[b]لقد أعطى فخنر الدراسات التي تناولت الظاهرة النفسية دفعةً إلى الأمام على طريق العلمية والموضوعية، وأسهم في تهيئة المناخ الملائم لولادة أفكار جديدة ليس بالنسبة للعتبات الحسية، بل وفي ميدان دراسة الشخصية وقياس الحالة النفسية للمفحوص بغية التعرف على موقفه من مختلف القضايا الاجتماعية. وهو، وإن لم يحالفه النجاح في بعض مراحل حياته العلمية، فقد أرسى الكثير من قواعد الطريقة التجريبية في البحث السيكولوجي، وشجع العديد من الباحثين بصورة مباشرة أو غير مباشرة على مواصلة العمل لتسليط مزيد من الأضواء على أسرار النفس الإنسانية.
ولعلّ آراء هيلمهولتز في النشاط الحسي ونظرته إليه كآلية من آليات تفاعل الكائنات الحية، ولا سيما الإنسان، مع العالم الخارجي تعتبر الأرضية التي حملت بذور التغير في بنية الفكر الحيوي التي سرعان ما لاقت العناية اللازمة لنموها وتفتحها في ذلك العصر. فقد أضحى هذا التفاعل محوراً تركزت حوله دراسة الباحثين لسلوك الإنسان والحيوان في أواسط القرن التاسع عشر.
وقبل هذا التاريخ لم يكن تفسير هذه المسألة ليتعدى الأطر الفيزيائية والكيميائية. ومع ظهور كتاب "أصل الأنواع" لداروين عام 1859م بدأت النظرة إليها تتخذ بعداً نوعياً أكثر عمومية وشمولية.
عرف تشارلز داروين(1809-1882م) بنظرته الثاقبة وإرادته القوية وفكره الوقّاد. وقد مكنته هذه السمات من الجمع بين المعطيات العلمية السابقة والنتائج التي أوصلته إليها ملاحظته الموضوعية الدقيقة، وتعميم ذلك كلّه على نحو مبدع وأصيل. ومع أن فكرة النشوء والارتقاء التي جاء بها داروين لم تكن جديدة تماماً على الفكر الإنساني، إلا أن أحداً قبله لم يخلع عليها مواصفات النظرية العلمية، ولم يحدد أبعادها ويتتبع كل واحدة منها، أو يكشف عن دورها وأهميتها فيها وفق نظام متماسك كما هو الشأن عنده.
ومن منظور مهمة العمل الحالي يبدو طبيعياً أن لا ينتظر القارئ عرضاً مفصلاً لتعاليم داروين ونشاطاته العلمية وعلاقاته الاجتماعية التي جعلت من نظريته مادة جدل حاد ومناقشات ساخنة من قبل العلماء ومختلف فئات المثقفين في أنحاء مختلفة من العالم منذ الإعلان عنها وحتى الآن.
إننا نميل إلى الاعتقاد بتعدّد مصادر هذه النظرية، وعدم حصرها في مجال ضيق أو مجموعة محددة من المؤلفات. إذ من الصعب أن يستثير عدد قليل من الأعمال، مهما كان محتواها غنياً وعميقاً، لدى الإنسان، مهما بلغ من الذكاء، القدرة على صياغة نظرية كالتي وضعها داروين.
إن نظرة داروين إلى قدرة مختلف أنواع الكائنات العضوية على البقاء تتحدد في ضوء مبدأ التكيف أو التلاؤم مع شروط الحياة. فإمكانية الكائن الحي على التكيف، وبالتالي البقاء والاستمرار، تقررها بنية العضوية والوظائف التي تقوم بها.
فالوسط الخارجي بما يتضمنه من أشياء وظواهر وما يحمله من تغيرات يفرض وجود صفات معينة في بنية الكائن الحي تؤهله للقيام بالمهمة الوجودية. وهذه الصفات تنتقل من جيل إلى جيل من نفس النوع بالوراثة. ولكنها خلال عملية الانتقال هذه لا تبقى على حالها، وإنما تطرأ عليها تغيرات، كثيرة أو قليلة، تمليها الشروط الخارجية. وهذا ما عرفه داروين بالاصطفاء الطبيعي الذي يبقي على الصفات الإيجابية في تركيب العضوية، بل ويطورها، ويقضي دون رحمة ولا شفقة على تلك التي تبدي قصوراً أو عجزاً إبان الصراع من أجل البقاء.
وما قدمه داروين إلى علم النفس يتمثل، باختصار، في مبدأ "البقاء للأصلح والأقوى" الذي يسري على جميع الأنواع، بما فيها الإنسان، وتتحدد –على أساسه- أجناسها وفصائلها ومستوياتها في النظام العضوي الشامل. وبما أن مركبات العضوية وسماتها تتطور بفضل قدرتها على التلاؤم، فقد حاول بعض علماء النفس، فيما بعد، أن يدرسوا السلوك من وجهة نظر ارتقائية باعتباره أداة من أدوات الصراع من أجل البقاء، وعاملاً هاماً من عوامل النشوء والتطور.
ويمكن صياغة موقف هؤلاء العلماء على النحو التالي: إن البيئة تتطلب استجابات معينة وسلوكاً محدداً من جانب الكائن الحي. وما دامت هذه البيئة متغيرة إلى هذا الحد أو ذاك، فإن على الكائن الحي –تبعاً لذلك- أن يغير استجاباته ويعدل سلوكه ليحافظ على توازنه، ويحقق التلاؤم المطلوب. على أن الصفات النفسية التي يتمتع بها هذا الكائن ليست أداته الوحيدة للوصول إلى الهدف النهائي. فهناك أداة أخرى ذات نفوذ واسع في توجيه سلوكه واستجاباته.
وهذه الأداة هي الغريزة. وبالنظر إلى ما تكتسبه دراسة هذا الجانب من أهمية على الصعيدين: النفسي والعضوي، فقد خصص له داروين بابا كاملاً من مؤلفه المذكور.
يعرف داروين الغريزة بأنّها قوة عمياء، لا شعورية ولا إرادية. وهي، من حيث نشأتها، ترجع إلى أزمنة تاريخية سحيقة. وبهذا يردّ على اعتقاد البعض بأن الغريزة تحمل صفات العقل والوعي. وليدلل على صحة رأيه يسوق العديد من الأمثلة والمعطيات التي تلقي الضوء على البعد التاريخي لتشكل الغرائز ووجودها عند الحيوانات والإنسان، ممّا اعتبر مادة جديدة لنشاط علماء النفس.
وبعد أن فرغ داروين من كتابه الأول "أصل الأنواع" انكب على جمع الأدلة والشواهد التي تسهم بنصيب وافر في البرهان على صحة نظريته. وقاده الاحتكام إليها ومقارنتها بعضها ببعض إلى الكشف عن الحركات التعبيرية التي ترافق الحالات الانفعالية عند الإنسان والحيوان. وهذا ما بسطه بأسلوب جذاب في كتابه "أصل الإنسان" الذي نشره عام 1871. وخلاصة ما توصل إليه هو أن التغيرات الخارجية التي تطرأ على العديد من أعضاء جسم الإنسان والحيوان، كحركات اليدين وتقلص عضلات الوجه وانبساطها واستدارة العينين وجحوظهما والتكشير عن الأسنان... الخ ذات مغزى عميق بالنسبة للتكيف مع الظروف البيئية المستجدة.
ويعالج داروين هذه المسألة في كتاب آخر بعنوان "التعبير عن الانفعالات عند الإنسان والحيوانات"(1872م) بصورة أكثر تفصيلاً. فيرى أن التكشير عن الأسنان، مثلاً،(وهو ما نلاحظه عند كل من الإنسان والحيوان) يؤلف جزءاً من حالة التأهب للانقضاض والعراك. أي أنه عنصر من عناصر الاستجابة العدوانية أو الدفاعية على المؤثرات الخارجية.
وعلى أساس هذه الملاحظات والاستنتاجات يصوغ داروين فرضية حول نشوء الحركات التعبيرية بوصفها الوجه الظاهري للانفعالات التي يعتبرها أداة هامة من الأدوات التي يستجيب الكائن بها لمتطلبات الحياة. ولكن وجودها عند الإنسان الحالي في حالات الغضب والفرح والسخرية وغيرها لم يعد يحمل
–في نظر داروين- نفس المغزى الحيوي كما كان الحال في العصور السحيقة. فهي، من هذه الزاوية، من رواسب الماضي التي لم تعد الآن تؤدي وظيفتها كمركب من مركبات السلوك. وحينما نصادفها لدى إنسان هذا العصر، فإنّما يحدث ذلك خارج وعيه ودون تدخلٍ من جانب إرادته.
لقد تحدث داروين ضمن سياق نظريته وفي العديد من المناسبات عن الوراثة وما تكتسبه من أهمية بالغة في عملية النشوء والارتقاء. وقصر هذه الأهمية في البداية على الجانب العضوي فقط. وافترض، بالنسبة للجانب الآخر، النفسي، أن الناس الأصحاء يتساوون في استعداداتهم النفسية. أما الفروق التي نلحظها فيما بينهم فهي –برأيه- نتيجة لاختلاف اهتماماتهم وتباين مواقفهم. وبعد إطلاعه على كتاب "عبقرية الوراثة" لقريبه غالتون، تراجع عن فرضيته هذه ليشدّد على دور الوراثة في تحديد الصفات والخصائص الجسمية والنفسية على حدّ سواء.
2-دراسة الشخصية والفروق الفردية.
من الموضوعات التي تناولها العلماء خلال القرن التاسع عشر تلك التي تتعلق بالصفات الجسمية والنفسية ودرجات تفاوتها عند البشر. فاختلاف الناس في طول القامة ولون الشعر والعينين والبشرة وحجم الجمجمة وغيرها من الخصائص الجسمية، وكذا تباينهم من حيث القدرات العقلية والدوافع والعواطف والإرادة وسواها من السمات النفسية استرعيا نظر الإنسان منذ القديم. ومع التطور خلال القرنين الماضيين على وجه التحديد أصبح هذا الاختلاف وذاك التباين بين الناس في أجسامهم ونفوسهم من المسائل الملحة التي تتوقف جملة من الإجراءات والتدابير في الميادين المذكورة على حلها. ويعتبر غالتون أحد الرواد الذين سعوا إلى إيجاد معايير موضوعية تكون صالحة لتقويم إمكانات الفرد وقدراته النفسية. ويجدر بنا قبل استعراض ما قدمه هذا العالم أن نشير إلى المحاولات التي سبقت محاولته.
ولعلّ أول ما يمكن قوله بصدد تلك المحاولات هو أنها كانت بحق خطوة على طريق البحث العلمي والنظرة الموضوعية للنفس الإنسانية؛ إذ بفضلها تم الانتقال في مجال تقويم إمكانات الإنسان وقياس مختلف الجوانب النفسية عنده من الحدس والتخمين إلى القياس الصحيح.
وتمثل الفيزيونوميا(علم الفراسة) التي ظهرت في ألمانيا وفرنسا خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر أولى هذه المحاولات. فلقد أكد أصحاب هذه النزعة على وجود علاقة وثيقة بين ملامح وجه الإنسان وسلوكه. وهذا ما عبّر عنه لافاتير أحد مؤسسي الفيزيونوميا من خلال إرجاعه بعض صفات الشخصية إلى شكل الأنف وحجمه. فصاحب الأنف المستقيم والمعتدل يميل، في رأيه، إلى الدّعة وحب الآخرين. بينما يتسم صاحب الأنف المدبب والمعقوف بالقسوة والعدوانية.
وفي مطلع القرن التاسع عشر ظهر في ألمانيا اتجاه آخر عرف بالفرينولوجيا PHRENOLOGIE(علم فراسة الدماغ). ويعتبر الطبيب وعالم التشريح النمساوي فرانز جوزيف جول(1758-1828م) وسبورز هايم من أبرز ممثلي هذا الاتجاه. فقد بحث الرجلان عن الأساس الذي يمكن الاعتماد عليه في تحديد الصفات النفسية للإنسان. ووجدا أنه يكمن في تركيب الجمجمة وليس في بنية الوجه وملامحه. فالنفس الإنسانية –عندهما- تتألف من 37 ملكة عقلية وانفعالية وتحتل كل ملكة منطقة معينة من اللحاء، يقابلها جزء من الجمجمة يدل سطحه على درجة نموها وتطورها.
ومن غير أن نخوض في تفصيلات هذه النظرية نعود فنؤكد مرة أخرى على أنها كانت محطة جديدة في مسار الفكر الإنساني المتصاعد، على الرغم من افتقادها إلى الطريقة العلمية وضعف الأدلة التي عرضها ممثلوها. يقول فلوجل في هذا الصدد: "وكان يمكن أن يؤدي فشل الفرينولوجيا إذا تمّ إدراك ذلك في وقته إلى تقوية الاتجاه العام المنادي بإهمال أو عدم الثقة في الفيزيولوجيا، ذلك الاتجاه الذي كان يميز قادة علم النفس المعاصرين. كما كان سيؤدي إلى تثبيط همة علماء الفسيولوجيا وإهمالهم توجيه جهودهم إلى دراسة المخ. ولحسن الحظ لم يحدث شيء من ذلك، ويبدو أنه حوّل الأنظار عن التأمل العقيم في بحث وسيلة أو مركز التفاعل بين الجسم والعقل إلى البحث الأكثر فائدة عن شكل ما من الارتباط السيكوفيزيقي"(1979، 34).
وبالإضافة إلى أن الفرينولوجيا وجهت أنظار علماء الفيزيولوجيا نحو دراسة الجملة العصبية المركزية بطرائق موضوعية، فإنَّ ثمة الكثير من الوقائع التي تحمل على الاعتقاد بأن فضلها لم يكن أقل في توجيه الاهتمام بالعلاقة بين الجانب المادي والجانب الروحي واعتبارها منطلقاً لدراسة شخصية الإنسان. وإذا لم يكن هذا الفضل ملموساً أو –كما أشار فلوجل- مباشراً، فإنه موجود على نحو ما. فقد ربط العالم الفرنسي لويس روستان(1824) صفات الشخصية بأجهزة مختلفة من الجسم، الأمر الذي قاده إلى القول بوجود أربعة أنماط للشخصية: الهضمي والعضلي والمخي والتنفسي. كما توصل العالم الإيطالي فيولا(1909) إلى أن التفاوت بين الأفراد يعود إلى تباين حجوم أجسامهم. فصاحب الجسم الصغير يتصف بخصائص نفسية تجعله يختلف عن صاحب الجسم المعتدل أو الكبير اللذين ينفرد كل منهما بصفات نفسية مميزة. وفيما بعد قام كل من كرتشمر في ألمانيا وشلدون في الولايات المتحدة الأمريكية بتطوير هذا الاتجاه مستخدمين وسائل وطرائق جديدة.
وفي الفترة التي شهدت ظهور الفرينولوجيا وانتشارها كان الفلكي الألماني ف. بيسيل BESSEL يراجع قضية فصل كينبروك عن عمله كفلكي في مرصد غرينيتش بحجة عدم انضباطه ودقته في العمل. وتوصل بيسيل في نهاية تحرياته إلى أن أسباب الأخطاء التي يرتكبها الفلكيون، أمثال كينبروك، لا ترجع إلى الإهمال وعدم الدقة، وإنما إلى وجود فروق في سرعة الاستجابة بين الناس.
إن هذه النتيجة تتضمن، بالإضافة إلى البعد السيكوفيزيولوجي، بعداً سيكولوجياً صرفاً، يتمثل في وجود فروق بين الناس من حيث قدراتهم النفسية البسيطة منها والمعقدة. وهذا ما أثار فيما بعد فضول الباحثين، ودفعهم إلى البحث عن تقنيات تتناسب مع طبيعة المشكلات المطروحة.
ومن جهة أخرى كان العالم الرياضي البلجيكي أدولف كيتيليه
(1796-1874م) يتحقق من مبدأ لابلاس وغوس في التوزيع الطبيعي. فوجد هذا العالم أن قامات الناس تتوزع على نحو تتوضع معظمها في الوسط، وتقلّ الطويلة والقصيرة منها تدريجياً كلما ابتعدنا عنه باتجاه اليمين أو باتجاه اليسار لتتخذ شكل الهضبة أو الجرس. ولقد قام كيتيليه بتعميم هذه الملاحظة على العديد من الظواهر العضوية والنفسية مؤكداً أنها تخضع في توزيعها وانتشارها بين الناس للمبدأ ذاته.
لقد لاقت هذه الآراء اهتماماً كبيراً من جانب العالم الإنكليزي فرانسيس غالتون(1820-1911). فعمل على الإفادة منها وتطويرها لدى دراسته للعديد من مظاهر السلوك الإنساني.
نشر غالتون مجموعة من الكتب والمقالات بدأها بـ "عبقرية الوراثة"
(1869) الذي خصصه لعرض أهم أفكاره وأسس نظريته. وجاءت أعماله اللاحقة، ولا سيما "رجال العلم الإنكليز"(1874) و "مباحث ملكة الإنسان وتطويرها"(1883) توضيحاً لهذه الأفكار وترسيخاً لتلك الأسس.
يؤكد غالتون أن الفروق الفردية في الذكاء العام والقدرات المعرفية بين الناس تشكل سلماً ذا درجات متعددة. ويرجع توزع الناس حسب ذكائهم على درجات هذا السلم إلى عامل الوراثة. ولكي يبرهن على صحة هذه الفرضية قام بجمع كمية ضخمة من البيانات المتعلقة بتاريخ العائلات المشهورة في بريطانيا. وقد قادته معاينته لتلك البيانات إلى نتيجة مفادها أن الوراثة تلعب الدور الحاسم في تعيين مكونات العبقرية. وعلى هذا الأساس يقرر أن الآباء الأذكياء ينجبون أبناء أذكياء، وأنه لا مجال للحديث عن أي دور للبيئة أو المصادفة في وجود أطفال أذكياء ينحدرون من أسر عادية أو ضعيفة الذكاء. فالوراثة هي التي تقرر مصائر البشر ومستقبلهم.
وإلى جانب ذلك أخضع غالتون العديد من الصفات الجسمية والنفسية للدراسة التجريبية المقارنة(حدة السمع والبصر، سرعة الاستجابة، التذكر الصوري، الارتباط الحسي، طول القامة، وزن الجسم.. الخ)، مستخدماً في ذلك طريقة الروائز. وقد فسر وجود هذه الصفات التي تحدد –كما يقول- طبيعة السلوك في ضوء قانون الوراثة. كما مكنه التطبيق المتقدم لبعض المفاهيم والقوانين الرياضية لدى تحليله للمعطيات من الكشف عن العلاقات الارتباطية بين الظواهر المدروسة. وقاده ذلك كله إلى الحكم بوجود تنظيم جسمي ونفسي خاص بالفرد يجعله متميزاً عن غيره من الناس.
ومع الإشارة إلى التقريرية التي طبعت أفكار غالتون بالطابع الطبقي والعنصري بهدف تكريس الواقع الاجتماعي، فقد كان لبحوثه وأساليبه المبتكرة دور لا يستهان به في ظهور عدد من ميادين علم النفس وتطور الدراسات فيها. وهذا ما يتجسد عبر ما جاء به تلاميذه وأتباعه فيما بعد. حيث قام كارل بيرسون بتطوير تعاليمه، وخاصة في مجال البحث عن الأسباب المشتركة لتغير الصفات النفسية، وبالتالي وجود الفروق بين الناس. وقد اتبع بيرسون منهجاً طوره عالم النفس الإنكليزي تشارلز سبيرمان، وأطلق عليه اسم "التحليل العاملي".
3-دراسة الظواهر النفسية المرضية.
لم تكن الظواهر النفسية الشاذة والمرضية بعيدة عن دائرة اهتمام الإنسان عبر مراحل تاريخه الفكري، وإنما كانت واحدة من المشكلات التي دفعت الأفراد والجماعات إلى التفكير بها وتأمل أعراضها والتعرف على أسبابها. غير أن تصوراتهم عنها كانت، إلى عهد غير بعيد، أقرب إلى الأسطورة والخرافة. فقد اعتقد الناس في القرون الوسطى أن الحالات النفسية المرضية والاضطرابات العصبية التي تصيب الإنسان، إنما تحدث بفعل تملك الأرواح الشريرة أو الشياطين أو الجن وسواها من الكائنات غير المرئية للمصاب. لذا فإن وسائل العلاج من هذه الأعراض كانت ضرباً من ضروب السحر والشعوذة. فكان على هذه المظاهر النفسية المرضية أن تنتظر ابن رشد لكي يقدم تفسيراً علمياً لها ويصنف الكثير منها، وينصح بإقامة مراكز مخصصة للعناية بالمرضى العقليين والنفسيين ورعايتهم.
وفي ذلكم الوقت الذي طالب فيه ابن رشد بضرورة معاملة المرضى نفسياً على نحو تزول معه ظروف العسف والظلم والاضطهاد التي تحيق بهم عبر العصور التاريخية الطويلة، كان المسؤولون في المجتمعات الأوربية يأمرون بعزلهم وسجنهم وتعذيبهم. وعلى الرغم من الأصوات التي كانت ترتفع بشيء من الخوف والقلق على واقع هؤلاء المرضى ومستقبلهم، أمثال الطبيب الألماني يوهان ويير JOHANN WEYER في القرن السادس عشر، فقد ظل الاعتقاد بأن الأرواح الشريرة والشياطين هي علّة كافة الأمراض النفسية والعقلية سائداً حتى أواخر القرن الثامن عشر. حيث أقدم الطبيب الفرنسي فيليب بينيل PHILIPPE PINEL عام 1793 على تحطيم الأغلال التي كانت تكبل أيدي وأرجل مرضاه العقليين. ونادى بضرورة البحث عن أسباب الأمراض الذهانية في البنية البيولوجية والفيزيولوجية للمريض، وليس في القوى الغيبية والميتافيزيائية. وبهذا يكون بينيل أوّل من فسح المجال أمام الذهان ليأخذ مكانه ضمن اهتمامات الأطباء وعلماء الفيزيولوجيا وعلماء النفس فيما بعد.
عمل بينيل مديراً لمستشفى بيسيتر BICETRE ومستشفى سالبتريير SALPETRIERE للأمراض العقلية أعواماً طويلة. وقد ساعده ذلك في الوقوف على الكثير من أعراض الجنون، والتمييز بين العديد من حالاته ودرجاته، الأمر الذي حدا به للقيام بمحاولة لتبويبها وتصنيفها بصورة لم يعرف لها مثيل في دقتها وتفصيلاتها وتنظيمها من قبل. وجاء من بعده إسكيرول ليتابع الطريق الذي شقه أستاذه. ثم عرفت المستشفيات والعيادات الطبية الفرنسية على امتداد القرن التاسع عشر طائفة من الأطباء النفسيين والمهتمين بمشكلات الشذوذ والضعف العقلي.
ويعتبر ايتارد أول من اهتم بضعاف العقل وتربيتهم. وكان لآرائه صدى إيجابي في الأوساط العلمية في فرنسا وخارجها. وقد تسنى له عام 1798م أن يدرس حالة "طفل الآفيرون المتوحش" الذي عثر عليه صيادون وهو في الثامنة من العمر تقريباً. ولم يكن هذا الطفل ليعرف طريقه إلى المجتمع الإنساني قبل ذلك. وعاش سني حياته في حالة شبيهة بالحيوانية. وأول ما لاحظه ايتارد على هذا الطفل هو تخلفه العقلي الشديد. فراح يعمل بكثير من التفاؤل والأمل طيلة خمسة أعوام متتالية لتعويضه ما فاته أو فقده. ولكن النتائج كانت متواضعة للغاية ومخيبة للتفاؤل والأمل اللذين كانا يلازمانه طيلة سنوات عمله، فلم تظهر لدى الصبي أية قدرات ولم يتعلم شيئاً باستثناء اكتسابه لبعض المهارات التي تعينه في التلاؤم مع بيئته الجديدة.
انتقل الاهتمام بتربية ضعاف العقل إلى طبيب فرنسي آخر هو أ. سيغان
(1812م-1880م) الذي كان تلميذاً لايتارد. وربما تكون قصة طفل الآفيرون وراء تلك الرغبة والميل اللذين كان سيغان يبديهما لمعرفة الأسباب التي تكمن وراء الضعف العقلي عند بعض الأفراد.
انطلق سيغان من فرضية مفادها أن التخلف العقلي في مستوى العته لا يحدث نتيجة اختلال أو نقص في الدماغ بقدر ما هو توقف في عملية النمو. وشرع في البحث عن الأدوات والوسائل التي يتحقق بفضلها من صحة هذه الفرضية. فوجد عبر العديد من الدراسات أن الإدراك الحسي يؤلف حجر الزاوية في تدارك النقص العقلي عند الأطفال. ولذا حرص على أن تستجيب وسائله وأدواته لمتطلبات تدريب أعضاء الحس عند المعتوهين.
ويسجل تاريخ الأمراض العقلية وتربية الأطفال المتخلفين عقلياً بعض النجاحات التي أحرزها سيغان في عمله، وهذا ما شجعه على إقامة مدرسة للمعتوهين في باريس عام 1837م، وبقي يشتغل فيها حتى عام 1850م، حيث غادر فرنسا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك شارك في تأسيس عدة مدارس ومراكز للمتخلفين عقلياً، وأسهم في نشاطها أيّما إسهام حتى وفاته.
لم يقتصر نشاط العلماء الفرنسيين على هذا الجانب من الحياة النفسية، وإنما شمل مختلف الاضطرابات والانحرافات السلوكية لدى الإنسان. والحقيقة التي يجمع عليها معظم مؤرخي علم النفس هي أن علم النفس المرضي مدين بنشأته وتطوره للفيلسوف الفرنسي تيودول ريبو(1839م-1916م).
وجه ريبو اهتمامه، بادئ ذي بدء، نحو واقع الدراسات النفسية ومستقبل علم النفس وعلاقته بالفلسفة والفيزيولوجيا والطب وغيرها من العلوم. وكرس عدداً من مؤلفاته الأولى لعرض آرائه في هذا الصدد. ومن أهم هذه المؤلفات "علم النفس الإنكليزي المعاصر"(1870) و "علم النفس الألماني المعاصر"
(1879). ولكنه تحول فيما بعد إلى دراسة الحالات النفسية المرضية كالعواطف والإرادة والانفعالات، وبعض العمليات المعرفية كالذاكرة. وخصص لكل منها كتاباً من مثل "أمراض الذاكرة"(1881) و "أمراض الإرادة"(1883) و "أمراض الشخصية"(1885) و "علم نفس العواطف"(1896).
وفي عام 1885 تولى ريبو تدريس المنهج في علم النفس التجريبي في السوربون. وبعد ثلاثة أعوام فقط منح كرسي علم النفس التجريبي والمقارن في الكوليج دوفرانس. وهو الكرسي الذي استحدث مجدداً بفضل جهود إ. رينان. وقد بقي محتفظاً به حتى عام 1901 حيث تخلى عنه لجانيه أحد تلاميذه واستمر فيه هذا الأخير طيلة 35 عاماً.
رأى ريبو أن النفس البشرية تتألف من شبكة من العمليات التي يرتبط بعضها ببعض، بحيث تقوم المعقدة منها على أساس الأقل تعقيداً، وهذه تنشأ من البسيطة وهكذا. والغرائز –من وجهة نظره- هي القاعدة التي يقوم عليها البنيان النفسي بدءاً من الإدراكات حتى الذاكرة والإرادة والعواطف. وإذا كان الخط الذي ترسمه الوظائف النفسية عند الإنسان أثناء تشكلها ونموها خطاً تصاعدياً، فإن الأمراض التي تصيبها تتجه –باعتقاده- اتجاهاً عكسياً، من الأعلى إلى الأدنى. وهذا يعني أن منشأ الأمراض النفسية نفسي وليس عضوياً.
لقد جاءت نظرية ريبو في بنية الجهاز النفسي وأمراضه تعميماً لدراسات جمة في ميادين الطب والتشريح والفيزيولوجيا وعلم النفس. فهي، والحالة هذه، أقرب إلى الفرضية منها إلى البراهين والأحكام القائمة على التجربة والمعطيات الميدانية. ولم يغب ذلك عن ذهن ريبو، وأحس بضرورة القيام بما من شأنه التدليل على صحتها. ولما لم تكن لديه قدرة الطبيب المتمرس القادر على معاينة أفكاره وتصوراته في الواقع، فقد حث تلاميذه كي يعدوا أنفسهم للاضطلاع بهذه المهمة.
وبينما كان ريبو داخل المكتبة منهمكاً في الإطلاع على التراث العلمي، مستغرقاً في تدوين المناسب والمفيد من الملاحظات والاقتباسات من منظور ثقافته الفلسفية، كان مواطنه شاركو يتابع التغيرات والتبدلات التي تطرأ على سلوك مرضاه في المستشفى السالبتريير الباريزي.
يعد جان مارتان شاركو(1825م –1893م) من أبرز أنصار الاتجاه العضوي في تفسير الاضطرابات النفسية، و أحد مؤسسي علم الأعصاب المعاصر. ولقد أولى في العقدين الأخيرين من حياته جل اهتمامه بمرض الهستيريا. وجهد في معالجة المصابين به مستخدماً طريقة التنويم المغناطيسي. ولهذه الطريقة قصة طويلة حققت عبر مراحلها المتعددة القليل من النجاح والكثير من الإخفاق. وهي تمتد بجذورها إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، حيث كانت تعرف بالمسمرية نسبة إلى رجل ألماني اسمه فرانز انطون مسمر(1734م-1815م). وتعتمد هذه الطريقة، في جوهر الأمر، على الاستهواء أو الإيحاء الذي يستطيع الطبيب على أساسه تنويم المريض تنويماً اصطناعياً. وقد ادعى مسمر أن الاضطراب في سلوك الإنسان يحدث بسبب خلل في توزيع سائل حيواني مجهول أطلق عليه مصطلح "المغناطيسية الحيوانية". وزعم أن طريقته تساعد على إعادة هذا السائل إلى حالته الطبيعية. ومع أن مسمر حقق من خلال عروضه الناجحة بعض النتائج الإيجابية على صعيد استقطاب الكثير من المعجبين ولفت انتباه لفيف من العلماء والباحثين نحو ممارساته، إلا أنه أخفق في تقديم تفسير علمي لفرضيته وطريقته: وهذا ما أفقد عمله فيما بعد جاذبيته، وحمل الدوائر العلمية على اتهامه بالدجل والشعوذة.
وإذا كان ضوء التنويم المغناطيسي قد خبا في ألمانيا بوفاة مسمر، فإنه وجد بعد ذلك الكثير من الدعاة والأنصار في إنكلترا وفرنسا بشكل خاص. فقد عمل كلٌ من جيمس ايزويل وجون اليوتسون وجيمس بريد على نشر المسمرية واستخدامها في معالجة الأمراض العصبية ووسيلة تخدير في العمليات الجراحية. وبذل كل منهم جهوداً كبيرة في البحث عن ذلك التفسير العلمي المقنع الذي عجز مسمر عن الوصول إليه. وتذكر الأدبيات السيكولوجية أن بريد توصل في ختام سلسلة من تطبيقات المسمرية على المرضى والأسوياء، وشملت، فيما شملته، أعضاء أسرته، إلى أن المسمرية هي نوع من النوم "يحدث عن طريق شل عمل العضلات الرافعة للجفون بسبب النشاط المستمر خلال الحملقة لفترة طويلة"(فلوجل، 1979، 75).
ولا نجافي الحقيقة التاريخية إذا قلنا أن التنويم المغناطيسي لم يتمكن من انتزاع اعتراف الأوساط العلمية به، إلا بفضل الجهود التي بذلها شاركو أحد أبرز القائلين بضرورة العودة إلى العوامل العضوية لدى تحليل الأمراض الهستيرية ومعالجة المصابين بها. فالاضطرابات العصبية والعضوية تؤدي إلى اختلال السلوك وفقدان التحكم بالأفعال والتصرفات عند الأفراد. وعند استخدامه التنويم المغناطيسي وقف على الكثير من أوجه التشابه بين سلوك المنوم بهذه الطريقة الاصطناعية وسلوك المريض بالهستيريا وقادته ملاحظته هذه إلى الاعتقاد بأن التنويم المغناطيسي ظاهرة مرضية، مثله مثل الهستيريا. فكلاهما ينشأ بفعل التغيرات العصبية.
وهكذا يلتقي شاركو مع ممثلّي الطب العقلي في ألمانيا خلال القرن التاسع عشر حول الأصول العضوية للأمراض النفسية. فقد ذهب كل من ولهلم غريزنغر واميل كريبليين إلى القول بأن الاضطرابات التي تصيب الجملة العصبية هي السبب في ظهور هذه الأمراض. وأن الأعراض المرضية العقلية لا تظهر نتيجة اختلال الجهاز النفسي أو بعض أجزائه، وإنما بسبب تلف في خلايا منطقة أو أكثر من مناطق المخ. وهي بذلك تشبه أمراض الجسم التي تنجم عن إصابة الأجهزة التي تؤدي وظائف عضوية حيوية، كجهاز دوران الدم والجهاز البولي والجهاز الهضمي... الخ. بيد أن غريز نغر وكريبلين لم يتسلحا بهذا الاعتقاد ليخطوا الخطوة الثانية الإيجابية والمنطقية ويجمعا من الواقع الأدلة على صحة فرضيتهما. ذلك لأنهما لم ينظرا إلى مستقبل الأمراض النفسية نظرة أمل وتفاؤل، وأوصدا الباب أمام كل إمكانية للشفاء منها.
وبينما كان شاركو يعلن نتائجه من مستشفى السالبتريير، كان مواطناه الطبيبان هيبولايت برنهايم(1837م-1919م) وليبو يدرسان في مستشفى مدينة نانسي الفرنسية التغيرات التي يحدثها التنويم المغناطيسي لدى الإنسان المنوم. وتوصلا إلى استنتاج يعارض ما توصل إليه شاركو. فقد لاحظا أن بين الهستيريين والأسوياء الذين يمكن تنويمهم مغناطيسياً عاملاً مشتركاً يتمثل في استعداد كل منهما للإيحاء.
فالتنويم المغناطيسي، والحالة هذه، هو حالة نفسية يقف الإنسان خلالها حيال الأوامر والإشارات والأفكار موقفاً لا إرادياً، من غير أن يبدي أي اعتراض أو احتجاج. ولهذا اعتبره برنهايم وجماعته ظاهرة طبيعية خالية من كل ما هو عرض مرضي. ولعلنا نجد موقفاً قريباً من موقف مدرسة نانسي عند العالم الفرنسي جانيه.
كان بيير جانيه(1859م-1947م) يتمتع بثقافة فلسفية دأب على دعمها بدراسة الطب والفيزيولوجيا عملاً بنصيحة أستاذه ريبو وعمه الفيلسوف بول جانيه. ومع أنه درس الطب على يد شاركو، فقد ذهب في تأويل الأمراض النفسية مذهب ريبو. حيث نظر إلى حالة التنويم المغناطيسي على أنها ليست مما يمكن إرجاعه إلى تغيرات الجملة العصبية، وإنما هي شكل من أشكال النوم الاصطناعي الذي تصبح أفعال الشخص وتصرفاته أثناءه لا شعورية.
وعلاوة على ذلك تناول جانيه علاقة الجانب العقلي بالجانب الانفعالي وأثر انسجامهما وتكاملهما في الحياة النفسية. واعتقد بأن اضطراب هذه العلاقة يشكل العرض الجوهري للهستيريا. ولئن كان الجانبان يؤلفان لدى الإنسان السوي كلاً متكاملاً وثابتاً نسبياً، فإنهما في حالة الهستيريا يفتقران إلى مثل هذا التكامل وذاك الثبات. وهنا، في الحالة الأخيرة، تضعف(إن لم نقل تنعدم) وحدة الشخصية إلى درجة تنقسم فيها إلى بناءات منفصلة. وعندها يظهر لدى المريض(تبعاً لشدة المرض ودرجته) أكثر من "أنا" لا وجود لأي علاقة فيما بينها، الأمر الذي يحوّل علاقة الإنسان بمحيطه من علاقة منسجمة ومتوازنة إلى علاقة نزاعٍ وصراعٍ حادّين.
بوح الروح
ولعلّ آراء هيلمهولتز في النشاط الحسي ونظرته إليه كآلية من آليات تفاعل الكائنات الحية، ولا سيما الإنسان، مع العالم الخارجي تعتبر الأرضية التي حملت بذور التغير في بنية الفكر الحيوي التي سرعان ما لاقت العناية اللازمة لنموها وتفتحها في ذلك العصر. فقد أضحى هذا التفاعل محوراً تركزت حوله دراسة الباحثين لسلوك الإنسان والحيوان في أواسط القرن التاسع عشر.
وقبل هذا التاريخ لم يكن تفسير هذه المسألة ليتعدى الأطر الفيزيائية والكيميائية. ومع ظهور كتاب "أصل الأنواع" لداروين عام 1859م بدأت النظرة إليها تتخذ بعداً نوعياً أكثر عمومية وشمولية.
عرف تشارلز داروين(1809-1882م) بنظرته الثاقبة وإرادته القوية وفكره الوقّاد. وقد مكنته هذه السمات من الجمع بين المعطيات العلمية السابقة والنتائج التي أوصلته إليها ملاحظته الموضوعية الدقيقة، وتعميم ذلك كلّه على نحو مبدع وأصيل. ومع أن فكرة النشوء والارتقاء التي جاء بها داروين لم تكن جديدة تماماً على الفكر الإنساني، إلا أن أحداً قبله لم يخلع عليها مواصفات النظرية العلمية، ولم يحدد أبعادها ويتتبع كل واحدة منها، أو يكشف عن دورها وأهميتها فيها وفق نظام متماسك كما هو الشأن عنده.
ومن منظور مهمة العمل الحالي يبدو طبيعياً أن لا ينتظر القارئ عرضاً مفصلاً لتعاليم داروين ونشاطاته العلمية وعلاقاته الاجتماعية التي جعلت من نظريته مادة جدل حاد ومناقشات ساخنة من قبل العلماء ومختلف فئات المثقفين في أنحاء مختلفة من العالم منذ الإعلان عنها وحتى الآن.
إننا نميل إلى الاعتقاد بتعدّد مصادر هذه النظرية، وعدم حصرها في مجال ضيق أو مجموعة محددة من المؤلفات. إذ من الصعب أن يستثير عدد قليل من الأعمال، مهما كان محتواها غنياً وعميقاً، لدى الإنسان، مهما بلغ من الذكاء، القدرة على صياغة نظرية كالتي وضعها داروين.
إن نظرة داروين إلى قدرة مختلف أنواع الكائنات العضوية على البقاء تتحدد في ضوء مبدأ التكيف أو التلاؤم مع شروط الحياة. فإمكانية الكائن الحي على التكيف، وبالتالي البقاء والاستمرار، تقررها بنية العضوية والوظائف التي تقوم بها.
فالوسط الخارجي بما يتضمنه من أشياء وظواهر وما يحمله من تغيرات يفرض وجود صفات معينة في بنية الكائن الحي تؤهله للقيام بالمهمة الوجودية. وهذه الصفات تنتقل من جيل إلى جيل من نفس النوع بالوراثة. ولكنها خلال عملية الانتقال هذه لا تبقى على حالها، وإنما تطرأ عليها تغيرات، كثيرة أو قليلة، تمليها الشروط الخارجية. وهذا ما عرفه داروين بالاصطفاء الطبيعي الذي يبقي على الصفات الإيجابية في تركيب العضوية، بل ويطورها، ويقضي دون رحمة ولا شفقة على تلك التي تبدي قصوراً أو عجزاً إبان الصراع من أجل البقاء.
وما قدمه داروين إلى علم النفس يتمثل، باختصار، في مبدأ "البقاء للأصلح والأقوى" الذي يسري على جميع الأنواع، بما فيها الإنسان، وتتحدد –على أساسه- أجناسها وفصائلها ومستوياتها في النظام العضوي الشامل. وبما أن مركبات العضوية وسماتها تتطور بفضل قدرتها على التلاؤم، فقد حاول بعض علماء النفس، فيما بعد، أن يدرسوا السلوك من وجهة نظر ارتقائية باعتباره أداة من أدوات الصراع من أجل البقاء، وعاملاً هاماً من عوامل النشوء والتطور.
ويمكن صياغة موقف هؤلاء العلماء على النحو التالي: إن البيئة تتطلب استجابات معينة وسلوكاً محدداً من جانب الكائن الحي. وما دامت هذه البيئة متغيرة إلى هذا الحد أو ذاك، فإن على الكائن الحي –تبعاً لذلك- أن يغير استجاباته ويعدل سلوكه ليحافظ على توازنه، ويحقق التلاؤم المطلوب. على أن الصفات النفسية التي يتمتع بها هذا الكائن ليست أداته الوحيدة للوصول إلى الهدف النهائي. فهناك أداة أخرى ذات نفوذ واسع في توجيه سلوكه واستجاباته.
وهذه الأداة هي الغريزة. وبالنظر إلى ما تكتسبه دراسة هذا الجانب من أهمية على الصعيدين: النفسي والعضوي، فقد خصص له داروين بابا كاملاً من مؤلفه المذكور.
يعرف داروين الغريزة بأنّها قوة عمياء، لا شعورية ولا إرادية. وهي، من حيث نشأتها، ترجع إلى أزمنة تاريخية سحيقة. وبهذا يردّ على اعتقاد البعض بأن الغريزة تحمل صفات العقل والوعي. وليدلل على صحة رأيه يسوق العديد من الأمثلة والمعطيات التي تلقي الضوء على البعد التاريخي لتشكل الغرائز ووجودها عند الحيوانات والإنسان، ممّا اعتبر مادة جديدة لنشاط علماء النفس.
وبعد أن فرغ داروين من كتابه الأول "أصل الأنواع" انكب على جمع الأدلة والشواهد التي تسهم بنصيب وافر في البرهان على صحة نظريته. وقاده الاحتكام إليها ومقارنتها بعضها ببعض إلى الكشف عن الحركات التعبيرية التي ترافق الحالات الانفعالية عند الإنسان والحيوان. وهذا ما بسطه بأسلوب جذاب في كتابه "أصل الإنسان" الذي نشره عام 1871. وخلاصة ما توصل إليه هو أن التغيرات الخارجية التي تطرأ على العديد من أعضاء جسم الإنسان والحيوان، كحركات اليدين وتقلص عضلات الوجه وانبساطها واستدارة العينين وجحوظهما والتكشير عن الأسنان... الخ ذات مغزى عميق بالنسبة للتكيف مع الظروف البيئية المستجدة.
ويعالج داروين هذه المسألة في كتاب آخر بعنوان "التعبير عن الانفعالات عند الإنسان والحيوانات"(1872م) بصورة أكثر تفصيلاً. فيرى أن التكشير عن الأسنان، مثلاً،(وهو ما نلاحظه عند كل من الإنسان والحيوان) يؤلف جزءاً من حالة التأهب للانقضاض والعراك. أي أنه عنصر من عناصر الاستجابة العدوانية أو الدفاعية على المؤثرات الخارجية.
وعلى أساس هذه الملاحظات والاستنتاجات يصوغ داروين فرضية حول نشوء الحركات التعبيرية بوصفها الوجه الظاهري للانفعالات التي يعتبرها أداة هامة من الأدوات التي يستجيب الكائن بها لمتطلبات الحياة. ولكن وجودها عند الإنسان الحالي في حالات الغضب والفرح والسخرية وغيرها لم يعد يحمل
–في نظر داروين- نفس المغزى الحيوي كما كان الحال في العصور السحيقة. فهي، من هذه الزاوية، من رواسب الماضي التي لم تعد الآن تؤدي وظيفتها كمركب من مركبات السلوك. وحينما نصادفها لدى إنسان هذا العصر، فإنّما يحدث ذلك خارج وعيه ودون تدخلٍ من جانب إرادته.
لقد تحدث داروين ضمن سياق نظريته وفي العديد من المناسبات عن الوراثة وما تكتسبه من أهمية بالغة في عملية النشوء والارتقاء. وقصر هذه الأهمية في البداية على الجانب العضوي فقط. وافترض، بالنسبة للجانب الآخر، النفسي، أن الناس الأصحاء يتساوون في استعداداتهم النفسية. أما الفروق التي نلحظها فيما بينهم فهي –برأيه- نتيجة لاختلاف اهتماماتهم وتباين مواقفهم. وبعد إطلاعه على كتاب "عبقرية الوراثة" لقريبه غالتون، تراجع عن فرضيته هذه ليشدّد على دور الوراثة في تحديد الصفات والخصائص الجسمية والنفسية على حدّ سواء.
2-دراسة الشخصية والفروق الفردية.
من الموضوعات التي تناولها العلماء خلال القرن التاسع عشر تلك التي تتعلق بالصفات الجسمية والنفسية ودرجات تفاوتها عند البشر. فاختلاف الناس في طول القامة ولون الشعر والعينين والبشرة وحجم الجمجمة وغيرها من الخصائص الجسمية، وكذا تباينهم من حيث القدرات العقلية والدوافع والعواطف والإرادة وسواها من السمات النفسية استرعيا نظر الإنسان منذ القديم. ومع التطور خلال القرنين الماضيين على وجه التحديد أصبح هذا الاختلاف وذاك التباين بين الناس في أجسامهم ونفوسهم من المسائل الملحة التي تتوقف جملة من الإجراءات والتدابير في الميادين المذكورة على حلها. ويعتبر غالتون أحد الرواد الذين سعوا إلى إيجاد معايير موضوعية تكون صالحة لتقويم إمكانات الفرد وقدراته النفسية. ويجدر بنا قبل استعراض ما قدمه هذا العالم أن نشير إلى المحاولات التي سبقت محاولته.
ولعلّ أول ما يمكن قوله بصدد تلك المحاولات هو أنها كانت بحق خطوة على طريق البحث العلمي والنظرة الموضوعية للنفس الإنسانية؛ إذ بفضلها تم الانتقال في مجال تقويم إمكانات الإنسان وقياس مختلف الجوانب النفسية عنده من الحدس والتخمين إلى القياس الصحيح.
وتمثل الفيزيونوميا(علم الفراسة) التي ظهرت في ألمانيا وفرنسا خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر أولى هذه المحاولات. فلقد أكد أصحاب هذه النزعة على وجود علاقة وثيقة بين ملامح وجه الإنسان وسلوكه. وهذا ما عبّر عنه لافاتير أحد مؤسسي الفيزيونوميا من خلال إرجاعه بعض صفات الشخصية إلى شكل الأنف وحجمه. فصاحب الأنف المستقيم والمعتدل يميل، في رأيه، إلى الدّعة وحب الآخرين. بينما يتسم صاحب الأنف المدبب والمعقوف بالقسوة والعدوانية.
وفي مطلع القرن التاسع عشر ظهر في ألمانيا اتجاه آخر عرف بالفرينولوجيا PHRENOLOGIE(علم فراسة الدماغ). ويعتبر الطبيب وعالم التشريح النمساوي فرانز جوزيف جول(1758-1828م) وسبورز هايم من أبرز ممثلي هذا الاتجاه. فقد بحث الرجلان عن الأساس الذي يمكن الاعتماد عليه في تحديد الصفات النفسية للإنسان. ووجدا أنه يكمن في تركيب الجمجمة وليس في بنية الوجه وملامحه. فالنفس الإنسانية –عندهما- تتألف من 37 ملكة عقلية وانفعالية وتحتل كل ملكة منطقة معينة من اللحاء، يقابلها جزء من الجمجمة يدل سطحه على درجة نموها وتطورها.
ومن غير أن نخوض في تفصيلات هذه النظرية نعود فنؤكد مرة أخرى على أنها كانت محطة جديدة في مسار الفكر الإنساني المتصاعد، على الرغم من افتقادها إلى الطريقة العلمية وضعف الأدلة التي عرضها ممثلوها. يقول فلوجل في هذا الصدد: "وكان يمكن أن يؤدي فشل الفرينولوجيا إذا تمّ إدراك ذلك في وقته إلى تقوية الاتجاه العام المنادي بإهمال أو عدم الثقة في الفيزيولوجيا، ذلك الاتجاه الذي كان يميز قادة علم النفس المعاصرين. كما كان سيؤدي إلى تثبيط همة علماء الفسيولوجيا وإهمالهم توجيه جهودهم إلى دراسة المخ. ولحسن الحظ لم يحدث شيء من ذلك، ويبدو أنه حوّل الأنظار عن التأمل العقيم في بحث وسيلة أو مركز التفاعل بين الجسم والعقل إلى البحث الأكثر فائدة عن شكل ما من الارتباط السيكوفيزيقي"(1979، 34).
وبالإضافة إلى أن الفرينولوجيا وجهت أنظار علماء الفيزيولوجيا نحو دراسة الجملة العصبية المركزية بطرائق موضوعية، فإنَّ ثمة الكثير من الوقائع التي تحمل على الاعتقاد بأن فضلها لم يكن أقل في توجيه الاهتمام بالعلاقة بين الجانب المادي والجانب الروحي واعتبارها منطلقاً لدراسة شخصية الإنسان. وإذا لم يكن هذا الفضل ملموساً أو –كما أشار فلوجل- مباشراً، فإنه موجود على نحو ما. فقد ربط العالم الفرنسي لويس روستان(1824) صفات الشخصية بأجهزة مختلفة من الجسم، الأمر الذي قاده إلى القول بوجود أربعة أنماط للشخصية: الهضمي والعضلي والمخي والتنفسي. كما توصل العالم الإيطالي فيولا(1909) إلى أن التفاوت بين الأفراد يعود إلى تباين حجوم أجسامهم. فصاحب الجسم الصغير يتصف بخصائص نفسية تجعله يختلف عن صاحب الجسم المعتدل أو الكبير اللذين ينفرد كل منهما بصفات نفسية مميزة. وفيما بعد قام كل من كرتشمر في ألمانيا وشلدون في الولايات المتحدة الأمريكية بتطوير هذا الاتجاه مستخدمين وسائل وطرائق جديدة.
وفي الفترة التي شهدت ظهور الفرينولوجيا وانتشارها كان الفلكي الألماني ف. بيسيل BESSEL يراجع قضية فصل كينبروك عن عمله كفلكي في مرصد غرينيتش بحجة عدم انضباطه ودقته في العمل. وتوصل بيسيل في نهاية تحرياته إلى أن أسباب الأخطاء التي يرتكبها الفلكيون، أمثال كينبروك، لا ترجع إلى الإهمال وعدم الدقة، وإنما إلى وجود فروق في سرعة الاستجابة بين الناس.
إن هذه النتيجة تتضمن، بالإضافة إلى البعد السيكوفيزيولوجي، بعداً سيكولوجياً صرفاً، يتمثل في وجود فروق بين الناس من حيث قدراتهم النفسية البسيطة منها والمعقدة. وهذا ما أثار فيما بعد فضول الباحثين، ودفعهم إلى البحث عن تقنيات تتناسب مع طبيعة المشكلات المطروحة.
ومن جهة أخرى كان العالم الرياضي البلجيكي أدولف كيتيليه
(1796-1874م) يتحقق من مبدأ لابلاس وغوس في التوزيع الطبيعي. فوجد هذا العالم أن قامات الناس تتوزع على نحو تتوضع معظمها في الوسط، وتقلّ الطويلة والقصيرة منها تدريجياً كلما ابتعدنا عنه باتجاه اليمين أو باتجاه اليسار لتتخذ شكل الهضبة أو الجرس. ولقد قام كيتيليه بتعميم هذه الملاحظة على العديد من الظواهر العضوية والنفسية مؤكداً أنها تخضع في توزيعها وانتشارها بين الناس للمبدأ ذاته.
لقد لاقت هذه الآراء اهتماماً كبيراً من جانب العالم الإنكليزي فرانسيس غالتون(1820-1911). فعمل على الإفادة منها وتطويرها لدى دراسته للعديد من مظاهر السلوك الإنساني.
نشر غالتون مجموعة من الكتب والمقالات بدأها بـ "عبقرية الوراثة"
(1869) الذي خصصه لعرض أهم أفكاره وأسس نظريته. وجاءت أعماله اللاحقة، ولا سيما "رجال العلم الإنكليز"(1874) و "مباحث ملكة الإنسان وتطويرها"(1883) توضيحاً لهذه الأفكار وترسيخاً لتلك الأسس.
يؤكد غالتون أن الفروق الفردية في الذكاء العام والقدرات المعرفية بين الناس تشكل سلماً ذا درجات متعددة. ويرجع توزع الناس حسب ذكائهم على درجات هذا السلم إلى عامل الوراثة. ولكي يبرهن على صحة هذه الفرضية قام بجمع كمية ضخمة من البيانات المتعلقة بتاريخ العائلات المشهورة في بريطانيا. وقد قادته معاينته لتلك البيانات إلى نتيجة مفادها أن الوراثة تلعب الدور الحاسم في تعيين مكونات العبقرية. وعلى هذا الأساس يقرر أن الآباء الأذكياء ينجبون أبناء أذكياء، وأنه لا مجال للحديث عن أي دور للبيئة أو المصادفة في وجود أطفال أذكياء ينحدرون من أسر عادية أو ضعيفة الذكاء. فالوراثة هي التي تقرر مصائر البشر ومستقبلهم.
وإلى جانب ذلك أخضع غالتون العديد من الصفات الجسمية والنفسية للدراسة التجريبية المقارنة(حدة السمع والبصر، سرعة الاستجابة، التذكر الصوري، الارتباط الحسي، طول القامة، وزن الجسم.. الخ)، مستخدماً في ذلك طريقة الروائز. وقد فسر وجود هذه الصفات التي تحدد –كما يقول- طبيعة السلوك في ضوء قانون الوراثة. كما مكنه التطبيق المتقدم لبعض المفاهيم والقوانين الرياضية لدى تحليله للمعطيات من الكشف عن العلاقات الارتباطية بين الظواهر المدروسة. وقاده ذلك كله إلى الحكم بوجود تنظيم جسمي ونفسي خاص بالفرد يجعله متميزاً عن غيره من الناس.
ومع الإشارة إلى التقريرية التي طبعت أفكار غالتون بالطابع الطبقي والعنصري بهدف تكريس الواقع الاجتماعي، فقد كان لبحوثه وأساليبه المبتكرة دور لا يستهان به في ظهور عدد من ميادين علم النفس وتطور الدراسات فيها. وهذا ما يتجسد عبر ما جاء به تلاميذه وأتباعه فيما بعد. حيث قام كارل بيرسون بتطوير تعاليمه، وخاصة في مجال البحث عن الأسباب المشتركة لتغير الصفات النفسية، وبالتالي وجود الفروق بين الناس. وقد اتبع بيرسون منهجاً طوره عالم النفس الإنكليزي تشارلز سبيرمان، وأطلق عليه اسم "التحليل العاملي".
3-دراسة الظواهر النفسية المرضية.
لم تكن الظواهر النفسية الشاذة والمرضية بعيدة عن دائرة اهتمام الإنسان عبر مراحل تاريخه الفكري، وإنما كانت واحدة من المشكلات التي دفعت الأفراد والجماعات إلى التفكير بها وتأمل أعراضها والتعرف على أسبابها. غير أن تصوراتهم عنها كانت، إلى عهد غير بعيد، أقرب إلى الأسطورة والخرافة. فقد اعتقد الناس في القرون الوسطى أن الحالات النفسية المرضية والاضطرابات العصبية التي تصيب الإنسان، إنما تحدث بفعل تملك الأرواح الشريرة أو الشياطين أو الجن وسواها من الكائنات غير المرئية للمصاب. لذا فإن وسائل العلاج من هذه الأعراض كانت ضرباً من ضروب السحر والشعوذة. فكان على هذه المظاهر النفسية المرضية أن تنتظر ابن رشد لكي يقدم تفسيراً علمياً لها ويصنف الكثير منها، وينصح بإقامة مراكز مخصصة للعناية بالمرضى العقليين والنفسيين ورعايتهم.
وفي ذلكم الوقت الذي طالب فيه ابن رشد بضرورة معاملة المرضى نفسياً على نحو تزول معه ظروف العسف والظلم والاضطهاد التي تحيق بهم عبر العصور التاريخية الطويلة، كان المسؤولون في المجتمعات الأوربية يأمرون بعزلهم وسجنهم وتعذيبهم. وعلى الرغم من الأصوات التي كانت ترتفع بشيء من الخوف والقلق على واقع هؤلاء المرضى ومستقبلهم، أمثال الطبيب الألماني يوهان ويير JOHANN WEYER في القرن السادس عشر، فقد ظل الاعتقاد بأن الأرواح الشريرة والشياطين هي علّة كافة الأمراض النفسية والعقلية سائداً حتى أواخر القرن الثامن عشر. حيث أقدم الطبيب الفرنسي فيليب بينيل PHILIPPE PINEL عام 1793 على تحطيم الأغلال التي كانت تكبل أيدي وأرجل مرضاه العقليين. ونادى بضرورة البحث عن أسباب الأمراض الذهانية في البنية البيولوجية والفيزيولوجية للمريض، وليس في القوى الغيبية والميتافيزيائية. وبهذا يكون بينيل أوّل من فسح المجال أمام الذهان ليأخذ مكانه ضمن اهتمامات الأطباء وعلماء الفيزيولوجيا وعلماء النفس فيما بعد.
عمل بينيل مديراً لمستشفى بيسيتر BICETRE ومستشفى سالبتريير SALPETRIERE للأمراض العقلية أعواماً طويلة. وقد ساعده ذلك في الوقوف على الكثير من أعراض الجنون، والتمييز بين العديد من حالاته ودرجاته، الأمر الذي حدا به للقيام بمحاولة لتبويبها وتصنيفها بصورة لم يعرف لها مثيل في دقتها وتفصيلاتها وتنظيمها من قبل. وجاء من بعده إسكيرول ليتابع الطريق الذي شقه أستاذه. ثم عرفت المستشفيات والعيادات الطبية الفرنسية على امتداد القرن التاسع عشر طائفة من الأطباء النفسيين والمهتمين بمشكلات الشذوذ والضعف العقلي.
ويعتبر ايتارد أول من اهتم بضعاف العقل وتربيتهم. وكان لآرائه صدى إيجابي في الأوساط العلمية في فرنسا وخارجها. وقد تسنى له عام 1798م أن يدرس حالة "طفل الآفيرون المتوحش" الذي عثر عليه صيادون وهو في الثامنة من العمر تقريباً. ولم يكن هذا الطفل ليعرف طريقه إلى المجتمع الإنساني قبل ذلك. وعاش سني حياته في حالة شبيهة بالحيوانية. وأول ما لاحظه ايتارد على هذا الطفل هو تخلفه العقلي الشديد. فراح يعمل بكثير من التفاؤل والأمل طيلة خمسة أعوام متتالية لتعويضه ما فاته أو فقده. ولكن النتائج كانت متواضعة للغاية ومخيبة للتفاؤل والأمل اللذين كانا يلازمانه طيلة سنوات عمله، فلم تظهر لدى الصبي أية قدرات ولم يتعلم شيئاً باستثناء اكتسابه لبعض المهارات التي تعينه في التلاؤم مع بيئته الجديدة.
انتقل الاهتمام بتربية ضعاف العقل إلى طبيب فرنسي آخر هو أ. سيغان
(1812م-1880م) الذي كان تلميذاً لايتارد. وربما تكون قصة طفل الآفيرون وراء تلك الرغبة والميل اللذين كان سيغان يبديهما لمعرفة الأسباب التي تكمن وراء الضعف العقلي عند بعض الأفراد.
انطلق سيغان من فرضية مفادها أن التخلف العقلي في مستوى العته لا يحدث نتيجة اختلال أو نقص في الدماغ بقدر ما هو توقف في عملية النمو. وشرع في البحث عن الأدوات والوسائل التي يتحقق بفضلها من صحة هذه الفرضية. فوجد عبر العديد من الدراسات أن الإدراك الحسي يؤلف حجر الزاوية في تدارك النقص العقلي عند الأطفال. ولذا حرص على أن تستجيب وسائله وأدواته لمتطلبات تدريب أعضاء الحس عند المعتوهين.
ويسجل تاريخ الأمراض العقلية وتربية الأطفال المتخلفين عقلياً بعض النجاحات التي أحرزها سيغان في عمله، وهذا ما شجعه على إقامة مدرسة للمعتوهين في باريس عام 1837م، وبقي يشتغل فيها حتى عام 1850م، حيث غادر فرنسا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك شارك في تأسيس عدة مدارس ومراكز للمتخلفين عقلياً، وأسهم في نشاطها أيّما إسهام حتى وفاته.
لم يقتصر نشاط العلماء الفرنسيين على هذا الجانب من الحياة النفسية، وإنما شمل مختلف الاضطرابات والانحرافات السلوكية لدى الإنسان. والحقيقة التي يجمع عليها معظم مؤرخي علم النفس هي أن علم النفس المرضي مدين بنشأته وتطوره للفيلسوف الفرنسي تيودول ريبو(1839م-1916م).
وجه ريبو اهتمامه، بادئ ذي بدء، نحو واقع الدراسات النفسية ومستقبل علم النفس وعلاقته بالفلسفة والفيزيولوجيا والطب وغيرها من العلوم. وكرس عدداً من مؤلفاته الأولى لعرض آرائه في هذا الصدد. ومن أهم هذه المؤلفات "علم النفس الإنكليزي المعاصر"(1870) و "علم النفس الألماني المعاصر"
(1879). ولكنه تحول فيما بعد إلى دراسة الحالات النفسية المرضية كالعواطف والإرادة والانفعالات، وبعض العمليات المعرفية كالذاكرة. وخصص لكل منها كتاباً من مثل "أمراض الذاكرة"(1881) و "أمراض الإرادة"(1883) و "أمراض الشخصية"(1885) و "علم نفس العواطف"(1896).
وفي عام 1885 تولى ريبو تدريس المنهج في علم النفس التجريبي في السوربون. وبعد ثلاثة أعوام فقط منح كرسي علم النفس التجريبي والمقارن في الكوليج دوفرانس. وهو الكرسي الذي استحدث مجدداً بفضل جهود إ. رينان. وقد بقي محتفظاً به حتى عام 1901 حيث تخلى عنه لجانيه أحد تلاميذه واستمر فيه هذا الأخير طيلة 35 عاماً.
رأى ريبو أن النفس البشرية تتألف من شبكة من العمليات التي يرتبط بعضها ببعض، بحيث تقوم المعقدة منها على أساس الأقل تعقيداً، وهذه تنشأ من البسيطة وهكذا. والغرائز –من وجهة نظره- هي القاعدة التي يقوم عليها البنيان النفسي بدءاً من الإدراكات حتى الذاكرة والإرادة والعواطف. وإذا كان الخط الذي ترسمه الوظائف النفسية عند الإنسان أثناء تشكلها ونموها خطاً تصاعدياً، فإن الأمراض التي تصيبها تتجه –باعتقاده- اتجاهاً عكسياً، من الأعلى إلى الأدنى. وهذا يعني أن منشأ الأمراض النفسية نفسي وليس عضوياً.
لقد جاءت نظرية ريبو في بنية الجهاز النفسي وأمراضه تعميماً لدراسات جمة في ميادين الطب والتشريح والفيزيولوجيا وعلم النفس. فهي، والحالة هذه، أقرب إلى الفرضية منها إلى البراهين والأحكام القائمة على التجربة والمعطيات الميدانية. ولم يغب ذلك عن ذهن ريبو، وأحس بضرورة القيام بما من شأنه التدليل على صحتها. ولما لم تكن لديه قدرة الطبيب المتمرس القادر على معاينة أفكاره وتصوراته في الواقع، فقد حث تلاميذه كي يعدوا أنفسهم للاضطلاع بهذه المهمة.
وبينما كان ريبو داخل المكتبة منهمكاً في الإطلاع على التراث العلمي، مستغرقاً في تدوين المناسب والمفيد من الملاحظات والاقتباسات من منظور ثقافته الفلسفية، كان مواطنه شاركو يتابع التغيرات والتبدلات التي تطرأ على سلوك مرضاه في المستشفى السالبتريير الباريزي.
يعد جان مارتان شاركو(1825م –1893م) من أبرز أنصار الاتجاه العضوي في تفسير الاضطرابات النفسية، و أحد مؤسسي علم الأعصاب المعاصر. ولقد أولى في العقدين الأخيرين من حياته جل اهتمامه بمرض الهستيريا. وجهد في معالجة المصابين به مستخدماً طريقة التنويم المغناطيسي. ولهذه الطريقة قصة طويلة حققت عبر مراحلها المتعددة القليل من النجاح والكثير من الإخفاق. وهي تمتد بجذورها إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، حيث كانت تعرف بالمسمرية نسبة إلى رجل ألماني اسمه فرانز انطون مسمر(1734م-1815م). وتعتمد هذه الطريقة، في جوهر الأمر، على الاستهواء أو الإيحاء الذي يستطيع الطبيب على أساسه تنويم المريض تنويماً اصطناعياً. وقد ادعى مسمر أن الاضطراب في سلوك الإنسان يحدث بسبب خلل في توزيع سائل حيواني مجهول أطلق عليه مصطلح "المغناطيسية الحيوانية". وزعم أن طريقته تساعد على إعادة هذا السائل إلى حالته الطبيعية. ومع أن مسمر حقق من خلال عروضه الناجحة بعض النتائج الإيجابية على صعيد استقطاب الكثير من المعجبين ولفت انتباه لفيف من العلماء والباحثين نحو ممارساته، إلا أنه أخفق في تقديم تفسير علمي لفرضيته وطريقته: وهذا ما أفقد عمله فيما بعد جاذبيته، وحمل الدوائر العلمية على اتهامه بالدجل والشعوذة.
وإذا كان ضوء التنويم المغناطيسي قد خبا في ألمانيا بوفاة مسمر، فإنه وجد بعد ذلك الكثير من الدعاة والأنصار في إنكلترا وفرنسا بشكل خاص. فقد عمل كلٌ من جيمس ايزويل وجون اليوتسون وجيمس بريد على نشر المسمرية واستخدامها في معالجة الأمراض العصبية ووسيلة تخدير في العمليات الجراحية. وبذل كل منهم جهوداً كبيرة في البحث عن ذلك التفسير العلمي المقنع الذي عجز مسمر عن الوصول إليه. وتذكر الأدبيات السيكولوجية أن بريد توصل في ختام سلسلة من تطبيقات المسمرية على المرضى والأسوياء، وشملت، فيما شملته، أعضاء أسرته، إلى أن المسمرية هي نوع من النوم "يحدث عن طريق شل عمل العضلات الرافعة للجفون بسبب النشاط المستمر خلال الحملقة لفترة طويلة"(فلوجل، 1979، 75).
ولا نجافي الحقيقة التاريخية إذا قلنا أن التنويم المغناطيسي لم يتمكن من انتزاع اعتراف الأوساط العلمية به، إلا بفضل الجهود التي بذلها شاركو أحد أبرز القائلين بضرورة العودة إلى العوامل العضوية لدى تحليل الأمراض الهستيرية ومعالجة المصابين بها. فالاضطرابات العصبية والعضوية تؤدي إلى اختلال السلوك وفقدان التحكم بالأفعال والتصرفات عند الأفراد. وعند استخدامه التنويم المغناطيسي وقف على الكثير من أوجه التشابه بين سلوك المنوم بهذه الطريقة الاصطناعية وسلوك المريض بالهستيريا وقادته ملاحظته هذه إلى الاعتقاد بأن التنويم المغناطيسي ظاهرة مرضية، مثله مثل الهستيريا. فكلاهما ينشأ بفعل التغيرات العصبية.
وهكذا يلتقي شاركو مع ممثلّي الطب العقلي في ألمانيا خلال القرن التاسع عشر حول الأصول العضوية للأمراض النفسية. فقد ذهب كل من ولهلم غريزنغر واميل كريبليين إلى القول بأن الاضطرابات التي تصيب الجملة العصبية هي السبب في ظهور هذه الأمراض. وأن الأعراض المرضية العقلية لا تظهر نتيجة اختلال الجهاز النفسي أو بعض أجزائه، وإنما بسبب تلف في خلايا منطقة أو أكثر من مناطق المخ. وهي بذلك تشبه أمراض الجسم التي تنجم عن إصابة الأجهزة التي تؤدي وظائف عضوية حيوية، كجهاز دوران الدم والجهاز البولي والجهاز الهضمي... الخ. بيد أن غريز نغر وكريبلين لم يتسلحا بهذا الاعتقاد ليخطوا الخطوة الثانية الإيجابية والمنطقية ويجمعا من الواقع الأدلة على صحة فرضيتهما. ذلك لأنهما لم ينظرا إلى مستقبل الأمراض النفسية نظرة أمل وتفاؤل، وأوصدا الباب أمام كل إمكانية للشفاء منها.
وبينما كان شاركو يعلن نتائجه من مستشفى السالبتريير، كان مواطناه الطبيبان هيبولايت برنهايم(1837م-1919م) وليبو يدرسان في مستشفى مدينة نانسي الفرنسية التغيرات التي يحدثها التنويم المغناطيسي لدى الإنسان المنوم. وتوصلا إلى استنتاج يعارض ما توصل إليه شاركو. فقد لاحظا أن بين الهستيريين والأسوياء الذين يمكن تنويمهم مغناطيسياً عاملاً مشتركاً يتمثل في استعداد كل منهما للإيحاء.
فالتنويم المغناطيسي، والحالة هذه، هو حالة نفسية يقف الإنسان خلالها حيال الأوامر والإشارات والأفكار موقفاً لا إرادياً، من غير أن يبدي أي اعتراض أو احتجاج. ولهذا اعتبره برنهايم وجماعته ظاهرة طبيعية خالية من كل ما هو عرض مرضي. ولعلنا نجد موقفاً قريباً من موقف مدرسة نانسي عند العالم الفرنسي جانيه.
كان بيير جانيه(1859م-1947م) يتمتع بثقافة فلسفية دأب على دعمها بدراسة الطب والفيزيولوجيا عملاً بنصيحة أستاذه ريبو وعمه الفيلسوف بول جانيه. ومع أنه درس الطب على يد شاركو، فقد ذهب في تأويل الأمراض النفسية مذهب ريبو. حيث نظر إلى حالة التنويم المغناطيسي على أنها ليست مما يمكن إرجاعه إلى تغيرات الجملة العصبية، وإنما هي شكل من أشكال النوم الاصطناعي الذي تصبح أفعال الشخص وتصرفاته أثناءه لا شعورية.
وعلاوة على ذلك تناول جانيه علاقة الجانب العقلي بالجانب الانفعالي وأثر انسجامهما وتكاملهما في الحياة النفسية. واعتقد بأن اضطراب هذه العلاقة يشكل العرض الجوهري للهستيريا. ولئن كان الجانبان يؤلفان لدى الإنسان السوي كلاً متكاملاً وثابتاً نسبياً، فإنهما في حالة الهستيريا يفتقران إلى مثل هذا التكامل وذاك الثبات. وهنا، في الحالة الأخيرة، تضعف(إن لم نقل تنعدم) وحدة الشخصية إلى درجة تنقسم فيها إلى بناءات منفصلة. وعندها يظهر لدى المريض(تبعاً لشدة المرض ودرجته) أكثر من "أنا" لا وجود لأي علاقة فيما بينها، الأمر الذي يحوّل علاقة الإنسان بمحيطه من علاقة منسجمة ومتوازنة إلى علاقة نزاعٍ وصراعٍ حادّين.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح