على الجانب الأيسر من ساحة ألكسندر القريبة من بوابة براندبورغ في برلين تتربع حديقة على مساحة واسعة يقابلها، في الجانب الآخر من الساحة، قصر الامبراطور الذي لم يبق منه شيء. وقد شهد هذا المبنى الضخم خلال العقد الثالث من القرن العشرين نشاطاً مكثفاً لمؤسسي المدرسة الغشتالتية، بعد أن انتقلوا إليه في نهاية الحرب العالمية الأولى قادمين من فرانكفورت، وأقاموا فيه معهداً لعلم النفس تابعاً لجامعة برلين. وكان المعهد يضم آنذاك حوالي 150 شخصاً بين أستاذ ومساعد وطالب. ومنذ الوهلة الأولى لتأسيسه عين كيولر مديراً له. وأصبح ورتايمر أستاذاً ومشرفاً على الدراسات النفسية فيه. بينما لم يكن لزميلهما كوفكا نفس الحضور في هذه المؤسسة العلمية والتعليمية. وإلى جانب كيولر وورتايمر كانت الهيئة التدريسية في المعهد تتألف من عدد من الأساتذة المعروفين، أمثال إ.شبرانغر الذي عرف بمناهضته للغشتالتية وم.ديساور الاختصاصي في علم الجمال وك.غولدشتاين الذي كان يشرف على عيادة الطب النفسي في شاديت. ولعل من أبرزهم وأكثرهم نشاطاً هو ليفين الذي أقام مدرسة سيكولوجية عرفت بمدرسة "المجال النفسي".
ينتمي كورت ليفين KURT LEVIN إلى جيل واحد مع كل من كيولر وكوفكا، حيث ولد عام 1890م في ألمانيا وتوفي عام 1947م في الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد أن نال شهادة الدكتوراه عام 1914 من جامعة برلين التحق بصفوف الجيش الألماني. وعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى التحق بمعهد علم النفس في برلين كعضو في هيئته التدريسية. وبفضل أفكاره المتميزة وحريته في العمل وحسن تعامله مع الآخرين استطاع في غضون فترة قصيرة من الزمن أن يستقطب عدداً كبيراً من الباحثين الشبان من أوروبا وآسيا وأمريكا. ومن بينهم غيتابيرنباوم ونينا كاؤلينا وتمارا ديمبو(روسيا) وفرديناند هوب وس. شليسبرغ وس. فاينس وم. يوكنات وأ. كارستن(ألمانيا) وج.براون(الولايات المتحدة الأمريكية)، بالإضافة إلى أحد اليابانيين.
انطلق ليفين من أرضية مشتركة مع الغشتالتيين. فقد عاب على علم النفس آنذاك نظرته إلى النفس أو السلوك باعتبارهما حصيلة اتحاد عدد من المركبات الجزئية وارتباط مجموعة من العناصر البسيطة، وإهماله موضوع الحاجات والدوافع المحركة للشخصية. ووجد أن خطأ النظريات السيكولوجية يكمن في أنها بنيت على أساس أن الجزء يسبق الكل ويحدد خصائصه. ومنه فإن إصلاح هذا العلم يستدعي، في رأيه، تصحيح هذا الخطأ والاعتماد على مبدأ أن الكل هو الذي يحدد الجزء(الأجزاء)، وأن الجزء يتبع الكل ويعرف به. كما يستدعي الاهتمام بالدوافع التي يتوقف على معرفتها تفسير السلوك. فلتقديم صورة صحيحة وواقعية عن تصرفات الفرد وأفعاله ينبغي تجاوز معرفة الارتباطات القائمة بين الأشياء والحوادث. ذلك لأن إدراكنا للوقائع الخارجية وتذكرنا لها والحلول التي نقترحها لتذليل الصعوبات التي تصادفنا هي وقائع نفسية تشترط الدوافع حدوثها وتحدد قوتها. أما دور الارتباط فإنه، في اعتقاد ليفين، لا يتعدى الجانب الأدائي من الفعل النفسي. فهو يسهل حدوثه بعد أن يكون الدافع قد أطلقه.
ولعل موقف ليفين هذا، ولاسيما تشديده على أهمية الدافعية في معرفة طبيعة السلوك، واتجاهه، يذكر بآراء فرويد في هذا الموضوع. وليس من المستبعد أن يكون فرويد قد لفت انتباه ليفين إلى ذلك بصورة غير مباشرة. وأياً كانت حقيقة العلاقة بين الرجلين، فإن ثمة بعض المفاهيم التي استخدمها الاثنان وتواترت في أعمالهما كالدافعية وخفض التوتر وإزالته وإعادة التوازن.
ومع أننا نميل إلى الاعتقاد بأن ذلك ليس مجرد صدفة، فإن هذا لا يعني اتفاق أو حتى تقارب وجهتي نظرهما بشأن تلك المفاهيم. ولا يحتاج البرهان على ذلك إلى أكثر من الإشارة إلى اختلاف منطلقاتهما ومدخل كل منهما في دراسة النفس.
ذكرنا أن الدوافع عند فرويد هي تعبير عن الرغبات البيولوجية، الفطرية التي تتثبت موضوعاتها في مرحلة الطفولة الأولى. وللتعرف عليها والوقوف على الأسباب التي تكمن وراء أفعال الإنسان يتعين على الباحث أو المحلل النفسي أن يرجع إلى ماضيه ليعيد و"ينبش" في ركام خبراته الطفولية حيث لا تزال تعبيراتها تعيش بين طياتها. ولكن ليفين يتناول المسألة من زاوية أخرى. فهو يرى أن الدوافع تتكون عبر شبكة العلاقات المتبادلة والمباشرة بين الشخص وبيئته في لحظة معينة. وفي هذا رفض قاطع ليس للطابع البيولوجي الفطري الذي طبع فرويد الدوافع به واستبداله بطابع اجتماعي ـ سيكولوجي فقط، بل للاستعانة بخبرة الماضي في تفسير السلوك ما لم تكن هذه الخبرة على اتصال وثيق وتماس مباشر بالموقف العياني الراهن. وإذا نظر فرويد إلى علاقة الفرد بالمجتمع، على أنها علاقة صراع دائم ومستمر، فإن ليفين يلح على وحدتهما وتكاملهما واعتبارهما قطبين لمجال واحد، ويحرص على جمع الأدلة التي تدعم وجهة نظره.
لقد جعلت هذه الرؤية ليفين أكثر قرباً من المنطلقات الغشتالتية. فبصرف النظر عن خلافاته مع الغشتالتيين(وخاصة كيولر) والتي كانت تطفو على سطح العلاقات العلمية، بل وتلقي بظلالها على موقف كل منهم في قاعات الدرس وحلقات البحث داخل المعهد، وأثناء لقاءاتهم الخارجية، فإن ذلك لم يحل دون اعتماده على مبدأ التشاكل ISOMORPHISME ونظرية المجال(الحقل) الكهرو مغناطيسي، ومبادئ الفلسفة الفنومنولوجية. ومن المرجح أن يكون هذا الاتفاق انعكاساً لوحدة البيئة الفكرية والعلمية التي عاش فيها وتأثر بها الطرفان. فقد كان ليفين صديقاً حميماً لأحد أعلام الفلسفة الفنومنولوجية، وهو مارتن هيدجر، الذي كان يدرس الفلسفة في معهد علم النفس البرليني. كما كانت تربطه ببعض أعلام الفيزياء والرياضيات، كأنشتين مثلاً، صلات طيبة. فلا عجب أن يقع ضمن دائرة تأثير المنجزات الضخمة لتلك العلوم. وأن يقبل على معطياتها ويستخدم اكتشافاتها في تفسير الوقائع النفسية. ولا عجب أيضاً أن يشمله تأثير الفلسفة الفنومنولوجية التي احتفظت بجاذبيتها عقوداً من الزمن واحتلت خلالها مكانة الصدارة عند المثقفين الألمان.
ولعل ما كان يشغل بال ليفين منذ بداية مسيرته العلمية هو السؤال عن الأسباب والدوافع التي تجعل الإنسان يتصرف على هذا النحو أو ذاك في المواقف الحياتية. وقد انطلق في إجابته على هذا السؤال من ضرورة التخلي عن النظر إلى الدافع كقوة خفية تعمل بمعزل عن الوسط الذي يتحرك به الإنسان، وتناول السلوك بوصفه نتاج العلاقة المتبادلة بين الفرد ومحيطه المباشر. ويقصد ليفين بذلك أن الذات تؤلف مع الموضوع "مجالاً دينامياً" تؤثر كل نقطة فيه على النقاط الأخرى وتتأثر بها في نفس الوقت. وأن أي توتر يحل بإحداها يستجر ـ بالضرورة ـ العمل على التخلص من هذا التوتر واستعادة التوازن للمجال بأكمله. ولقد أطلق ليفين على العوالم المؤثرة في الذات خلال لحظة ومكان محددين مفهوم "المكان الحيوي"، أو "الحيز الحيوي".
ومن خلال ذلك يتبين بوضوح تأثير الفيزياء والرياضيات على فكر ليفين. فمفهوم "المجال الدينامي" الذي يعتبر مفتاح بنائه النظري هو تعميم لنظرية المجال الكهرومغناطيسي الفيزيائية على الميدان السيكولوجي. ومفهوم "الحيز الحيوي" الذي يعد حالة محددة للمجال السيكولوجي يعكس محاولة وصف السلوك الإنساني عن طريق التصوير الطبولوجي. وعلى هذا يكون ليفين قد اقتفى أثر الغشتالتيين في محاكاتهم للنموذج الفيزيائي، زيادة على اقتدائه، في وقت لاحق، بالنموذج الطبولوجي.
غير أن ما تجدر ملاحظته في سياق المقابلة بين نظرية ليفين والنظرية الغشتالتية هو اختلافهما حول فهم المجال. فبينما نظر الغشتالتيون إليه كصيغة إدراكية تجمع الذات والموضوع في كل واحد، يرى ليفين بأنه البنية التي تتألف من الدافعية ومادتها المتجسدة في العناصر الخارجية التي تتمتع بوجود مستقل عن الفرد. والدوافع هي التي تحرك الفرد باتجاه تلك العناصر، وتتعامل معها على النحو الذي يزيل التوتر ويعيد التوازن إلى كافة أجزاء البنية.
ولئن وجه ليفين اهتمامه نحو الرياضيات عامة، والطبولوجيا خاصة، فما ذلك إلا لأنه وجد في دراسة تشكل المجالات المختلفة للمكان والتحليل الشعاعي VECTOR ANALYSIS نموذجاً طيباً يمكن تكييفه مع "البيئة السيكولوجية"، وبفضل هذا العمل استطاع أن يستبدل الأعداد والكلمات بالتمثيل البياني للتعبير عن "الحيز الحيوي" الذي تجري الوقائع السيكولوجية ضمن حدوده.
ويرى ليفين أن "الحيز الحيوي" مؤلف من دوافع الفرد وقدراته وعناصر البيئة التي تقع ضمن ساحته الإدراكية ويمكن التعامل معها في لحظة ما. وأن حدوده تنتهي عند العناصر المادية الأخرى التي ليست بمتناول إدراك الفرد وتصوراته خلال تلك اللحظة. فالأشياء تكتسب قيمتها بالنسبة للفرد بقدر ما تشكل موضوعات لدوافعه. وهي تقع ضمن مجال إدراكاته واهتماماته مادامت هدفاً لأفعاله وسبباً لتوتره. ولكنها قد تتراجع إلى ما وراء حدود "الحيز الحيوي" في وقت لاحق بعد أن يشبع الدافع ويزول التوتر.
وبفضل التمثيل البياني أيضاً تمكن ليفين من تقسيم "الحيز الحيوي" إلى مناطق، وتحديد الهدف فيها، وتصوير العوائق والحواجز التي تفصل الفرد عن الهدف. وصار يفسر السلوك في لحظة معينة بإعادة رسم "الحيز الحيوي" وتمثيل القوى السيكولوجية الفاعلة أثناءها. ويرى ليفين أن ما يتغير لدى إعادة الرسم ليس "الحيز" وإنما القوى السيكولوجية في داخله. ولذا ينبغي أن تعالج التحولات التي تطرأ على الدافعية ويحس بها الفرد على أساس دينامية الكل. حيث أن الفرد يفعل(يؤثر) في بيئة محددة تشمل مناطق ذات قوة جاذبة وأخرى نابذة. وهذا ما عبر عنه ليفين بمفهوم "التكافؤ Valence". والتكافؤات، عنده، إما أن تكون موجبة(+) أو تكون سالبة(-). وتعتبر منطقة التكافؤ مركز مجال القدرة. فعندما يكون التكافؤ موجباً تتجه جميع القوى السيكولوجية نحو تلك المنطقة. وعندما يكون سالباً فإن هذه القوى تنزع إلى الاتجاه المعاكس.
ولقد استخدم ليفين مفهوم الشعاع(الموجه) VECTOR للدلالة على القوى السيكولوجية داخل "الحيز الحيوي". فالسهم يشير إلى الاتجاه الذي ينزع إليه الفرد، والخطوط تدل على الحواجز والصعوبات التي تعترض الفرد في مسعاه نحو الهدف. وبما أن البيئة تحتوي على عناصر وقوى سلبية إلى جانب العناصر والقوى الإيجابية، فإن انتقال LOCOMOTION الفرد، بالمعنى السيكولوجي(أي بتصوراته وأفكاره) لا بالمعنى الحركي فقط، هو عملية مركبة تتخللها الكثير من الفرضيات والاحتمالات والوسائل التي يمكن أن توصل إلى الهدف. وهو ما يعني. بالنسبة لليفين، تمثيل السلوك في مخطط يلم بجميع المتغيرات المحتملة للقوى السيكولوجية داخل "الحيز الحيوي".
ويعرض ليفين من واقع تجاربه وملاحظاته عدداً كبيراً من الأمثلة على مخططاته الطبولوجية التي سعى من خلالها إلى تصوير الشخصية كـ"منظومة توتر". ويعتبر سلوك الطفل الذي يمر أمام محل لبيع الحلويات واحداً من تلك الأمثلة الأكثر تداولاً، فرؤية الطفل لما هو معروض في واجهة المحل تستثير لديه الرغبة في الحصول على قطعة من الحلوى. وينشأ عن هذه الرغبة توتر يجعل من مكان وجود الحلويات منطقة تكافؤ إيجابي. ويمثل ليفين تصرف الطفل إزاء ذلك في رسومات عدة تتدرج في تعقيدها تبعاً للمناطق والحواجز التي يتألف منها الحيز. فيبدأ باحتمال وجود نقود لدى الطفل، ومن ثم احتمال عدم وجودها وتوجه الطفل بفكره إلى البيت لعله يجد ضالته عند أمه أو أبيه. وقد يخيب أهله أمله فيضطر إلى اللجوء إلى أحد الأصدقاء وهكذا... ففي كل مرة تظهر لدى الطفل حاجة جديدة يستثار توتره ويحل تكافؤ جديد(لازاروس، 1984، 70، 71).
ومثال آخر نقتطفه من متابعات ليفين اليومية لسلوك الناس، والذي يبرز اهتمامه الكبير بجمع المعطيات التي تدلل على دور الدافعية في حياتنا النفسية. فقد كان ليفين يتردد على مقهى قريب من معهد علم النفس في برلين. وذات مرة، بينما كان يجلس في هذا المقهى مع عدد من طلابه نهض من مكانه فجأة منادياً النادل. وحالما وصل هذا الأخير بادره ليفين بالسؤال: "انظر إلى هذين الشخصين اللذين يجلسان في تلك الزاوية ـ وأشار إليها ـ ؛ قل لي من فضلك ماذا طلبا؟".
فأجابه النادل مباشرة وعدد له كل ما طلب الشخصان دون أن يعود إلى دفتره. وبعد أن خرج الشخصان سأل ليفين النادل: "والآن قل لي من فضلك ماذا طلبا؟". وهنا وجد النادل صعوبة في استعادة ما طلبه الزبونان. وعندها التفت ليفين إلى طلابه وسألهم: "ماهو، برأيكم، السبب فيما حصل للنادل؟". إن كل ماكان ليفين يود الوصول إليه هو أن النادل لا يهتم بمعرفة ما طلب أو ما وقع بقدر اهتمامه بمسؤوليته تجاه صاحب المقهى(ياروشيفسكي، 1988،
172- 179).
وقد أوحت هذه الحادثة ومثيلاتها لليفين بسلسلة من التجارب التي أوكل مهمة إجرائها إلى طلابه ومساعديه. وتتمثل أولى حلقاتها في تلك التجربة التي عرفت بالأفعال التامة(المنجزة) والأفعال غير التامة(غير المنجزة)، والتي قامت بها ب.زيغارنيك B.ZEIGARNIK.
وفي هذه التجربة اقترحت الباحثة على مفحوصيها عدداً من المهمات التي كان بإمكانهم إنجاز بعض منها. بينما لم يتيسر لهم إنجاز البعض الآخر؛ حيث كانت التجربة تقتضي من جانب الفاحص أن يفتعل الأسباب لقطع أداء المفحوصين وإيقاف التجربة. وبعد ذلك كان يطلب من المفحوصين تذكر كل ما فعلوه أثناء التجربة. وقد كشفت المعطيات عن أن المفحوصين كانوا أقدر على استرجاع الأفعال التي لم يكتمل إنجازها بالمقارنة مع الأفعال التي تم إنجازها تماماً. ويعلل ليفين وزيغارنيك ذلك بأنه لم تتح في الحالة الأولى فرصة تفريغ الشحنة الدافعية، الأمر الذي يبقي على وضعية التوتر لدى المفحوصين، خلافاً لوضعيتهم في الحالة الثانية؛ حيث تم لهم تفريغ الشحنة الدافعية وزال ماكانوا يكابدونه من توتر. وقد عبرت زيغارنيك عن هذه النتائج بالعلاقة التالية:
الأفعال غير المنجزة المسترجعة
ــــــــــــــــ
الأفعال المنجزة المسترجعة
ووجدت أن هذه العلاقة يجب أن تكون أكثر من +1 في كل الحالات. وفي تجربتها كانت 1.9. مما يدل على أن ما استرجعه المفحوصون من المهمات التي لم ينجزوها حتى النهاية يساوي ضعف ما استرجعوه من المهمات التي أنجزوها تقريباً(ياروشيفسكي، 1971، 225).
وتعد تجربة زيغارنيك إحدى العلامات البارزة التي عرفت بها مدرسة ليفين. وقد استخدمت تقنياتها في عدد من الدراسات السيكولوجية التجريبية. وتروي زيغارنيك نفسها قصة استخدام تجربتها من قبل أحد مساعدي فرويد لإثبات صحة فرضيات التحليل النفسي. وتضيف أن فرويد غضب لدى اطلاعه على ذلك، وألقى بالبحث قائلاً: "إن نظريتي ليست بحاجة إلى إثبات تجريبي".(ياروشيفسكي، 1988، 172-179).
أما الحلقة الثانية في سلسلة التجارب التي أشرف عليها ليفين فهي تجربة م.أوفسيانكينا فقد اتبعت الباحثة أسلوب إيقاف المفحوص عن العمل قبل إنجاز المهمة المطلوبة الذي اتبعته زيغارنيك. ولكنها اتخذت من النشاط الواقعي مادة لتجربتها عوض استعادته من الذاكرة. إذ كانت تعرض على المفحوص القيام بمهمة معينة. وبعد أن يشرع في أدائها كانت تطلب منه التوقف عن عمله لأسباب طارئة واضطرارية. إلا أنه يعطى في الوقت ذاته إمكانية العمل على النحو الذي يراه. وقد أثبتت معطيات هذه التجربة صحة ما ذهب إليه ليفين من أن التوتر يرغم الفرد على إتمام ما بدأه من قبل بصورة عفوية ودون أي تدخل خارجي. فجميع المفحوصين تقريباً كانوا يرجعون إلى المهمة من أجل إنجازها.
وتؤلف دراسة ما دعاه ليفين بالإشباع حلقة أخرى في الأعمال التجريبية التي ارتبطت بفكرة "منظومة التوتر". وواضح أن هذا المفهوم يعبر عن حالة من حالات الحاجة العضوية أو النفسية أو الاجتماعية عند الفرد. وقد استعمله ليفين ليعني به انخفاض مستوى التوتر في النظام الدافعي للفعل نتيجة التكرار الطويل والمستمر له، فيصبح أقل من التوتر في النظم الأخرى، الشيء الذي يمنحها إمكانية تحديد بنية "الحيز الحيوي".
عرضت كارستن، صاحبة هذه الدراسة، على مفحوصيها القيام بمهمة معينة، يدوية(رسم أشكال) أو لغوية(قراءة نص أو قصيدة شعرية)، دون انقطاع، وما أن يمضي بعض الوقت على بداية التجربة حتى كانت تلاحظ الباحثة بعض الحالات الانفعالية على سلوك المفحوصين(انخفاض وتيرة النشاط، محاولة خرق التعليمات، الملل، الغضب....الخ). التي هي من مؤشرات أو أعراض الإشباع. وقادتها ملاحظاتها هذه إلى نتيجة مفادها أن الإشباع يتشكل لدى المفحوصين حينما يبدون موقفاً جدياً تجاه النشاط بسرعة. بينما لا يظهر لديهم إلا في وقت متأخر نسبياً عندما يكون هذا النشاط بالنسبة لهم أمراً ثانوياً وغير ذي معنى.
وتتجلى فكرة ليفين بصورة أوضح في تجربة ديمبو حول"الطموح". وقد أدخلت الباحثة هذا المفهوم لإبراز مستوى صعوبة(أو سهولة) الهدف الذي يتوجه المفحوص نحوه، وعلاقة ذلك بشخصيته. وخلاصة هذه التجربة هي طرح مجموع من المسائل الرياضية التي تتدرج في صعوبتها، وإتاحة الفرصة أمام المفحوص لاختيار المسألة التي يجد أنها تناسب مستواه وبإمكانه البدء بحلها. وبعد أن يفلح(أو يخفق) في حلها يسأل عن المسألة التالية التي ينوي اختيارها. ويشير الاختيار الثاني بعد نجاح(أو إخفاق) المفحوص في حل المسألة السابقة(الأولى) إلى مستوى طموحه.
لقد بات من المعروف أن مستوى الطموح الذي يظهر ويتغير عبر النشاط الحياتي للفرد يرتبط بجميع مكوناته النفسية. فمهما كان الموقف الذي يوجد فيه الفرد بسيطاً، فإن اختياره للاستجابات المقترحة على المثيرات التي يطرحها الموقف بغض النظرعن النتيجة، هو نتاج لنشاط شخصيته ككل وليس لجانب واحد منها. صحيح أن للدوافع نصيباً في الاختيار وردود الفعل على النجاح أو الإخفاق، ولكنها ليست الوحيدة التي تقود النشاط أو تشترطه. إذ من غير الممكن تصور دينامية النشاط بمعزل عن القيم والمعايير التي تحملها الشخصية. كما أنه من المستحيل فصل الجانب الدافعي من الشخصية عن سماتها الأخرى كالقدرات والطبع والمزاج.
والدوافع لأنها تعمل مع مظاهر النفس الأخرى، فإنها تتأثر بها وتؤثر فيها. فقدرة الإنسان في ميدان معين، كالرياضيات أو الأدب مثلاً، والنجاحات التي يحرزها فيه تزيد من شدة وسعة دافعه نحو هذا الميدان. ومن هذا المنظور ينكشف عجز "المجال الدينامي" و"التكافؤات" عن إدراك الشروط الذاتية والموضوعية لنمو الشخصية وتكامل سماتها المتميزة والثابتة ثباتاً نسبياً.
لقد ظن ليفين أن نظريته تغطي كافة مجالات النفس، وأن النماذج الرياضية(الطبولوجية تحديداً) تمكنه من تفسير السلوك الإنساني بكل أبعاده وتجلياته. والحق أن إدخال هذه النماذج إلى علم النفس بهدف إضفاء الموضوعية والدقة على الدراسات السيكولوجية هي إحدى المحاولات المبكرة في تاريخ علم النفس. وبفضلها مهد ليفين الطريق أمام ظهور أعمال أخرى تأخذ بالنموذج الرياضي، كما سوف نرى عند الحديث عن بياجيه وهال.
إن القيمة الإيجابية لنماذج ليفين الطبولوجية تنحصر في المجال الدافعي. وقد سبقت الإشارة إلى أهمية هذا المجال في الوقائع النفسية. فلا يمكن الحديث عن النشاط النفسي دون التسليم بدور دينامية الدوافع فيه. ولكن الدوافع ليست كل شيء في ذلك النشاط. إنه أعقد من أن نصفه أو نعرفه بها. فهو يحتوي ـ إضافة إلى البعد الدافعي(الدينامي = التوتر) ـ على البعد التوجهي(الصورة أو الشكل) والبعد التنفيذي(الفعل). وإن تناول السلوك الإنساني خارج إطار وحدة هذه الأبعاد وتكاملها وعلاقاتها الجدلية يعرض الباحث للوقوع في الذاتية.
وعلى الرغم من محاولة ليفين ربط بعض هذه الأبعاد في إنشاءاته النظرية ونماذجه الطبولوجية، وتقرير ما بينها من ارتباطات، كارتباط الدافع بالبنية المعرفية للبيئة، ووجد أن أي نقص في هذه البنية يؤثر سلباً على أفعال الإنسان ويجعلها فجة وفوضوية، فإن الأسئلة المتعلقة بنشأة البنية العقلية ودورها في استرجاع الواقع الموضوعي ومعرفته ظلت دون أن تلقى إجابة. فمخططه الذي لم تجد هذه الموضوعات مكاناً لها فيه بقي من غير تبديل أو تعديل حتى بعد أن تحول اهتمامه من الدافعية عند الفرد إلى دراسة دينامية الجماعة. وقام بتطبيق "المجال الدينامي" و"الحيز الحيوي" و"التوتر" وغيرها من المفاهيم على الارتباطات القائمة بين أفراد الجماعة الواحدة.
وترجع بدايات توجه ليفين نحو دراسة العلاقات السيكوسوسيولوجية إلى السنوات الأولى من العقد الرابع من القرن العشرين. وقد أسهمت هجرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1933 في تعزيز هذا التوجه وظهور موضوعات جديدة ضمن قائمة بحوثه. حيث واصل هناك عمله العلمي كأستاذ في جامعة ستانفورد لمدة عامين ثم في جامعة أيوا، وكمشرف على مركز دراسات دينامية الجماعة التابعة لمعهد ماساشوستس التكنولوجي بدءاً من عام 1944. وبعد وصوله إلى الولايات المتحدة بعامين نشر كتاباً تحت عنوان "النظرية الدينامية في الشخصية DYNAMIC THEORY OF PERSONALITY “ ـ 1935). وفي العام التالي نشر كتاباً آخر بعنوان "مبادئ علم النفس الطبولوجي ـ PRINCIPLES OF TOPOLOGICAL PSYCHOLOGY "(1936). ويعالج هذان الكتابان بصورة خاصة موضوعات القيادة وأساليبها وأنماط الصراع داخل الجماعة والمناخ النفسي وأثره في العلاقة بين أفراد الجماعة. كما يتضمنان طرائق ونماذج في البحث توصل من خلالها إلى استنتاجات قيمة على الصعيدين العلمي والعملي. فلقد وجد أن "جوهر الجماعة ليس في تشابه أفرادها أو اختلافهم، بل في ارتباطهم المتبادل. و يمكن أن توصف الجماعة بأنها كـ"مجال دينامي". وهذا يعني أن التغيرات التي تطرأ على وضع أحد أجزائها تؤدي إلى تغير في أي جزء آخر. وأن مستوى الارتباط المتبادل لأفراد الجماعة يتغير من الجمع المتنافر إلى الوحدة المتراصة COMPACT"(LEVIN. 1936. 54). بيد أنه لم يقصر هذه الاستنتاجات على الجماعات الصغيرة التي أخضعها إلى تجاربه، بل عممها على حركة المجتمع من منطلق أن الشروط المادية والعوامل النفسية التي تحدد العلاقة بين أفراد الجماعة وارتباطاتهم المتبادلة هي نفسها التي توجه المجتمع، وأن المجتمع، كالجماعة، ليس إلا "مجالاً دينامياً". فأي خلل يصيبه أو تغير يطرأ عليه هو نتيجة تفكك أو توتر أحد أجزائه. ويتوقف إصلاحه وإعادة اللحمة إليه على إزالة التوتر في ذلك الجزء. ويعني ذلك في نهاية التحليل أن إصلاح المجتمع يمر عبر تحسين علاقات الأفراد ضمن الجماعة، وإعادة تنظيم بنية المجالات الدينامية للجماعات.
إن تعميم نتائج دراسة دينامية الجماعة على المجتمع يتناقض مع مبدأ تبعية الجزء للكل الذي اعتمد عليه ليفين في أعماله الأولى. فالمجتمع ليس حاصل جمع المجالات الدينامية لأفراده، أو حاصل جمع سلسلة طويلة ومتشابكة من العلاقات المتبادلة بين هؤلاء الأفراد داخل الجماعات، وإنما هو ـ كمنظومة ـ يختلف اختلافاً نوعياً عن مجموع الشخصيات والجماعات من حيث عناصره المادية البشرية والثقافية والروحية والعلاقات التي تربطها بعضها ببعض. ومع أن لنشاط بعض الشخصيات أو الجماعات في مجال الإبداع العلمي أو الفني أو الفكري دوراً إيجابياً في حياة المجتمع، إلا أنه لا يرقى بقوته وفعاليته إلى مستوى تغيير بنية عناصره وطابع العلاقات القائمة بينها. في حين أن تغيير البنية الاجتماعية يقود ـ بالضرورة ـ إلى تغيير وضع الفرد والجماعة من خلال التغير التدريجي لعناصر المجتمع وعلاقاتها باعتبارها طرفاً ضرورياً في منظومة "الفرد ـ المجتمع" أو منظومة "الجماعة ـ المجتمع" وجزءاً هاماً من عناصرهما.
وفي منتصف العقد الخامس انضم ليفين إلى مجموعة من العلماء الذين توجهت جهودهم المشتركة تحت إشراف هـ.فينر نحو وضع مبادئ علم التحكم(السيبرنيطيقا CYBERNETICS).
وقد دفعته إلى ذلك رغبته الشديدة بالتعرف على حقيقة السلوك الإنساني والتحكم به، وأمله في تدعيم نظريته، وإغناء تصوراته عن "المجال الدينامي"، و"النموذج الطوبولوجي" بمعطيات العلم الجديد.
بوح الروح
ينتمي كورت ليفين KURT LEVIN إلى جيل واحد مع كل من كيولر وكوفكا، حيث ولد عام 1890م في ألمانيا وتوفي عام 1947م في الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد أن نال شهادة الدكتوراه عام 1914 من جامعة برلين التحق بصفوف الجيش الألماني. وعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى التحق بمعهد علم النفس في برلين كعضو في هيئته التدريسية. وبفضل أفكاره المتميزة وحريته في العمل وحسن تعامله مع الآخرين استطاع في غضون فترة قصيرة من الزمن أن يستقطب عدداً كبيراً من الباحثين الشبان من أوروبا وآسيا وأمريكا. ومن بينهم غيتابيرنباوم ونينا كاؤلينا وتمارا ديمبو(روسيا) وفرديناند هوب وس. شليسبرغ وس. فاينس وم. يوكنات وأ. كارستن(ألمانيا) وج.براون(الولايات المتحدة الأمريكية)، بالإضافة إلى أحد اليابانيين.
انطلق ليفين من أرضية مشتركة مع الغشتالتيين. فقد عاب على علم النفس آنذاك نظرته إلى النفس أو السلوك باعتبارهما حصيلة اتحاد عدد من المركبات الجزئية وارتباط مجموعة من العناصر البسيطة، وإهماله موضوع الحاجات والدوافع المحركة للشخصية. ووجد أن خطأ النظريات السيكولوجية يكمن في أنها بنيت على أساس أن الجزء يسبق الكل ويحدد خصائصه. ومنه فإن إصلاح هذا العلم يستدعي، في رأيه، تصحيح هذا الخطأ والاعتماد على مبدأ أن الكل هو الذي يحدد الجزء(الأجزاء)، وأن الجزء يتبع الكل ويعرف به. كما يستدعي الاهتمام بالدوافع التي يتوقف على معرفتها تفسير السلوك. فلتقديم صورة صحيحة وواقعية عن تصرفات الفرد وأفعاله ينبغي تجاوز معرفة الارتباطات القائمة بين الأشياء والحوادث. ذلك لأن إدراكنا للوقائع الخارجية وتذكرنا لها والحلول التي نقترحها لتذليل الصعوبات التي تصادفنا هي وقائع نفسية تشترط الدوافع حدوثها وتحدد قوتها. أما دور الارتباط فإنه، في اعتقاد ليفين، لا يتعدى الجانب الأدائي من الفعل النفسي. فهو يسهل حدوثه بعد أن يكون الدافع قد أطلقه.
ولعل موقف ليفين هذا، ولاسيما تشديده على أهمية الدافعية في معرفة طبيعة السلوك، واتجاهه، يذكر بآراء فرويد في هذا الموضوع. وليس من المستبعد أن يكون فرويد قد لفت انتباه ليفين إلى ذلك بصورة غير مباشرة. وأياً كانت حقيقة العلاقة بين الرجلين، فإن ثمة بعض المفاهيم التي استخدمها الاثنان وتواترت في أعمالهما كالدافعية وخفض التوتر وإزالته وإعادة التوازن.
ومع أننا نميل إلى الاعتقاد بأن ذلك ليس مجرد صدفة، فإن هذا لا يعني اتفاق أو حتى تقارب وجهتي نظرهما بشأن تلك المفاهيم. ولا يحتاج البرهان على ذلك إلى أكثر من الإشارة إلى اختلاف منطلقاتهما ومدخل كل منهما في دراسة النفس.
ذكرنا أن الدوافع عند فرويد هي تعبير عن الرغبات البيولوجية، الفطرية التي تتثبت موضوعاتها في مرحلة الطفولة الأولى. وللتعرف عليها والوقوف على الأسباب التي تكمن وراء أفعال الإنسان يتعين على الباحث أو المحلل النفسي أن يرجع إلى ماضيه ليعيد و"ينبش" في ركام خبراته الطفولية حيث لا تزال تعبيراتها تعيش بين طياتها. ولكن ليفين يتناول المسألة من زاوية أخرى. فهو يرى أن الدوافع تتكون عبر شبكة العلاقات المتبادلة والمباشرة بين الشخص وبيئته في لحظة معينة. وفي هذا رفض قاطع ليس للطابع البيولوجي الفطري الذي طبع فرويد الدوافع به واستبداله بطابع اجتماعي ـ سيكولوجي فقط، بل للاستعانة بخبرة الماضي في تفسير السلوك ما لم تكن هذه الخبرة على اتصال وثيق وتماس مباشر بالموقف العياني الراهن. وإذا نظر فرويد إلى علاقة الفرد بالمجتمع، على أنها علاقة صراع دائم ومستمر، فإن ليفين يلح على وحدتهما وتكاملهما واعتبارهما قطبين لمجال واحد، ويحرص على جمع الأدلة التي تدعم وجهة نظره.
لقد جعلت هذه الرؤية ليفين أكثر قرباً من المنطلقات الغشتالتية. فبصرف النظر عن خلافاته مع الغشتالتيين(وخاصة كيولر) والتي كانت تطفو على سطح العلاقات العلمية، بل وتلقي بظلالها على موقف كل منهم في قاعات الدرس وحلقات البحث داخل المعهد، وأثناء لقاءاتهم الخارجية، فإن ذلك لم يحل دون اعتماده على مبدأ التشاكل ISOMORPHISME ونظرية المجال(الحقل) الكهرو مغناطيسي، ومبادئ الفلسفة الفنومنولوجية. ومن المرجح أن يكون هذا الاتفاق انعكاساً لوحدة البيئة الفكرية والعلمية التي عاش فيها وتأثر بها الطرفان. فقد كان ليفين صديقاً حميماً لأحد أعلام الفلسفة الفنومنولوجية، وهو مارتن هيدجر، الذي كان يدرس الفلسفة في معهد علم النفس البرليني. كما كانت تربطه ببعض أعلام الفيزياء والرياضيات، كأنشتين مثلاً، صلات طيبة. فلا عجب أن يقع ضمن دائرة تأثير المنجزات الضخمة لتلك العلوم. وأن يقبل على معطياتها ويستخدم اكتشافاتها في تفسير الوقائع النفسية. ولا عجب أيضاً أن يشمله تأثير الفلسفة الفنومنولوجية التي احتفظت بجاذبيتها عقوداً من الزمن واحتلت خلالها مكانة الصدارة عند المثقفين الألمان.
ولعل ما كان يشغل بال ليفين منذ بداية مسيرته العلمية هو السؤال عن الأسباب والدوافع التي تجعل الإنسان يتصرف على هذا النحو أو ذاك في المواقف الحياتية. وقد انطلق في إجابته على هذا السؤال من ضرورة التخلي عن النظر إلى الدافع كقوة خفية تعمل بمعزل عن الوسط الذي يتحرك به الإنسان، وتناول السلوك بوصفه نتاج العلاقة المتبادلة بين الفرد ومحيطه المباشر. ويقصد ليفين بذلك أن الذات تؤلف مع الموضوع "مجالاً دينامياً" تؤثر كل نقطة فيه على النقاط الأخرى وتتأثر بها في نفس الوقت. وأن أي توتر يحل بإحداها يستجر ـ بالضرورة ـ العمل على التخلص من هذا التوتر واستعادة التوازن للمجال بأكمله. ولقد أطلق ليفين على العوالم المؤثرة في الذات خلال لحظة ومكان محددين مفهوم "المكان الحيوي"، أو "الحيز الحيوي".
ومن خلال ذلك يتبين بوضوح تأثير الفيزياء والرياضيات على فكر ليفين. فمفهوم "المجال الدينامي" الذي يعتبر مفتاح بنائه النظري هو تعميم لنظرية المجال الكهرومغناطيسي الفيزيائية على الميدان السيكولوجي. ومفهوم "الحيز الحيوي" الذي يعد حالة محددة للمجال السيكولوجي يعكس محاولة وصف السلوك الإنساني عن طريق التصوير الطبولوجي. وعلى هذا يكون ليفين قد اقتفى أثر الغشتالتيين في محاكاتهم للنموذج الفيزيائي، زيادة على اقتدائه، في وقت لاحق، بالنموذج الطبولوجي.
غير أن ما تجدر ملاحظته في سياق المقابلة بين نظرية ليفين والنظرية الغشتالتية هو اختلافهما حول فهم المجال. فبينما نظر الغشتالتيون إليه كصيغة إدراكية تجمع الذات والموضوع في كل واحد، يرى ليفين بأنه البنية التي تتألف من الدافعية ومادتها المتجسدة في العناصر الخارجية التي تتمتع بوجود مستقل عن الفرد. والدوافع هي التي تحرك الفرد باتجاه تلك العناصر، وتتعامل معها على النحو الذي يزيل التوتر ويعيد التوازن إلى كافة أجزاء البنية.
ولئن وجه ليفين اهتمامه نحو الرياضيات عامة، والطبولوجيا خاصة، فما ذلك إلا لأنه وجد في دراسة تشكل المجالات المختلفة للمكان والتحليل الشعاعي VECTOR ANALYSIS نموذجاً طيباً يمكن تكييفه مع "البيئة السيكولوجية"، وبفضل هذا العمل استطاع أن يستبدل الأعداد والكلمات بالتمثيل البياني للتعبير عن "الحيز الحيوي" الذي تجري الوقائع السيكولوجية ضمن حدوده.
ويرى ليفين أن "الحيز الحيوي" مؤلف من دوافع الفرد وقدراته وعناصر البيئة التي تقع ضمن ساحته الإدراكية ويمكن التعامل معها في لحظة ما. وأن حدوده تنتهي عند العناصر المادية الأخرى التي ليست بمتناول إدراك الفرد وتصوراته خلال تلك اللحظة. فالأشياء تكتسب قيمتها بالنسبة للفرد بقدر ما تشكل موضوعات لدوافعه. وهي تقع ضمن مجال إدراكاته واهتماماته مادامت هدفاً لأفعاله وسبباً لتوتره. ولكنها قد تتراجع إلى ما وراء حدود "الحيز الحيوي" في وقت لاحق بعد أن يشبع الدافع ويزول التوتر.
وبفضل التمثيل البياني أيضاً تمكن ليفين من تقسيم "الحيز الحيوي" إلى مناطق، وتحديد الهدف فيها، وتصوير العوائق والحواجز التي تفصل الفرد عن الهدف. وصار يفسر السلوك في لحظة معينة بإعادة رسم "الحيز الحيوي" وتمثيل القوى السيكولوجية الفاعلة أثناءها. ويرى ليفين أن ما يتغير لدى إعادة الرسم ليس "الحيز" وإنما القوى السيكولوجية في داخله. ولذا ينبغي أن تعالج التحولات التي تطرأ على الدافعية ويحس بها الفرد على أساس دينامية الكل. حيث أن الفرد يفعل(يؤثر) في بيئة محددة تشمل مناطق ذات قوة جاذبة وأخرى نابذة. وهذا ما عبر عنه ليفين بمفهوم "التكافؤ Valence". والتكافؤات، عنده، إما أن تكون موجبة(+) أو تكون سالبة(-). وتعتبر منطقة التكافؤ مركز مجال القدرة. فعندما يكون التكافؤ موجباً تتجه جميع القوى السيكولوجية نحو تلك المنطقة. وعندما يكون سالباً فإن هذه القوى تنزع إلى الاتجاه المعاكس.
ولقد استخدم ليفين مفهوم الشعاع(الموجه) VECTOR للدلالة على القوى السيكولوجية داخل "الحيز الحيوي". فالسهم يشير إلى الاتجاه الذي ينزع إليه الفرد، والخطوط تدل على الحواجز والصعوبات التي تعترض الفرد في مسعاه نحو الهدف. وبما أن البيئة تحتوي على عناصر وقوى سلبية إلى جانب العناصر والقوى الإيجابية، فإن انتقال LOCOMOTION الفرد، بالمعنى السيكولوجي(أي بتصوراته وأفكاره) لا بالمعنى الحركي فقط، هو عملية مركبة تتخللها الكثير من الفرضيات والاحتمالات والوسائل التي يمكن أن توصل إلى الهدف. وهو ما يعني. بالنسبة لليفين، تمثيل السلوك في مخطط يلم بجميع المتغيرات المحتملة للقوى السيكولوجية داخل "الحيز الحيوي".
ويعرض ليفين من واقع تجاربه وملاحظاته عدداً كبيراً من الأمثلة على مخططاته الطبولوجية التي سعى من خلالها إلى تصوير الشخصية كـ"منظومة توتر". ويعتبر سلوك الطفل الذي يمر أمام محل لبيع الحلويات واحداً من تلك الأمثلة الأكثر تداولاً، فرؤية الطفل لما هو معروض في واجهة المحل تستثير لديه الرغبة في الحصول على قطعة من الحلوى. وينشأ عن هذه الرغبة توتر يجعل من مكان وجود الحلويات منطقة تكافؤ إيجابي. ويمثل ليفين تصرف الطفل إزاء ذلك في رسومات عدة تتدرج في تعقيدها تبعاً للمناطق والحواجز التي يتألف منها الحيز. فيبدأ باحتمال وجود نقود لدى الطفل، ومن ثم احتمال عدم وجودها وتوجه الطفل بفكره إلى البيت لعله يجد ضالته عند أمه أو أبيه. وقد يخيب أهله أمله فيضطر إلى اللجوء إلى أحد الأصدقاء وهكذا... ففي كل مرة تظهر لدى الطفل حاجة جديدة يستثار توتره ويحل تكافؤ جديد(لازاروس، 1984، 70، 71).
ومثال آخر نقتطفه من متابعات ليفين اليومية لسلوك الناس، والذي يبرز اهتمامه الكبير بجمع المعطيات التي تدلل على دور الدافعية في حياتنا النفسية. فقد كان ليفين يتردد على مقهى قريب من معهد علم النفس في برلين. وذات مرة، بينما كان يجلس في هذا المقهى مع عدد من طلابه نهض من مكانه فجأة منادياً النادل. وحالما وصل هذا الأخير بادره ليفين بالسؤال: "انظر إلى هذين الشخصين اللذين يجلسان في تلك الزاوية ـ وأشار إليها ـ ؛ قل لي من فضلك ماذا طلبا؟".
فأجابه النادل مباشرة وعدد له كل ما طلب الشخصان دون أن يعود إلى دفتره. وبعد أن خرج الشخصان سأل ليفين النادل: "والآن قل لي من فضلك ماذا طلبا؟". وهنا وجد النادل صعوبة في استعادة ما طلبه الزبونان. وعندها التفت ليفين إلى طلابه وسألهم: "ماهو، برأيكم، السبب فيما حصل للنادل؟". إن كل ماكان ليفين يود الوصول إليه هو أن النادل لا يهتم بمعرفة ما طلب أو ما وقع بقدر اهتمامه بمسؤوليته تجاه صاحب المقهى(ياروشيفسكي، 1988،
172- 179).
وقد أوحت هذه الحادثة ومثيلاتها لليفين بسلسلة من التجارب التي أوكل مهمة إجرائها إلى طلابه ومساعديه. وتتمثل أولى حلقاتها في تلك التجربة التي عرفت بالأفعال التامة(المنجزة) والأفعال غير التامة(غير المنجزة)، والتي قامت بها ب.زيغارنيك B.ZEIGARNIK.
وفي هذه التجربة اقترحت الباحثة على مفحوصيها عدداً من المهمات التي كان بإمكانهم إنجاز بعض منها. بينما لم يتيسر لهم إنجاز البعض الآخر؛ حيث كانت التجربة تقتضي من جانب الفاحص أن يفتعل الأسباب لقطع أداء المفحوصين وإيقاف التجربة. وبعد ذلك كان يطلب من المفحوصين تذكر كل ما فعلوه أثناء التجربة. وقد كشفت المعطيات عن أن المفحوصين كانوا أقدر على استرجاع الأفعال التي لم يكتمل إنجازها بالمقارنة مع الأفعال التي تم إنجازها تماماً. ويعلل ليفين وزيغارنيك ذلك بأنه لم تتح في الحالة الأولى فرصة تفريغ الشحنة الدافعية، الأمر الذي يبقي على وضعية التوتر لدى المفحوصين، خلافاً لوضعيتهم في الحالة الثانية؛ حيث تم لهم تفريغ الشحنة الدافعية وزال ماكانوا يكابدونه من توتر. وقد عبرت زيغارنيك عن هذه النتائج بالعلاقة التالية:
الأفعال غير المنجزة المسترجعة
ــــــــــــــــ
الأفعال المنجزة المسترجعة
ووجدت أن هذه العلاقة يجب أن تكون أكثر من +1 في كل الحالات. وفي تجربتها كانت 1.9. مما يدل على أن ما استرجعه المفحوصون من المهمات التي لم ينجزوها حتى النهاية يساوي ضعف ما استرجعوه من المهمات التي أنجزوها تقريباً(ياروشيفسكي، 1971، 225).
وتعد تجربة زيغارنيك إحدى العلامات البارزة التي عرفت بها مدرسة ليفين. وقد استخدمت تقنياتها في عدد من الدراسات السيكولوجية التجريبية. وتروي زيغارنيك نفسها قصة استخدام تجربتها من قبل أحد مساعدي فرويد لإثبات صحة فرضيات التحليل النفسي. وتضيف أن فرويد غضب لدى اطلاعه على ذلك، وألقى بالبحث قائلاً: "إن نظريتي ليست بحاجة إلى إثبات تجريبي".(ياروشيفسكي، 1988، 172-179).
أما الحلقة الثانية في سلسلة التجارب التي أشرف عليها ليفين فهي تجربة م.أوفسيانكينا فقد اتبعت الباحثة أسلوب إيقاف المفحوص عن العمل قبل إنجاز المهمة المطلوبة الذي اتبعته زيغارنيك. ولكنها اتخذت من النشاط الواقعي مادة لتجربتها عوض استعادته من الذاكرة. إذ كانت تعرض على المفحوص القيام بمهمة معينة. وبعد أن يشرع في أدائها كانت تطلب منه التوقف عن عمله لأسباب طارئة واضطرارية. إلا أنه يعطى في الوقت ذاته إمكانية العمل على النحو الذي يراه. وقد أثبتت معطيات هذه التجربة صحة ما ذهب إليه ليفين من أن التوتر يرغم الفرد على إتمام ما بدأه من قبل بصورة عفوية ودون أي تدخل خارجي. فجميع المفحوصين تقريباً كانوا يرجعون إلى المهمة من أجل إنجازها.
وتؤلف دراسة ما دعاه ليفين بالإشباع حلقة أخرى في الأعمال التجريبية التي ارتبطت بفكرة "منظومة التوتر". وواضح أن هذا المفهوم يعبر عن حالة من حالات الحاجة العضوية أو النفسية أو الاجتماعية عند الفرد. وقد استعمله ليفين ليعني به انخفاض مستوى التوتر في النظام الدافعي للفعل نتيجة التكرار الطويل والمستمر له، فيصبح أقل من التوتر في النظم الأخرى، الشيء الذي يمنحها إمكانية تحديد بنية "الحيز الحيوي".
عرضت كارستن، صاحبة هذه الدراسة، على مفحوصيها القيام بمهمة معينة، يدوية(رسم أشكال) أو لغوية(قراءة نص أو قصيدة شعرية)، دون انقطاع، وما أن يمضي بعض الوقت على بداية التجربة حتى كانت تلاحظ الباحثة بعض الحالات الانفعالية على سلوك المفحوصين(انخفاض وتيرة النشاط، محاولة خرق التعليمات، الملل، الغضب....الخ). التي هي من مؤشرات أو أعراض الإشباع. وقادتها ملاحظاتها هذه إلى نتيجة مفادها أن الإشباع يتشكل لدى المفحوصين حينما يبدون موقفاً جدياً تجاه النشاط بسرعة. بينما لا يظهر لديهم إلا في وقت متأخر نسبياً عندما يكون هذا النشاط بالنسبة لهم أمراً ثانوياً وغير ذي معنى.
وتتجلى فكرة ليفين بصورة أوضح في تجربة ديمبو حول"الطموح". وقد أدخلت الباحثة هذا المفهوم لإبراز مستوى صعوبة(أو سهولة) الهدف الذي يتوجه المفحوص نحوه، وعلاقة ذلك بشخصيته. وخلاصة هذه التجربة هي طرح مجموع من المسائل الرياضية التي تتدرج في صعوبتها، وإتاحة الفرصة أمام المفحوص لاختيار المسألة التي يجد أنها تناسب مستواه وبإمكانه البدء بحلها. وبعد أن يفلح(أو يخفق) في حلها يسأل عن المسألة التالية التي ينوي اختيارها. ويشير الاختيار الثاني بعد نجاح(أو إخفاق) المفحوص في حل المسألة السابقة(الأولى) إلى مستوى طموحه.
لقد بات من المعروف أن مستوى الطموح الذي يظهر ويتغير عبر النشاط الحياتي للفرد يرتبط بجميع مكوناته النفسية. فمهما كان الموقف الذي يوجد فيه الفرد بسيطاً، فإن اختياره للاستجابات المقترحة على المثيرات التي يطرحها الموقف بغض النظرعن النتيجة، هو نتاج لنشاط شخصيته ككل وليس لجانب واحد منها. صحيح أن للدوافع نصيباً في الاختيار وردود الفعل على النجاح أو الإخفاق، ولكنها ليست الوحيدة التي تقود النشاط أو تشترطه. إذ من غير الممكن تصور دينامية النشاط بمعزل عن القيم والمعايير التي تحملها الشخصية. كما أنه من المستحيل فصل الجانب الدافعي من الشخصية عن سماتها الأخرى كالقدرات والطبع والمزاج.
والدوافع لأنها تعمل مع مظاهر النفس الأخرى، فإنها تتأثر بها وتؤثر فيها. فقدرة الإنسان في ميدان معين، كالرياضيات أو الأدب مثلاً، والنجاحات التي يحرزها فيه تزيد من شدة وسعة دافعه نحو هذا الميدان. ومن هذا المنظور ينكشف عجز "المجال الدينامي" و"التكافؤات" عن إدراك الشروط الذاتية والموضوعية لنمو الشخصية وتكامل سماتها المتميزة والثابتة ثباتاً نسبياً.
لقد ظن ليفين أن نظريته تغطي كافة مجالات النفس، وأن النماذج الرياضية(الطبولوجية تحديداً) تمكنه من تفسير السلوك الإنساني بكل أبعاده وتجلياته. والحق أن إدخال هذه النماذج إلى علم النفس بهدف إضفاء الموضوعية والدقة على الدراسات السيكولوجية هي إحدى المحاولات المبكرة في تاريخ علم النفس. وبفضلها مهد ليفين الطريق أمام ظهور أعمال أخرى تأخذ بالنموذج الرياضي، كما سوف نرى عند الحديث عن بياجيه وهال.
إن القيمة الإيجابية لنماذج ليفين الطبولوجية تنحصر في المجال الدافعي. وقد سبقت الإشارة إلى أهمية هذا المجال في الوقائع النفسية. فلا يمكن الحديث عن النشاط النفسي دون التسليم بدور دينامية الدوافع فيه. ولكن الدوافع ليست كل شيء في ذلك النشاط. إنه أعقد من أن نصفه أو نعرفه بها. فهو يحتوي ـ إضافة إلى البعد الدافعي(الدينامي = التوتر) ـ على البعد التوجهي(الصورة أو الشكل) والبعد التنفيذي(الفعل). وإن تناول السلوك الإنساني خارج إطار وحدة هذه الأبعاد وتكاملها وعلاقاتها الجدلية يعرض الباحث للوقوع في الذاتية.
وعلى الرغم من محاولة ليفين ربط بعض هذه الأبعاد في إنشاءاته النظرية ونماذجه الطبولوجية، وتقرير ما بينها من ارتباطات، كارتباط الدافع بالبنية المعرفية للبيئة، ووجد أن أي نقص في هذه البنية يؤثر سلباً على أفعال الإنسان ويجعلها فجة وفوضوية، فإن الأسئلة المتعلقة بنشأة البنية العقلية ودورها في استرجاع الواقع الموضوعي ومعرفته ظلت دون أن تلقى إجابة. فمخططه الذي لم تجد هذه الموضوعات مكاناً لها فيه بقي من غير تبديل أو تعديل حتى بعد أن تحول اهتمامه من الدافعية عند الفرد إلى دراسة دينامية الجماعة. وقام بتطبيق "المجال الدينامي" و"الحيز الحيوي" و"التوتر" وغيرها من المفاهيم على الارتباطات القائمة بين أفراد الجماعة الواحدة.
وترجع بدايات توجه ليفين نحو دراسة العلاقات السيكوسوسيولوجية إلى السنوات الأولى من العقد الرابع من القرن العشرين. وقد أسهمت هجرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1933 في تعزيز هذا التوجه وظهور موضوعات جديدة ضمن قائمة بحوثه. حيث واصل هناك عمله العلمي كأستاذ في جامعة ستانفورد لمدة عامين ثم في جامعة أيوا، وكمشرف على مركز دراسات دينامية الجماعة التابعة لمعهد ماساشوستس التكنولوجي بدءاً من عام 1944. وبعد وصوله إلى الولايات المتحدة بعامين نشر كتاباً تحت عنوان "النظرية الدينامية في الشخصية DYNAMIC THEORY OF PERSONALITY “ ـ 1935). وفي العام التالي نشر كتاباً آخر بعنوان "مبادئ علم النفس الطبولوجي ـ PRINCIPLES OF TOPOLOGICAL PSYCHOLOGY "(1936). ويعالج هذان الكتابان بصورة خاصة موضوعات القيادة وأساليبها وأنماط الصراع داخل الجماعة والمناخ النفسي وأثره في العلاقة بين أفراد الجماعة. كما يتضمنان طرائق ونماذج في البحث توصل من خلالها إلى استنتاجات قيمة على الصعيدين العلمي والعملي. فلقد وجد أن "جوهر الجماعة ليس في تشابه أفرادها أو اختلافهم، بل في ارتباطهم المتبادل. و يمكن أن توصف الجماعة بأنها كـ"مجال دينامي". وهذا يعني أن التغيرات التي تطرأ على وضع أحد أجزائها تؤدي إلى تغير في أي جزء آخر. وأن مستوى الارتباط المتبادل لأفراد الجماعة يتغير من الجمع المتنافر إلى الوحدة المتراصة COMPACT"(LEVIN. 1936. 54). بيد أنه لم يقصر هذه الاستنتاجات على الجماعات الصغيرة التي أخضعها إلى تجاربه، بل عممها على حركة المجتمع من منطلق أن الشروط المادية والعوامل النفسية التي تحدد العلاقة بين أفراد الجماعة وارتباطاتهم المتبادلة هي نفسها التي توجه المجتمع، وأن المجتمع، كالجماعة، ليس إلا "مجالاً دينامياً". فأي خلل يصيبه أو تغير يطرأ عليه هو نتيجة تفكك أو توتر أحد أجزائه. ويتوقف إصلاحه وإعادة اللحمة إليه على إزالة التوتر في ذلك الجزء. ويعني ذلك في نهاية التحليل أن إصلاح المجتمع يمر عبر تحسين علاقات الأفراد ضمن الجماعة، وإعادة تنظيم بنية المجالات الدينامية للجماعات.
إن تعميم نتائج دراسة دينامية الجماعة على المجتمع يتناقض مع مبدأ تبعية الجزء للكل الذي اعتمد عليه ليفين في أعماله الأولى. فالمجتمع ليس حاصل جمع المجالات الدينامية لأفراده، أو حاصل جمع سلسلة طويلة ومتشابكة من العلاقات المتبادلة بين هؤلاء الأفراد داخل الجماعات، وإنما هو ـ كمنظومة ـ يختلف اختلافاً نوعياً عن مجموع الشخصيات والجماعات من حيث عناصره المادية البشرية والثقافية والروحية والعلاقات التي تربطها بعضها ببعض. ومع أن لنشاط بعض الشخصيات أو الجماعات في مجال الإبداع العلمي أو الفني أو الفكري دوراً إيجابياً في حياة المجتمع، إلا أنه لا يرقى بقوته وفعاليته إلى مستوى تغيير بنية عناصره وطابع العلاقات القائمة بينها. في حين أن تغيير البنية الاجتماعية يقود ـ بالضرورة ـ إلى تغيير وضع الفرد والجماعة من خلال التغير التدريجي لعناصر المجتمع وعلاقاتها باعتبارها طرفاً ضرورياً في منظومة "الفرد ـ المجتمع" أو منظومة "الجماعة ـ المجتمع" وجزءاً هاماً من عناصرهما.
وفي منتصف العقد الخامس انضم ليفين إلى مجموعة من العلماء الذين توجهت جهودهم المشتركة تحت إشراف هـ.فينر نحو وضع مبادئ علم التحكم(السيبرنيطيقا CYBERNETICS).
وقد دفعته إلى ذلك رغبته الشديدة بالتعرف على حقيقة السلوك الإنساني والتحكم به، وأمله في تدعيم نظريته، وإغناء تصوراته عن "المجال الدينامي"، و"النموذج الطوبولوجي" بمعطيات العلم الجديد.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح