالشم لم يمنعه من اكتساب مهارة عبور المتاهة. وعلى أساس هذه الوقائع بنى رأيه في أن الحس العضلي(وهو الوحيد الذي لم يستطع حذفه) هو الذي مكن الفئران من تعلم تلك المهارة والاحتفاظ بها.
حقيقة أن أحداً لا يشك في الدور الهام الذي يضطلع به الجهاز العضلي في تعلم الفرد ونموه. ولكنه إذا كان من الخطأ نكران هذه الحقيقة، فإنه من الخطأ أيضاً أن نختزل العضوية كلها بهذا الجهاز، وأن ترد آليات التعليم والنمو النفسي إلى الحس العضلي وحده. وعندما ينفي واتسون كل ما ليس بالإمكان ملاحظته بشكل مباشر، ويدفع عن سلوكيته تهمة الارتباط بالفيزيولوجيا، فإنه يؤكد على نظرته إلى العضوية كطرف سلبي في علاقتها مع المحيط الخارجي، ويقترب، بالتالي، من مواقع النظرية المكيانيكية التي لا تقر بتغير علاقة الاستجابة بالمنبه في مختلف مستويات التطور العضوي للكائنات الحية. وما دامت عضوية الحيوان تحمل جهازاً عضلياً كما تحمله عضوية الإنسان، فليس ثمة ما يدعو للحديث عن مستويين من السلوك مختلفين جوهرياً. ولهذا يبدو لواتسون أن الاختلاف بين السلوك الحيواني والسلوك الإنساني هو اختلاف كمي فقط مرده إلى وجود عضلات لدى الإنسان تتولى القيام بالاستجابات الكلامية، الخارجية منها والداخلية.
ولعل من الخطأ إغفال الدور الذي يلعبه الجهاز العصبي في حياة الكائن الحي. فهو المسؤول عن وحدة العضوية والحفاظ على تماسكها وتوازنها وشروط فعاليتها وتفاعلها مع البيئة الخارجية. وزيادة على هذا فإن هذا الجهاز يختلف في البنية والخصائص من نوع حيواني إلى نوع آخر، بل ومن فصيلة إلى فصيلة أخرى داخل النوع نفسه. الأمر الذي يجعل الكائنات الحية تستجيب بأشكال مختلفة على نفس المنبهات. فالاستجابة تتحدّد من خلال حالة الجهاز العصبي التي تتدخل فيها –وبدرجات متفاوتة- الخبرة السابقة، وكذا استعداد النسيج العصبي في اللحظة الراهنة.
وصفوة القول أن الاكتفاء بالوقوف على المنبهات وما تستجره من استجابات يعني حصر مهمة علم النفس في دراسة الجانب الخارجي والمحسوس من الظاهرة النفسية. ولصعوبة تتبع عمل الجهاز العصبي المركزي بصورة مباشرة، رفض واتسون الحديث عنه واعتبره "صندوقاً سرياً" من غير المجدي أن نعزو إليه المسائل النفسية. وبذا يكون قد أهمل الآليات التي تشترط الاستجابة وتنظمها.
إنا وإن توقفنا بعض الوقت لاستجلاء أهم آراء واتسون والتعقيب عليها ومناقشتها، فلأن الرجل زعيم الحركة السلوكية والداعية الرئيسي لها. بيد أن ذلك لا ينسينا الجهود التي بذلها باحثون آخرون من أجل دعم هذه الحركة وتطويرها. فلم يكن واتسون وحيداً بأفكار ومتفرداً ببحوثه وتجاربه، بل كان هناك العشرات ممن كانوا ينظرون إلى واقع علم النفس في تلك الفترة من مواقع قريبة من موقعه. وهذا ما سهل عليه نشر دعوته والتفاف مجموعة من الباحثين حولـه. وكان من أبرزهم ألبرت ويس ALBERT WEISS
(1879-1931م) وأدوين هولت EDWIN HOLT (1873-1946م) وولتر هانتر WALTER HUNTER(1886-1954م) وكارل لاشلي CARL LASHLEY (1890-1958م) وإدوين غاثري EDWIN GUTHRIE
(1886-1959م).
تأثر ويس بأفكار أستاذه ماكس ماير MAX MEYER التي جعلته قريباً من السلوكية. وتدور هذه الأفكار حول ضرورة أن يهتم علم النفس بالتعرف على قوانين النشاط العصبي بوصفه أساس السلوك. وقد عالج ماير هذه الفكرة المركزية في كتابه "القوانين الأساسية للسلوك الإنساني" المنشور عام 1911. وفيه تعرض، زيادة على النشاط العصبي وقوانينه، إلى منهج الاستبطان وفوائده في دراسة العقل وليس في وصف الخبرة.
ويطالب ماير في كتابه "سيكولوجيا الشخص الآخر" الصادر عام 1921 علم النفس، فيما إذا أراد أن يكون علماً حقيقياً، بأن يتحول إلى علم عن الآخر، أي عن الإنسان الذي يجب أن يلاحظ من الخارج، لا من الجانب المفتوح على "الملاحظة الداخلية".
ويحذو ويس حذو أستاذه في مسعاه لتأسيس علم النفس على دعائم علمية ثابتة. ويرى أن ذلك لا يتأتى إلا بالتخلي عن خصوصية الوقائع التي يزعم ممثلو هذا العلم أنها تجعل منه علماً متميزاً ومختلفاً عن سائر العلوم الطبيعية. ويقترح أن يتعامل هؤلاء مع تلك الوقائع على أنها وقائع طبيعية تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها الوقائع الأخرى، وتعالج بنفس المنهج والمنطق اللذين تعالج بهما. فالقوانين الكيميائية والفيزيائية تصلح لدراسة الموضوعات السيكولوجية. والملاحظة الخارجية وما يستتبعها من تحليل وتركيب هي، في نظر ويس، الطريقة المثلى لتحقيق هذه الغاية.
ويعرف ويس في كتابه "أساس نظري للسلوك الإنساني" الصادر عام 1925 علم النفس بأنه العلم الذي يدرس سلوك الفرد. والسلوك، عنده، وهو النشاط البيولوجي الذي تمارسه عضوية الإنسان في الوسط الاجتماعي. وتتجلى عبر هذ
ومع أن ثورندايك يؤكد على انتمائه الارتباطي، ويرفض أن يوصف بالسلوكي، إلا أن مواقفه في ميادين علم النفس المختلفة التي اشتغل فيها تعارض ادعاءه، وتجعل منه رائداً من رواد السلوكية. وهذا ما نلمسه من خلال المقابلة بين تلك المواقف من جهة، ومبادئ السلوكية وأفكارها من جهة ثانية. فقد جاءت السلوكية، مثلما هو الحال بالنسبة للغشتالتية، لتعيد بناء علم النفس على قواعد وركائز جديدة. وخلافاً للغشتالتية، وجدت السلوكية أن الخطوة الأولى في إنجاز هذه المهمة يجب أن يبدأ بإعادة النظر في موضوع علم النفس ومناهج البحث فيه.
وفي حين أبقى الغشتالتيون على الوعي كمادة للبحث، والاستبطان بوجهه الغشتالتي الذي اقترحه برنتانو كمنهج لدراسة هذه المادة، أكدت السلوكية ضرورة تحول اهتمام السيكولوجي إلى دراسة التغيرات التي تطرأ على عضوية الإنسان أو الحيوان، أي إلى دراسة السلوك، باستخدام الطرائق الموضوعية. فالسبب في وجود الأزمة في علم النفس يكمن، حسب رأي مؤسسيها، في التمسك بالوعي موضوعاً، وبالملاحظة الذاتية منهجاً.
لم تكن وجهة النظر هذه جديدة على الفكر السيكولوجي. فقد سبق وأن عبر عنها عدد من العلماء، ولاسيما ممن درس منهم سلوك الحيوان. وترك هؤلاء رصيداً هاماً من المعطيات التي عملت السلوكية على توظيفها في صياغة مبادئها والدفاع عنها. وتحت التأثير المباشر للحركة التجريبية النشيطة التي عرفها هذا الميدان في الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر تبلورت معالم اتجاه حديث ينزع إلى التخلي عن المنهج الذاتي في البحث ليحل مكانه المنهج الموضوعي. ويقضي المنهج المقترح بأن يقوم الباحث بملاحظة أفعال المفحوص وتصرفاته الخارجية بدلاً من مطالبته بتقديم تقرير حول ما يجري في داخله. ولعلنا نجد هذه الوقائع واضحة في أعمال ثورندايك.
ظهر ميل ثورندايك نحو دراسة السلوك منذ شبابه. وزاد من شدة هذا الميل اطلاعه على كتاب جيمس "مبادئ علم النفس". ودفعه إعجابه الشديد بهذا المؤلف إلى السفر للقاء صاحبه الذي كان يعمل أيامها في جامعة هارفارد.
ومن المفيد أن نشير هنا إلى تجارب ثورندايك المبكرة التي أجراها على أطفال مرحلة ما قبل المدرسة(والتي لم تنشر قط). فقد كان يعرض على المفحوصين الصغار مختلف الموضوعات والأعداد والكلمات بصورة ذهنية. ثم يطلب من الطفل الذي يجلس أمامه أن يحزر أو يخمن الأشياء التي يفكر بها المجرب. وفي حالة تمكنه من الإجابة الصحيحة تقدم له قطعة من الحلوى.
إن تحليل الوضعية التجريبية التي قدمها ثورندايك يبرز أثر التصور الذي كان سائداً آنذاك حول العلاقة المباشرة بين الفكر واللغة، والتي تتمثل في أن التفكير الداخلي يكون مرفوقاً بتغيرات في أقسام الجهاز الكلامي لا يعيها الفرد ذاته، ولا يدركها الآخر. وأمام هذه الحقيقة تحاول وضعية ثورندايك أن تجيب على سؤال عما إذا كان بالإمكان زيادة حساسية الآخرين بهذه التغيرات كيما يصبح بمقدورهم إدراك تلك الحركات الكلامية الدقيقة، وبالتالي معرفة الأفكار التي تقابلها.
لقد اعتمد ثورندايك في محاولته هذه على تكوين الميل إلى التخمين أو الحزر عن طريق التعزيز، وإمكانية زيادة شدة الحساسية تدريجياً مع الاستمرار في التجربة وتكرار المحاولة(المحاولات) الناجحة.
ومما يلاحظ بشأن هذه الوضعية أيضاً هو غياب الوعي فيها واهتمامها بالمنبهات المتمثلة في التغيرات التي تطرأ على عضلات وجه المجرب أثناء عملية التفكير، وباستجابات المفحوصين المتمثلة في تخمين أو حزر المنبهات دون أن يكونوا على دراية بالعلاقات التي يستندون إليها في أداء مهمتهم، وأخيراً تأكيدها على دور التعزيز كعامل حاسم في اكتساب الخبرة الحياتية.
ولكن ثورندايك لم يتمكن من إتمام هذه المجموعة من التجارب بسبب القرار الذي أصدرته إدارة جامعة هارفارد والقاضي بمنع إجراء التجارب على الأطفال. فانصرف بعد ذلك إلى دراسة السلوك الحيواني، حيث شرع بتعليم الحيوانات(الدجاج) اجتياز المتاهة. ويروي المؤرخون عن ثورندايك أنه قام بتأسيس مخبر متواضع في قبو المنزل الذي كان يسكنه جيمس. وعلى الرغم من بساطة هذا المخبر فقد كان أول مخبر في تاريخ علم النفس الحيواني. وعقب عودة كاتل من ألمانيا وتأسيسه لمخبره في جامعة كولومبيا وذيوع صيته آثر ثورندايك الالتحاق به والتعرف على نشاطاته والعمل تحت إشرافه. فهاهو يودع جيمس ويقصد كاتل صاحب الخبرة في ميدان التجريب، مصطحباً فرخين من الدجاج مدربين تدريباً جيداً. ولدى وصوله إلى جامعة كولومبيا لاقى كل الترحيب والتشجيع من قبل كاتل. فأقام هناك وواصل بحوثه وتجاربه على الحيوانات. وبعد مضي بعض الوقت صمم جهازاً خاصاً سمي بالمحارة PUZZLE BOX. وهذا الجهاز هو عبارة عن قفص محاط بقضبان معدنية(حديدية) وفيه باب لا يتمكن الحيوان الموجود في داخله من فتحه إلا برفع مزلاج أو تحريك سقاط في اتجاه محدد. وقد لاحظ ثورندايك بعد قيامه بسلسلة من التجارب مع استخدام المحارة أن الحيوان(القط) يقوم في المحاولة الأولى بحركات عشوائية(عض القضبان، تسلق جدران القفص، القفز في مختلف الاتجاهات...) تستغرق وقتاً طويلاً نسبياً قبل أن يرفع المزلاج صدفة بفضل إحداها ثم يفتح الباب، ويخرج من القفص ويحصل على الطعام. وأن هذه الحركات العشوائية تتناقص تدريجياً، ويتناقص معها الوقت المستغرق في حل المشكلة من محاولة إلى أخرى. فإذا كان الوقت الذي يستغرقه الحيوان في المحاولة الأولى –حسب ما سجله ثوراندايك- هو 3 دقائق، فإنه لا يتجاوز في المحاولة الثانية 90 ثانية و 60 ثانية في المحاولة الخامسة، وتنخفض في المحاولة العشرين لتصل إلى بضع ثوان". وقد استخلص ثورندايك من هذه المعطيات أن الحيوان يكتسب خبرته عن طريق "المحاولة والخطأ".
عرض ثورندايك تلك الملاحظات والاستنتاجات في رسالته التي أهلته لنيل شهادة الدكتوراه عام 1898 تحت عنوان "ذكاء الحيوان. دراسة تجريبية للعمليات الارتباطية عند الحيوانات". وكانت رسالته هذه أول عمل له يتصدر قائمة طويلة من أعماله التي قدرت بنحو 507 عمل بين كتاب ومقالة ومداخلة.
ليس في عنوان الرسالة ما يفاجئ القارئ. فمصطلح "ذكاء الحيوان" أصبح من المصطلحات المألوفة عند الحديث عن سلوك الحيوان عقب ظهور عشرات الأعمال في ميدان علم النفس الحيواني. كما أن تفسير الذكاء من وجهة النظر الارتباطية أمر معروف منذ مئات السنين. وقد أصبح على يد هوبز ومن بعده لوك اتجاهاً مسيطراً في الفلسفة والتربية وعلم النفس. غير أن الجديد في فكر ثورندايك هو العناصر أو الأطراف التي يحدث الارتباط بينها. ففي حين يجد الاتجاه الارتباطي أن الذكاء أو العقل أو العملية النفسية بوجه عام تنشأ بفعل الارتباط بين الأفكار بعضها مع بعض، أو بينها وبين الحركات، يرى ثورندايك أن هذا الارتباط إنما يتم بين الحركات والمواقف. وخلافاً للتيار الارتباطي المادي الذي ينفي أي دور للوراثة، ويعطي للتجربة الحسية في علاقة الكائن الحي مع العالم الخارجي أهمية قصوى في تشكل العملية النفسية، ينطلق ثورندايك من الوراثة كعامل أساسي في تحديد مستوى الذكاء. فالكائن الحي، حسب رأيه، يولد وهو مزوّد بجهاز عصبي مع ما يشتمل عليه من خلايا وأنسجة ووصلات. ويختلف الذكاء من فرد إلى آخر، ومن حيوان إلى آخر، تبعاً لعدد تلك الخلايا والأنسجة والوصلات. أي أن مستوى الذكاء يتوقف على عدد الوصلات العصبية؛ فكلما كان هذا العدد كبيراً كان مستوى ذكاء الكائن عالياً.
ويتحدث ثورندايك عن دور الوصلات أو الربطات العصبية في أول قانون من قوانين التعلم التي توصل إليها، وهو قانون الاستعداد THE LAW OF READINESS. ومن خلاله ينصح بضرورة توفير الاستعداد عند الوصلة(الوصلات) العصبية، وتمكين الكائن الحي من القيام بعملية الاتصال(التعلم) عندما يتحقق ذلك. فالاكتساب في هذه الحالة يكون سهلاً على الحيوان أو(الإنسان) لما يحدثه من رضا وسرور على مستوى العضوية.
إن ما يقوم به الحيوان من استجابات أثناء تفاعله مع البيئة الخارجية يتم وفق مبدأ المحاولة والخطأ. ولكي يكتسب مهارة أو خبرة ما، فإنه يقطع طريقاً طويلاً من الحركات العشوائية التي قد ينجح بعضها صدفة في إيصاله إلى هدفه ويحقق حالة الرضا. ومع استمرار الحيوان في محاولاته تثبت تلك الحركات(الاستجابات) الناجحة بفضل تعزيزها. فالتعزيز، عند ثورندايك، يضطلع بمهمة تقوية العلاقات بين الوصلات العصبية وتوطيدها.
ولعل ثورندايك بطرحه مفهوم المحاولات والأخطاء لتفسير تطور السلوك عند الكائنات الحية، يقتفي أثر أصحاب النظريات التطورية، ويكيف تعاليمهم مع "البيئة الجديدة". ولا يحتاج الكشف عن هذا الجانب من شخصية ثورندايك العلمية إلى كثير من الجهد والتحليل. فقد أظهر الرجل حماساً شديداً وميلاً قوياً نحو الاطلاع على تلك النظريات والإحاطة بمبادئها ومفاهيمها منذ أن كان طالباً. فلم يفوت فرصة وجود لويد مورغان في الولايات المتحدة الأمريكية، واستمع إلى جميع محاضراته. وانكب خلال دراسته الجامعية على قراءة أعمال سبنسر وداروين كما أن صلته الوثيقة بالوظيفتين عمقت من فهمه لتلك الأعمال وزادته إعجاباً ودفعته إلى التقرب أكثر من محتوياتها. ولهذا نجده يستخدم المفاهيم(الموضوعية) التي درجت على ألسنة التطوريين وتواترت في مؤلفاتهم. فالمحاولات والأخطاء التي اعتبرها المبدأ الذي ينظم سلوك الحيوان هي إحدى الأفكار الرئيسية في نظرية بين ومن بعده لويد مورغان وجينينغز. كما أن داروين أبرز دورها الفعال في عملية نشوء الكائنات الحية وتطورها عبر صراعها الدائم مع العالم الخارجي. وأرجع نجاح الاستجابات التي تصدر عن العضوية إلى العدد الكبير من المحاولات العشوائية التي تبذلها العضوية من أجل الرد على المتغيرات الطارئة والمحافظة على حالة التكيف مع الخارج. ولم يعزها إلى الاختيار الغائي والواعي.
ويبدو لنا أن الانطلاق من مبدأ المحاولة والخطأ الذي يعني الاحتمال والصدفة قد ساعد ثورندايك على تجاوز النظرة الميكانيكية إلى نشأة السلوك الحيواني وتطوره، ومكنه من تقديم تفسير متقدم للطبيعة التكيفية لاستجابات الحيوان واكتسابه لها. ففي ضوء هذا المبدأ وجد أن العلاقة(استجابة "R" استجابة "R") ليست هي ما ينبغي على الباحث أن يبدأ به طالما أن الاستجابة تصدر عن الكائن الحي كرد فعل على موقف خارجي. ولهذا فإن الأصح، بالنسبة لثورندايك، هو أن تكون العلاقة(موقف –استجابة) موضوع الاهتمام. وتحتوي هذه العلاقة على أربعة عناصر:
1-الموقف الإشكالي.
2-الكائن الحي ككل في الجانب المقابل.
3-الحركات النشطة والدؤوبة التي يقوم بها الكائن الحي للخروج من المشكلة.
4-تعلم الاستجابة الناجحة عن طريق التدريب.
لقد بينت تجارب ثورندايك أن الاستجابة التي تخرج الحيوان من الورطة أو المشكلة لا تتحول إلى أداة ثابتة، ولا تأخذ مكانها في مخطط سلوكه إلا بعد أن يواجه نفس الموقف الإشكالي مرات عديدة، ويقوم في كل مرة بفعل ما فعله في المرة الأولى. وانتهى ثورندايك من خلال ملاحظته هذه إلى القول بوجود قانون آخر للتعلم، هو قانون التدريب LAW OF EXERCISE الذي يتخذ مظهرين: الاستعمال والترك. فالارتباطات بين الوصلات تقوى وتتوطد عندما تتاح الفرصة أمام الحيوان للإتيان بالاستجابة مرات عديدة في الموقف ذاته. بينما تضعف تلك الارتباطات وتمّحي في حال غياب مثل هذه الإمكانية.
وإذا كان فهم ثورندايك للعمليات الارتباطية عند الحيوان يشكل تحدياً للنظرية الارتباطية التقليدية، فإلى أي مدى يتفق مع الوظيفيين(ومع ديوي بوجه خاص) في تصورهم لهذه المسألة؟ يلتقي ثورندايك مع الوظيفيين في النظرة إلى الذكاء باعتباره أداة لحل المشكلات المطروحة. فالحل لا يتحقق عن طريق التأمل بقدر ماهو حصيلة لفاعلية الفرد التي تؤمن له الانسجام والتوافق مع البيئة المحيطة. ولكنه يختلف معهم حول طبيعة هذه الفاعلية. فوظيفيو مدرسة شيكاغو يعتبرون الوعي سمة الفعالية، وإدراك الفرد للهدف وسعيه الواعي للوصول إليه عاملاً محركاً وموجهاً لسلوكه. بينما يرفض ثورندايك أن تكون أفعال الكائن الحي(والإنسان ضمناً) واعية، ويشدد على طابعها العشوائي واللا إرادي.
ومن المنطقي أن يوجه إلى عنوان مدرسة شيكاغو سؤال حول مصدر الطابع الواعي لأفعال الفرد. ومن غير انتظار يعاجلنا هؤلاء برد لا يرقى إلى سمعة هذه المدرسة. فهم يرون أن هذا الأمر لا يحتاج إلى تفسير لأن الإرادة هي العلة الأولى لكل المظاهر النفسية.
ومن المنطق ذاته يطرح سؤال آخر على ثورندايك حول كيفية اكتساب الكائن الحي لهذه الأفعال أو تلك لتصبح جزءاً من سلوكه. لقد تحدثنا منذ قليل عن قانوني الاستعداد والتدريب اللذين أكد ثورندايك على دورهما في عملية التعلم. ولكنه رأى في الوقت نفسه أنهما غير كافيين ليحصل الحيوان أو الإنسان على خبرته. ولهذا يضيف إليهما قانوناً هاماً أطلق عليه "قانون الأثر LAW OF EFFECT". فلكي تكتسب الاستجابة يجب أن توصل الكائن الحي إلى حالة الرضا كلما قام بها في مجرى محاولاته للرد على الموقف الإشكالي. وهذه الحالة لا تتحقق بمجرد تكرار الاستجابة الناجحة أو التدرب عليها، ذلك لأن التكرار لا يخلص العضوية من وضعها السلبي(الانزعاج الذي يسببه الجوع). وما يقوم بهذه العملية هو الأثر الذي تتركه الاستجابة في العضوية. إن الأثر بحديه: الإيجابي والسلبي، أي الثواب والعقاب، هو، في نظر ثورندايك، شرط لازم لاكتساب مختلف المهارات. فتعزيز ارتباط ما يتوقف على أثره الطيب، واستبعاد أو حذف استجابة غير مرغوبة مرهون بما تتركه من أثر سيِّئ. يقول ثورندايك: "إنه إذا قام ارتباط قابل للتغيير وكان مصحوباً أو متبوعاً بحالة مُرضية فإن قوة الارتباط تزيد. أما إذا قام الارتباط وكان متبوعاً أو مصحوباً بحالة مزعجة فإن قوته تضعف".(عاقل، 1981، 149).
ويعتبر قانون الأثر مرحلة هامة في تطوير نظرية ثورندايك، فقد انتقلت هذه النظرية بفضله من الحتمية البيولوجية إلى الحتمية البيوسيكولوجية. وهذا ما أشار إليه ياروشيفسكي حين قال: "إذا كان التواتر والقوة والتقارب حتميات ميكانيكية والمحاولات والأخطاء حتميات بيولوجية فإن ما يفهم من "الآثار" تلك الحالات الخاصة التي تنتمي إلى المستوى البيوسيكولوجي من تحديد السلوك"
(1985، 341). ووفقاً لهذا القانون لم تعد المحاولات والأخطاء بحد ذاتها هي التي تحدد السلوك الحيواني، بقدر ماتحدده تلك الحالات التي تنتاب العضوية(الرضا، الانزعاج).
فلا عجب أن يثير هذا القانون موجة من الانتقادات التي وجهها السلوكيون إلى ثورندايك. فقد عابوا عليه استعماله لمصطلحات تعكس الحالة الداخلية للكائن الحي، كالرضا والانزعاج لدى تكون الارتباطات بين الاستجابات الحركية والمواقف الخارجية. وزعموا أن مصطلحات كهذه هي مصطلحات ذاتية تحرف السلوكي عن موضوعيته.
وعلى الرغم مما قاله السلوكيون الأولون بصدد الجانب السيكولوجي أو الجانب الفيزيولوجي من نظرية ثورندايك، وبصرف النظر عما قاله هو عن نفسه، فقد أعطى ما لم يعطه عالم آخر من جهد وفكر كان لنتاجهما عظيم الفضل على السلوكية. وأن الاتفاق الذي جمع ثورندايك والسلوكيين حول الكثير من المبادئ والمفاهيم والذي أشرنا إليه وبينا محاوره وحدوده، يمدنا بمسوغات الاحتفاظ بالحق في تسجيل الملاحظات على الطرفين معاً بعد إتمام المهمة الرئيسية لهذا الفصل وعرض ما نراه ضرورياً من التراث السلوكي التقليدي.
ولعل السلوكية التي اتسم بها اتجاه ثورندايك تتضح أكثر لدى استكمال مقابلة آرائه بتعاليم السلوكية كما وردت في أعمال مؤسسها واتسون.
تلقى جون برادوس واتسون JOHN B.WATSON(1878-1958م) تعليمه العالي في جامعة شيكاغو ودرس علم النفس على يد أنجيل وديوي. وكان شغوفاً بالبحث التجريبي في ميدان علم نفس الحيوان. وقد كرس رسالته التي أعدها لنيل شهادة الدكتوراه(1903) لدراسة تطور سلوك الفئران البيض. واشتغل بعض الوقت مع روبرت بيركس(1876-1956م) الذي أصبح في وقت لاحق أحد أشهر الباحثين في بيوسيكولوجيا الحيوانات الراقية. وقد ابتكرا سوياً وسيلة لتحديد قدرة الحيوان على التمييز بين المثيرات البصرية.
وفي جامعة شيكاغو أيضاً درس واتسون على يد جاك لوب الذي عرف باتجاهه الفيزيائي –الكيميائي في وصف سلوك الكائنات الحية.
وإذا ما انتقلنا من البيئة العلمية الضيقة التي تعلم فيها واتسون إلى البيئة الأوسع وجدنا ما يشبه الإجماع لدى السيكولوجيين الأمريكيين على رفض أن يكون علم النفس علم الوعي أو الشعور، وأن يكون الاستبطان منهجه. وقد عبر عن هذا الموقف عالم النفس الأمريكي كاتل الذي مثل علم النفس في معرض عالمي أقيم عام 1904 في سانت لويس حيث قال أمام الحاضرين: "لست قانعاً بوجوب حصر علم النفس في دراسة الشعور بحد ذاته، وبوصفه ممكن التمييز عن العالم الفيزيائي... وليس ثمة تضارب بين التحليل الاستبطاني والتجريب الموضوعي. ولكن القول الشائع بأن علم النفس غير ممكن الوجود بدون استبطان قول تكذبه الحقائق الواقعة. ويبدو لي أن معظم البحوث التي قمت بها أنا وأجريت في مختبري لا تقل تحرراً من الاستبطان عن بحوث الفيزياء أو علم الحيوان(عاقل 1981، 96، 97).
ومما لا ريب فيه أن الفلسفة البراغماتية والنشاط المكثف لعلماء الحيوان كانا وراء موقف علماء النفس الأمريكيين. ولكنهما لم يكونا المصدر الوحيد الذي استمدوا منه حيثيات موقفهم ومسوغاته. فقد كان للفلسفة الوضعية أنصار كثيرون بينهم. وكان لتعاليمها أثر قوي في توجّهاتهم وآرائهم. ففي ضوء هذه التعاليم عرف مكدوغال علم النفس بقوله: "إنه العلم الوضعي الذي يدرس سلوك الكائنات الحية". وتحت تأثيرها أيضاً أعلن بللسبوري أحد تلاميذ تيتشنر، في كتابه "أساسيات علم النفس"(1911) أن علم النفس هو "علم السلوك البشري".
ومع الإشارة إلى الانتماءات المختلفة لكل من كاتل ومكدوغال وبللسبوري، حيث أن كلاً منهم يمثل اتجاهاً أو مدرسة، فإنهم جميعاً استمدوا آراءهم من المناخ الفكري الذي كان سائداً آنذاك، والذي كانت الوضعية مكوناً من مكوناته. ولذا فبإمكاننا القول بكثير من الثقة والموضوعية أن نشوء السلوكية اقترن بانتشار وضعية كونت والتعديلات التي أدخلها أتباعه عليها فيما بعد.
ومما يميز وضعية كونت هو ثورتها على التفسيرات الغيبية التي تنطلق من وجود قوى خفية وراء الظواهر المرئية، ووقوفها ضد النظريات الميتافيزيائية التي تتخذ من الجواهر الخاصة مبداً وأسلوباً في وصف الوقائع. وبالرغم من أهمية هذه المقدمات وصحتها، فإن كونت لم يتمكن من الوصول إلى وضع أدلة منطقية ومقنعة على أهمية وصحة منهجه. فبدلاً من أن يقدم تعريفاً علمياً لمفهوم الجوهر وقيمته بالنسبة للشيء أو الموضوع، اختار أن يجتنبه ويبقي على مفهوم الظاهرة. وهذا يعني أن المنهج الوضعي الذي اقترحه كونت يرفض معرفة الأسباب الداخلية للظواهر، ويحث على معرفة القوانين الواقعية لها، أي "... معرفة علاقاتها الثابتة في تعاقبها وتشابهها، من خلال التوفيق بين المحاكمة والملاحظة"(كونت، 1900، 4).
إن تعميم هذا الفهم على ميدان علم النفس هو الذي قاد كونت إلى رفض المنهج الاستبطاني ومن ثم إنكاره لحق هذا العلم في الاستقلال. فلكي يصير علم النفس علماً كباقي العلوم يتعين عليه أن يستخدم منهج الملاحظة الخارجية أو "الملاحظة خارج الذات" حسب تعبير كونت.
وقد تعزز موقف كونت إزاء مهمة علم النفس بمقولة النشاط والوظيفة الحيوية التي يؤديها هذا النشاط والمتمثلة في تكيف الكائن الحي مع وسطه الخارجي كما طرحتها الفلسفة البراغماتية. على أن مؤسسي هذه الفلسفة لم يحصروا تلك الوظيفة في نشاط الأجهزة العضوية والفيزيولوجية فقط، بل وأناطوها بأجهزة الوعي أيضاً. ومن المناسب أن نستعيد في هذا الصدد ما قاله جيمس من أن أفكارنا ونظرياتنا إن هي إلا أدواتنا للتكيف مع العالم الخارجي. وهكذا تتضاءل الفوارق(إن لم نقل أنها تزول) عند البراغماتي بين الإنسان والحيوان، وينتفي في فلسفته دور التفكير في المعرفة عندما توكل إليه المهمة التي يؤديها أي جهاز من أجهزة العضوية.
وجد واتسون في إسقاط الوظيفة المعرفية عن التفكير المدخل الصالح والمناسب. ومن نافلة القول أن اعترافاً كهذا لا يدعو للاستغراب طالما أن الرجل نهل من الفلسفة البراغماتية، وتتلمذ على يد رواد الاتجاه الوظيفي السيكولوجي. وكانت تعاليم هذا الاتجاه ومبادئ تلك الفلسفة من بين محددات شخصيته العلمية. ولقد وصف ج.ميللر، فيما بعد، علاقة واتسون السلوكي بالمذهب البراغماتي، فقال: "السلوكية هي النظرية البراغماتية في النفس"
(MILLER, 1967, 82).
ولكن واتسون لم ير في هذا المدخل كل ما كان يطمح إليه ليقيم علماً موضوعياً إذا ما تم تناوله ضمن الإطار للوظيفة. والأمر هنا يتعلق برفضه لما أبداه الوظيفيون من حرص على دراسة الإدراك والتفكير والإرادة وسواها من وظائف الوعي. وقد أعرب عن موقفه بقوله: "لقد شهدت الأعوام الخمسة عشر الأخيرة نموّ ما يسمى بعلم النفس الوظيفي... إنه يتحدث بلغة تبدو متشددة في قيمة المعنى البيولوجي للعمليات الشعورية أكثر من تشددها في تحليل الحالات الشعورية إلى عناصر يمكن عزلها استبطانياً. بيد أن الفرق بين علم النفس الوظيفي وعلم النفس البنائي –بالشكل الذي يذكره الوظيفيون- فرق لا يدرك. ذلك لأن الإحساس والإدراك والعاطفة والانفعال والإرادة وما إليها من مصطلحات مازالت ترد على ألسنة الوظيفيين قدر ورودها على ألسنة البنائيين"(عاقل، 1981، 95).
وتوضح هذه الفقرة موقف واتسون المتشدد من محاولات استعمال المصطلحات الدالة على الوعي، أو التي تشير بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى وجود أي من مكوناته. وقد حرص على إظهار موقفه هذا في المقال الذي نشره عام 1913 بعنوان "علم النفس كما يراه السلوكي"، والذي أطلق عليه البعض: "البيان السلوكي".
يتناول واتسون في مقاله المذكور نقطتين أساسيتين: تتعلق الأولى بموضوع علم النفس، والثانية بمنهجه وطرائقه. وبالنسبة للنقطة الأولى فإنه يرى أن ما درج الناس على استعماله من مفاهيم ومصطلحات سيكولوجية مثل الإدراك والتفكير والذاكرة هو خطأ وقع فيه العلماء والباحثون. وقد حان الوقت لتصحيح هذا الخطأ ونقل تلك المصطلحات إلى لغة سلوكية. فالمصطلحات المتداولة حتى الآن، إن دلت على شيء، إنما تدل –في اعتقاده- على قصور أولئك الذين يستعملونها وعدم قدرتهم على التخلص من موروثات القرون الوسطى. ويقترح واتسون، في النتيجة، أن يكون السلوك موضوع علم النفس بدلاً من الوعي.(من هنا جاءت تسمية هذه المدرسة بالسلوكية BEHAVIORISM. والكلمة بالإنكليزية مشتقة من كلمة BEHAVIOR أي سلوك) وأن تحل المصطلحات السلوكية كالمنبه أو المثير STIMUL والاستجابة أو الانعكاس REACTION والمهارات والعادات محل المصطلحات التقليدية البالية. وتؤلف هذه الفكرة محور أعماله اللاحقة ففي بداية كتابه "السلوك، مدخل إلى علم النفس المقارن"(1914) ومقاله "علم النفس من وجهة نظر السلوكي"(1919) وكتابه "السلوكية"(1924) يستحضر أبرز الخطوط التي تميز النظريات السيكولوجية التي ظهرت على ساحة علم النفس حتى بداية القرن العشرين. ويربط بين تلك النظريات على قاعدة المبادئ والأسس المتداخلة فيما بينها ليبين، من ثم، خطأها وعجزها عن تطوير العلم الجديد وتقديم ما ينتظر منه من منفعة للفرد والمجتمع. وعلى هذه الخلفية يعرض واتسون بديله الذي يتمثل في دراسة السلوك، ولا شيء آخر غير السلوك القابل للملاحظة الموضوعية الخارجية ووحدته الأساسية المنبه "S" –الاستجابة "R"، مستعيناً أثناء ذلك بتجاربه الميدانية. ولا بأس أن نقتبس المقطع التالي من مقدمة كتابه "السلوك، مدخل إلى علم النفس المقارن" الذي يردد فيه ما كتبه قبل عام. يقول: "علم النفس، كما يراه السلوكي، فرع موضوعي وتجريبي محض من فروع العلوم الطبيعية. هدفه النظري التنبؤ عن السلوك وضبطه. وليس الاستبطان قسماً هاماً من طرائقه، كما أن القيمة العلمية للمعلومات التي يحصل عليها ليست متوقفة على إمكان تفسيرها بالشعور.. ويبدو أن الوقت قد حان ليتخلص علم النفس من كل إشارة إلى الشعور ومن ملاحظة الحالات النفسية.. إن من الممكن كتابة علم النفس دون الإشارة إلى(الشعور) و(الحالات النفسية) و(النفس) و(فحوى الخبرة) و(الإرادة) و(التصور) وما إلى ذلك... إن من الممكن كتابته ضمن حدود(المثير والاستجابة) و(تكوين العادات)..."(عاقل، 1981، 92).
وبعد أن نفى واتسون وجود الوعي واعتبر الحديث عنه ملكاً للتاريخ كان عليه أن يخطو الخطوة التالية ويقدم مصطلحات تتناسب مع منطلقاته وتعكس المستويات المختلفة والمتفاوتة للسلوك. ولما كانت وحدة السلوك(المنبه- الاستجابة) تبدأ بإثارة عضو الإحساس وتنتهي بالفعل الحركي، فقد قام بوصف كافة الظواهر النفسية، أو لنقل بلغة السلوكية، جميع مستويات السلوك باعتبارها استجابات حركية. فالكلام حركة(أو حركات) ذات طبيعة معينة، والتفكير مجموعة من الحركات(المهارات) اليدوية والكلامية، وآخر مراحل التطور الكلامي وأرقاها، وهي مرحلة الكلام الداخلي.
وتتمثل هذه المراحل التي حددها واتسون في:
1- مرحلة الاستجابات الكلامية الخارجية.
2- مرحلة الهمس.
3- مرحلة الاستجابات الكلامية الداخلية. وهكذا فالتفكير، عند واتسون، هو الكلام دون صوت(التفكير = الكلام –الصوت).
وعلى أساس النظرة إلى سلوك الحيوان أو الإنسان على أنه مجرد استجابات بسيطة أو معقدة على ما تستقبله العضوية من منبهات خارجية، بنى واتسون رأيه في التعلم. إذ وجد أن نجاح هذا النشاط يتوقف بالدرجة الأولى على تحليل المعلم للمادة الدراسية إلى منبهات وتحديد الاستجابات التي يتوجب على المتعلم أن يقوم بها كي يستوعب مضمون هذه المادة. إن تعلم مهارة ما، كالسباحة أو الكتابة أو العد، مثلاً، يتم، حسب تصور واتسون، عن طريق التحديد المسبق لكل من المنبهات والاستجابات التي تستجرها تلك المنبهات. فإذا كانت الاستجابات أ، ب، ج، د، هـ... الخ تشكل بتسلسلها وتتابعها مهارة من المهارات المذكورة، وكانت أَ، بَ، جَ، دَ، هَـ... الخ هي سلسلة المنبهات التي يتوقف على ظهورها القيام بتلك الاستجابات، فإن الوصول إلى الهدف(تعلم المهارة) يضحي أمراً واضحاً ويسيراً حيث يكفي أن يتكرر، تبعاً لذلك، القيام بالاستجابات أ، ب، ج، د، هـ... الخ مرات عديدة حتى التأكد من تعلم المهارة.
أما بالنسبة للذاكرة فقد عبر عنها واتسون بأنها نظام الاستجابات الصحيحة الصادرة عن الكائن الحي لدى مواجهته لموقف معين.
ولعل فهم العملية التعليمية والتربوية على نحو ما تقدم هو الذي دفع بصاحبه إلى أن يرفع أمام جمهور المربين وعلماء النفس تحديه المعروف عبر صفحات كتابه "السلوكية". حيث أعلن عن استعداده لتكوين السمات التي يريدها لدى عينة من الأطفال، فيجعل منهم الطبيب والفنان والمهندس والمحامي والعامل واللص بصرف النظر عن استعداداتهم وميولهم وإمكانياتهم وانتماءاتهم العرقية.
ولئن كان تعريف واتسون لعلم النفس بدءاً من عام 1913 هو أنه العلم الطبيعي والموضوعي الذي يتناول السلوك، فما هو المنهج الذي يجب على هذا العلم أن يستخدمه؟. لقد ألمحنا في مجرى الحديث عن محتوى المقال الأول الذي أعلن فيها واتسون عن ميلاد السلوكية إلى أنه رفض الاستبطان واعتبره منهجاً خاطئاً يبعد علم النفس عن غاياته في التعرف على تكون السلوك وآليات ضبطه والتحكم فيه، ويقلل من إمكانية الإفادة العملية من معطياته وتطبيقاتها في الحياة. ولكنه، بالمقابل، لم يقترح خلال عمله المذكور المنهج البديل، بل ولم يتعرض للأسس العامة التي يبنى عليها ذلك المنهج. ومن المرجح أن يكون سبب خلو هذا المقال، الذي وصفه كثير من العلماء بأنه مخطط شامل للسلوكية، من التصريح أو حتى التلميح بالمنهج الذي ينوي استخدامه، هو أن واتسون لم يكن قد حدد منهجه العلمي بعد. ولهذا فإن حديثه حول هذه النقطة لم يتعد دائرة الهجوم على الاستبطان.
ومن القضايا التي يتناقلها بعض الباحثين والمؤرخين على أنها حقائق ثابتة تلك القضية التي تتصل بتبني واتسون لمنهج الانعكاس الشرطي البافلوفي، واقتران ظهور السلوكية بهذا المنهج.
والحقيقة أن أفكار بافلوف بعامة لم تصل إلى واتسون إلا في وقت متأخر نسبياً وبصورة تدريجية. ولعل الوقفة الأولى لواتسون مع أفكار بافلوف ترجع إلى عام 1909 عبر المقال الذي نشره بيركس بالتعاون مع تلميذه مارغوليس، الروسي الأصل، واستعرضا فيه تجارب بافلوف حول تكوين الأفعال الانعكاسية الشرطية(1909 YERKS, MARGULIS,). وكان على واتسون أن ينتظر سبع سنوات أخرى ليتعرف على نظرية بافلوف بصورة مفصلة. وقبل ذلك بعامين، أي في عام 1914، اطلع على كتاب "علم النفس الموضوعي" للعالم الروسي بختيرف. وكان بختيرف يدرس عملية اكتساب الحيوانات للمهارات والخبرات بطريقة الانعكاسات الحركية. بينما كان بافلوف يستخدم طريقة الانعكاسات الشرطية في دراسته للسلوك الإنساني والحيواني. والفرق بين الطريقتين أو المنهجين يكمن في أن بختيرف كان يشدد على الجانب الحركي، الخارجي من السلوك، بينما كان بافلوف يركز على الجانب الإشاري. ولدى مقارنة واتسون للطريقتين امتدح طريقة الانعكاس الشرطي مشيراً إلى فوائدها في دراسة السلوك الحيواني. ولكنه وجد أن طريقة الانعكاسات الحركية التي وضعها بختيرف هي الأفضل والأنسب. ومع ذلك فإنه لم يستخدم في تجاربه أياً من الطريقتين. واعتمد على المبدأ العام في تكوين أشكال جديدة من السلوك عن طريق تأثير المنبهات الخارجية على العضوية واستجابات هذه الأخيرة عليها، ويتمثل هذا المبدأ في أن السلوك يتكون تدريجياً بفعل التأثيرات الخارجية. وهكذا بدأ بدراسة مجموعة من الأطفال حديثي الولادة، تناول، فيها ظاهرة استخدام اليد اليمنى بهدف تبيان ما إذا كانت هذه الظاهرة فطرية، أم أنها تتشكل تحت تأثير المحيط. وتمشيا مع منطلقاته قرر الأخذ بالفرضية الثانية.
ويخبرنا واتسون أنه لم يجد لدى أغلب الأطفال الذين أخضعوا لملاحظته أي تفضيل ليد على اليد الأخرى. واستخلص أن الاستجابات التي يقوم بها الأطفال تحت إشراف الأهل والمربين وتوجيهاتهم تجعلهم يستخدمون اليد اليمنى في جميع نشاطاتهم الحياتية. أما الأطفال الذين يميلون نحو استخدام إحدى اليدين بعد الولادة فيشير واتسون إلى أن سبب ذلك يعود إلى الوضعيات التي تتخذها العضوية في المرحلة الجنينية.
وتأتي هذه الدراسة على أطفال البشر استمراراً للخط الذي رسمه واتسون في مقاله الأول، وتنفيذاً لمشروعه الذي يرمي إلى إخضاع النشاط الإنساني و(السلوك الحيواني) للملاحظة الموضوعية، وتفسيره على أساس ارتباط الاستجابات بالمنبهات. وقد تمثلت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه بإجراء مجموعة من التجارب التي أجراها على الحيوانات، وعرضها في كتابه "السلوك، مدخل إلى علم النفس المقارن". وقد يكون انتقاله من التجريب على الحيوان إلى التجريب على البشر رداً على الانتقادات التي ارتاب أصحابها في إمكانية تعميم صيغة "منبه استجابة" على سلوك الإنسان. فبعد أن سرح واتسون من الجيش الأمريكي في نهاية الحرب العالمية الأولى حيث قضى قرابة العامين في القوات الجوية كضابط احتياطي، استأنف نشاطه التجريبي، ولكن هذه المرة على الإنسان ليبرهن على وحدة القوانين التي يخضع لها سلوك الكائنات الحية جميعاً، وأن ما نفسّر بموجبه سلوك الحيوانات يصح، بل ويجب أن يفسر به سلوك الإنسان. وفي هذا السياق جاءت التجربة المذكورة كحلقة في سلسلة من التجارب التي قام بها واتسون على البشر، وعالج فيها ظواهر نفسية متعددة ومتفاوتة التعقيد. وكان الانفعال من بين تلك الظواهر التي أراد واتسون من وراء طرحها أن يرد على فرضية جيمس –لانغ حول أولوية التغيرات العضوية وثانوية أو تبعية الحالات الانفعالية. ومن الطبيعي أن يعترض واتسون على تلك الفرضية، طالما أنها تتعارض مع مبادئ نظريته.
وخلاصة ما يراه واتسون هو أن الانفعال ليس إلا تغيرات عضوية داخلية وتعبيرات خارجية. وعليه فإنه يلح على ضرورة التخلي عن التصورات الخاطئة حول وجود مشاعر وإحساسات ذاتية في الانفعال. وبعد أن يحدد الانفعال على هذا النحو يمضي إلى ماهو أساسي في مشروعه، أي نحو التحقق من إمكانية توجيه هذه الظاهرة وفق البرنامج المقرر.
إن موقف الفرد من الموضوعات الخارجية وتفضيله بعضها على البعض الآخر، وميله نحو أشياء، ونفوره من أشياء أخرى، كل ذلك يتكون، في اعتقاد واتسون، تحت التأثير الخارجي والمتكرر(الإيجابي أو السلبي) للأشياء والموضوعات. وللبرهان على صحة هذه الفرضية أجرى واتسون وروزاليارينور تجربة على الأطفال الصغار، تضمنت تكوين استجابات انفعالية شرطية لدى الطفل، حيث يقترن ظهور منبه محايد(أرنب) بمنبه يثير خوف الطفل(صوت قوي، مثلاً). وبعد تكرار عرض المنبهين عدداً من المرات بدأ المنبه الأول(الأرنب) يثير انفعال الخوف عند الطفل لمجرد رؤيته له وحده دون المنبه الآخر(الصوت)، بل وإن هذه الاستجابة(الخوف) أصبحت تظهر لدى الأطفال الذين شاركوا في التجربة عند إدراكهم للأشياء المغطاة بالوبر أو عند رؤيتهم لإنسان يحمل أرنباً.
ومثلما يتكون السلوك الانفعالي بفعل المنبهات الخارجية وتأثيرها، فإنه يزول بالطريقة ذاتها. وهذا ما حاول واتسون التدليل عليه في تجربة مكملة لتجربته السابقة، حدد من خلالها الكيفية التي يتم بها علاج الخوف وتخليص الناس منه. فبعد أن استعمل بالتعاون مع ميري جونس أساليب قديمة ومعرفة لمحو الانفعال، كالإقناع والابتعاد عن الموضوعات التي تثيره، أو الاقتراب منها والتعامل معها بشكل دائم، وعرض نماذج اجتماعية إيجابية(ضرب أمثلة على أناس لا يخيفهم الموضوع، عرض حالات عيانية لأناس لا يثير لديهم الموضوع أي انفعال سلبي... الخ). وتبين لـه عدم جدوى هذه الأساليب وعجزها عن بلوغ الغاية المرجوة، لجأ إلى أسلوب آخر مبني على قاعدة: الإحساس الإيجابي يطرد الإحساس السلبي. وعملاً بهذه القاعدة كان الفاحص يقدم قطعة من الحلوى للطفل في الوقت الذي يدرك فيه الأخير المنبه الذي يثير خوفه عن مسافة بعيدة. ويتوالى تقديم الحلوى للطفل مع تقريب المسافة التي تفصله عن المنبه شيئاً فشيئاً إلى أن يصبح قادراً على مسه وأن يحس بالأمن أثناء الإمساك به.
وقد انتهى واتسون في نهاية تجاربه إلى نتيجة مؤداها أن انفعالاتنا الإيجابية والسلبية تتكون في السنوات الأولى من حياتنا على أساس العلاقات الانعكاسية الشرطية بين المنبهات الخارجية والاستجابات التي قمنا بها مراراً تحت إلحاح المحيط ومتطلباته.
لقد بدا واتسون لجمهور العلماء والمثقفين وكأنه ألف في نظريته بين أفضل ما تضمنته الوضعية والبراغماتية من مفاهيم وتصورات على نحو مبدع وخلاق. فكانت لأفكاره أصداء إيجابية واسعة، مما جعله يتبوأ مكانة الريادة في الفكر الأمريكي المعاصر. وتجسد ذلك في انتخابه رئيساً لرابطة علماء النفس الأمريكيين عام 1915، وهو لم يتجاوز بعد السابعة والثلاثين من العمر. كما كتبت الصحيفة اللندنية "نيوشين" في تعليق لها بعد صدور كتاب "السلوكية" تقول: إن هذا الكتاب لا يطمح إلى تطوير علم النفس فحسب بل ويمثل منظومة فكرية تدعو إلى تثوير الأخلاق والدين والتحليل النفسي". وفي نفس المناسبة وحول نفس الموضوع ذهبت صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أبعد من ذلك حيث وجدت أن واتسون قد دشن، بعمله هذا، بداية عصر جديد في تاريخ الفكر الإنساني.
وهكذا أصبح مصطلح "السلوكية" يدل على الاتجاه السيكولوجي الذي يخالف الاتجاهات التي سبقته. ولقد وصف أحد العلماء المراحل التي مرت بها دراسة النفس منذ بداية الفكر الإنساني حتى السلوكية بأن علم النفس كان في بداياته يهتم بالروح، ثم اتجه هذا الاهتمام نحو الوعي ليتحول على أيدي السلوكيين إلى "سيكولوجيا دون نفس". ويحمل هذا الوصف إشارة واضحة إلى إهمال السلوكية للحياة النفسية، واكتفائها بدراسة ماهو خارجي أو ظاهري منها. فالسلوكيون عرفوا السلوك بأنه النشاط الذي يقوم به الكائن الحي. ولا فرق عندهم إن تجسد هذا النشاط في حركات بسيطة أو في أفكار. فهذه وتلك استجابات تصدر عن العضوية ردّاً على المنبهات الخارجية. لذا فإن مهمة السلوكي تنحصر في الوقوف على العلاقة المباشرة بين المنبهات والاستجابات.
ويبدو للوهلة الأولى أن تحديد مهمة علم النفس على هذا النحو يعكس فهماً موضوعياً ومادياً لأبعاد واتجاه ومحتوى العلاقة بين الكائن الحي والوسط الخارجي. ولكن إمعان النظر في هذا الفهم يكشف لنا عكس ذلك. فواتسون ومن قبله ثورندايك لم يتحدثا عن وجود وقائع وأشياء إلا من خلال إثارتها للعضوية في لحظة معينة. وهذا يعني أن وجود الوقائع والأشياء الخارجية ليس وجوداً موضوعياً ومستقلاً عنا، وإنما هو وجود ذاتي مرهون بأفعالنا واستجاباتنا. وقد عبر ف.بريد أحد منظري السلوكية عن تبعية عالمنا لعضويتنا، حيث قال: "نحن الذين نصنع عالمنا، وحتى عندما نموت فإننا نأخذه معنا..."
(NATIONAL SOCIETY , 1942, 100).
وهناك مسألة أخرى تستوقفنا لدى استعراضنا لنظرية واتسون، وتتعلق بالجانب العضوي من علاقة(المنبه الاستجابة). فقد وجد مؤسس السلوكية أن هذه العلاقة هي علاقة ثابتة لا تتغير مطلقاً، إذ أن منبهاً ما يستجر استجابة محددة بغض النظر عن حالة العضوية. وبذلك يلغي واتسون إيجابية وفعالية دور العضوية في السلوك.
إن الوقائع التي كشفت عنها التجارب العلمية تدل بوضوح على أن منبهاً بعينه قد يستدعي عدداً من الاستجابات المتنوعة حسب ما يكون عليه حال العضوية وتعقيداتها. فهي، أي العضوية، ليست طرفاً منفعلاً أو سلبياً في علاقاتها مع المحيط الخارجي. وإنما تؤثر فيه وتتأثر به بأشكال مختلفة، وبدرجات متفاوتة بفضل الأجهزة التي تتألف منها، وفي مقدمتها الجهاز العصبي.
لقد أراد واتسون أن يخلص علم النفس من أزمته بجعله علماً طبيعياً يدرس السلوك والتكيف عند البشر والحيوانات عن طريق الملاحظة الخارجية لأفعالهم وتصرفاتهم. ووجد أن هذا السلوك يتكون من الاستجابات العضلية والغددية تحديداً. وأصل فكرة واتسون هذه يرجع إلى النتائج التي توصل إليها و.سمول W.SMALL، أستاذ علم النفس الحيواني في جامعة كلارك، من خلال تجاربه التي أجراها على الفئران في بداية القرن الحالي. وقد صاغ هذا العالم نتائجه على شكل فرضيتين. تحدث في إحداهما عن إمكانية أن تكون الفئران قد عثرت على الطعام في علبة النهاية من المتاهة بفضل الإحساسات العضلية. ومنذ عام 1907 شرع واتسون بإجراء سلسلة من التجارب حاكى فيها تجارب سمول مع إدخال متغيرات جديدة وتقنيات تجريبية حديثة. حيث كان في كل تجربة يستبعد حاسة من حواس الفأر بواسطة عملية جراحية. وتوصل في النهاية إلى أن حرمان الحيوان من حاسة البصر ثم السمع فالشم لم يمنعه من اكتساب مهارة عبور المتاهة. وعلى أساس هذه الوقائع بنى رأيه في أن الحس العضلي(وهو الوحيد الذي لم يستطع حذفه) هو الذي مكن الفئران من تعلم تلك المهارة والاحتفاظ بها.
حقيقة أن أحداً لا يشك في الدور الهام الذي يضطلع به الجهاز العضلي في تعلم الفرد ونموه. ولكنه إذا كان من الخطأ نكران هذه الحقيقة، فإنه من الخطأ أيضاً أن نختزل العضوية كلها بهذا الجهاز، وأن ترد آليات التعليم والنمو النفسي إلى الحس العضلي وحده. وعندما ينفي واتسون كل ما ليس بالإمكان ملاحظته بشكل مباشر، ويدفع عن سلوكيته تهمة الارتباط بالفيزيولوجيا، فإنه يؤكد على نظرته إلى العضوية كطرف سلبي في علاقتها مع المحيط الخارجي، ويقترب، بالتالي، من مواقع النظرية المكيانيكية التي لا تقر بتغير علاقة الاستجابة بالمنبه في مختلف مستويات التطور العضوي للكائنات الحية. وما دامت عضوية الحيوان تحمل جهازاً عضلياً كما تحمله عضوية الإنسان، فليس ثمة ما يدعو للحديث عن مستويين من السلوك مختلفين جوهرياً. ولهذا يبدو لواتسون أن الاختلاف بين السلوك الحيواني والسلوك الإنساني هو اختلاف كمي فقط مرده إلى وجود عضلات لدى الإنسان تتولى القيام بالاستجابات الكلامية، الخارجية منها والداخلية.
ولعل من الخطأ إغفال الدور الذي يلعبه الجهاز العصبي في حياة الكائن الحي. فهو المسؤول عن وحدة العضوية والحفاظ على تماسكها وتوازنها وشروط فعاليتها وتفاعلها مع البيئة الخارجية. وزيادة على هذا فإن هذا الجهاز يختلف في البنية والخصائص من نوع حيواني إلى نوع آخر، بل ومن فصيلة إلى فصيلة أخرى داخل النوع نفسه. الأمر الذي يجعل الكائنات الحية تستجيب بأشكال مختلفة على نفس المنبهات. فالاستجابة تتحدّد من خلال حالة الجهاز العصبي التي تتدخل فيها –وبدرجات متفاوتة- الخبرة السابقة، وكذا استعداد النسيج العصبي في اللحظة الراهنة.
وصفوة القول أن الاكتفاء بالوقوف على المنبهات وما تستجره من استجابات يعني حصر مهمة علم النفس في دراسة الجانب الخارجي والمحسوس من الظاهرة النفسية. ولصعوبة تتبع عمل الجهاز العصبي المركزي بصورة مباشرة، رفض واتسون الحديث عنه واعتبره "صندوقاً سرياً" من غير المجدي أن نعزو إليه المسائل النفسية. وبذا يكون قد أهمل الآليات التي تشترط الاستجابة وتنظمها.
إنا وإن توقفنا بعض الوقت لاستجلاء أهم آراء واتسون والتعقيب عليها ومناقشتها، فلأن الرجل زعيم الحركة السلوكية والداعية الرئيسي لها. بيد أن ذلك لا ينسينا الجهود التي بذلها باحثون آخرون من أجل دعم هذه الحركة وتطويرها. فلم يكن واتسون وحيداً بأفكار ومتفرداً ببحوثه وتجاربه، بل كان هناك العشرات ممن كانوا ينظرون إلى واقع علم النفس في تلك الفترة من مواقع قريبة من موقعه. وهذا ما سهل عليه نشر دعوته والتفاف مجموعة من الباحثين حولـه. وكان من أبرزهم ألبرت ويس ALBERT WEISS
(1879-1931م) وأدوين هولت EDWIN HOLT (1873-1946م) وولتر هانتر WALTER HUNTER(1886-1954م) وكارل لاشلي CARL LASHLEY (1890-1958م) وإدوين غاثري EDWIN GUTHRIE
(1886-1959م).
تأثر ويس بأفكار أستاذه ماكس ماير MAX MEYER التي جعلته قريباً من السلوكية. وتدور هذه الأفكار حول ضرورة أن يهتم علم النفس بالتعرف على قوانين النشاط العصبي بوصفه أساس السلوك. وقد عالج ماير هذه الفكرة المركزية في كتابه "القوانين الأساسية للسلوك الإنساني" المنشور عام 1911. وفيه تعرض، زيادة على النشاط العصبي وقوانينه، إلى منهج الاستبطان وفوائده في دراسة العقل وليس في وصف الخبرة.
ويطالب ماير في كتابه "سيكولوجيا الشخص الآخر" الصادر عام 1921 علم النفس، فيما إذا أراد أن يكون علماً حقيقياً، بأن يتحول إلى علم عن الآخر، أي عن الإنسان الذي يجب أن يلاحظ من الخارج، لا من الجانب المفتوح على "الملاحظة الداخلية".
ويحذو ويس حذو أستاذه في مسعاه لتأسيس علم النفس على دعائم علمية ثابتة. ويرى أن ذلك لا يتأتى إلا بالتخلي عن خصوصية الوقائع التي يزعم ممثلو هذا العلم أنها تجعل منه علماً متميزاً ومختلفاً عن سائر العلوم الطبيعية. ويقترح أن يتعامل هؤلاء مع تلك الوقائع على أنها وقائع طبيعية تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها الوقائع الأخرى، وتعالج بنفس المنهج والمنطق اللذين تعالج بهما. فالقوانين الكيميائية والفيزيائية تصلح لدراسة الموضوعات السيكولوجية. والملاحظة الخارجية وما يستتبعها من تحليل وتركيب هي، في نظر ويس، الطريقة المثلى لتحقيق هذه الغاية.
ويعرف ويس في كتابه "أساس نظري للسلوك الإنساني" الصادر عام 1925 علم النفس بأنه العلم الذي يدرس سلوك الفرد. والسلوك، عنده، وهو النشاط البيولوجي الذي تمارسه عضوية الإنسان في الوسط الاجتماعي. وتتجلى عبر هذ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح