مقدّمــَة:
على امتداد المائة عام الماضية صدر أكثر بكثيرٍ من مائة كتاب في تاريخ علم النفس تحت مسميات مختلفةٍ، وبلغات عديدة. والحق أن جميع المحاولات التي جسدتها هذه المؤلفات جاءت لتؤرخ لجزء أو جانب من هذا العلم. فما صدر منها في أوربة الغربية وأمريكا تعرّض لتزايد عدد الدراسات والمؤسسات العلمية والاجتماعية والمشتغلين في علم النفس ونشأة المدارس المختلفة وتطور الأفكار النفسية في البلدان الغربية فقط. وكذا فعل مؤلفو الكتب التي نُشرت في أوربة الشرقية. فقد اقتصر حديث مؤرخي علم النفس في الاتحاد السوفيتي على تطور الفكر النفسي وأدوات البحث ومناهجه وزيادة عدد الباحثين والعلماء في علم النفس والمؤسسات النفسية وغير ذلك مما له علاقة بعلم النفس ماضياً وحاضراً داخل الاتحاد السوفيتي ذاته. ولم تخرج الكتب التي صدرت في بلدان العالم الثالث عن هذا الإطار. فجاء المؤلَّف منها والمترجم ليستعرض مراحل تطور الفكر النفسي قبل استقلال علم النفس وبعده، وظهور المدارس النفسية التقليدية في الدول الغربية بصورة محدّدة.
وليس بمقدور أحدٍ أن يرتاب في أهمية هذه المؤلفات ودور مؤلفيها ومترجمي ما نقل منها إلى لغاتٍ أخرى غير اللغة التي كتبت فيها في تزويد قرائها من مختلف الأجيال بالمعلومات المتعلقة بمراحل تطور الفكر والبحث النفسيين، وإغناء تصوراتهم حول فوائد علم النفس والنجاحات التي أحرزها على الكثير من الأصعدة.
ولعلّ بالإمكان أن تكون تلك الأهمية أعظم، وأن يكون ذلك الدور أقوى فيما لو أن هذه المؤلفات، أو جزءاً يسيراً منها على الأقل، قدم لوحة كاملة عن ماضي علم النفس العالمي وحاضره، وعرض أكبر عدد من نظرياته وتياراته، ووقف على تناقضاتها، وتابع الصراعات داخل هذا العلم وتقدمه على كافة المسارات. لقد كان ذلك ولا يزال أمراً مطلوباً لأكثر من سبب. ولكنه، للأسف، لم يحدث في الماضي لأسباب معروفة للجميع.
على أنّ حالة الاستثناء الوحيدة هي تلك التي يمثلها مؤرخ علم النفس ياروشيفسكي. فقد وضع هذا العالم أول كتاب في "تاريخ علم النفس" عام 1966. وقدم فيه صورة شاملة عن تطور الأفكار النفسية منذ ظهور الحكماء والأطباء الهنود والصينيين واليونانيين القدماء حتى قيام علم النفس كعلمٍ مستقل مروراً بالفلاسفة والمفكرين الذين برزوا في ظلّ الحضارة العربية-الإسلامية، ومن ثمّ فلاسفة عصور النهضة الأوربية. وتحدث بعد ذلك عن المدارس والنظريات التي نشأت وتطورت في مضمار علم النفس العالمي حتى منتصف الستينيات من القرن العشرين.
إننا ندين لهذا العالم بالمنهج الجدلي الذي استخدمه في مؤلفه المذكور. فميزة هذا المنهج تكمن بوجه خاص في المتابعة المستمرة والفاحصة للأدوار التي تمرّ بها الظاهرة بدءاً بمرحلتها الجنينية، وانتهاءً بحالتها الراهنة، مع التركيز على دراسة شروط نشأتها ونموها والعمليات التي تجري في داخلها، وتفاعلاتها مع عناصر محيطها الخارجي أثناء ذلك كلّه.
وعلى هذا النحو فإن استخدام هذا المنهج في التأريخ لعلم النفس يقتضي من الباحث أن يتعرض لأهم الآراء والتصورات التي سبقت هذا العلم ومهدّت لاستقلاله، ويتتبع أصولها الفلسفية والاجتماعية، ويقف على تناقضاتها ووحدتها، وتباينها وتماثلها.
والشيء ذاته يتعيّن عليه عمله حينما يمضي في عرض النظريات التي ظهرت بعد استقلال علم النفس ومتابعة حالاتها المتطورة وأوجهها المختلفة.
وربما تكون الصورة هنا أوضح، حيث يتعلق الأمر باختلاف الآراء حول موضوع علم النفس ومنهج البحث فيه. فلا يكفي في هذه الحالة تعيين حدود الاختلاف وخطوط الاتفاق بين النظريات النفسية لمعرفة جوهر كلّ منها وموقعها بين النظريات الأخرى، وإنّما ينبغي التعرَّف على أسباب هذا الاختلاف وذاك الاتفاق بالرجوع إلى الأرضية الفلسفية والاجتماعية التي انطلقت منها كلّ نظرية، وتتّبع تأثير ذلك في المفاهيم والأفكار التي اعتمدت عليها.
وبتطبيق هذا المنهج في العمل الحالي يبدو علم النفس كظاهرة تحوي ظواهر صغيرة(استقلال علم النفس، المدارس والنظريات النفسية.. الخ) وهذه تشتمل على ظواهر أصغر(الدعوات المبكرة لاستقلال علم النفس، أعمال فوندت الأولى، إنشاء مخبر لايبزيغ، الغشتالتية، السلوكية... الخ). وتشترك الظواهر في كل مستوى بخصائص عامة. كما تتسم كلّ واحدةٍ منها بصفات ذاتية خاصة. وهي جميعها، في الوقت نفسه، تخضع لقوانين عامة(وحدة وصراع الأضداد، تحول التراكمات الكمية إلى حالة نوعية...) وتُفسَّرُ وفقاً لمقولات فلسفية مشتركة(الخاص والعام، السبب والنتيجة، الضرورة والصدفة، الجوهر والظاهرة).
وفي ضوء ذلك قمت بعرض الأفكار النفسية وتطورها عند الفلاسفة اليونان القدماء والعرب والمسلمين لقناعتي بأهمية الدور الذي لعبه هؤلاء في النهضة الأوربية. ثمّ بسطت أهم الآراء التي تناولت النفس في الفلسفة الأوربية حتى بداية القرن التاسع عشر وأثرها في نشاط العلماء والفلاسفة بعد هذا التاريخ. ووقفت، من ثمَّ، على أعمال أبرز علماء الأحياء والفيزيولوجيا في مجال الإدراك الحسي، وأفكار بعض العلماء في خصائص الشخصية والفروق الفردية، وإسهام الأطباء الفرنسيين في الكشف عن الأمراض النفسية وأسبابها وطرائق معالجتها، وآراء أشهر المربين والمعلمين في الخصائص النفسية للدارسين وعلاقتها بالتربية والتعليم، باعتبار أن نشاطات هؤلاء خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر كانت ثمرة للتطور العلمي والفكري من جهة، ومقدمات رئيسية لقيام علم النفس كعلمٍ قائمٍ بذاته من جهة ثانية.
إن من غير الإنصاف أو الموضوعية أن يرتبط استقلال علم النفس في أذهاننا بجهد فردي قام به شخص ما، أو أن يقترن بواقعة معينة. فحدثٌ كهذا لا يمكن أن يكون إلاّ نتاج نشاط المئات من العلماء والباحثين في العديد من ميادين الفكر والعلم.
ومع تقديري العميق للجهود التي بذلها فوندت، وللأعمال الرائعة التي قام بها لصالح علم النفس، فإنني أرى أنه ليس بالإمكان نسيان جهود أسلافه وأعمالهم وأثرها في توجهاته وأفكاره. إذ بدون التراث العلمي والفكري الذي خلفّه هؤلاء لم يكن بمقدور فوندت أن يفكر بتصميم جهاز لدراسة الظاهرة النفسية عام 1861. أو يقوم بتأسيس مخبره عام 1879.
ومما لا شك فيه أن الأسلاف مارسوا تأثيرهم على فكر فوندت ونشاطه بهذه الصورة أو تلك، مثلما مارسوا تأثيرهم على أذهان زعماء مختلف النظريات النفسية التي ظهرت مع بدايات القرن العشرين. فجاءت هذه النظريات لتقّرب بين هذه الأفكار والتصورات أو تلك مما تركه الأسلاف، وتؤلف بينها لتكون القاعدة التي تقام عليها كافة الآراء والتدابير العملية. وهذا ما دفعني إلى عرض تلك المصادر والمنابع الفكرية التي نهل منها أصحاب تلك النظريات، وربط المفاهيم والقوانين التي تتضمنها كلّ واحدة منها بمنطلقاتها الفكرية لأضع القارئ أمام تجليات تلك المنطلقات في الواقعة النفسية كما تبدو لممثليها وأنصارها.
وبنفس الكيفية جرى الحديث عن علم النفس في روسيا والاتحاد السوفيتي(سابقاً)، حيث وقفت مطولاً عند المقدمات الرئيسية التي أدّت إلى ظهوره هناك بهدف وضع قراء العربية أمام التقاليد المادية والاجتماعية في الفكر الروسي، إضافة إلى تتبع تطور الأفكار النفسية عند العلماء والمفكرين الروس ودورها الكبير في صياغة علم النفس السوفيتي.
ومن ثمّ انتقلت إلى عرض المدارس النفسية في الاتحاد السوفيتي(سابقاً). وأثناء ذلك حرصت على أن يكون هذا العرض مفصلاً بعض الشيء استجابة لطلب الكثير من الزملاء والطلبة ورغبتهم في الإطلاع على هذا الجزء من علم النفس الذي لا يعرفون منه إلا تجربة بافلوف الكلاسيكية وانعكاسية بختيرف والقلة القليلة من أسماء العلماء وعناوين عريضة وعامة لبعض نشاطاتهم.
وفي الأخير تحدثت عن علم النفس في الاتحاد السوفيتي وبلدان المنظومة الشرقية(سابقاً) والصين وبلدان المنظومة الغربية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الحالي. وتمّ التركيز في الفصول المخصصة لهذا الموضوع على التغيرات و التطورات التي طرأت على مواقف علماء المنظومتين والتعاون الذي بدأ يتحقق بينهم في الميدان.
لقد حاولت الإحاطة قدر المستطاع بكافة المدارس والنظريات والتيارات النفسية التي ظهرت على الساحة العالمية على امتداد ما يربو على القرن، وتقديمها بأسلوب سهل ولغة مفهومة بغية زيادة عدد قراء هذا العمل ما أمكن. وفي كلّ الأحوال فإنّ القارئ هو الطرف الأقدر على تقويم هذه المحاولة وتحديد مواطن القوة ومواقع الضعف فيها.
وكلّ ما يأمله أي إنسان يوجد في الموقف الذي أنا فيه هو أن يحقق عمله قدراً كبيراً من الأهداف التي وضعه من أجلها.
والله ولي التوفيق.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح