إن الفصل بين العقل والوظائف النفسية الأخرى على نحو ما فعل أرسطو ما هو في نهاية التحليل سوى فصل ما هو خالد عمّا هو فان. وهذا أمر يعيده إلى موقع معلمه الذي ألح على ضرورة التفريق بين النفس والجسد، وأكد على خلود الأول وفناء الثاني.
لم تكن الثنائية فكرة مشتركة لدى الفلاسفة اليونانيين. فقد عرف الفكر اليوناني مجموعة من الفلاسفة الذين عارضوا سقراط وأفلاطون وأرسطو فيما يتعلق بمسألة النفس والجسد وجوهر العلاقة بينهما. ويأتي في مقدمتهم هيروقليطس(القرن السادس ق. م) وديمقريطس(القرن الخامس ق. م).
يرى كل من هيروقليطس وديمقريطس أن النفس تتألف من ذرات نارية، تخضع في ظهورها وتبدلها إلى نفس القوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية والاجتماعية. وبذا يدخل هذان المفكران الحياة النفسية ضمن المسار الشامل للظواهر والعمليات الكونية. وتتوضح هذه النظرة إلى النفس من خلال موقف الفيلسوفين من العلاقة بين النمو النفسي والتعليم. فقد أكد ديمقريطس على أن خصائص الشخصية والقدرات المعرفية تكتسب عن طريق التعلم. وفي هذا المعنى يقول: "إنّ من غير الممكن الوصول إلى الفن والحكمة، إذا لم يتمّ تعلمهما.(بيسكونوف، 1981، 9).
كما اعتقد ديمقريطس بأن النشاط شرط أساسي لتعلّم القواعد والموسيقا والحكمة، وبالجملة لنمو الإنسان نمواً كاملاً ومتكاملاً. يقول: "فالناس يصبحون جيّدين بالتدريب أكثر ممّا يصبحون عن طريق الطبيعة".(بيسكونوف،
1981، 10).
لقد اعتمد كل من هيروقليطس وديمقريطس في تصوراتهما على النجاحات التي حققها الفكر الإنساني بصدد بنية الكائن الحي والوظائف التي تؤديها أعضاؤه. ففي القرن السادس قبل الميلاد وجد الطبيب اليوناني ألكميون- ولأول مرة في التاريخ- أن الدماغ هو عضو النفس.
ووقف الطبيب والفيلسوف هيبوقريطس على أن الظواهر النفسية مرتبطة بالعضوية ارتباطاً مباشراً. فقد تصور أن الجسم البشري مؤلف من عناصر أربعة: الدم والصفراء والبلغم والسوداء. وأن هذه العناصر توجد بنسبٍ متفاوتةٍ. ويطبع العنصر الغالب شخصية الإنسان بطابعه.
وعلى هذا الأساس صنف هيبوقريطس الناس في أربعة أنماط أو طرز: الدموي والصفراوي والبلغمي السوداوي. فكل نمطٍ من هذه الأنماط يتسم بصفات جسدية وخصائص نفسية محددة. وقد احتفظ هذا التصنيف بقيمته العلمية حتى يومنا هذا، على الرغم من ظهور العديد من التصنيفات في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
وهكذا فالمنجزات الضخمة الأولى على طريق الفهم العلمي للنفس البشرية جاءت نتيجةً حتمية لتأكيد أصحابها على خضوع النشاط النفسي لقوانين معينة، شأنها شأن الظواهر الأخرى في المجتمع والطبيعة، وكذا ارتباطها بالبناء العضوي لجسم الإنسان. إلا أن اعتماد هؤلاء المفكرين على الشروط المادية لم يمكنهم من معرفة طبيعة التفكير المجرد وتفسير ظهور وتطور المثل والقيم الروحية والأخلاقية والجمالية والاجتماعية عند الإنسان.
ب-مدرسة الإسكندرية الطبية وغالينوس:
وفي القرن الثالث قبل الميلاد عرفت البحوث والدراسات التجريبية تطوراً كبيراً، ولا سيما في مجال العلوم الطبيعة والفيزيولوجيا، الأمر الذي أدت إلى وضع تصورات متقدمة حول النفس والصلة القائمة بين مظاهرها وأوجه نشاطها من جهة وبنية الجسم ووظائف أعضائه من جهة ثانية. فقد كشفت مجموعة أطباء الإسكندرية بإشراف هيروفيل وايراز سترات عن الأعصاب ودور النسيج العصبي في أفعال الإنسان ومواقفه إزاء العالم الخارجي. ودرست المجموعة علاقة الوظائف النفسية(الحس والإدراك) والحركات بتلافيف المخ. وأكد هؤلاء الأطباء على وجود علاقة وثيقة بين النفس وبعض أعضاء الجسم(الدماغ والأنسجة العصبية) فقط، خلافاً لما كان شائعاً في تلك الفترة من أن العلاقة هي علاقة النفس بالجسد ككل.
أما في القرن الثاني قبل الميلاد فقد قام الطبيب الروماني غالينوس بتعميم المنجزات العلمية في ميدان الطب ووظائف الأعضاء وأثرى الأفكار التي كانت سائدة في عصره حول الأساس الفيزيولوجي للنفس؛ حيث ربط الجانب النفسي بالبناء العضوي لجسم الإنسان. وبذا يكون غالينوس قد اقترب من أحد عناصر الوعي.
لقد ميز غالينوس ثلاثة مستويات أو أنواع للروح، وهي: الروح النفسي ومركزه الدماغ والأعصاب، والروح الحيواني ومركزه القلب والشرايين، والروح الطبيعي ومركزه الكبد والعروق. ومن خلال ذلك أشار إلى وجود نوعين من الحركات عند الإنسان: الحركات الإرادية التي تشارك فيها العمليات النفسية كالإدراك والانتباه والتذكر والتفكير، والحركات غير الإرادية التي تصدر عن الإنسان دون تدخل الشعور أو الوعي، كما هو الحال أثناء النوم مثلاً.
ج. الفكر السيكولوجي في الفلسفة العربية-الإسلامية:
وفي ظل الحضارة العربية –الإسلامية لمعت أسماء كثيرة من المفكرين والعلماء في دنيا المعرفة وكان لأصحابها فضل كبير في حفظ التراث الفكري الإنساني وترجمته ورفده بالعديد من المعطيات الجديدة الأصلية، مما اعتبره المؤرخون مقدمة أساسية من مقدمات النهضة الأوربية.
ومن بين هؤلاء المفكرين والعلماء نذكر على وجه الخصوص الكندي والفارابي وابن سينا وابن الهيثم وابن خلدون وابن رشد وابن طفيل.
لقد حظيت مسألة النفس بقسطٍ وافرٍ من اهتمام الكندي، وأفرد لها عدداً من مؤلفاته الكثيرة( ).
يرى الكندي(801-866م) إن النفس مباينة للجسد، منفردة عنه بنية ووظيفة ومآلاً.
فهي جزء من الجوهر الإلهي الروحاني، تسكن البدن بعد الولادة لتقف على ما يقوم به، وتقوم زلات الإنسان وأخطاءه التي تدفعه إلى الوقوع فيها قوة الشهوة أو قوة الغضب. يقول الكندي في هذا الصدد: "وذلك أن القوة الغضبية قد تتحرك على الإنسان في بعض الأوقات، فتحمله على ارتكاب الأمر العظيم، فتضادها هذه النفس، وتمنع الغضب من أن يفعل فعله، أو أن يرتكب الغيظ وتوتره، وتضبطه كمل يضبط الفارس الفرس، إذا همَّ أن يجمح به أو يمده"(قمير، 1982، 61، 62). ويقول في هذا السياق: "فأما القوة الشهوانية فقد تتوق في بعض الأوقات إلى بعض الشهوات، فتفكر النفس العقلية في أنه خطأ... فتمنعها عن ذلك وتضادها"(قمير، 1982، 62).
والتفاعل بين الإنسان ومحيطه يتم –حسب ما يرى الكندي- على ثلاثة مستويات: الإدراك الحسي، وتتولى القيام به الحواس الخمس. والمصورة أو المتوهمة، التي تقوم بوظيفة التصور، أي الاحتفاظ بصور الأشياء والموضوعات بعد إدراكها وأثناء غيابها من جهة، ووظيفة تخيل هذه الصور وتركيبها من جهة ثانية. وأخيراً العقل الذي يتولى معرفة الظواهر والحوادث وجواهرها على نحو أعمق وأشمل مما تقوم به النفس في المستويين السابقين.
ويلاحظ مدى تأثر الكندي بآراء الفلاسفة اليونانيين القدماء، ومنهم أفلاطون وأرسطو بشكل خاص. وهذا ما نلمسه أيضاً لدى الإطلاع على موقفه من النفس ومصيرها. فالكندي يجد أن الموت يلحق بالبدن وحده دون النفس، ذلك لأن النفس –عنده- جوهر شبيه بجوهر الباري عز وجل. فهي تتحول حالما تفارق البدن إلى "... عالم العقل فوق الفلك..." لتصير عالمة بكل شيء، وتصير "الأشياء كلها بارزة لها كمثل ما هي بارزة للباري عز وجل".(قمير، 1982، 17).
ولعلنا نجد موقفاً شبيهاً بموقف الكندي ونظريته في الإنسان والمعرفة عند الفارابي(870-950م). فقد ذهب هذا الفيلسوف إلى القول بأن النفس الإنسانية وجدت بطريقة الفيض. وهي تسكن البدن بعد ولادة الإنسان. ولا تفنى أو تموت بعد موته، وإنما ترجع إلى الله ليثيبها على ما قدّمت ويعاقبها على ما أخرت.
وتشمل النفس عند الفارابي خمس قوى متعاقبة من حيث وجودها الزماني وأهميتها، وهي: القوة الغاذية، والقوة الحاسة، والقوة النزوعية والقوة المتخلية، والقوة الناطقة. وتتركب كل واحدة من هذه القوى من قوة رئيسية واحدة، وقوى أخرى ثانوية تعمل لمصلحتها، باستثناء القوة الناطقة التي لا تتفرع عنها أية قوة، لأنها قوة رئيسية بين سائر قوى النفس. فالقلب يقوم بوظيفة التغذية الرئيسية، بينما تناط بأعضاء الجسد الأخرى كالمعدة والكبد والطحال وسواها الوظائف الثانوية في التغذية. وهي، إذ تقوم بهذه الوظائف، إنما ترفد بذلك القوة الغاذية الرئيسية.
وتتولى الحواس الخمس المعروفة إدراك العالم الخارجي وإمداد القوة الرئيسية(الحس المشترك) بالأخبار والمعلومات عن العالم الخارجي. فكل عضو من أعضاء الحس الخمسة يقوم بدور ثانوي أو بوظيفة فرعية تخدم الوظيفة الرئيسية التي يتولى القلب أداءها. وهكذا بالنسبة للقوة المتخيلة.
وما ينبغي ملاحظته في تقسيم الفارابي لقوى النفس هو اهتمامه بالجانب الانفعالي والإرادي وعلاقته بالجانب المعرفي في السلوك الإنساني. ومع أن الفلاسفة الذين سبقوا الفارابي قد تعرضوا إلى موضوع الانفعال إلا أنهم لم يتبينوا علاقته بالعمليات المعرفية وتأثيره عليها وتأثره بها.
لقد نظر الفارابي إلى الإرادة بوصفها المحرك الذي يدفع الإنسان إلى المعرفة، على اختلاف درجاتها. كتب في مدينته الفاضلة يقول: "والقوى النزوعية وهي التي تشتاق إلى الشيء وتكرهه... وهذه القوى هي التي بها تكون الإرادة. فإن الإرادة هي نزوع إلى ما أدرك، وعن ما أدرك، إما بالحس، وإما بالتخيل، وإما بالقوة الناطقة، وحكم فيه أنه ينبغي أن يؤخذ أو يترك. والنزوع قد يكون إلى علم شيء ما، وقد يكون إلى عمل شيء ما، وعلم الشيء قد يكون بالقوة الناطقة، وقد يكون بالإحساس".(قمير، 1983، 63-64).
وتبرز مقارنة رأي الفارابي بآراء سابقيه من الفلاسفة في النفس الأثر الكبير الذي تركه كل من أرسطو وأفلاطون بصورةٍ خاصة على موقفه ونظرته. ولكنّ ذلك يجب أن لا يدفع الباحث إلى إنكار الجهد الذي بذله الفارابي في نقل تعاليم هذين الفيلسوفين وترجمتها إلى اللغة العربية من ناحية، وتطويرها في اتجاهات شتى بالقدر الذي كانت تسمح به وسائل البحث وأدواته في ذلك العصر من ناحية ثانية.
لقد مهد نشاط الفارابي الفكري السبيل أمام ظهور أفكار عظيمة أكثر نضجاً في ميدان علم النفس ووفرت أعماله كثيراً من الوقت والجهد على من جاء بعده ممّا يمكن اعتباره بحق شرطاً من شروط نشوء علم النفس السينوي. هذا ما يعترف به ابن سينا ذاته عبر الحديث عن الصعوبات التي لاقاها في فهم كتاب "ما بعد الطبيعة" لأرسطو. وحسب روايته فقد قرأ هذا المؤلف أربعين مرةً، دون أن يتمكن من الوقوف على أغراضه، وأنه عثر بعد ذلك وبالصدفة على كتاب الفارابي "أغراض ما بعد الطبيعة"، فاطلع عليه واستوعب مضمونه وأدرك غاياته. (نجاتي، 1980، ص 31).
انطلق ابن سينا(980-1037م) من نظرته الثنائية إلى الإنسان، حيث وجد أن النفس تختلف جوهرياً عن الجسد. ولما كانت –حسب رأيه- جزءاً من العالم العلوي، على العكس من الجسد الذي يتكون من العناصر الأربعة(التراب والماء والنار والهواء)، فإنها تتحد به عقب الولادة، وتفارقه بعد الموت لتعود إلى الباري عزّ وجلّ فتحاسب على ما فعلت أثناء وجودها على الأرض. فهي، من هذا المنظور، صورة الجسد، وذات آلة به، ولكنها لا تفسد بفساده، ولا يغيّر موته جوهرها، وإنما تبقى كسائر الجواهر الخالدة.
بوح الروح
لم تكن الثنائية فكرة مشتركة لدى الفلاسفة اليونانيين. فقد عرف الفكر اليوناني مجموعة من الفلاسفة الذين عارضوا سقراط وأفلاطون وأرسطو فيما يتعلق بمسألة النفس والجسد وجوهر العلاقة بينهما. ويأتي في مقدمتهم هيروقليطس(القرن السادس ق. م) وديمقريطس(القرن الخامس ق. م).
يرى كل من هيروقليطس وديمقريطس أن النفس تتألف من ذرات نارية، تخضع في ظهورها وتبدلها إلى نفس القوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية والاجتماعية. وبذا يدخل هذان المفكران الحياة النفسية ضمن المسار الشامل للظواهر والعمليات الكونية. وتتوضح هذه النظرة إلى النفس من خلال موقف الفيلسوفين من العلاقة بين النمو النفسي والتعليم. فقد أكد ديمقريطس على أن خصائص الشخصية والقدرات المعرفية تكتسب عن طريق التعلم. وفي هذا المعنى يقول: "إنّ من غير الممكن الوصول إلى الفن والحكمة، إذا لم يتمّ تعلمهما.(بيسكونوف، 1981، 9).
كما اعتقد ديمقريطس بأن النشاط شرط أساسي لتعلّم القواعد والموسيقا والحكمة، وبالجملة لنمو الإنسان نمواً كاملاً ومتكاملاً. يقول: "فالناس يصبحون جيّدين بالتدريب أكثر ممّا يصبحون عن طريق الطبيعة".(بيسكونوف،
1981، 10).
لقد اعتمد كل من هيروقليطس وديمقريطس في تصوراتهما على النجاحات التي حققها الفكر الإنساني بصدد بنية الكائن الحي والوظائف التي تؤديها أعضاؤه. ففي القرن السادس قبل الميلاد وجد الطبيب اليوناني ألكميون- ولأول مرة في التاريخ- أن الدماغ هو عضو النفس.
ووقف الطبيب والفيلسوف هيبوقريطس على أن الظواهر النفسية مرتبطة بالعضوية ارتباطاً مباشراً. فقد تصور أن الجسم البشري مؤلف من عناصر أربعة: الدم والصفراء والبلغم والسوداء. وأن هذه العناصر توجد بنسبٍ متفاوتةٍ. ويطبع العنصر الغالب شخصية الإنسان بطابعه.
وعلى هذا الأساس صنف هيبوقريطس الناس في أربعة أنماط أو طرز: الدموي والصفراوي والبلغمي السوداوي. فكل نمطٍ من هذه الأنماط يتسم بصفات جسدية وخصائص نفسية محددة. وقد احتفظ هذا التصنيف بقيمته العلمية حتى يومنا هذا، على الرغم من ظهور العديد من التصنيفات في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
وهكذا فالمنجزات الضخمة الأولى على طريق الفهم العلمي للنفس البشرية جاءت نتيجةً حتمية لتأكيد أصحابها على خضوع النشاط النفسي لقوانين معينة، شأنها شأن الظواهر الأخرى في المجتمع والطبيعة، وكذا ارتباطها بالبناء العضوي لجسم الإنسان. إلا أن اعتماد هؤلاء المفكرين على الشروط المادية لم يمكنهم من معرفة طبيعة التفكير المجرد وتفسير ظهور وتطور المثل والقيم الروحية والأخلاقية والجمالية والاجتماعية عند الإنسان.
ب-مدرسة الإسكندرية الطبية وغالينوس:
وفي القرن الثالث قبل الميلاد عرفت البحوث والدراسات التجريبية تطوراً كبيراً، ولا سيما في مجال العلوم الطبيعة والفيزيولوجيا، الأمر الذي أدت إلى وضع تصورات متقدمة حول النفس والصلة القائمة بين مظاهرها وأوجه نشاطها من جهة وبنية الجسم ووظائف أعضائه من جهة ثانية. فقد كشفت مجموعة أطباء الإسكندرية بإشراف هيروفيل وايراز سترات عن الأعصاب ودور النسيج العصبي في أفعال الإنسان ومواقفه إزاء العالم الخارجي. ودرست المجموعة علاقة الوظائف النفسية(الحس والإدراك) والحركات بتلافيف المخ. وأكد هؤلاء الأطباء على وجود علاقة وثيقة بين النفس وبعض أعضاء الجسم(الدماغ والأنسجة العصبية) فقط، خلافاً لما كان شائعاً في تلك الفترة من أن العلاقة هي علاقة النفس بالجسد ككل.
أما في القرن الثاني قبل الميلاد فقد قام الطبيب الروماني غالينوس بتعميم المنجزات العلمية في ميدان الطب ووظائف الأعضاء وأثرى الأفكار التي كانت سائدة في عصره حول الأساس الفيزيولوجي للنفس؛ حيث ربط الجانب النفسي بالبناء العضوي لجسم الإنسان. وبذا يكون غالينوس قد اقترب من أحد عناصر الوعي.
لقد ميز غالينوس ثلاثة مستويات أو أنواع للروح، وهي: الروح النفسي ومركزه الدماغ والأعصاب، والروح الحيواني ومركزه القلب والشرايين، والروح الطبيعي ومركزه الكبد والعروق. ومن خلال ذلك أشار إلى وجود نوعين من الحركات عند الإنسان: الحركات الإرادية التي تشارك فيها العمليات النفسية كالإدراك والانتباه والتذكر والتفكير، والحركات غير الإرادية التي تصدر عن الإنسان دون تدخل الشعور أو الوعي، كما هو الحال أثناء النوم مثلاً.
ج. الفكر السيكولوجي في الفلسفة العربية-الإسلامية:
وفي ظل الحضارة العربية –الإسلامية لمعت أسماء كثيرة من المفكرين والعلماء في دنيا المعرفة وكان لأصحابها فضل كبير في حفظ التراث الفكري الإنساني وترجمته ورفده بالعديد من المعطيات الجديدة الأصلية، مما اعتبره المؤرخون مقدمة أساسية من مقدمات النهضة الأوربية.
ومن بين هؤلاء المفكرين والعلماء نذكر على وجه الخصوص الكندي والفارابي وابن سينا وابن الهيثم وابن خلدون وابن رشد وابن طفيل.
لقد حظيت مسألة النفس بقسطٍ وافرٍ من اهتمام الكندي، وأفرد لها عدداً من مؤلفاته الكثيرة( ).
يرى الكندي(801-866م) إن النفس مباينة للجسد، منفردة عنه بنية ووظيفة ومآلاً.
فهي جزء من الجوهر الإلهي الروحاني، تسكن البدن بعد الولادة لتقف على ما يقوم به، وتقوم زلات الإنسان وأخطاءه التي تدفعه إلى الوقوع فيها قوة الشهوة أو قوة الغضب. يقول الكندي في هذا الصدد: "وذلك أن القوة الغضبية قد تتحرك على الإنسان في بعض الأوقات، فتحمله على ارتكاب الأمر العظيم، فتضادها هذه النفس، وتمنع الغضب من أن يفعل فعله، أو أن يرتكب الغيظ وتوتره، وتضبطه كمل يضبط الفارس الفرس، إذا همَّ أن يجمح به أو يمده"(قمير، 1982، 61، 62). ويقول في هذا السياق: "فأما القوة الشهوانية فقد تتوق في بعض الأوقات إلى بعض الشهوات، فتفكر النفس العقلية في أنه خطأ... فتمنعها عن ذلك وتضادها"(قمير، 1982، 62).
والتفاعل بين الإنسان ومحيطه يتم –حسب ما يرى الكندي- على ثلاثة مستويات: الإدراك الحسي، وتتولى القيام به الحواس الخمس. والمصورة أو المتوهمة، التي تقوم بوظيفة التصور، أي الاحتفاظ بصور الأشياء والموضوعات بعد إدراكها وأثناء غيابها من جهة، ووظيفة تخيل هذه الصور وتركيبها من جهة ثانية. وأخيراً العقل الذي يتولى معرفة الظواهر والحوادث وجواهرها على نحو أعمق وأشمل مما تقوم به النفس في المستويين السابقين.
ويلاحظ مدى تأثر الكندي بآراء الفلاسفة اليونانيين القدماء، ومنهم أفلاطون وأرسطو بشكل خاص. وهذا ما نلمسه أيضاً لدى الإطلاع على موقفه من النفس ومصيرها. فالكندي يجد أن الموت يلحق بالبدن وحده دون النفس، ذلك لأن النفس –عنده- جوهر شبيه بجوهر الباري عز وجل. فهي تتحول حالما تفارق البدن إلى "... عالم العقل فوق الفلك..." لتصير عالمة بكل شيء، وتصير "الأشياء كلها بارزة لها كمثل ما هي بارزة للباري عز وجل".(قمير، 1982، 17).
ولعلنا نجد موقفاً شبيهاً بموقف الكندي ونظريته في الإنسان والمعرفة عند الفارابي(870-950م). فقد ذهب هذا الفيلسوف إلى القول بأن النفس الإنسانية وجدت بطريقة الفيض. وهي تسكن البدن بعد ولادة الإنسان. ولا تفنى أو تموت بعد موته، وإنما ترجع إلى الله ليثيبها على ما قدّمت ويعاقبها على ما أخرت.
وتشمل النفس عند الفارابي خمس قوى متعاقبة من حيث وجودها الزماني وأهميتها، وهي: القوة الغاذية، والقوة الحاسة، والقوة النزوعية والقوة المتخلية، والقوة الناطقة. وتتركب كل واحدة من هذه القوى من قوة رئيسية واحدة، وقوى أخرى ثانوية تعمل لمصلحتها، باستثناء القوة الناطقة التي لا تتفرع عنها أية قوة، لأنها قوة رئيسية بين سائر قوى النفس. فالقلب يقوم بوظيفة التغذية الرئيسية، بينما تناط بأعضاء الجسد الأخرى كالمعدة والكبد والطحال وسواها الوظائف الثانوية في التغذية. وهي، إذ تقوم بهذه الوظائف، إنما ترفد بذلك القوة الغاذية الرئيسية.
وتتولى الحواس الخمس المعروفة إدراك العالم الخارجي وإمداد القوة الرئيسية(الحس المشترك) بالأخبار والمعلومات عن العالم الخارجي. فكل عضو من أعضاء الحس الخمسة يقوم بدور ثانوي أو بوظيفة فرعية تخدم الوظيفة الرئيسية التي يتولى القلب أداءها. وهكذا بالنسبة للقوة المتخيلة.
وما ينبغي ملاحظته في تقسيم الفارابي لقوى النفس هو اهتمامه بالجانب الانفعالي والإرادي وعلاقته بالجانب المعرفي في السلوك الإنساني. ومع أن الفلاسفة الذين سبقوا الفارابي قد تعرضوا إلى موضوع الانفعال إلا أنهم لم يتبينوا علاقته بالعمليات المعرفية وتأثيره عليها وتأثره بها.
لقد نظر الفارابي إلى الإرادة بوصفها المحرك الذي يدفع الإنسان إلى المعرفة، على اختلاف درجاتها. كتب في مدينته الفاضلة يقول: "والقوى النزوعية وهي التي تشتاق إلى الشيء وتكرهه... وهذه القوى هي التي بها تكون الإرادة. فإن الإرادة هي نزوع إلى ما أدرك، وعن ما أدرك، إما بالحس، وإما بالتخيل، وإما بالقوة الناطقة، وحكم فيه أنه ينبغي أن يؤخذ أو يترك. والنزوع قد يكون إلى علم شيء ما، وقد يكون إلى عمل شيء ما، وعلم الشيء قد يكون بالقوة الناطقة، وقد يكون بالإحساس".(قمير، 1983، 63-64).
وتبرز مقارنة رأي الفارابي بآراء سابقيه من الفلاسفة في النفس الأثر الكبير الذي تركه كل من أرسطو وأفلاطون بصورةٍ خاصة على موقفه ونظرته. ولكنّ ذلك يجب أن لا يدفع الباحث إلى إنكار الجهد الذي بذله الفارابي في نقل تعاليم هذين الفيلسوفين وترجمتها إلى اللغة العربية من ناحية، وتطويرها في اتجاهات شتى بالقدر الذي كانت تسمح به وسائل البحث وأدواته في ذلك العصر من ناحية ثانية.
لقد مهد نشاط الفارابي الفكري السبيل أمام ظهور أفكار عظيمة أكثر نضجاً في ميدان علم النفس ووفرت أعماله كثيراً من الوقت والجهد على من جاء بعده ممّا يمكن اعتباره بحق شرطاً من شروط نشوء علم النفس السينوي. هذا ما يعترف به ابن سينا ذاته عبر الحديث عن الصعوبات التي لاقاها في فهم كتاب "ما بعد الطبيعة" لأرسطو. وحسب روايته فقد قرأ هذا المؤلف أربعين مرةً، دون أن يتمكن من الوقوف على أغراضه، وأنه عثر بعد ذلك وبالصدفة على كتاب الفارابي "أغراض ما بعد الطبيعة"، فاطلع عليه واستوعب مضمونه وأدرك غاياته. (نجاتي، 1980، ص 31).
انطلق ابن سينا(980-1037م) من نظرته الثنائية إلى الإنسان، حيث وجد أن النفس تختلف جوهرياً عن الجسد. ولما كانت –حسب رأيه- جزءاً من العالم العلوي، على العكس من الجسد الذي يتكون من العناصر الأربعة(التراب والماء والنار والهواء)، فإنها تتحد به عقب الولادة، وتفارقه بعد الموت لتعود إلى الباري عزّ وجلّ فتحاسب على ما فعلت أثناء وجودها على الأرض. فهي، من هذا المنظور، صورة الجسد، وذات آلة به، ولكنها لا تفسد بفساده، ولا يغيّر موته جوهرها، وإنما تبقى كسائر الجواهر الخالدة.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح