ولقد كرس ابن سينا عدداً من رسائله لإيضاح موقفه من النفس وعلاقتها بالبدن، وأصلها ومصيرها. ولعلَّ أهم ما وصل إلينا من تراثه في هذا المجال "رسالة الطير" و "سلامان وأبسال" و "حي بن يقظان" وقصيدته العينية المشهورة التي يستهلها بقوله:
"هبطت إليك من المحلّ الأرفع
ورقاء ذات تعزّزٍ وتمنّع"
"محجوبة عن كل مقلة عارفٍ
وهي التي سفرت، ولم تتبرقع"
وصلت على كره إليك، وربّما
كرهت فراقك، وهي ذات تفجّع
"(زيعور، 1980، 67).
وهكذا أبقى ابن سينا على الثنائية التي ميّزت نظريات الفلاسفة السابقين أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو والكندي والفارابي.
على أن هذا الجانب الميتافيزيائي لا يمثل إلا جزءاً من علم النفس السينوي. فالإحاطة بتعاليم ابن سينا السيكولوجية تقتضي الرجوع إلى جميع أعماله، والإطلاع على ما تتضمنه فصولها من آراء في وظائف النفس ونشاطها.
وأول ما تجدر الإشارة إليه هو أن الإنسان كان بالنسبة لابن سينا –موضوعاً رئيسياً أولى معرفة أبعاده جلّ اهتمامه وأنفق في سبيله وقتاً طويلاً وجهداً عظيماً، وخصص له عدداً من مؤلفاته. وإن قراءة متأنية لما وصل إلينا من هذه المؤلفات تعرف الباحث على مراحل تطور فكر ابن سينا عامة، وما يميز نظريته في النفس من ترابط في المفاهيم والأفكار ودقة في البسط والتفسير والتعليل ممّا يعكس سعة إطلاع هذا المفكر الكبير وحدة ذهنه وقوة إرادته.
اعتمد ابن سينا على التراث الفلسفي اليوناني والهندي والفارسي والعربي-الإسلامي، اعتماده على معطيات الطب والتشريح. وقد ساعده توظيف هذه المعطيات وذاك التراث توظيفاً مبدعاً، إلى جانب خبرته وتجاربه وملاحظته العلمية الدقيقة، في صياغة نظريته السيكولوجية على نحو متناسق ومنتظم جعلها تفوق جميع ما سبقها من نظريات دقّةً وشموليةً.
ينظر ابن سينا إلى النفس من خلال مستويات ثلاثة: المستوى النباتي والمستوى الحيواني والمستوى الإنساني. وكلّ مستوى من هذه المستويات يتولى القيام بوظائف معينة. فالمستوى النباتي من النفس يقوم بوظائف التغذية والنمو والتكاثر وهو ما نجده عند النبات والحيوان والإنسان. وتقوم النفس الحيوانية بوظائف الإحساس والتخيل والحركة التي نجدها عند الإنسان والحيوان. أما المستوى الإنساني ووظيفته العقل، فهو يخص الإنسان وحده. ويشبه هذا التصنيف التصنيف الذي قدمه أرسطو. وهذا ما يحمل على الاعتقاد بأن ابن سينا تأثر بأرسطو في وضع هذه الحدود العريضة للنفس. غير أن الدخول في تفصيلاتها الدقيقة يضعنا أمام تباين وجهتي نظرهما. صحيح أن كلاً منهما تحدث عن وجود إدراك ظاهري تقوم به الحواس الخمس الخارجية وإدراك باطني تقوم به حواس داخلية، وأن أرسطو تحدث عن ثلاث من هذه الحواس(الحس المشترك والذاكرة والتخيل)، ولكنّ ابن سينا يضيف إليها حاستين أخريين. وهما: المصورة والوهم.
وزيادة على ذلك فإن ابن سينا قدم وصفاً متقدماً لآليات الإحساس الظاهري وشروطه الداخلية(العصبية) والخارجية(الصفات الفيزيائية والكيميائية للأشياء) متجاوزاً تعاليم المفكرين القدماء الذين درسوا الوظائف النفسيّة دون أن يربطوها بالعمليات العصبية التي تتم أثناء تفاعل الإنسان أو الحيوان مع الوسط الخارجي، لاعتقادهم باستقلالية كلّ من المجالين: النفسي والفيزيولوجي وعدم وجود علاقة تربط أحدهما بالآخر. كتب ابن سينا في هذا الشأن يقول: "... قال قوم من الأوائل إن المحسوسات قد يجوز أن تحس بها النفس بلا واسطة آلية ولا آلات. أما الوسائط فمثل الهواء للإبصار. وأما الآلات فمثل العين للإبصار. وقد بعدوا عن الحق. فإنه لو كان الإحساس يقع للنفس بذاتها من غير هذه الآلات، لكانت هذه الآلات معطلة في الخلقة لا ينتفع بها. وأيضاً فإن النفس إذا كانت غير جسم عندهم ولا ذات وضع، فيستحيل أن يكون بعض الأجسام قريباً منها ومتجهاً إليها فيحس، وبعضها بعيداً عنها محتجباً منها فلا يحس...".(ج1، الشفاء، 298).
وتتجسد نظرة ابن سينا المبدئية إلى العلاقة بين النفس والجسد بصورة واضحة عبر دراسته للجانب الوجداني من النفس البشرية. فقد حاول التعرف على السبب النفسي للضعف العضوي الذي كان يعاني منه أحد الفتيان من خلال إسماعه مجموعة من الكلمات، وتحديد ما يثيره منها بالاعتماد على تغيّر نبضات القلب وتبدلها كرد فعل تقوم به العضوية على مثيرات العالم الخارجي. وتعدّ هذه التجربة أول محاولة للتشخيص النفسي في تاريخ الفكر الإنساني. حيث سبق ابن سينا بها محاولات علماء النفس في العصر الحديث لوضع اختبارات تمكنهم من الكشف عن الجوانب الانفعالية والوجدانية لدى الإنسان("كاشف الكذب" مثلاً) بعدّة قرون.
ولعل من اليسير أن يقف المؤرخ الموضوعي للفكر السيكولوجي على عدد من الوقائع الصريحة والأدلة الثابتة التي تجعله ينظر إلى ابن سينا باعتباره رائداً من رواد هذا الميدان المعرفي.
فهناك، للمثال، تجربة أخرى أجراها ابن سينا لإبراز أثر الحالة النفسية(الانفعال) في حياة الحيوانات والإنسان. وتتلخص هذه التجربة في مقارنة الوضع النفسي لخروفين كان يقدم لهما نفس الغذاء من حيث الكمية والنوعية. ولكنّه وضع أحدهما في شروط عادية آمنة، بينما وضع الثاني قبالة ذئب. وبصرف النظر عن شروط التغذية المتشابهة فإنّ صحة الخروف الثاني كانت تتدهور بصورة ملحوظة حتى هلك.
من هنا يتجلى اهتمام ابن سينا بالعلاقة بين مظاهر النفس وتجلياتها المختلفة من جهة، وبالبيئة من جهة ثانية. فدور التربية –عنده- لا يقتصر على النمو الجسمي عند الفرد فحسب، وإنما يشمل الخصائص النفسية أيضاً. ذلك لأن النفس تؤثر على البنية الثابتة للعضوية. فمواقف الإنسان ومشاعره نحو العالم الخارجي تغير مجرى العمليات الفيزيولوجية لديه. ووجودها لا يحدث بشكل عفوي أو تلقائي، وإنما هو –في نظر ابن سينا- نتيجة تأثير الآخرين عليه خلال مراحل حياته المتعاقبة.(ياروشيفسكي، 1985، 95).
لقد دفع مبدأ وحدة العمليات النفسية والعمليات الجسمية ابن سينا للبحث في مركبات الجهاز العصبي باعتباره مصدر الإحساس والإدراك عند الإنسان والحيوان. وقد مكّنه ذلك من تطوير الأفكار المتعلقة بوظيفة الدماغ وعمل الأعصاب، والتصورات التي كانت سائدة آنذاك حول النشاط الحسي وتصنيف الحواس حسب أهميتها وفائدتها في المعرفة الحسية على وجه الخصوص. واقترب بها في بعض المواضع من المعطيات العلمية الحديثة. فمتابعته لموضوع الحواس بدءاً من مؤلّفه "مبحث عن القوى النفسانية" حتى كتابه "الشفاء" تعكس، دون شك، دأب العالم واهتمامه بمادة بحثه وحرصه على الوصول إلى أحكام دقيقة بشأنها. مثلما هو دليل على إسهامه في تطوير هذا الباب من الفكر ودفعه إلى الأمام.
ويلاحظ الدكتور محمد عثمان نجاتي في هذا الشأن أن فكر ابن سينا في مرحلة الشباب هو، في غالب الأحيان، محاكاة لتعاليم أرسطو وتقديم لها، ولذا فإنه يحيل القارئ إلى ما كتبه ابن سينا في مراحل لاحقة من حياته ليجد ما يعبر من خلاله عن آرائه الخاصة وفكره الأصيل(نجاتي، 1980، 86). فابن سينا على سبيل المثال، يرى في المرحلة الأولى أن "اللحم متوسط بين القوى اللامسة وبين الكيفية الملموسة"(نجاتي، 1980، 86). ولكنه يعود في "الشفاء" ليقرر "أن عضو حاسة اللمس هو اللحم والجلد المحيطان بالبدن والعصب المنتشر فيهما"(نجاتي، 1980، 87).
ولم تقتصر إعادة نظر ابن سينا في رأيه بالجهاز العصبي على تفسير عمل الحواس الخمس فقط، وإنما شملت كذلك دراسته للوظائف الحسية الباطنية بصورة أكثر موضوعية. فقد ربط هذا الجانب من النفس الحيوانية(الحس المشترك والمصورة والذاكرة والوهم والمتخيلة) بمناطق محددة من الدماغ. وهكذا صار الحس المشترك يقع في أول التجويف المقدم من الدماغ، والمصورة في آخر التجويف المقدم، والمتخيلة في أول التجويف الأوسط، والوهم في نهاية التجويف الأوسط، والذاكرة في التجويف المؤخر.(نجاتي، 1980، 29-144).
وعلى الرغم من الأخطاء التي وقع فيها ابن سينا لدى تحديده لأجزاء البدن المسؤولة عن الوظائف الحسية والحركية عند الكائن الحيواني، فإن عمله هذا يبقى محاولة جديرة بالاهتمام لمعرفة آثارها على المفكرين الأوربيين في القرون الوسطى ومطالع عصر النهضة.
والشيء ذاته يمكن أن يقال عن نظرية ابن سينا في المعرفة. فمع أنه اعتبر التصور والتخيل والتذكر من بين وظائف الإدراك الحسي، فإن ذلك لم يحل بينه وبين تبيان مهمة كل واحدة من العمليات النفسية بدءاً من الإحساس وانتهاء بالتفكير أو، كما يسميه هو، العقل. إذ وجد أن الحواس تقدم المادة الأولية والتصور يرتبها، ثم يأتي الخيال والوهم لينقيانها من الشوائب(اللواحق المادية) ويقدمانها للعقل الذي "يقوم بتجريدها عن كل ما له صلة بالمادة".
وعند الحديث عن العقل يجد ابن سينا أن هناك عقلاً هيولانياً وعقلاً بالملكة وعقلاً مستفاداً وعقلاً بالفعل. ولكلّ عقل –في رأيه- طبيعته المتميزة ودوره في المعرفة واكتساب العلوم. وتكون نسبة وجود هذه العقول متفاوتة عند الناس، بل وقد يكون بعضها مما لا يشتركون فيه جميعاً.
لقد لاقت تعاليم ابن سينا في النفس ونظريته في المعرفة أصداء واسعة وعميقة في أعمال الفلاسفة العرب والمسلمين ومن بعدهم(وغالباً عن طريقهم) الفلاسفة اللاتينيين من توما الأكويني إلى رينيه ديكارت.
وليس بعيداً عن ابن سينا نحا أحد معاصريه، و هو الفيزيائي والرياضي العربي ابن الهيثم(965-1039) منحى آخر في نشاطه العلمي، واقترح أفكاراً جديدة في علم النفس الفيزيولوجي. فقد درس الإدراك البصري، وانطلق في تفسيره لهذه الظاهرة من قوانين البصريات. وقادته ملاحظته الدقيقة إلى القول بأنها تتم نتيجة انعكاس الموضوع الخارجي وتكون شكله على شبكية العين بوصفها جهازاً بصرياً.
إن ما اصطلح العلماء فيما بعد على تسميته إسقاط الشكل، أي نسبته إلى الموضوع الخارجي، اعتبره ابن الهيثم ثمرة لنشاط عقلي متمم ذي نظام راق. فحادثة الإبصار تعني بالنسبة لابن الهيثم، وجود الأثر المباشر للمنبهات الخارجية أولاً، ونشاط العقل الذي يمكن من إدراك أوجه الاختلاف والتشابه بين الموضوعات المرئية ثانياً. وقد افترض ابن الهيثم أن هذه العملية تتم بصورة لا شعورية. وبهذا يكون قد سبق كلا من هيلمهولتز وسيجينيف بأكثر من ثمانية قرون ونصف القرن إلى القول بـ "الاستنتاج اللاشعوري" كآلية رئيسية للإدراك البصري.
إن الإدراك البصري ليس مجرد عملية انعكاس سلبية للموضوع الخارجي على شبكية العين كما هو الشأن بالنسبة للمرآة التي تعكس الأشياء التي ترد إليها وفق قوانين فيزيائية، وإنما هو عملية نشطة وفعالة تتجلى في حركة العينين وتحول المحورين البصريين وانتقالهما. كما أنها ترتبط بزمن ديمومتها. فوجد ابن الهيثم أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الموضوعات إدراكاً صحيحاً لدى عرضها أمامه لفترة قصيرة إلا إذا كانت معروفة بالنسبة له من قبل. ويرجع ذلك –برأيه- إلى أن التأثير المباشر للمثيرات الضوئية لا يكفي وحده لتكون الشكل البصري، ولا بدّ –بالإضافة إليه- من وجود الآثار التي خلفتها الانطباعات السابقة في الجهاز العصبي.
وهكذا يكون ابن الهيثم قد تجاوز الأفكار الخاطئة باعتماده على خبرته الواسعة والعميقة في الرياضيات والفيزياء والفيزيولوجيا التي تحاكي في الكثير من الجوانب خبرات علماء القرن التاسع عشر.
وفي المغرب العربيّ كان الإنسان والمجتمع محور نشاط الفلاسفة والمفكرين في تلك الفترة من الزمن. ويعد ابن خلدون(1322-1406م) واحداً من أبرزهم.
يحتل الإنسان –في نظر ابن خلدون- مكانة رفيعة لما يتمتع به من قدرات فكرية تجعله كائناً متميّزاً عن سواه باعتباره الحلقة الأخيرة في سلسلة التكوين والنشوء التي عرفها الكون، والتي تعتبر كلّ حلقة فيها نتيجة لسابقتها ومقدمة للحلقة التي تليها. وتتمثل الحلقة الأولى، عنده، في ظهور العناصر المادية بدءاً من التراب وانتهاء بالنار، مروراً بالماء ثم الهواء. وبفعل تحولات هذه العناصر وتفاعلها بعضها مع بعض تتكون المعادن فالنباتات فالحيوانات، وأخيراً الإنسان بصورة تدريجيةٍ ومحكمة ويستمد الكائن الأعلى وجوده من الأدنى. وفي هذا يقول ابن خلدون في مقدمته: "ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئةٍ بديعةٍ من التدريج. آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات، مثل الحشائش وما لا(بزرة) له. وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان(كالحلزون) والصدف لم يوجد لهما إلاّ قوة اللمس فقط... واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة* الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل وكان ذلك(في) أول أفق من الإنسان بعده. وهذا غاية شهودنا".(ابن خلدون، 1984، 137).
وعلى أساس هذه النظرة التطورية يميّز ابن خلدون مراتب عديدة للنفس الإنسانية، تتحدد عبرها وبفضلها موضوعات النشاط البشري، بل وموقع الإنسان في هذا الكون. فالنفس في المرتبة الأولى تكون مرتبطة ارتباطاً كلياً بالبدن. وتعتمد في تفاعلها مع العالم الخارجي على القوى الحسية والخيال والذاكرة والتفكير بالمحسوسات. بينما تستطيع في المرتبة الثانية من الإفلات من عالم المحسوسات لتّتجه نحو "عالم المشاهدات الباطنية" و "التعقل الروحاني".
وما يميز المرتبة الثالثة من النفس البشرية هو ما فُطرت عليه من قدرة التخلّي عن كلّ ما هو محسوس بصورةٍ كليةٍ والتحول إلى عقل محض أو "ذات روحانية".
إن المرتبة الأولى من النفس تسم أوجه النشاطات الحسية التي يقوم بها الناس عامة، والعلماء منهم خاصة. بينما تتبدى المرتبة الثانية في الرؤى ونشاطات الكهّان والعرافين أما المرتبة الثالثة فهي خاصية الأنبياء وحدهم، وتتجسد في ظاهرة الوحي.
ولعله من الواضح أن ابن خلدون في حديثه عن أصناف النفوس البشرية ومراتبها، شأنه شأن العديد من المفكرين الذين سبقوه، يركز على ساحة واحدة من ساحات النفس التي كشف عنها علم النفس، وهي الساحة المعرفية التي تشتمل على الإحساس والإدراك والانتباه والتصور والكلام والتخيل والتذكر والتفكير. وبقيت الحالات النفسية(الانفعالات والعواطف والإرادة) وخصائص الشخصية كالطبع والمزاج وسواهما خارج مجال مشاغله واهتمامه، وكأنها ظواهر ذات طبيعة خاصة وأصولٍ متميّزة.
ولقد شدّد ابن خلدون على أثر العوامل المحيطة كالمناخ والظروف المعيشية للإنسان في صفاته الجسمية والنفسية وعلاقاته بالآخرين. كما أشار إلى الترتيب والأحكام اللذين تتصف بهما المخلوقات والعلاقة السببية القائمة بينها. ولكنّه لم يعمّم هذا الأثر على الصعيد المعرفي، الأمر الذي لم يمكنه من تقديم صورة كاملة ومتكاملة للنفس الإنسانية، وأضفى على نظريته طابعاً ميتافيزيائياً وصوفياً.
صحيح أن هناك درجات متفاوتة للمعرفة في الزمان والمكان. فالتطور الثقافي للمجتمع يقود –وفق آليات معينة- إلى النمو المعرفي للفرد بنيةً وأسلوباً وطريقةً. وفي ضوء ذلك انتقل الإنسان خلال عملية التطور هذه من المستوى الحسيّ(المباشر) في التفاعل مع العالم الخارجي وإدراك ظواهره وأحداثه إلى المستوى المجرد، حيث يستخدم الرموز والجداول والمخططات والمفاهيم... الخ، في نشاطه المعرفي. ولكن مهما كان شأو المعرفة كبيراً فإنها تبقى ذات طبيعة إنسانية، تقدم العمليات الأولى(الإحساس والإدراك) المادة الخام. وعلى هذا يصبح تصور الكهانة والسحر والأحلام على أنها ضرب من ضروب النشاط الذهني الراقي بعيداً عن الفهم العلمي لهذا النشاط.
ولكنّ ذلك يجب أن لا يحجب عنا الطابع العلمي الذي ميّز آراء ابن خلدون، ولا سيّما الأسس التي بنى عليها تفسيره لحركة المجتمع والعلائق الاجتماعية أي الحتمية. فقد تجسد ذلك في ربطه الظواهر، موضوع البحث، بعضها ببعض وفق مبدأ السبب والنتيجة. وتبعاً لذلك يجدر التنويه بنظرة ابن خلدون إلى التربية ودورها الإيجابي في عملية النمو النفسي للطفل وإعداده للمستقبل. وتكفي الإشارة، هنا، إلى الأساليب التربوية والتعليمية التي نصح بإتباعها كتحديد المواد الدراسية لكي لا يختلط على الدارسين طبيعتها ومحتوياتها، وتناول الموضوعات من جوانبها المختلفة، ومتابعة استيعاب الطفل لها دون اللجوء إلى العقاب والعنف. بالإضافة إلى المبادئ التي ينبغي أن تخضع لها العملية التربوية والتعليمية، كالانتقال من السهل إلى الصعب، ومن البسيط إلى المعقد، ومن المعلوم إلى المجهول. ولعلَّ هذا ما جعل ابن خلدون يتجاوز سابقيه في فهم أهمية التعليم وضرورة إقامته حسب قواعد علميّة مدروسة، ويقترب به من النظريات الحديثة.
إننا، ونحن نعرض لأهم آراء بعض المفكرين العرب-المسلمين، علينا أن لا ننسى ابن طفيل وابن رشد. فقد كرس الأول قصة "حي بن يقظان" ليبيّن دور البيئة في تكوين الإنسان على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي والعقلي. وأخضع الثاني السلوك الإنساني العادي والشاذ إلى الملاحظة العلمية، ممّا يسّر له التعرف على الكثير من العلل التي تؤدي إلى نشوء أنماط مختلفة من السلوك.
كما وجه ابن رشد نقداً عنيفاً إلى نظرة أهل عصره إلى الأمراض النفسية. فقد وجد أنها تعتمد في أساسها على معتقدات باطلة، وتقوم على السحر والخرافة. ولذا تراه يلّح على ضرورة التخلّي عن الأساليب والطرائق المستخدمة في معالجة هذه الأمراض، وينصح بإقامة مراكز خاصة تعنى بالمرضى النفسيين ومعالجتهم عن طريق العقاقير الطبية والراحة والاستجمام والتدريبات الخاصة.
ومن ناحية أخرى أخضع ابن رشد منجزات علم النفس الفيزيولوجي إلى التحليل العلمي. وقاده ذلك إلى القول بأن الشبكيّة هي الجزء المسؤول عن الإحساس البصري، وليست عدسة العين- كما كان شائعاً آنئذٍ.
وفي ضوء ذلك يمكن اعتبار ابن رشد واحداً من العلماء العرب المسلمين "الذين جعلت أعمالهم(وعلى امتداد عدد من الأجيال) من الانطلاقة الرائعة للفكر العلمي في القرون اللاحقة أمراً ممكناً".(ياروشيفسكي، 1985، 98).
بوح الروح
"هبطت إليك من المحلّ الأرفع
ورقاء ذات تعزّزٍ وتمنّع"
"محجوبة عن كل مقلة عارفٍ
وهي التي سفرت، ولم تتبرقع"
وصلت على كره إليك، وربّما
كرهت فراقك، وهي ذات تفجّع
"(زيعور، 1980، 67).
وهكذا أبقى ابن سينا على الثنائية التي ميّزت نظريات الفلاسفة السابقين أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو والكندي والفارابي.
على أن هذا الجانب الميتافيزيائي لا يمثل إلا جزءاً من علم النفس السينوي. فالإحاطة بتعاليم ابن سينا السيكولوجية تقتضي الرجوع إلى جميع أعماله، والإطلاع على ما تتضمنه فصولها من آراء في وظائف النفس ونشاطها.
وأول ما تجدر الإشارة إليه هو أن الإنسان كان بالنسبة لابن سينا –موضوعاً رئيسياً أولى معرفة أبعاده جلّ اهتمامه وأنفق في سبيله وقتاً طويلاً وجهداً عظيماً، وخصص له عدداً من مؤلفاته. وإن قراءة متأنية لما وصل إلينا من هذه المؤلفات تعرف الباحث على مراحل تطور فكر ابن سينا عامة، وما يميز نظريته في النفس من ترابط في المفاهيم والأفكار ودقة في البسط والتفسير والتعليل ممّا يعكس سعة إطلاع هذا المفكر الكبير وحدة ذهنه وقوة إرادته.
اعتمد ابن سينا على التراث الفلسفي اليوناني والهندي والفارسي والعربي-الإسلامي، اعتماده على معطيات الطب والتشريح. وقد ساعده توظيف هذه المعطيات وذاك التراث توظيفاً مبدعاً، إلى جانب خبرته وتجاربه وملاحظته العلمية الدقيقة، في صياغة نظريته السيكولوجية على نحو متناسق ومنتظم جعلها تفوق جميع ما سبقها من نظريات دقّةً وشموليةً.
ينظر ابن سينا إلى النفس من خلال مستويات ثلاثة: المستوى النباتي والمستوى الحيواني والمستوى الإنساني. وكلّ مستوى من هذه المستويات يتولى القيام بوظائف معينة. فالمستوى النباتي من النفس يقوم بوظائف التغذية والنمو والتكاثر وهو ما نجده عند النبات والحيوان والإنسان. وتقوم النفس الحيوانية بوظائف الإحساس والتخيل والحركة التي نجدها عند الإنسان والحيوان. أما المستوى الإنساني ووظيفته العقل، فهو يخص الإنسان وحده. ويشبه هذا التصنيف التصنيف الذي قدمه أرسطو. وهذا ما يحمل على الاعتقاد بأن ابن سينا تأثر بأرسطو في وضع هذه الحدود العريضة للنفس. غير أن الدخول في تفصيلاتها الدقيقة يضعنا أمام تباين وجهتي نظرهما. صحيح أن كلاً منهما تحدث عن وجود إدراك ظاهري تقوم به الحواس الخمس الخارجية وإدراك باطني تقوم به حواس داخلية، وأن أرسطو تحدث عن ثلاث من هذه الحواس(الحس المشترك والذاكرة والتخيل)، ولكنّ ابن سينا يضيف إليها حاستين أخريين. وهما: المصورة والوهم.
وزيادة على ذلك فإن ابن سينا قدم وصفاً متقدماً لآليات الإحساس الظاهري وشروطه الداخلية(العصبية) والخارجية(الصفات الفيزيائية والكيميائية للأشياء) متجاوزاً تعاليم المفكرين القدماء الذين درسوا الوظائف النفسيّة دون أن يربطوها بالعمليات العصبية التي تتم أثناء تفاعل الإنسان أو الحيوان مع الوسط الخارجي، لاعتقادهم باستقلالية كلّ من المجالين: النفسي والفيزيولوجي وعدم وجود علاقة تربط أحدهما بالآخر. كتب ابن سينا في هذا الشأن يقول: "... قال قوم من الأوائل إن المحسوسات قد يجوز أن تحس بها النفس بلا واسطة آلية ولا آلات. أما الوسائط فمثل الهواء للإبصار. وأما الآلات فمثل العين للإبصار. وقد بعدوا عن الحق. فإنه لو كان الإحساس يقع للنفس بذاتها من غير هذه الآلات، لكانت هذه الآلات معطلة في الخلقة لا ينتفع بها. وأيضاً فإن النفس إذا كانت غير جسم عندهم ولا ذات وضع، فيستحيل أن يكون بعض الأجسام قريباً منها ومتجهاً إليها فيحس، وبعضها بعيداً عنها محتجباً منها فلا يحس...".(ج1، الشفاء، 298).
وتتجسد نظرة ابن سينا المبدئية إلى العلاقة بين النفس والجسد بصورة واضحة عبر دراسته للجانب الوجداني من النفس البشرية. فقد حاول التعرف على السبب النفسي للضعف العضوي الذي كان يعاني منه أحد الفتيان من خلال إسماعه مجموعة من الكلمات، وتحديد ما يثيره منها بالاعتماد على تغيّر نبضات القلب وتبدلها كرد فعل تقوم به العضوية على مثيرات العالم الخارجي. وتعدّ هذه التجربة أول محاولة للتشخيص النفسي في تاريخ الفكر الإنساني. حيث سبق ابن سينا بها محاولات علماء النفس في العصر الحديث لوضع اختبارات تمكنهم من الكشف عن الجوانب الانفعالية والوجدانية لدى الإنسان("كاشف الكذب" مثلاً) بعدّة قرون.
ولعل من اليسير أن يقف المؤرخ الموضوعي للفكر السيكولوجي على عدد من الوقائع الصريحة والأدلة الثابتة التي تجعله ينظر إلى ابن سينا باعتباره رائداً من رواد هذا الميدان المعرفي.
فهناك، للمثال، تجربة أخرى أجراها ابن سينا لإبراز أثر الحالة النفسية(الانفعال) في حياة الحيوانات والإنسان. وتتلخص هذه التجربة في مقارنة الوضع النفسي لخروفين كان يقدم لهما نفس الغذاء من حيث الكمية والنوعية. ولكنّه وضع أحدهما في شروط عادية آمنة، بينما وضع الثاني قبالة ذئب. وبصرف النظر عن شروط التغذية المتشابهة فإنّ صحة الخروف الثاني كانت تتدهور بصورة ملحوظة حتى هلك.
من هنا يتجلى اهتمام ابن سينا بالعلاقة بين مظاهر النفس وتجلياتها المختلفة من جهة، وبالبيئة من جهة ثانية. فدور التربية –عنده- لا يقتصر على النمو الجسمي عند الفرد فحسب، وإنما يشمل الخصائص النفسية أيضاً. ذلك لأن النفس تؤثر على البنية الثابتة للعضوية. فمواقف الإنسان ومشاعره نحو العالم الخارجي تغير مجرى العمليات الفيزيولوجية لديه. ووجودها لا يحدث بشكل عفوي أو تلقائي، وإنما هو –في نظر ابن سينا- نتيجة تأثير الآخرين عليه خلال مراحل حياته المتعاقبة.(ياروشيفسكي، 1985، 95).
لقد دفع مبدأ وحدة العمليات النفسية والعمليات الجسمية ابن سينا للبحث في مركبات الجهاز العصبي باعتباره مصدر الإحساس والإدراك عند الإنسان والحيوان. وقد مكّنه ذلك من تطوير الأفكار المتعلقة بوظيفة الدماغ وعمل الأعصاب، والتصورات التي كانت سائدة آنذاك حول النشاط الحسي وتصنيف الحواس حسب أهميتها وفائدتها في المعرفة الحسية على وجه الخصوص. واقترب بها في بعض المواضع من المعطيات العلمية الحديثة. فمتابعته لموضوع الحواس بدءاً من مؤلّفه "مبحث عن القوى النفسانية" حتى كتابه "الشفاء" تعكس، دون شك، دأب العالم واهتمامه بمادة بحثه وحرصه على الوصول إلى أحكام دقيقة بشأنها. مثلما هو دليل على إسهامه في تطوير هذا الباب من الفكر ودفعه إلى الأمام.
ويلاحظ الدكتور محمد عثمان نجاتي في هذا الشأن أن فكر ابن سينا في مرحلة الشباب هو، في غالب الأحيان، محاكاة لتعاليم أرسطو وتقديم لها، ولذا فإنه يحيل القارئ إلى ما كتبه ابن سينا في مراحل لاحقة من حياته ليجد ما يعبر من خلاله عن آرائه الخاصة وفكره الأصيل(نجاتي، 1980، 86). فابن سينا على سبيل المثال، يرى في المرحلة الأولى أن "اللحم متوسط بين القوى اللامسة وبين الكيفية الملموسة"(نجاتي، 1980، 86). ولكنه يعود في "الشفاء" ليقرر "أن عضو حاسة اللمس هو اللحم والجلد المحيطان بالبدن والعصب المنتشر فيهما"(نجاتي، 1980، 87).
ولم تقتصر إعادة نظر ابن سينا في رأيه بالجهاز العصبي على تفسير عمل الحواس الخمس فقط، وإنما شملت كذلك دراسته للوظائف الحسية الباطنية بصورة أكثر موضوعية. فقد ربط هذا الجانب من النفس الحيوانية(الحس المشترك والمصورة والذاكرة والوهم والمتخيلة) بمناطق محددة من الدماغ. وهكذا صار الحس المشترك يقع في أول التجويف المقدم من الدماغ، والمصورة في آخر التجويف المقدم، والمتخيلة في أول التجويف الأوسط، والوهم في نهاية التجويف الأوسط، والذاكرة في التجويف المؤخر.(نجاتي، 1980، 29-144).
وعلى الرغم من الأخطاء التي وقع فيها ابن سينا لدى تحديده لأجزاء البدن المسؤولة عن الوظائف الحسية والحركية عند الكائن الحيواني، فإن عمله هذا يبقى محاولة جديرة بالاهتمام لمعرفة آثارها على المفكرين الأوربيين في القرون الوسطى ومطالع عصر النهضة.
والشيء ذاته يمكن أن يقال عن نظرية ابن سينا في المعرفة. فمع أنه اعتبر التصور والتخيل والتذكر من بين وظائف الإدراك الحسي، فإن ذلك لم يحل بينه وبين تبيان مهمة كل واحدة من العمليات النفسية بدءاً من الإحساس وانتهاء بالتفكير أو، كما يسميه هو، العقل. إذ وجد أن الحواس تقدم المادة الأولية والتصور يرتبها، ثم يأتي الخيال والوهم لينقيانها من الشوائب(اللواحق المادية) ويقدمانها للعقل الذي "يقوم بتجريدها عن كل ما له صلة بالمادة".
وعند الحديث عن العقل يجد ابن سينا أن هناك عقلاً هيولانياً وعقلاً بالملكة وعقلاً مستفاداً وعقلاً بالفعل. ولكلّ عقل –في رأيه- طبيعته المتميزة ودوره في المعرفة واكتساب العلوم. وتكون نسبة وجود هذه العقول متفاوتة عند الناس، بل وقد يكون بعضها مما لا يشتركون فيه جميعاً.
لقد لاقت تعاليم ابن سينا في النفس ونظريته في المعرفة أصداء واسعة وعميقة في أعمال الفلاسفة العرب والمسلمين ومن بعدهم(وغالباً عن طريقهم) الفلاسفة اللاتينيين من توما الأكويني إلى رينيه ديكارت.
وليس بعيداً عن ابن سينا نحا أحد معاصريه، و هو الفيزيائي والرياضي العربي ابن الهيثم(965-1039) منحى آخر في نشاطه العلمي، واقترح أفكاراً جديدة في علم النفس الفيزيولوجي. فقد درس الإدراك البصري، وانطلق في تفسيره لهذه الظاهرة من قوانين البصريات. وقادته ملاحظته الدقيقة إلى القول بأنها تتم نتيجة انعكاس الموضوع الخارجي وتكون شكله على شبكية العين بوصفها جهازاً بصرياً.
إن ما اصطلح العلماء فيما بعد على تسميته إسقاط الشكل، أي نسبته إلى الموضوع الخارجي، اعتبره ابن الهيثم ثمرة لنشاط عقلي متمم ذي نظام راق. فحادثة الإبصار تعني بالنسبة لابن الهيثم، وجود الأثر المباشر للمنبهات الخارجية أولاً، ونشاط العقل الذي يمكن من إدراك أوجه الاختلاف والتشابه بين الموضوعات المرئية ثانياً. وقد افترض ابن الهيثم أن هذه العملية تتم بصورة لا شعورية. وبهذا يكون قد سبق كلا من هيلمهولتز وسيجينيف بأكثر من ثمانية قرون ونصف القرن إلى القول بـ "الاستنتاج اللاشعوري" كآلية رئيسية للإدراك البصري.
إن الإدراك البصري ليس مجرد عملية انعكاس سلبية للموضوع الخارجي على شبكية العين كما هو الشأن بالنسبة للمرآة التي تعكس الأشياء التي ترد إليها وفق قوانين فيزيائية، وإنما هو عملية نشطة وفعالة تتجلى في حركة العينين وتحول المحورين البصريين وانتقالهما. كما أنها ترتبط بزمن ديمومتها. فوجد ابن الهيثم أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الموضوعات إدراكاً صحيحاً لدى عرضها أمامه لفترة قصيرة إلا إذا كانت معروفة بالنسبة له من قبل. ويرجع ذلك –برأيه- إلى أن التأثير المباشر للمثيرات الضوئية لا يكفي وحده لتكون الشكل البصري، ولا بدّ –بالإضافة إليه- من وجود الآثار التي خلفتها الانطباعات السابقة في الجهاز العصبي.
وهكذا يكون ابن الهيثم قد تجاوز الأفكار الخاطئة باعتماده على خبرته الواسعة والعميقة في الرياضيات والفيزياء والفيزيولوجيا التي تحاكي في الكثير من الجوانب خبرات علماء القرن التاسع عشر.
وفي المغرب العربيّ كان الإنسان والمجتمع محور نشاط الفلاسفة والمفكرين في تلك الفترة من الزمن. ويعد ابن خلدون(1322-1406م) واحداً من أبرزهم.
يحتل الإنسان –في نظر ابن خلدون- مكانة رفيعة لما يتمتع به من قدرات فكرية تجعله كائناً متميّزاً عن سواه باعتباره الحلقة الأخيرة في سلسلة التكوين والنشوء التي عرفها الكون، والتي تعتبر كلّ حلقة فيها نتيجة لسابقتها ومقدمة للحلقة التي تليها. وتتمثل الحلقة الأولى، عنده، في ظهور العناصر المادية بدءاً من التراب وانتهاء بالنار، مروراً بالماء ثم الهواء. وبفعل تحولات هذه العناصر وتفاعلها بعضها مع بعض تتكون المعادن فالنباتات فالحيوانات، وأخيراً الإنسان بصورة تدريجيةٍ ومحكمة ويستمد الكائن الأعلى وجوده من الأدنى. وفي هذا يقول ابن خلدون في مقدمته: "ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئةٍ بديعةٍ من التدريج. آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات، مثل الحشائش وما لا(بزرة) له. وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان(كالحلزون) والصدف لم يوجد لهما إلاّ قوة اللمس فقط... واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة* الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل وكان ذلك(في) أول أفق من الإنسان بعده. وهذا غاية شهودنا".(ابن خلدون، 1984، 137).
وعلى أساس هذه النظرة التطورية يميّز ابن خلدون مراتب عديدة للنفس الإنسانية، تتحدد عبرها وبفضلها موضوعات النشاط البشري، بل وموقع الإنسان في هذا الكون. فالنفس في المرتبة الأولى تكون مرتبطة ارتباطاً كلياً بالبدن. وتعتمد في تفاعلها مع العالم الخارجي على القوى الحسية والخيال والذاكرة والتفكير بالمحسوسات. بينما تستطيع في المرتبة الثانية من الإفلات من عالم المحسوسات لتّتجه نحو "عالم المشاهدات الباطنية" و "التعقل الروحاني".
وما يميز المرتبة الثالثة من النفس البشرية هو ما فُطرت عليه من قدرة التخلّي عن كلّ ما هو محسوس بصورةٍ كليةٍ والتحول إلى عقل محض أو "ذات روحانية".
إن المرتبة الأولى من النفس تسم أوجه النشاطات الحسية التي يقوم بها الناس عامة، والعلماء منهم خاصة. بينما تتبدى المرتبة الثانية في الرؤى ونشاطات الكهّان والعرافين أما المرتبة الثالثة فهي خاصية الأنبياء وحدهم، وتتجسد في ظاهرة الوحي.
ولعله من الواضح أن ابن خلدون في حديثه عن أصناف النفوس البشرية ومراتبها، شأنه شأن العديد من المفكرين الذين سبقوه، يركز على ساحة واحدة من ساحات النفس التي كشف عنها علم النفس، وهي الساحة المعرفية التي تشتمل على الإحساس والإدراك والانتباه والتصور والكلام والتخيل والتذكر والتفكير. وبقيت الحالات النفسية(الانفعالات والعواطف والإرادة) وخصائص الشخصية كالطبع والمزاج وسواهما خارج مجال مشاغله واهتمامه، وكأنها ظواهر ذات طبيعة خاصة وأصولٍ متميّزة.
ولقد شدّد ابن خلدون على أثر العوامل المحيطة كالمناخ والظروف المعيشية للإنسان في صفاته الجسمية والنفسية وعلاقاته بالآخرين. كما أشار إلى الترتيب والأحكام اللذين تتصف بهما المخلوقات والعلاقة السببية القائمة بينها. ولكنّه لم يعمّم هذا الأثر على الصعيد المعرفي، الأمر الذي لم يمكنه من تقديم صورة كاملة ومتكاملة للنفس الإنسانية، وأضفى على نظريته طابعاً ميتافيزيائياً وصوفياً.
صحيح أن هناك درجات متفاوتة للمعرفة في الزمان والمكان. فالتطور الثقافي للمجتمع يقود –وفق آليات معينة- إلى النمو المعرفي للفرد بنيةً وأسلوباً وطريقةً. وفي ضوء ذلك انتقل الإنسان خلال عملية التطور هذه من المستوى الحسيّ(المباشر) في التفاعل مع العالم الخارجي وإدراك ظواهره وأحداثه إلى المستوى المجرد، حيث يستخدم الرموز والجداول والمخططات والمفاهيم... الخ، في نشاطه المعرفي. ولكن مهما كان شأو المعرفة كبيراً فإنها تبقى ذات طبيعة إنسانية، تقدم العمليات الأولى(الإحساس والإدراك) المادة الخام. وعلى هذا يصبح تصور الكهانة والسحر والأحلام على أنها ضرب من ضروب النشاط الذهني الراقي بعيداً عن الفهم العلمي لهذا النشاط.
ولكنّ ذلك يجب أن لا يحجب عنا الطابع العلمي الذي ميّز آراء ابن خلدون، ولا سيّما الأسس التي بنى عليها تفسيره لحركة المجتمع والعلائق الاجتماعية أي الحتمية. فقد تجسد ذلك في ربطه الظواهر، موضوع البحث، بعضها ببعض وفق مبدأ السبب والنتيجة. وتبعاً لذلك يجدر التنويه بنظرة ابن خلدون إلى التربية ودورها الإيجابي في عملية النمو النفسي للطفل وإعداده للمستقبل. وتكفي الإشارة، هنا، إلى الأساليب التربوية والتعليمية التي نصح بإتباعها كتحديد المواد الدراسية لكي لا يختلط على الدارسين طبيعتها ومحتوياتها، وتناول الموضوعات من جوانبها المختلفة، ومتابعة استيعاب الطفل لها دون اللجوء إلى العقاب والعنف. بالإضافة إلى المبادئ التي ينبغي أن تخضع لها العملية التربوية والتعليمية، كالانتقال من السهل إلى الصعب، ومن البسيط إلى المعقد، ومن المعلوم إلى المجهول. ولعلَّ هذا ما جعل ابن خلدون يتجاوز سابقيه في فهم أهمية التعليم وضرورة إقامته حسب قواعد علميّة مدروسة، ويقترب به من النظريات الحديثة.
إننا، ونحن نعرض لأهم آراء بعض المفكرين العرب-المسلمين، علينا أن لا ننسى ابن طفيل وابن رشد. فقد كرس الأول قصة "حي بن يقظان" ليبيّن دور البيئة في تكوين الإنسان على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي والعقلي. وأخضع الثاني السلوك الإنساني العادي والشاذ إلى الملاحظة العلمية، ممّا يسّر له التعرف على الكثير من العلل التي تؤدي إلى نشوء أنماط مختلفة من السلوك.
كما وجه ابن رشد نقداً عنيفاً إلى نظرة أهل عصره إلى الأمراض النفسية. فقد وجد أنها تعتمد في أساسها على معتقدات باطلة، وتقوم على السحر والخرافة. ولذا تراه يلّح على ضرورة التخلّي عن الأساليب والطرائق المستخدمة في معالجة هذه الأمراض، وينصح بإقامة مراكز خاصة تعنى بالمرضى النفسيين ومعالجتهم عن طريق العقاقير الطبية والراحة والاستجمام والتدريبات الخاصة.
ومن ناحية أخرى أخضع ابن رشد منجزات علم النفس الفيزيولوجي إلى التحليل العلمي. وقاده ذلك إلى القول بأن الشبكيّة هي الجزء المسؤول عن الإحساس البصري، وليست عدسة العين- كما كان شائعاً آنئذٍ.
وفي ضوء ذلك يمكن اعتبار ابن رشد واحداً من العلماء العرب المسلمين "الذين جعلت أعمالهم(وعلى امتداد عدد من الأجيال) من الانطلاقة الرائعة للفكر العلمي في القرون اللاحقة أمراً ممكناً".(ياروشيفسكي، 1985، 98).
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح