يعتبر علم النفس التحليلي أحد التيارات الفاعلة على ساحة التحليل النفسي. وقد ظهر خلال العقد الثاني من القرن العشرين بفضل البحوث والدراسات التي أجراها أحد أعضاء الرابطة الدولية للتحليل النفسي النشيطين، وهو كارل غوستاف يونغ K.G.YUNG الذي ولد في سويسرا عام 1875م. وتوفي عام 1961م.
درس يونغ الطب في جامعة بازل. وبدأ نشاطه العلمي والعملي في عيادة الطب النفسي تحت إشراف جانيه، ثم بلولر. وانضم إلى الهيئة التدريسية في جامعة زيوريخ في العام الدراسي(1905-1906). وفي عام 1907 سافر إلى فيينا، وتعرف فيها على فرويد. ووجد لدى هذا الأخير الكثير من الأفكار التي تتفق مع توجهاته آنذاك. فعمل على الإفادة منها وتطويرها أثناء نشاطه العملي اللاحق. وفي عام 1909 سافر برفقة فرويد إلى الولايات المتحدة الأمريكية تلبية للدعوة التي تلقاها من ستانلي ـ هول. وهناك عرض خلاصة خبرته الميدانية في مجموعة من المحاضرات. وخلال تلك الأعوام برز يونغ كقطب من أقطاب التحليل النفسي. فكان أول رئيس للرابطة الدولية للمحللين النفسيين ومحرر أول مجلة ناطقة باسم التحليل النفسي JOHRBUSH.
وابتداء من عام 1911 اتخذت خلافاته مع فرويد طابعاً حاداً انتهت بانفصاله عنه وباستقالته من الرابطة ورفضه العمل في المجلة. وكان ذلك عام 1913. وبعد هذا التاريخ بقليل تخلى عن التدريس في الجامعة ليتفرغ كلية للنشاط العيادي. واستطاع في غضون فترة قصيرة أن يستقطب مجموعة من الأطباء النفسيين ويؤسس معها "نادياً سيكولوجياً"، تركزت نشاطاته بصورةعامة حول تبادل الآراء والخبرات العملية. وقد مارست المجموعة نشاطها هذا على شكل حلقات بحث كان يديرها ويوجهها يونغ. وبفضل أعماله وخبرته في ميدان الطب النفسي ذاع صيته، فقصده المرضى من مختلف البلدان، ومنها إنكلترا والولايات المتحدة. وهذاما شجعه على بذل المزيد من الجهد في مجال تخصصه. ومن أجل إشباع ميله إلى الفلسفة والإلمام بالنظريات الفلسفية القديمة والحديثة، وجد أن أفضل السبل التي تؤدي إلى هذا الهدف هو سبيل الاتصال المباشر بممثلي تلك النظريات والتعرف على مدى تمثلهم لها وتأثرهم بها. فزار الجزائر وتونس وشطراً هاماً من الصحراء الكبرى عام 1920. وخلال زيارته هذه تعرف، للمرة الأولى، على إحدى الثقافات الشرقية، ووقف على تأثيرها في سلوك أبناء هذه المنطقة وعاداتهم وتقاليدهم. واستغل فرصة وجوده في الولايات المتحدة الأمريكية خلال عامي 1924 و1925، فقصد "بويبلو" إحدى قبائل الهنود الحمر التي تعيش في المكسيك. واطلع على نمط الحياة فيها ونوع الروابط القائمة بين أفرادها. وفي عام 1926 سافر إلى كينيا لنفس الهدف. وأكثر من ذلك فقد دفعه شغفه بالفلسفة الهندية القديمة ورغبته في معرفة تعاليم الديانة البوذية وطقوسها إلى القيام برحلة إلى الهند وسيلان(سيرلانكا حالياً) عام 1937، وسوف تترك الانطباعات التي خلفتها مشاهداته ومطالعاته خلال هذه المرحلة بصمات واضحة على نتاجه العلمي فيما بعد. وربما يكون هذا الجانب واحداً من أهم العوامل التي عمقت خلافه مع فرويد، وأدت إلى ظهور مؤسسات تعكس هذا الخلاف وتؤكده. فقد تأسست الرابطة الدولية للطب النفسي عام 1933 التي انتخب يونغ على رأسها. كما أقيم عام 1948 معهد في مدينة زيوريخ يحمل اسم يونغ لتعليم علم النفس التحليلي ونشر مبادئه وأفكاره وطرائقه.
لقد عرف يونغ في الأوساط السيكولوجية، وفي المقام الأول من خلال طريقته في التداعي. وهذه الطريقة، وإن حملت ضمن مبادئها بعضاً مما أقيمت عليه طريقة التداعي الحر، فإنها تختلف عنها في بنيتها وأسلوب تطبيقها. فهي تذكرنا بالطريقة التي ابتكرها ابن سينا لمعرفة الأسباب الحقيقية والمباشرة للمرض. ذلك لأن كلاً من الطريقتين تعتمد في الوصول إلى الهدف المطلوب على استجابات المريض على الكلمات ـ المثيرات التي تعرض عليه.
وترجع نشأة طريقة التداعي التي وضعها يونغ إلى عام 1906. وهي تحتوي على مجموعة كبيرة من الكلمات ـ المثيرات(400 كلمة)، التي تتوزع على أسماء(241) وصفات(69) وأفعال(82) وأحرف وأعداد(18). وقد حرص يونغ على اختيار الكلمات الأكثر تداولاً لتجنب الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها المفحوص، وتفادياً لإطالة الوقت الذي يستغرقه هذا الأخير في استجابته بسبب صعوبة الكلمة وليس بسبب أي شيء آخر.
ويحدد يونغ مهمة هذه الطريقة في دراسة مجموعة من العمليات الحسية والارتباطات النفسية الداخلية والقدرة على الصياغة الكلامية والعروض الحركية. ويجد أن لكل واحدة من هذه الوقائع النفسية نصيباً من الاستجابة. وبصرف النظر عما يقال عادة من أن التداعي يكون حراً، وأن بإمكان المفحوص أن يرد كيفما يشاء، فإن الحقيقة التي يبرزها يونغ هي أن المفحوص مرغم على البوح بالأشياء التي يعتقد خطأ بأنها من الأسرار(تاريخ علم النفس "نصوص"، 1986، 143-146).
إن أي تلكؤ أو تردد يبديه المريض(والإنسان عامة) أثناء الاستجابة على الكلمة ـ المثير يعتبر، في رأي يونغ، مؤشراً على وجود علاقة غير عادية مع الموضوع الذي تدل عليه الكلمة ـ المثير. وغالباً ما يكون هذا النوع من الاستجابات نتيجة تدخل قوي من الجانب الانفعالي.
لقد تمكن يونغ بفضل استخدام هذا الاختبار في نشاطه العيادي من ملاحظة بعض الحالات المرضية التي تختلف أعراضها ومسبباتها عما وصفه فرويد وفسره بالرغبات الجنسية الطفولية. فالاضطراب الذي يعاني منه الفصامي والانقسامات التي تحل بشخصيته ليست مما يمكن اعتباره "نتفاً منفردة من فعل الجماع"، مثلما قال فرويد عن الزلة وخفقان القلب والهستيريا وعصاب الحصر(فرويد، 1981، 94)، فتفسير كهذا يرفضه يونغ رفضاً قاطعاً ويعتبره أمراً"... يجب أن يوصف بما هو أسوأ من السخيف"(عاقل، 1981، 216). وهنا يكمن جذر الخلاف بين الرجلين، وتتضح بداية تكون نواة علم النفس التحليلي.
ومن المنطق الذي يحكم نظرتنا إلى الأشياء والحوادث، فإننا ندرك أن المعطيات التي جمعها يونغ أثناء ممارسته العيادية لا تعد سبباً وحيداً لانشقاقه عن فرويد، وأساساً كافياً لبناءاته الفكرية. وبعبارات أخرى فإن مجرد ذكر هذه المعطيات أو الإشارة إليها غير كاف البتة لتفسير التباين في وجهتي نظر فرويد ويونغ، وتتبع تطور الجوانب الرئيسية لعلم النفس التحليلي. وقد لا نختلف مع الرأي القائل بأن الحصول على هذه المعطيات تم بفضل إدخال تقنيات وأدوات جديدة. ولكننا لا نقف عند حدود هذا الرأي، ونمضي إلى أبعد منها فنقول بأن مثل هذه المعطيات يجسد ـ إلى جانب تلك التقنيات والأدوات ـ موقفاً نظرياً معيناً. فالمهمة متعددة الجوانب التي أوكلها يونغ إلى اختباره تتضمن إشارة على درجة كافية من الوضوح إلى علاقة تلك الأداة بموقفه النظري. وبوسعنا أن نتعرف على هذا الموقف، ونجمع خطوطه ومحاوره بالرجوع إلى مراحل حياته والأطوار التي مرت بها اهتماماته وتكونت عبرها معارفه.
لقد ألمحنا في فصل سابق إلى أن يونغ ولد وتربى في بيئة متدينة. وقد ساعده ذلك على الإلمام بتعاليم الديانة المسيحية، وصبغ ثقافته، فيما بعد، بالصبغة الدينية الصوفية، وخلق لديه ميلاً قوياً نحو الفلسفة دفعه للاطلاع على النظريات الفلسفية الغربية الحديثة، والفلسفات القديمة والسفر لإثراء معارفه بالمعايشة المباشرة لكثير من ثقافات الأمم والشعوب. ولهذا يمكن اعتبار يونغ أكثر قرباً إلى قضايا الفلسفة وأكثر دراية بمذاهبها بالمقارنة مع فرويد. وقد بدا هذا الفرق عبر اللقاءات الأولى التي جمعت الطرفين. فكان من نتائجها أن تبلور اهتمام فرويد بالتاريخ الثقافي للمجتمعات البشرية، كما ذكرنا في حينه.
وهكذا ينبغي إضافة المعارف الفلسفية التي كان يمتلكها يونغ ونتائج تحليله لمعطيات الثقافة الشعبية و الديانات والأساطير إلى معطيات تجربته العيادية لتكون الخطوط التي أنشأ منها نظريته التحليلية.
إن اعتراض يونغ على الدور الاستثنائي الذي تلعبه الرغبات الجنسية في الحياة النفسية لم يكن ليعني رفضه لجميع المفاهيم التي جاء بها التحليل النفسي الكلاسيكي. وبما أنه أحد أقطاب التحليل النفسي وصاحب اتجاه من اتجاهاته فقد أبقى على بعض تلك المفاهيم واستخدمها على النحو الذي ينسجم مع أفكاره وتصوراته. ومن بينها مفهوم "الليبيدو" الذي عنى به الطاقة النفسية التي تتبدى في خضم الحياة وتدرك كنزعة ورغبة ذاتيتين. فبعد أن كان هذا المفهوم يرمز إلى الطاقة الجنسية التي تتخذ أشكالاً محددة تعرف بها مراحل حياة الإنسان، أصبح الآن يشير إلى طاقة نفسية، تتضمن فيما تتضمن الرغبة الجنسية كشكل من أشكال تجلياتها. ففي المراحل العمرية الأولى تتجسد هذه الطاقة في غريزة التغذية التي تتولى مهمة إنضاج العضوية، وشيئاً فشيئاً يفسح النمو العضوي المتدرج والمتعاقب مجالات جديدة لاستعمال الطاقة الليبيدوية، آخرها وأهمها الغريزة الجنسية. يقول يونغ : "من وجهة النظر الوصفية، يرى التحليل النفسي تعددية الرغبات، ومن بينها الرغبة كظاهرة جزئية، وهو يعترف، فوق ذلك، ببعض التيارات الليبيدوية في الرغبات اللاجنسية.
والأمر، من وجهة النظر التكوينية، مختلف. فهنا ينظر إلى نشوء تعددية الرغبات من الوحدة النسبية، من الليبيدو: فعن الليبيدو الذي يقوم بوظيفة التكاثر تتفرّع تيارات ليبيدوية وتنضم إلى أشكال جديدة من تجلياته"(تاريخ علم النفس "نصوص"، 1986، 153).
ولما كان مفهوم الليبيدو يدل على القوة المحركة للسلوك الإنساني، فمن الطبيعي أن يرتبط عند يونغ ـ كما هو الشأن عند فرويد ـ بمكونات النفس وأقسامها.
ولعل أول ما يمكن تسجيله بصدد الحديث عن الجهاز النفسي هو اتفاق يونغ مع فرويد حول تقسيم النفس إلى وعي ولا وعي، وأسبقية اللاوعي وكبر مساحته وأهميته في حياة الفرد بمقارنته مع الوعي. ولكن يونغ يخلع على اللاوعي صبغة سيكولوجية بدلاً من الصبغة البيولوجية الفرويدية. وهذا ما أبرزه في مسلمته حول وجود أفكار رمزية وشاملة تنتقل بالفطرة عبر الأجيال، وتؤلف قاعدة لكل ما سوف يكتسبه أو يتمثله المرء من تصورات خلال مراحل حياته. وقدأطلق على هذه الأفكار اسم "الأنماط الأصلية أو الأولية ARCHETYPES".
والأنماط الأولية، في نظرية يونغ، هي مخططات رمزية، أو صور عامة تختزل خبرة بني البشر في الصراع مع العالم الخارجي عبر حقب مديدة من الزمن. وقد وجدت تلك المخططات والصور منذ القديم طريقها إلى البنية البشرية، وصارت جزءاً من مكوناتها. فالخوف الذي يعتري الإنسان المعاصر لدى رؤيته بعض الحيوانات، كالأفاعي مثلاً، أو عند حلول الظلام... ماهو، في اعتقاد يونغ، إلا راسب نفسي ورثناه عن أسلافنا البدائيين حينما كانوا يعيشون في المغاور والكهوف، ويتعرضون دوماً لتهديدات تلك الحيوانات وهجماتها. وتؤلف هذه الأنماط جزءاً هاماً من اللاوعي يسميه يونغ "اللاوعي الجمعي" ليميزه عن جزء آخر من اللاوعي يطلق عليه "اللاوعي الفردي أو الشخصي".
وعلى هذا النحو يحتفظ اللاوعي عند يونغ بالمكانة الهامة التي يحتلها في التحليل النفسي الفرويدي. ولكنه يختلف عن اللاوعي الفرويدي من حيث شكله ومضمونه. ومع أن تقسيم يونغ للاوعي إلى نظام جمعي وآخر فردي يعد جانباً ذا مغزى في هذا الاختلاف، إلا أن الجانب الأهم يكمن في خصائص كل منهما ودوره في حياة الفرد. فاللاوعي الجمعي( أو ما فوق الشخصي، كما يسميه، يونغ أحياناً)، يحتوي على ماهو مشترك بين الجماعة أو الشعب أو الإنسانية مما لايكتسبه الفرد في مجرى حياته. إنه يتضمن الغرائز الفطرية والصور الأولية، البدائية. وصحيح أن المولود الإنساني الجديد لا يحمل أي تصور عن العالم، ولكنه يملك دماغاً على درجة عالية من الدقة والتنظيم. وهو يرث هذا الدماغ، مع كل ما تثبت فيه من غرائز وأنماط وصور، عن الأسلاف بوصفه نتاجاً عضوياً للوظائف العصبية والنفسية التي كانوا يقومون بها. وتشتمل محتويات اللاوعي الجمعي على المعتقدات الجماعية والبشرية والأساطير، وعلى ما ورثه الإنسان عن الحيوانات. وهكذا ينظر يونغ إلى اللاوعي على أنه النظام النفسي الأهم والأقدم الذي يوجد بشكل مستقل عن نمو الفرد ووعيه وتجاربه.
ويستمد يونغ أدلته على وجود اللاوعي الجمعي من واقع ممارسته العيادية. فبعد أن اعترف بصعوبة إدراكه في الأحوال العادية يؤكد على وجود عناصره في الأحلام عبر الآثار الواضحة للصور الأسطورية، وبدرجة أكبر في حالات الاضطراب الذهني، ولاسيما الفصام. ومن الشواهد على وجود الصور الأسطورية والأفكار الرمزية لدى المرضى تلك الخيالات والتهيؤات التي تتكون لديهم والتي تشبه بمضامينها الصور الأسطورية والدينية التي نجدها عند مختلف الشعوب.وقد دفعته ملاحظاته هذه إلى القول بأن تلك الصور والأفكار هي تعبير عن عمل النفس الإنسانية اللاواعية(والحيوانية جزئياً)، التي تكونت نتيجة ما تركته تجربة الأسلاف القدامى من بصمات في بنية الدماغ.
أمّا اللاوعي الفردي فإنه يشغل من النفس الجزء العلوي الذي يتوضع على الطبقة الداخلية العميقة التي يحتلها اللاوعي الجمعي. ويحتوي اللاوعي الفردي على الذكريات والصدمات المنسية والنزوات والرغبات المكبوتة والعقد. وتؤثر هذه الوقائع والحالات النفسية على سلوك الفرد عن طريق آثارها التي تبقى في اللاوعي حتى ولو أ صبح إدراكها والشعور بها أمراً متعذراً تماماً. ويتضمن هذا النظام من اللاوعي، علاوة على ذلك، جميع الإدراكات والانطباعات تحت الواعية التي لم تشحن بالقدر الكافي من الطاقة كي تبلغ الوعي. ومن هذا المنظور فإن اللاوعي الفردي يرتبط مباشرة بالسيرة الذاتية للفرد وبتجاربه الحياتية. ويمكن الاطلاع على محتوياته(أو على بعضها)، بوساطة تفسير الأحلام والخيالات وتحليلها، وباستخدام طريقة التداعي.
وقد تثير فرضية اللاوعي الجمعي اعتراض الآخرين ودهشتهم. ومثل رد الفعل هذا لم يكن بعيداً عن حسابات يونغ وتوقعاته، بل إنه أشار إليه بصراحة وجلاء، وأرجع السبب في ظهوره إلى حداثة هذا المصطلح، مؤكداً، في الوقت ذاته، أن تداوله كفيل بتحويله إلى تصور مألوف، مثلما آل إليه مصير مفهوم اللاوعي. وبعد أن يستعرض الموقف العام من اللاوعي باختصار منذ هـ.كاروس وهارتمان يتوقف عند فهم فرويد له، ويسجل ملاحظاته حوله. فقد لاحظ أن فرويد ميز في أعماله الأخيرة بين الجانب الغريزي من النفس(الهو) والوعي الجمعي(الأنا الأعلى) الذي يعي الفرد جزءاً منه ويبقى الجزء الآخر مكبوتاً. ولكنه رغم ذلك وجد أن اللاوعي عنده ذو طبيعة فردية، ولا يتعدى كونه ميداناً للرغبات والنزوات الجنسية المنسية والمكبوتة.
إن طرح يونغ للاوعي الجمعي وأهميته على صعيد الفرد والمجتمع هو محاولة لتطوير فرضية العالم الأتنوغرافي الفرنسي ليفي ـ برول عن"التصورات الجمعية". وفي هذا السياق عقد مقارنة بين الصور الرمزية للمعتقدات البدائية التي حملها ليفي ـ برول لهذا المفهوم بالأنماط الأولية التي زعم أنها مكوّنات اللاوعي الجمعي. واستخلص أن مفهوم النمط الأولي يمكن استخدامه بصورة غير مباشرة في التصورات الجماعية، لأنه لا يعي سوى المضامين النفسية التي لم تخضع بعد للمعالجة الواعية، وبالتالي فإنها تعتبر معطى نفسياً مباشراً.
ولعل من أهم النقاط التي تضمنتها نظرية يونغ في اللاوعي تتمثل في التفريق بين النفس والروح. فالنفس تعني، بالنسبة له، العمليات النفسية الواعية وغير الواعية. بينما تتجسد الروح في مجموعة الوظائف التي يطلق عليها اسم "الشخصية". وهذا ما يوضحه في قوله: "أثناء قيامي بدراساتي التي كرستها لبنية اللاوعي وجدت لزاماً علي أن أبين الفارق المنطقي بين الروح والنفس. إنني أفهم من النفس مجموع العمليات النفسية الواعية منها وغير الواعية، وأفهم من الروح مركباً معيناً ومحدداً من الوظائف، الذي لا يمكن وصفه بأفضل من "الشخصية". ومن أجل وصف أدق لما عنيته بذلك يتوجب علي هنا أن أستميل أيضاً بعض وجهات النظر الأكثر بعداً. فخصائص ظاهرة الروبصةSOMNABULISME(ازدواجية الطبع، انشطار الشخصية) التي يعود الفضل الأكبر في دراستها للعلماء الفرنسيين قادتنا إلى وجهة نظر مفادها أن في هذا الفرد أو ذاك يمكن أن يكون "عدد من الشخصيات"(تاريخ علم النفس "نصوص"، 1986ـ 161).
ويبدو من خلال ذلك أن يونغ يبتعد أكثر عن فرويد في النظرة إلى طبيعة اللاوعي ومحتواه. فبينما بدا اللاوعي عند فرويد وجوداً بيولوجياً وسيكولوجياً، أصبح عند يونغ ذا صبغة اجتماعية. وقد دأب على إبراز تلك الصبغة لدى تحديده لمحتويات كل من اللاوعي الجمعي واللا وعي الفردي ومصادرها. فالتصورات الرمزية التي تؤلف مضمون اللاوعي الجمعي هي رواسب الخبرة القديمة للبشرية. والحوادث والتصورات المكبوتة أو المنسية التي تشكل عناصر الوعي الفردي هي ثمرة التجربة الاجتماعية للفرد. ويتأكد النزوع الاجتماعي ليونغ أكثر في محاولته تقديم نظرية جديدة في الشخصية وإدخاله عدداً من المفاهيم المستحدثة، من مثل "الشخص" أو "القناع" و"الظل" و"الأنيما" و"الأنيموس" و"الشيخ الحكيم"، و"الذات". فقد أدخل يونغ هذه المفاهيم ليبرز تعدد مستويات النفس وتنوعها. وهي تشير بصورة رمزية إلى نواح محددة من النفس اللاواعية فالشخص PERSONA أو PERSONAE(بالجمع) يرمز للناحية السطحية(الخارجية) من الشخصية، التي تتجلى في العلاقة المباشرة للإنسان بالآخرين دون أن تعكس وجهه الحقيقي. إنه صورة الإنسان التي يظهر فيها أمام نفسه وأمام الآخرين، أو القناع MASK الذي ترتديه الشخصية لإخفاء حقيقتها. ويرمز الظل DERSCHATTEN إلى كل ماهو منحط في أخلاق الإنسان. فقد قصد به يونغ وجود الجانب السلبي، القاتم في الشخصية الذي يحتوي على النزعات العدوانية والتخريبية، ويتوضع في أعماق النفس البشرية.
وتعبر الأنيما عن النمط الأول الأنثوي في الرجل، والأنيموس ـ عن النمط الأول الذكري في المرأة. ويرجع النمطان في نشأتهما إلى أصول جنسية قديمة. ولما كانا يشكلان نتاجاً نفسياً للعلاقات المشتركة بين الناس، فإنهما يعتبران في رأي يونغ، عاملاً هاماً في إحلال التناغم والانسجام بين الجنسين. ذلك لأن كل واحد منهما يحمل صورة عن موضوع الجنس المقابل. وغياب الانسجام والتفاهم بين المرأة والرجل يعود إلى اختلاف الصورة الأولية لدى كل منهما(أو لدى أ حدهما) عن الصورة الواقعية للآخر.
ويرمز مفهوم الشيخ الحكيم إلى حلم الإنسان وحكمته، وتغليب الواقع وإخضاع ما سواه من رغبات وحاجات لمعاييره.
أما مفهوم الذات فقد أدخله يونغ ليعبر به عن الوحدة الكلية للنفس بشطريها الواعي واللاواعي. فالذات أعم وأشمل من "الأنا" الذي يقصر يونغ استخدامه على الوعي. وهي غالباً ما تتجسد في التخيلات والتهيؤات اللاواعية، متخذة مظهر الشخصية المثالية، مثلما هو حال فاوست عند غوته، وزرادشت عند نيتشه.
وثمة مفهوم آخر يميز علم النفس التحليلي ويزيد من صبغته الاجتماعية. والمقصود هنا هو مفهوم التفرد INDIVIDUTION. والتفرد ـ كما يعرفه يونغ ـ "هو عملية تشكل وانفصال كائنات فريدة...".(تاريخ علم النفس "نصوص"، 1986، 169)، ولهذا فإنه يقتضي تتبع التعبيرات الرمزية للأنماط الأولية عند هذا الفرد أو ذاك للتعرف على السمات المميزة للشخصية.
ويحتل التفرد مكان القلب بين المبادئ والأفكار اليونغية، لأن عملية التشكل والانفصال تعتبر، كما يقول يونغ نفسه، بداية تطور النفس البشرية ونهايته. وهذا القول يحمل دلالة إضافية على سعة "نفوذ" التفرد والمشكلات التي ترتبط دراستها به، وهي كثيرة ومتنوعة تتجاوز ما يتصل منها بالنمو الفردي إلى تطور البشرية، والقيم الحضارية، وموقع الإنسان المعاصر من ذلك.
ولقد توصل يونغ باستخدامه مفهومه الخاص عن التفرد إلى رسم لوحة رمادية لإنسان حضارة القرن العشرين. حيث وجد أن من النتائج السلبية للتطور الثقافي الذي عرفه العالم(الغربي على وجه التحديد) اختلال التوازن والاضطرابات النفسية التي تعاني منها الشخصية. ويرجع يونغ ذلك إلى اضمحلال دور الصور الرمزية للقيم التي يحملها الإنسان وخوائه الروحي مقابل الإشباع المادي الذي يتسم به العصر الحالي.
ويرى يونغ أن خلاص الإنسان المعاصر من "أزمة البحث عن النفس"، يكمن في العودة إلى القيم الروحية الحقة التي تكسب حياة الفرد معنى وأهمية. وأن تحقيق هذا الهدف يمر عبر التفرد.
ولعل ما تجدر ملاحظته هنا هو أن يونغ يعطي للتفرد صفة النقدية. وقد استعمل هذه الصفة في تحليله للحضارة الغربية وانعكاساتها على الجوهر الإنساني. واعتبرها، في نفس الوقت، أداة لتجاوز معاناة الإنسان في ظل هذه الحضارة. بيد أن علمه لم يبرح الدائرة الفردية السيكولوجية بسبب نظرته المثالية الضيقة التي لم تمكنه من رؤية الروابط الحقيقية بين الفرد ومجتمعه، والآثار السلبية لتبدل الشروط الحياتية الموضوعية في سمات الإنسان وقيمه.
وإذا عرف مؤسس علم النفس التحليلي بطريقة التداعي، فإن دراسته لأنماط الشخصية قد أسهمت بقسط وافر في انتشار أفكاره. فبالاعتماد على المعطيات الميدانية قسم يونغ ا لشخصية إلى نوعين أو نمطين: الشخصية المنبسطة، والشخصية المنطوية. حيث كشفت هذه المعطيات عن وجود سمات عامة لدى الناس إلى جانب الفروق الفردية بينهم، وقادته ملاحظاته لسلوك الأفراد وتتبع مجرى حياتهم إلى حقيقة مفادها أن بعضاً منهم يبدي اهتماماً واضحاً بالعالم الخارجي، بينما يعزف الآخر عن الموضوعات الخارجية ويتجه نحو ذاته ويهتم بعالمه الداخلي. إن كلاً منا ينحرف حتماً نحو هذه الناحية أو تلك، ويميل دوماً إلى تفسير الأشياء من زاوية النمط الذي ينتمي إليه. ويشير يونغ إلى أن أياً من النمطين لا يوجد بصورة مستقلة تماماً. فليس هناك شخص منطو تماماً، أو منبسط تماماً. ومن غير الممكن أن يوجد النمطان الواحد إلى جانب الآخر، وإنما يوجدان الواحد مع الآخر. وهذا يعني أن الشخصية الواحدة تتضمن عناصر الانبساط وعناصر الانطواء معاً، ولكن بنسب متفاوتة فمن طغت لديه عناصر الانبساط على عناصر الانطواء كانت شخصيته من النمط المنبسط. بينما تكون شخصيته من النمط الانطوائي عندما تسيطر لديه عناصر الانطواء على عناصر الانبساط.
على أن يونغ لا يعتبر تصنيف الناس في فئتين: المنبسطين في جانب، والانطوائيين في الجانب المقابل، نهاية المطاف، بل إنه خطوة أولى على طريق التمييز بين الأفراد على أساس اختلاف سماتهم النفسية. فقد كشفت الدراسات في هذا الميدان عن فوارق هامة بين الأفراد الذين ينتمون إلى أحد النمطين. وعليه فإن الخطوة الثانية تتمثل، من وجهة نظر يونغ، في تحديد أدق وأكثر تفصيلاً للأوجه التي يختلف فيها أفراد النمط الواحد.
ويعني ذلك القيام بتصنيف الناس ليس على أساس الفروق العامة العريضة بينهم فقط، وإنما تبعاً لتفاوت وظائفهم النفسية أيضاً. وقد اختار يونغ التفكير والإحساس والانفعال والحدس لتكون أساساً لتصنيف الناس إلى مفكرين وحساسين وانفعاليين(أوعاطفيين ) أو حدسيين. ومن ثم عمد إلى ربط هذه الأنماط الأربعة بالنمطين السابقين ليقدم مخططه النهائي لأنماط الشخصية. فكل واحد من الأنماط الأربعة يمكن أن يكون منبسطاً أو انطوائياً وفقاً لموضوعات اهتمامه وتوجهاته.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح