يجمع مؤرخو علم النفس على أن نشأة هذا العلم وظهوره كعلم قائم بذاته يرجعان إلى بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويذهب العديد منهم إلى اعتبار عامي 1861م و 1879م تاريخاً لاستقلال هذا العلم. وهم، بهذا، يشيرون إلى العالم الألماني فوندت كمؤسس لعلم النفس. فمن المعروف أن فوندت وضع في التاريخ الأول، أي عام 1861م، أول جهازفي خدمة البحث السيكولوجي التجريبي، وبعد ثمانية عشر عاماً، أي في عام 1879 م أقام أول مخبر للدراسات السيكولوجية.
حقاً إن إنشاء مخابر لدراسة الظواهر النفسية وتجهيزها بأدوات البحث الضرورية أمر ذو أهمية كبيرة على صعيد انفصال علم النفس عن الفلسفة والعلوم الأخرى. ولكن ذلك يجب أن لا ينسينا نشاطات أجيال من العلماء وفضلهم على هذا العلم وتأثيرهم على رواده الأولين. ولعلَّ هذا ما يتجسد على نحو واضح لدى السؤال عن أسباب ولادة علم النفس في هذه السنوات بالذات.
إنَّ الإجابة على هذا السؤال –فيما لو أُريد لها أن تكون مقنعةً وكافيةً- ينبغي أن تراعي الظروف الموضوعية والذاتية، العامة والخاصة لهذا الحدث الهام في تاريخ دراسة السلوك الإنساني والحيواني. وهذا يعني تجاوز تفسير البعض الذي يرى في توافر وسائل البحث(مخابر، أجهزة... الخ) وحده العامل الحاسم في استقلال علم النفس، والمضي في البحث عن الأسباب التي دفعت العلماء، وفي مقدمتهم فوندت، إلى اتخاذ مثل هذه التدابير. فما بذله فوندت وغيره –بالرغم من فوائده الجمّة لمصلحة علم النفس في تلك الفترة- لم يكن لولا التقدم العلمي والتقني الذي عرفته أوربة منذ نهايات القرن الثامن عشر بصورة خاصة.
ومن جهة أخرى، فإن مطالعة التراث الفكري والعلمي خلال الحقبة المذكورة تظهر أن فوندت لم يكن أول المطالبين باستقلال علم النفس. بل سبقه عدد كبير من المفكرين والباحثين الذين سوف نبين وجهات نظر بعضهم من خلال هذا الفصل والفصل الذي يليه.
وفي ضوء ذلك يبدو من الضروري استعراض أهم الدراسات التي سبقت استقلال علم النفس وتناولت السلوك الإنساني والحيواني وتطوره وأثر التربية والتعليم في نمو الوظائف النفسية عند الدارسين، وكذا محددات سمات الشخصية وخصائصها و آليات النشاط الحسي عند الإنسان والحيوانات وردود الأفعال التي تصدر عن كل منهما على المثيرات الخارجية... الخ. وقد ارتأينا عرض هذه الدراسات في أربعة محاور حسب الموضوع والميدان. وتشمل هذه المحاور البحوث الفيزيولوجية والأعمال التربوية ودراسة خصائص الشخصية والنشاطات الطبية.
1-الفيزيولوجيا التجريبية والإدراك الحسي.
شمل التطور العلمي في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، من جملة ما شمله، ميدان الفيزيولوجيا. ففي هذه الفترة وجّه الكثير من العلماء اهتمامهم نحو الجهاز العصبي للتعرّف على بنيته ووظائفه مستخدمين في ذلك أجهزة وأدوات علمية متقدمة كالمجهر(الميكروسكوب) والمبصار المزدوج(الستيريوسكوب) ووسائل علمية مختلفة، محاولين، في الوقت ذاته، تحسينها وتعديلها.
ولعل الاكتشاف الذي قام به ريماك REMAK هو مثال واضح من الأمثلة التي يمكن تقديمها في هذا السياق. فقد أماط هذا العالم اللثام عام 1833 عن البنية الخلوية للمادة الرمادية للمخ مستفيداً من التعديلات التي أدخلها ج. ليستر على المجهر قبل بضع سنوات. وبنفس الطريقة تمكن اهرنبرغ من رؤية الخيوط التي تتكون منها المادة البيضاء في هذا الجزء من الجهاز العصبي.
وتوصل عالم الأعصاب الاسكتلندي تشارلز بيل(1774-1842) عام 1811 والعالم الفيزيولوجي الفرنسي فيليب ماغندي(1783-1855) عام 1822 إلى التمييز بين الأعصاب الحسية والأعصاب الحركية. ولقد كان شائعاً قبل هذا التاريخ أن القدرة الحسية والقدرة الحركية وظيفتان تقوم بهما جميع الأعصاب دون تمييز أو تحديد. فجاء هذان العالمان ليبيّنا، كل منهما بصورة مستقلة عن الآخر، أن الحركات التي تصدر عن الجسم الحي أو عن بعض أجزائه هي مهمة تؤديها مجموعة من الأعصاب المختصة بها. وتتفرع هذه الأعصاب عن الجذور البطنية من النخاع الشوكي. وأظهرا أن الوظيفة الحسية تضطلع بها مجموعة أخرى من الأعصاب التي تتصل بالجذور الظهرية والعقد الشوكية.
وفي نفس الفترة كان عالم فيزيولوجي آخر، هو بيير فلورنز، يجري تجاربه على الحمام بهدف التعرف على الوظائف التي تؤديها أقسام الدماغ عند هذا الحيوان. وقد توصل إلى نتائج مهمة على صعيد نشاط الجملة العصبية المركزية؛ إذ تبين له أن نصفي الكرتين المخيتين يتوليان القيام بالعمليات المعرفية. أما المخيخ فتتمثل وظيفته في إحلال التوازن للجسم والتنسيق بين الحركات. بينما تتولى البصلة السيسائية المهمات الحيوية كدوران الدم والتنفس.
وهكذا فتحت الفيزيولوجيا التجريبية المتطورة الباب على مجموعة من الظواهر التي كان مجرد التفكير بها أمراً مستبعداً. وأضحى من المنطقي أن تتعدى الدراسات حدود التحليل البنيوي لهذا العضو أو ذاك، وأن تتجاوز تسمية ووصف الوظيفة التي يقوم بها. فالتقدم العلمي في النصف الأول من القرن التاسع عشر وضع الأجهزة المتطورة في خدمة العلم، ومكن العلماء من معرفة الجزيئات الدقيقة التي تدخل في تركيب أعضاء الحس. ومع ذلك فإنهم لم يستطيعوا تخطي هذه الحدود باتجاه الكشف عن العمليات التي تجري في النسيج العصبي.
لقد كان العلماء في الفترة المذكورة يستخدمون الطريقة المخبرية أو العيادية في بحوثهم. وكانوا يلجؤون إلى عرض المنبهات الآلية أو الكهربائية أمام مفحوصيهم داخل غرف خاصة أو في عيادات مجهزة بالتقنيات اللازمة. ولاحظ هؤلاء في الكثير من تجاربهم أن تلك المنبهات لا تستدعي تغيراً في الجهاز العصبي وحسب، بل وفي الإحساسات البصرية والسمعية واللمسية والشمية أيضاً. ولعل هذه الواقعة هي التي حدت بهم للقيام بالخطوة التالية في هذا المجال، والتي تتمثل في استخدام طرائق تتناسب مع طبيعة موضوع البحث المختلفة عن الطبيعة الفيزيائية والكيميائية للمثيرات الخارجية، والطبيعة الفيزيولوجية للتغيرات التي تحدثها في الأعصاب(الإثارة). ففي حين كان بمقدور الباحث أن "يلاحظ" الخصائص الفيزيائية والكيميائية للأشياء والموضوعات التي تؤثر على أعضاء الحس، و "يتتبع" تلك التغيرات العصبية التي تنجم عن ذلك، وقف عاجزاً عن تفسير الحلقة الثالثة بنفس الأدوات والطرائق. وهذا ما شجع بعض الباحثين على الاعتقاد بأن من غير الممكن وصف هذه الظاهرة والحديث عنها إلا من قبل المفحوص ذاته.
وهكذا حملت التقنيات المستخدمة في دراسة التفاعل القائم بين الكائن الحي والوسط خلال تلك الفترة من الزمن أسلوب الملاحظة والنظرة التأملية على التراجع أمام النشاط التجريبي المتصاعد. فلم تعد مهمة الباحث مقتصرة على ملاحظة المحسوسات واكتشاف قوانينها، وإنما تعدتها إلى التعرف عليها والوقوف على العلائق القائمة فيما بينها وتحديد وظائفها.
وفي ظل هذه الشروط العلمية وجد يوهان موللر(1801م-1858م) نفسه أمام معطيات علوم الفيزيولوجيا والكيمياء والفيزياء الفتية. فعمل على إثرائها وتطويرها. وكان مبدأ "الطاقة النوعية للأعصاب" أهم ما جاء به في ميدان النشاط العصبي. وحسب هذا المبدأ فإن ظاهرة الحس تنشأ عن إثارة أعصاب العضو المختص. فالرؤية هي نتيجة إثارة أعصاب العين. والسمع هو نتيجة إثارة أعصاب الأذن، والشم هو نتيجة إثارة أعصاب الأنف... وهكذا. ويقيم موللر مبدأه هذا على نظرته إلى أعضاء الحس باعتبار أن كلاً منها يؤلف نظاماً أو نسقاً متميزاً من سواه، ومشحوناً بـ "طاقة خاصة"، فالإحساس بالضوء أو الرائحة أو الصوت أو الطعم... الخ ما هو إلاّ عملية تفريغ للطاقة التي يختزنها عضو الحس(العين، الأنف، الأذن، اللسان...)، وليس عملية انعكاس للصفات الفيزيائية والكيميائية التي تتسم بها أشياء العالم الخارجي وظواهره(الألوان والأشكال والأبعاد والروائح والأصوات... الخ) في أعضاء الحس وتأثيرها عليها.
أما هيرمان فون هيلمهولتز(1821-1894م) الذي جمع في نشاطه بين الفيزياء والفيزيولوجيا وعلم النفس، فقد تولى دراسة العلاقة بين الإحساسات الذاتية والشروط الموضوعية والكشف عن أثر الوقائع الفيزيائية والعضوية في عمليات الحس.
انطلق هيلمهولتز في دراسته لمظاهر الحس من قانون "حفظ الطاقة وتحولها". ووجد أن هذا القانون يمكن أن ينطبق على عالم العضويات، مثلما ينطبق على العالم اللا عضوي. وبذا يتجاوز الاعتقاد بأن الأجسام الحية تخضع في حركتها لقوانين خاصة ومجهولة. فالجسم الحي، طبقاً لهذا القانون، يستمد طاقته من الخارج، وما يجري في داخله إنما هو عبارة عن تحولات لمختلف أشكال هذه الطاقة. وهذا يعني أن الحس يتشكل بفضل المنبهات الخارجية وتأثيرها على عضو الحس.
ولقد سعى لإظهار تلك العلاقة السببية تجريبياً. وتوصل إلى نتيجة مفادها أن الحواس تدلنا على الأشياء لأنها تشير إليها وتميّز فيما بينها، شأنها في ذلك شأن الأسماء التي يطلقها الإنسان على الأشياء والحيوانات والناس. فالاسم الذي نعرف به موضوعاً ما لا يعبر عن هذا الموضوع، وإنما يعيننا في تمييزه من غيره من الموضوعات، وهكذا بالنسبة لأسماء الحيوانات والنباتات والبشر. ويقصد بذلك أن الإحساس –كواقعة نفسيّة- ما هو إلا إشارة تدلَّ على الموضوع، وليس مظهراً أو مستوى من مستويات انعكاس هذا الأخير في عضو الحس عبر تفاعل الكائن الحي مع الوسط الذي يحيا فيه.
ومع ذلك فإن النتائج التي توصل إليها هيلمهولتز صححت الكثير من التصورات السابقة، وأضافت رصيداً جديداً لحساب الفكر السيكولوجي المعاصر. وتكمن إحدى هذه النتائج في أن عضو الحس لا يدرك الرعشات أو الاهتزازات الخارجية فقط، وإنما يتعلم بناء الأشكال الحسية بفضل العضلة التي تقوم بعمليات، وجد هيلمهولتز أنها شبيهة بالعمليات الذهنية. وهذا ما كشف عنه خلال محاولته البرهنة على أن تغير صورة الشيء على شبكية العين يتمّ تبعاً لتغير المسافة التي تفصل الإنسان عن هذا الشيء. وبناءً على ذلك يتغير التوتر أو الجهد الذي تبذله عضلات العين. حيث أن جهاز البصر يقوم أثناء نشاطه بعمليات حسابية وهندسية وفيزيائية معقدة تتناول مواقع الأشياء وأبعادها والزوايا التي تشكلها معه... الخ، كما تتضمن التغيرات التي تطرأ على عضلات العين وحركتها. وكأنه –بذلك- يقوم بمحاكمةٍ منطقية "إذا كان... فإنه...".(ياروشيفسكي، 1971، 28).
إن هذه العملية المنطقية هي نتاج عمل الجهاز البصري وليس نتيجة النشاط العقلي كما قد يتبادر للذهن. وللتمييز بينها وبين العمليات الذهنية أطلق هيلمهولتز عليها "الحس اللا واعي أو اللا شعوري".
والنتيجة الهامة الثانية لدراسات هيلمهولتز تتعلق بسرعة حدوث الدفعة العصبية(1850). فقد كانت التقديرات الشائعة آنئذٍ لهذه السرعة متفاوتة إلى حد كبير. ولكنها كانت تتفق جميعاً حول أنها عالية جداً. وللمثال فقد اعتقد موللر في كتابه "المرجع في فيزيولوجيا الإنسان"(الذي نشر بين عامي 1833-1840) بأنها أكبر من سرعة الصوت بستين مرة. وجاء هيلمهولتز ليخضع هذه المسألة لتجارب متعددة على الضفادع والبشر.
وخلاصة هذه التجارب أن هيلمهولتز قام بإثارة أحد الأعصاب الحركية لدى الضفدع بوساطة تيار كهربائي ضعيف. وقد أعاد هذه العملية مراتٍ عديدةً، ومن نقاط مختلفة من العصب الحركي. وفي كلّ مرة كان يحسب المسافة الفاصلة بين النقاط المثارة ويسجل استجابة الضفدع(انقباض العضلة) عن طريق جهاز خاص أعده خصيصاً لهذه الغاية(كيموغراف). وهذا الجهاز هو عبارة عن قرص دوار مربوط إلى عضلة الضفدع بسلك كهربائي. وقد لاحظ المجرب أن ثمة فروقاً زمنية بين الاستجابات الحركية التي تصدر عن الضفدع، وأنَّ هذه الفروق تتناسب والفروق بين المسافات الفاصلة بين النقاط المثارة والعضلة. ومن خلال تعيين الفروق المكانية ومعرفة الفروق الزمنية تمكن هيلمهولتز من تحديد سرعة حدوث الاستثارة ووجد أنها مساوية لـ 25 متراً في الثانية.
وعند انتقال هيلمهولتز إلى عالم البشر استخدم طريقة قياس زمن الرجع في دراسة الأعصاب الحسية. وتعتمد هذه الطريقة على ما وقف عليه العلماء من فروق زمنية تفصل بين استجابات الناس وظهور المنبهات الخارجية. وحسب هذه الطريقة كان هيلمهولتز يسجّل الزمن الفاصل بين تنبيه نقاط مختلفة من ساق المفحوص والاستجابة التي يرد بها على هذا التنبيه(حركة اليدين مثلاً).
وبإدخال طريقة قياس زمن الرجع عند الناس يكون هيلمهولتز قد مهّد الطريق أمام مواطنيه ومعاصريه للإسهام في وضع مقدمات العلم الجديد. فقد لجأ المهتمون منهم بدراسة النشاط الحسي عند الإنسان إلى استخدام الطريقة الهيلمهولتزية لما تشتمل عليه من شروط ميسرة وما تستدعيه من أدوات سهلة، ولكونها تصلح لدراسة التغيرات التي تطرأ على استجابات الإنسان أثناء تفاعله مع بيئته. ويأتي العالم الفيزيولوجي وطبيب العيون الهولندي فرانسيس دونديرس في طليعة هؤلاء الباحثين.
يرى دونديرس(1818-1889م) أن تصورات الإنسان عن العالم الخارجي تتكون نتيجة نشاط العقد العصبية التي تمليه المثيرات الخارجية التي تستقبلها أعضاء الحس. وانطلق العالم من فرضية مؤداها أن بالإمكان قياس الزمن الذي يفصل بين التنبيه والاستجابة، والذي يستغرقه عمل العقد العصبية بوصفه طوراً مهماً من أطوار النشاط النفسي.
كان دونديرس يضع مجموعة من المنبهات أمام مفحوصيه. ويقترح عليهم أن يستجيبوا على أحدها في بعض الحالات، وعلى كل منها، في حالات أخرى، بحركة معيّنة. ولقد ضمن دراساته ونتائجها كتابه "سرعة العمليات النفسية" الذي نشره عام 1868م.
إن اهتمام دونديرس بالحلقات التي تتكون منها العملية النفسية، وتأكيده على قياس زمن الرجع كحلقة هامة من هذه الحلقات، والنتائج التي انتهى إليها وضعت حداً لإدعاءات بعض العلماء بأن العملية النفسية غير قابلة للقياس. وأظهرت أن هذه الحلقة تعتبر ظاهرة موضوعية تحدث في الزمان والمكان. وبذا يفتح دونديرس الباب أمام لاحقيه ليقدموا دراسات اتخذت من الاستجابات الحركية والكلامية موضوعاً لها بوصفها وقائع نفسية.
وقد سبق إرنست فيبر(1795-1878م) كلاً من موللر وهيلمهولتز ودونديرس في دراسة الظاهرة النفسية، حيث وجه اهتمامه في بداية نشاطه العلمي نحو دراسة اللمس. ونشر حول هذا الموضوع كتابين، أولهما "اللمس"
(1834)، وثانيهما "اللمس والحساسية العامة"(1846).
حاول فيبر في مؤلفيه عرض نتائج مشاهداته وتجاربه التي تركزت حول آليات ظاهرة اللمس ومواقع وجودها في جسم الإنسان ومقارنتها بالحساسيّة العامة. وزيادة على هذا اهتم بمسألة قدرة الإنسان على الإحساس بالفرق بين المنبهات اللمسية والبصرية والسمعية. فدرس الاختلاف بين البشر من حيث قدراتهم على التمييز بين الأوزان والأصوات والأشكال بطريقة تجريبية. فقد كان يطلب من مفحوصيه، مثلاً، مقارنة شيئين من حيث الوزن. حيث يكلفهم بحمل شيئين من نفس الوزن. ثم يزيد في وزن أحدهما تدريجياً إلى أن يحس المفحوص بالفرق بين وزنيهما. وقد سمحت له هذه التجربة بالكشف عن أصغر وزن ينبغي إضافته إلى أحد الشيئين كي يحس المفحوص بفارق وزنيهما. كما مكنته تجارب أخرى مماثلة من معرفة أقل تعديل أو تغيير يطرأ على أحد الشكلين المتشابهين ليحس المفحوص بالفارق بينهما(زيادة أو نقصان طول أحد الخطين المستقيمين المتساويين...).
لقد ألّفت هذه النتائج الأرضية التي بدأ فخنر تلميذ فيبر ومواطنه حركته عليها وعمل على توسيعها وتطويرها.
اشتغل غوستاف فخنر(1801-1887م) خلال حياته في الفلسفة والفيزياء والفيزيولوجيا والسيكوفيزياء. وقدم إلى جامعة لايبزيغ لدراسة الطب عام 1817. وهو العام الذي وصل فيبر إليها لتدريس التشريح. ومن ثمّ قام فخنر بتدريس الفيزياء منذ عام 1834. ولكنه لم يستمر سوى خمسة أعوام اضطر بعدها إلى ترك العمل نتيجة إصابته بأزمة عصبية حادة.
انطلق فخنر من النظرية المثالية في تفسير الظواهر الكونية والإنسانية. ولم يخف عداءه وكراهيته للفلسفة المادية. وأنفق الكثير من الجهد والوقت للبرهان على بطلان النظرة إلى الوعي من خلال المادة أو كنتاج لها. ووجد أن المادة والوعي هما جوهر واحد. وهما خاصية الكائنات الحية وغير الحية. ويتجسد هذا الجوهر في الروح العالمي الشامل الذي تستمد الظواهر الكونية وجودها وحركتها منه. ولذا راح يبحث عن القانون الذي يفسر علاقة المادة والوعي.
لقد شغلته هذه القضية وقتاً طويلاً إلى أن وجد حلاً لها –كما قال- عن طريق الصدفة. ويكمن هذا الحل في العلاقة النسبية بين المنبه والحس، أي بين ما هو ماديّ وما هو نفسي.
وبصرف النظر عن ادعاء فخنر بأنه لم يكن قد اطلع على بحوث فيبر قبل أن يكشف عن سر هذا القانون، فإن من المرجح أن تكون هذه البحوث قد حفزته على المضي في دراسة العتبات الحسية.
ومجمل رأي فخنر في الظاهرة الحسية هو أنها تمر بمراحل أربع: التنبيه(المرحلة الفيزيائية) والإثارة(المرحلة الفيزيولوجية) والإحساس(المرحلة النفسية) والمحاكمة(المرحلة المنطقية). وأن العتبة هي نقطة الانتقال من المرحلة الثانية(الفيزيولوجية) إلى المرحلة الثالثة(النفسية). ومع أنه لم يتمكن من تحديد عملية الإثارة تحديداً كمياً، ولم ينف، في الوقت ذاته، إمكانية الكشف عن آلية المرحلة الفيزيولوجية مبدئياً، فإنه لم يقم بدراستها، واكتفى بالوقوف على العلاقة المباشرة بين الإثارة والحس ومعالجتها رياضياً.
ولقد تطلبت صياغة القانون الذي يجسد هذه العلاقة، والذي أطلق عليه فخنر بتواضع "قانون فيبر"، عملاً دؤوباً قضاه في البحث والتحليل والكتابة واستغرق عقداً كاملاً من الزمن(1850-1860) نشر في نهايته كتابه المعروف "عناصر السيكوفيزياء".
ويحدّد هذا القانون علاقة الحس بالمنبه، ويرى أن مقدار الإحساس يتناسب طرداً مع لوغاريتم شدة المنبه. ولما كان الإنسان غير قادر على تحديد إحساساته بصورة مباشرة، فقد اقترح فخنر لهذا الغرض طريقة غير مباشرة معتمداً على ما توصل إليها فيبر من أن استمرار المقدار النسبي لزيادة المنبه الذي يستدعي إحساساً بأقل فارق من جهة، وعلى مسلمته الخاصة التي تقول أن الزيادة الضئيلة في الإحساس هي مقدار ثابت، من جهة ثانية.
كما يتضمن "قانون فيبر" صياغة رياضية للواقعة التي كشف عنها فخنر، وهي أن الإحساس يتغير بصورة بطيئة جداً بالمقارنة مع زيادة شدة المنبه. وحسب هذا القانون فإنّ زيادة شدة المنبه على شكل متوالية هندسية تقابلها زيادة الإحساس في صيغة متوالية حسابية.
وبعبارات أوضح فإن الفرد يحس بالفرق بين شدة منبهين(وزنين، صوتين...) فيما لو تغيرت شدة أحدهما، بحيث تكون العلاقة بين هذا الفرق وبين المنبه ذاته علاقة ثابتة(1/ 100 بالنسبة للأشكال والضوء، 1/ 30 بالنسبة للأوزان، 1/ 160 بالنسبة للأصوات).
وهكذا يمكن القول بأن دراسة العتبات الفردية للإحساسات أقامت الدليل على العلاقة بين الذات والموضوع(النفس والواقع المادي)، وأظهرت عدم إمكانية قياس الإحساس –كواقعة نفسية- بحد ذاته وبصورة مباشرة. وإن عملاً كهذا لا يصبح ممكناً إلاّ إذا راعينا العلاقة الارتباطية بين الإحساس والمنبهات الخارجية، أي عندما نستخدم طريقة غير مباشرة.
بوح الروح
حقاً إن إنشاء مخابر لدراسة الظواهر النفسية وتجهيزها بأدوات البحث الضرورية أمر ذو أهمية كبيرة على صعيد انفصال علم النفس عن الفلسفة والعلوم الأخرى. ولكن ذلك يجب أن لا ينسينا نشاطات أجيال من العلماء وفضلهم على هذا العلم وتأثيرهم على رواده الأولين. ولعلَّ هذا ما يتجسد على نحو واضح لدى السؤال عن أسباب ولادة علم النفس في هذه السنوات بالذات.
إنَّ الإجابة على هذا السؤال –فيما لو أُريد لها أن تكون مقنعةً وكافيةً- ينبغي أن تراعي الظروف الموضوعية والذاتية، العامة والخاصة لهذا الحدث الهام في تاريخ دراسة السلوك الإنساني والحيواني. وهذا يعني تجاوز تفسير البعض الذي يرى في توافر وسائل البحث(مخابر، أجهزة... الخ) وحده العامل الحاسم في استقلال علم النفس، والمضي في البحث عن الأسباب التي دفعت العلماء، وفي مقدمتهم فوندت، إلى اتخاذ مثل هذه التدابير. فما بذله فوندت وغيره –بالرغم من فوائده الجمّة لمصلحة علم النفس في تلك الفترة- لم يكن لولا التقدم العلمي والتقني الذي عرفته أوربة منذ نهايات القرن الثامن عشر بصورة خاصة.
ومن جهة أخرى، فإن مطالعة التراث الفكري والعلمي خلال الحقبة المذكورة تظهر أن فوندت لم يكن أول المطالبين باستقلال علم النفس. بل سبقه عدد كبير من المفكرين والباحثين الذين سوف نبين وجهات نظر بعضهم من خلال هذا الفصل والفصل الذي يليه.
وفي ضوء ذلك يبدو من الضروري استعراض أهم الدراسات التي سبقت استقلال علم النفس وتناولت السلوك الإنساني والحيواني وتطوره وأثر التربية والتعليم في نمو الوظائف النفسية عند الدارسين، وكذا محددات سمات الشخصية وخصائصها و آليات النشاط الحسي عند الإنسان والحيوانات وردود الأفعال التي تصدر عن كل منهما على المثيرات الخارجية... الخ. وقد ارتأينا عرض هذه الدراسات في أربعة محاور حسب الموضوع والميدان. وتشمل هذه المحاور البحوث الفيزيولوجية والأعمال التربوية ودراسة خصائص الشخصية والنشاطات الطبية.
1-الفيزيولوجيا التجريبية والإدراك الحسي.
شمل التطور العلمي في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، من جملة ما شمله، ميدان الفيزيولوجيا. ففي هذه الفترة وجّه الكثير من العلماء اهتمامهم نحو الجهاز العصبي للتعرّف على بنيته ووظائفه مستخدمين في ذلك أجهزة وأدوات علمية متقدمة كالمجهر(الميكروسكوب) والمبصار المزدوج(الستيريوسكوب) ووسائل علمية مختلفة، محاولين، في الوقت ذاته، تحسينها وتعديلها.
ولعل الاكتشاف الذي قام به ريماك REMAK هو مثال واضح من الأمثلة التي يمكن تقديمها في هذا السياق. فقد أماط هذا العالم اللثام عام 1833 عن البنية الخلوية للمادة الرمادية للمخ مستفيداً من التعديلات التي أدخلها ج. ليستر على المجهر قبل بضع سنوات. وبنفس الطريقة تمكن اهرنبرغ من رؤية الخيوط التي تتكون منها المادة البيضاء في هذا الجزء من الجهاز العصبي.
وتوصل عالم الأعصاب الاسكتلندي تشارلز بيل(1774-1842) عام 1811 والعالم الفيزيولوجي الفرنسي فيليب ماغندي(1783-1855) عام 1822 إلى التمييز بين الأعصاب الحسية والأعصاب الحركية. ولقد كان شائعاً قبل هذا التاريخ أن القدرة الحسية والقدرة الحركية وظيفتان تقوم بهما جميع الأعصاب دون تمييز أو تحديد. فجاء هذان العالمان ليبيّنا، كل منهما بصورة مستقلة عن الآخر، أن الحركات التي تصدر عن الجسم الحي أو عن بعض أجزائه هي مهمة تؤديها مجموعة من الأعصاب المختصة بها. وتتفرع هذه الأعصاب عن الجذور البطنية من النخاع الشوكي. وأظهرا أن الوظيفة الحسية تضطلع بها مجموعة أخرى من الأعصاب التي تتصل بالجذور الظهرية والعقد الشوكية.
وفي نفس الفترة كان عالم فيزيولوجي آخر، هو بيير فلورنز، يجري تجاربه على الحمام بهدف التعرف على الوظائف التي تؤديها أقسام الدماغ عند هذا الحيوان. وقد توصل إلى نتائج مهمة على صعيد نشاط الجملة العصبية المركزية؛ إذ تبين له أن نصفي الكرتين المخيتين يتوليان القيام بالعمليات المعرفية. أما المخيخ فتتمثل وظيفته في إحلال التوازن للجسم والتنسيق بين الحركات. بينما تتولى البصلة السيسائية المهمات الحيوية كدوران الدم والتنفس.
وهكذا فتحت الفيزيولوجيا التجريبية المتطورة الباب على مجموعة من الظواهر التي كان مجرد التفكير بها أمراً مستبعداً. وأضحى من المنطقي أن تتعدى الدراسات حدود التحليل البنيوي لهذا العضو أو ذاك، وأن تتجاوز تسمية ووصف الوظيفة التي يقوم بها. فالتقدم العلمي في النصف الأول من القرن التاسع عشر وضع الأجهزة المتطورة في خدمة العلم، ومكن العلماء من معرفة الجزيئات الدقيقة التي تدخل في تركيب أعضاء الحس. ومع ذلك فإنهم لم يستطيعوا تخطي هذه الحدود باتجاه الكشف عن العمليات التي تجري في النسيج العصبي.
لقد كان العلماء في الفترة المذكورة يستخدمون الطريقة المخبرية أو العيادية في بحوثهم. وكانوا يلجؤون إلى عرض المنبهات الآلية أو الكهربائية أمام مفحوصيهم داخل غرف خاصة أو في عيادات مجهزة بالتقنيات اللازمة. ولاحظ هؤلاء في الكثير من تجاربهم أن تلك المنبهات لا تستدعي تغيراً في الجهاز العصبي وحسب، بل وفي الإحساسات البصرية والسمعية واللمسية والشمية أيضاً. ولعل هذه الواقعة هي التي حدت بهم للقيام بالخطوة التالية في هذا المجال، والتي تتمثل في استخدام طرائق تتناسب مع طبيعة موضوع البحث المختلفة عن الطبيعة الفيزيائية والكيميائية للمثيرات الخارجية، والطبيعة الفيزيولوجية للتغيرات التي تحدثها في الأعصاب(الإثارة). ففي حين كان بمقدور الباحث أن "يلاحظ" الخصائص الفيزيائية والكيميائية للأشياء والموضوعات التي تؤثر على أعضاء الحس، و "يتتبع" تلك التغيرات العصبية التي تنجم عن ذلك، وقف عاجزاً عن تفسير الحلقة الثالثة بنفس الأدوات والطرائق. وهذا ما شجع بعض الباحثين على الاعتقاد بأن من غير الممكن وصف هذه الظاهرة والحديث عنها إلا من قبل المفحوص ذاته.
وهكذا حملت التقنيات المستخدمة في دراسة التفاعل القائم بين الكائن الحي والوسط خلال تلك الفترة من الزمن أسلوب الملاحظة والنظرة التأملية على التراجع أمام النشاط التجريبي المتصاعد. فلم تعد مهمة الباحث مقتصرة على ملاحظة المحسوسات واكتشاف قوانينها، وإنما تعدتها إلى التعرف عليها والوقوف على العلائق القائمة فيما بينها وتحديد وظائفها.
وفي ظل هذه الشروط العلمية وجد يوهان موللر(1801م-1858م) نفسه أمام معطيات علوم الفيزيولوجيا والكيمياء والفيزياء الفتية. فعمل على إثرائها وتطويرها. وكان مبدأ "الطاقة النوعية للأعصاب" أهم ما جاء به في ميدان النشاط العصبي. وحسب هذا المبدأ فإن ظاهرة الحس تنشأ عن إثارة أعصاب العضو المختص. فالرؤية هي نتيجة إثارة أعصاب العين. والسمع هو نتيجة إثارة أعصاب الأذن، والشم هو نتيجة إثارة أعصاب الأنف... وهكذا. ويقيم موللر مبدأه هذا على نظرته إلى أعضاء الحس باعتبار أن كلاً منها يؤلف نظاماً أو نسقاً متميزاً من سواه، ومشحوناً بـ "طاقة خاصة"، فالإحساس بالضوء أو الرائحة أو الصوت أو الطعم... الخ ما هو إلاّ عملية تفريغ للطاقة التي يختزنها عضو الحس(العين، الأنف، الأذن، اللسان...)، وليس عملية انعكاس للصفات الفيزيائية والكيميائية التي تتسم بها أشياء العالم الخارجي وظواهره(الألوان والأشكال والأبعاد والروائح والأصوات... الخ) في أعضاء الحس وتأثيرها عليها.
أما هيرمان فون هيلمهولتز(1821-1894م) الذي جمع في نشاطه بين الفيزياء والفيزيولوجيا وعلم النفس، فقد تولى دراسة العلاقة بين الإحساسات الذاتية والشروط الموضوعية والكشف عن أثر الوقائع الفيزيائية والعضوية في عمليات الحس.
انطلق هيلمهولتز في دراسته لمظاهر الحس من قانون "حفظ الطاقة وتحولها". ووجد أن هذا القانون يمكن أن ينطبق على عالم العضويات، مثلما ينطبق على العالم اللا عضوي. وبذا يتجاوز الاعتقاد بأن الأجسام الحية تخضع في حركتها لقوانين خاصة ومجهولة. فالجسم الحي، طبقاً لهذا القانون، يستمد طاقته من الخارج، وما يجري في داخله إنما هو عبارة عن تحولات لمختلف أشكال هذه الطاقة. وهذا يعني أن الحس يتشكل بفضل المنبهات الخارجية وتأثيرها على عضو الحس.
ولقد سعى لإظهار تلك العلاقة السببية تجريبياً. وتوصل إلى نتيجة مفادها أن الحواس تدلنا على الأشياء لأنها تشير إليها وتميّز فيما بينها، شأنها في ذلك شأن الأسماء التي يطلقها الإنسان على الأشياء والحيوانات والناس. فالاسم الذي نعرف به موضوعاً ما لا يعبر عن هذا الموضوع، وإنما يعيننا في تمييزه من غيره من الموضوعات، وهكذا بالنسبة لأسماء الحيوانات والنباتات والبشر. ويقصد بذلك أن الإحساس –كواقعة نفسيّة- ما هو إلا إشارة تدلَّ على الموضوع، وليس مظهراً أو مستوى من مستويات انعكاس هذا الأخير في عضو الحس عبر تفاعل الكائن الحي مع الوسط الذي يحيا فيه.
ومع ذلك فإن النتائج التي توصل إليها هيلمهولتز صححت الكثير من التصورات السابقة، وأضافت رصيداً جديداً لحساب الفكر السيكولوجي المعاصر. وتكمن إحدى هذه النتائج في أن عضو الحس لا يدرك الرعشات أو الاهتزازات الخارجية فقط، وإنما يتعلم بناء الأشكال الحسية بفضل العضلة التي تقوم بعمليات، وجد هيلمهولتز أنها شبيهة بالعمليات الذهنية. وهذا ما كشف عنه خلال محاولته البرهنة على أن تغير صورة الشيء على شبكية العين يتمّ تبعاً لتغير المسافة التي تفصل الإنسان عن هذا الشيء. وبناءً على ذلك يتغير التوتر أو الجهد الذي تبذله عضلات العين. حيث أن جهاز البصر يقوم أثناء نشاطه بعمليات حسابية وهندسية وفيزيائية معقدة تتناول مواقع الأشياء وأبعادها والزوايا التي تشكلها معه... الخ، كما تتضمن التغيرات التي تطرأ على عضلات العين وحركتها. وكأنه –بذلك- يقوم بمحاكمةٍ منطقية "إذا كان... فإنه...".(ياروشيفسكي، 1971، 28).
إن هذه العملية المنطقية هي نتاج عمل الجهاز البصري وليس نتيجة النشاط العقلي كما قد يتبادر للذهن. وللتمييز بينها وبين العمليات الذهنية أطلق هيلمهولتز عليها "الحس اللا واعي أو اللا شعوري".
والنتيجة الهامة الثانية لدراسات هيلمهولتز تتعلق بسرعة حدوث الدفعة العصبية(1850). فقد كانت التقديرات الشائعة آنئذٍ لهذه السرعة متفاوتة إلى حد كبير. ولكنها كانت تتفق جميعاً حول أنها عالية جداً. وللمثال فقد اعتقد موللر في كتابه "المرجع في فيزيولوجيا الإنسان"(الذي نشر بين عامي 1833-1840) بأنها أكبر من سرعة الصوت بستين مرة. وجاء هيلمهولتز ليخضع هذه المسألة لتجارب متعددة على الضفادع والبشر.
وخلاصة هذه التجارب أن هيلمهولتز قام بإثارة أحد الأعصاب الحركية لدى الضفدع بوساطة تيار كهربائي ضعيف. وقد أعاد هذه العملية مراتٍ عديدةً، ومن نقاط مختلفة من العصب الحركي. وفي كلّ مرة كان يحسب المسافة الفاصلة بين النقاط المثارة ويسجل استجابة الضفدع(انقباض العضلة) عن طريق جهاز خاص أعده خصيصاً لهذه الغاية(كيموغراف). وهذا الجهاز هو عبارة عن قرص دوار مربوط إلى عضلة الضفدع بسلك كهربائي. وقد لاحظ المجرب أن ثمة فروقاً زمنية بين الاستجابات الحركية التي تصدر عن الضفدع، وأنَّ هذه الفروق تتناسب والفروق بين المسافات الفاصلة بين النقاط المثارة والعضلة. ومن خلال تعيين الفروق المكانية ومعرفة الفروق الزمنية تمكن هيلمهولتز من تحديد سرعة حدوث الاستثارة ووجد أنها مساوية لـ 25 متراً في الثانية.
وعند انتقال هيلمهولتز إلى عالم البشر استخدم طريقة قياس زمن الرجع في دراسة الأعصاب الحسية. وتعتمد هذه الطريقة على ما وقف عليه العلماء من فروق زمنية تفصل بين استجابات الناس وظهور المنبهات الخارجية. وحسب هذه الطريقة كان هيلمهولتز يسجّل الزمن الفاصل بين تنبيه نقاط مختلفة من ساق المفحوص والاستجابة التي يرد بها على هذا التنبيه(حركة اليدين مثلاً).
وبإدخال طريقة قياس زمن الرجع عند الناس يكون هيلمهولتز قد مهّد الطريق أمام مواطنيه ومعاصريه للإسهام في وضع مقدمات العلم الجديد. فقد لجأ المهتمون منهم بدراسة النشاط الحسي عند الإنسان إلى استخدام الطريقة الهيلمهولتزية لما تشتمل عليه من شروط ميسرة وما تستدعيه من أدوات سهلة، ولكونها تصلح لدراسة التغيرات التي تطرأ على استجابات الإنسان أثناء تفاعله مع بيئته. ويأتي العالم الفيزيولوجي وطبيب العيون الهولندي فرانسيس دونديرس في طليعة هؤلاء الباحثين.
يرى دونديرس(1818-1889م) أن تصورات الإنسان عن العالم الخارجي تتكون نتيجة نشاط العقد العصبية التي تمليه المثيرات الخارجية التي تستقبلها أعضاء الحس. وانطلق العالم من فرضية مؤداها أن بالإمكان قياس الزمن الذي يفصل بين التنبيه والاستجابة، والذي يستغرقه عمل العقد العصبية بوصفه طوراً مهماً من أطوار النشاط النفسي.
كان دونديرس يضع مجموعة من المنبهات أمام مفحوصيه. ويقترح عليهم أن يستجيبوا على أحدها في بعض الحالات، وعلى كل منها، في حالات أخرى، بحركة معيّنة. ولقد ضمن دراساته ونتائجها كتابه "سرعة العمليات النفسية" الذي نشره عام 1868م.
إن اهتمام دونديرس بالحلقات التي تتكون منها العملية النفسية، وتأكيده على قياس زمن الرجع كحلقة هامة من هذه الحلقات، والنتائج التي انتهى إليها وضعت حداً لإدعاءات بعض العلماء بأن العملية النفسية غير قابلة للقياس. وأظهرت أن هذه الحلقة تعتبر ظاهرة موضوعية تحدث في الزمان والمكان. وبذا يفتح دونديرس الباب أمام لاحقيه ليقدموا دراسات اتخذت من الاستجابات الحركية والكلامية موضوعاً لها بوصفها وقائع نفسية.
وقد سبق إرنست فيبر(1795-1878م) كلاً من موللر وهيلمهولتز ودونديرس في دراسة الظاهرة النفسية، حيث وجه اهتمامه في بداية نشاطه العلمي نحو دراسة اللمس. ونشر حول هذا الموضوع كتابين، أولهما "اللمس"
(1834)، وثانيهما "اللمس والحساسية العامة"(1846).
حاول فيبر في مؤلفيه عرض نتائج مشاهداته وتجاربه التي تركزت حول آليات ظاهرة اللمس ومواقع وجودها في جسم الإنسان ومقارنتها بالحساسيّة العامة. وزيادة على هذا اهتم بمسألة قدرة الإنسان على الإحساس بالفرق بين المنبهات اللمسية والبصرية والسمعية. فدرس الاختلاف بين البشر من حيث قدراتهم على التمييز بين الأوزان والأصوات والأشكال بطريقة تجريبية. فقد كان يطلب من مفحوصيه، مثلاً، مقارنة شيئين من حيث الوزن. حيث يكلفهم بحمل شيئين من نفس الوزن. ثم يزيد في وزن أحدهما تدريجياً إلى أن يحس المفحوص بالفرق بين وزنيهما. وقد سمحت له هذه التجربة بالكشف عن أصغر وزن ينبغي إضافته إلى أحد الشيئين كي يحس المفحوص بفارق وزنيهما. كما مكنته تجارب أخرى مماثلة من معرفة أقل تعديل أو تغيير يطرأ على أحد الشكلين المتشابهين ليحس المفحوص بالفارق بينهما(زيادة أو نقصان طول أحد الخطين المستقيمين المتساويين...).
لقد ألّفت هذه النتائج الأرضية التي بدأ فخنر تلميذ فيبر ومواطنه حركته عليها وعمل على توسيعها وتطويرها.
اشتغل غوستاف فخنر(1801-1887م) خلال حياته في الفلسفة والفيزياء والفيزيولوجيا والسيكوفيزياء. وقدم إلى جامعة لايبزيغ لدراسة الطب عام 1817. وهو العام الذي وصل فيبر إليها لتدريس التشريح. ومن ثمّ قام فخنر بتدريس الفيزياء منذ عام 1834. ولكنه لم يستمر سوى خمسة أعوام اضطر بعدها إلى ترك العمل نتيجة إصابته بأزمة عصبية حادة.
انطلق فخنر من النظرية المثالية في تفسير الظواهر الكونية والإنسانية. ولم يخف عداءه وكراهيته للفلسفة المادية. وأنفق الكثير من الجهد والوقت للبرهان على بطلان النظرة إلى الوعي من خلال المادة أو كنتاج لها. ووجد أن المادة والوعي هما جوهر واحد. وهما خاصية الكائنات الحية وغير الحية. ويتجسد هذا الجوهر في الروح العالمي الشامل الذي تستمد الظواهر الكونية وجودها وحركتها منه. ولذا راح يبحث عن القانون الذي يفسر علاقة المادة والوعي.
لقد شغلته هذه القضية وقتاً طويلاً إلى أن وجد حلاً لها –كما قال- عن طريق الصدفة. ويكمن هذا الحل في العلاقة النسبية بين المنبه والحس، أي بين ما هو ماديّ وما هو نفسي.
وبصرف النظر عن ادعاء فخنر بأنه لم يكن قد اطلع على بحوث فيبر قبل أن يكشف عن سر هذا القانون، فإن من المرجح أن تكون هذه البحوث قد حفزته على المضي في دراسة العتبات الحسية.
ومجمل رأي فخنر في الظاهرة الحسية هو أنها تمر بمراحل أربع: التنبيه(المرحلة الفيزيائية) والإثارة(المرحلة الفيزيولوجية) والإحساس(المرحلة النفسية) والمحاكمة(المرحلة المنطقية). وأن العتبة هي نقطة الانتقال من المرحلة الثانية(الفيزيولوجية) إلى المرحلة الثالثة(النفسية). ومع أنه لم يتمكن من تحديد عملية الإثارة تحديداً كمياً، ولم ينف، في الوقت ذاته، إمكانية الكشف عن آلية المرحلة الفيزيولوجية مبدئياً، فإنه لم يقم بدراستها، واكتفى بالوقوف على العلاقة المباشرة بين الإثارة والحس ومعالجتها رياضياً.
ولقد تطلبت صياغة القانون الذي يجسد هذه العلاقة، والذي أطلق عليه فخنر بتواضع "قانون فيبر"، عملاً دؤوباً قضاه في البحث والتحليل والكتابة واستغرق عقداً كاملاً من الزمن(1850-1860) نشر في نهايته كتابه المعروف "عناصر السيكوفيزياء".
ويحدّد هذا القانون علاقة الحس بالمنبه، ويرى أن مقدار الإحساس يتناسب طرداً مع لوغاريتم شدة المنبه. ولما كان الإنسان غير قادر على تحديد إحساساته بصورة مباشرة، فقد اقترح فخنر لهذا الغرض طريقة غير مباشرة معتمداً على ما توصل إليها فيبر من أن استمرار المقدار النسبي لزيادة المنبه الذي يستدعي إحساساً بأقل فارق من جهة، وعلى مسلمته الخاصة التي تقول أن الزيادة الضئيلة في الإحساس هي مقدار ثابت، من جهة ثانية.
كما يتضمن "قانون فيبر" صياغة رياضية للواقعة التي كشف عنها فخنر، وهي أن الإحساس يتغير بصورة بطيئة جداً بالمقارنة مع زيادة شدة المنبه. وحسب هذا القانون فإنّ زيادة شدة المنبه على شكل متوالية هندسية تقابلها زيادة الإحساس في صيغة متوالية حسابية.
وبعبارات أوضح فإن الفرد يحس بالفرق بين شدة منبهين(وزنين، صوتين...) فيما لو تغيرت شدة أحدهما، بحيث تكون العلاقة بين هذا الفرق وبين المنبه ذاته علاقة ثابتة(1/ 100 بالنسبة للأشكال والضوء، 1/ 30 بالنسبة للأوزان، 1/ 160 بالنسبة للأصوات).
وهكذا يمكن القول بأن دراسة العتبات الفردية للإحساسات أقامت الدليل على العلاقة بين الذات والموضوع(النفس والواقع المادي)، وأظهرت عدم إمكانية قياس الإحساس –كواقعة نفسية- بحد ذاته وبصورة مباشرة. وإن عملاً كهذا لا يصبح ممكناً إلاّ إذا راعينا العلاقة الارتباطية بين الإحساس والمنبهات الخارجية، أي عندما نستخدم طريقة غير مباشرة.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح