الإفادة من ذلك كله؛ فكيفوا تلك الطرائق تبعاً لطبيعة الظاهرة النفسية وموقفهم منها، وصمموا الأدوات والأجهزة لدراستها، واتبعوا الوسائل العلمية والرياضية في معالجة ما كانوا يتوصلون إليه من معطيات حولها. ولم يقصروا عملهم هذا على موضوعات دون سواها، وإنما شملوا به جميع الجوانب النفسية بدءاً من الإحساسات والإدراكات وانتهاءً بالتفكير والانفعال عند الإنسان والحيوان في شتى الأعمار والمراحل. وبفضل الجهود التي بذلوها توضحت آنذاك حدود ميادين مختلفة لعلم النفس وظهر الكثير من فروعه، كعلم النفس التجريبي وعلم النفس النمائي والتربوي وعلم النفس المقارن وعلم النفس الحيواني، وعلم نفس العمل وعلم النفس المرضي وعلم النفس الفيزيولوجي.. الخ. وفي هذا القسم يجد القارئ عرضاً لأهم الأعمال التي أسهمت في توسيع دائرة اهتمام علم النفس وظهور فروعه وميادينه.
ألمحنا منذ قليل إلى أن فوندت أثار لدى تلاميذه النزعة التجريبية. وهذا ما تجسد بوضوح في إقامتهم المخابر النفسية في أوطانهم بعد عودتهم إليها. فقد عرفت الولايات المتحدة الأمريكية وبعض البلدان الأوربية حتى نهاية القرن التاسع عشر ظهور عشرات المخابر النفسية. وتعكس هذه الظاهرة بحد ذاتها الميل القوي الذي أخذ يبديه الناس آنذاك نحو النشاط النفسي وتجلياته. كما أنها تعكس أمراً آخر أكثر أهمية على صعيد التقدم العلمي، يتمثل في نظرة المشتغلين في ميدان علم النفس إلى الظاهرة النفسية نظرة موضوعية باعتبارها تحدث في الزمان والمكان.
ولقد جاءت هذه النظرة لتحل محل النظرة القديمة التي ترى أن من غير الممكن إخضاع الظاهرة النفسية للدراسة بوصفها شيئاً يختلف عن بقية الظواهر اختلافاً جوهرياً. وربما رسخت النظرة الجديدة إلى النفس الاعتقاد بإمكانية قيام علم موضوعي يقف على قدم المساواة مع علوم الطبيعة، وشجعت أصحابها على اتباع الطرائق واستخدام الأدوات التي تستخدم في تلك العلوم.
ومن الثابت تاريخياً أن هذه النظرة حملت أصحابها إلى استخدام التجربة في نشاطهم العلمي نظراً لما توفره للباحث من إمكانية ملاحظة الظاهرة السلوكية أكثر من مرة ضمن شروط معينة، ثابتة أو متغيرة، وفهم الأسباب والعوامل التي تقود إليها، ومعرفة النتائج التي تترتب عن حدوثها. وأصبحت المخابر النفسية مركز نشاط المهتمين بالعلم الجديد في العديد من بلدان العالم، ولا سيما في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإيطاليا وانكلترا والدول الاسكندنافية. ولقد تركزت أعمال العلماء والباحثين في تلك المخابر حول ثلاثة محاور رئيسية، وهي سيكوفيزيولوجيا الإدراك والسيكوفيزياء والقياس النفسي. واستحوذ المحور الأول(سيكوفيزيولوجيا الإدراك) على جلّ اهتمام أولئك العلماء والباحثين، وحظي بنصيب وافر من أعمالهم. ولعله من اليسير أن يتلمس المرء أسباب ذلك. فمن خلال دراسة الإحساس والإدراك وقف العلماء قبل أن يصبح علم النفس علماً قائماً بذاته على تخوم الظاهرة النفسية، وحاولوا استجلاء طبيعتها وقوانين تكونها وتطورها بوسائل موضوعية، وأحياناً بلغة علومهم. وبذا مهدوا السبيل أمام علماء النفس لدراستها بنفس الوسائل، ولكن بلغة علمهم الناشئ. ثم إن إفادتهم من التقنيات المستعملة في العلوم القريبة من علم النفس كالفيزيولوجيا والتشريح.. الخ وتوظيفها في دراسة موضوعات تلك المحاور رسّخا لديهم الإيمان بجدوى عملهم، وموضوعية النتائج التي كانوا يتوصلون إليها.
ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن الدراسات التي تناولت الوظائف الحسية بعيد استقلال علم النفس كانت استمراراً للدراسات التي أجريت قبله. فقد تتبع العلماء في مخبر فوندت، كما في غيره من المخابر، الظواهر الحسية المختلفة التي عني بدراستها كل من هيلمهولتز وموللر ودونديرس، حيث تولى كريشمان وتيتشز في ثمانينيات القرن التاسع عشر دراسة الإبصار المحيطي والمزدوج. بينما تولى، في الوقت ذاته غ. أوبيرت وزميله أ. فولكمان دراسة ظاهرة التكيف البصري. وفي عام 1894 تمكن فون كريس من عرض تصور كامل عن الأجسام المخروطية والأجسام الأسطوانية التي تدخل في بنية العين ودورها في عملية الإبصار. وهو، بهذا، يكمل اكتشاف شولتز لهذه الأجسام عام 1866 الذي اعتمد على جملة من الوقائع التي كشف عنها تشريحه للعين عند الإنسان والحيوانات. وبفضل ذلك تبين له أن العين عند الحيوانات الليلية لا تملك إلا أجساماً أسطوانية، في حين أن العين عند الحيوانات الأخرى والإنسان مزودة، إضافة إلى ذلك، بأجسام مخروطية. وقاده ذلك إلى نتيجة مؤداها أن وظيفة الأجسام الأسطوانية هي الرؤية في ظروف العتمة والظلام. وأن الأجسام المخروطية تتولى مهمة الإبصار في ظروف الإضاءة. غير أن كريس لم يحدد الكيفية التي تتم بها رؤية الألوان، وهو ما كرس له ايوالد هيرينغ(1834-1918م) شطراً هاماً من نشاطه العلمي.
انطلق هيرينغ من الاعتقاد بأن شبكية العين تملك القدرة على رؤية المكان منذ البداية دون أن تخضع للتجربة والتدريب. ويرى أن كل نقطة فيها تحتوي على ثلاث إشارات موضعية تسمح بإدراك الأبعاد الثلاثة(الطول والعمق والارتفاع) بصرف النظر عن حركة العين. وواضح أن هذا الاعتقاد يخالف ما استخلصه هيلمهولتز من أن الرؤية هي نتاج نشاط العين.
والنقطة الثانية التي عالجها هيرينغ واختلف حولها مع هيلمهولتز تتعلق برؤية الألوان فقد افترض هيلمهولتز(ومن قبله يونغ)، وجود ثلاثة ألياف في كل عنصر من العناصر المختصة برؤية الألوان، وأن هذه الألياف يختص كل منها برؤية الألوان الثلاثة: الأحمر والأخضر والبنفسجي. وتتم رؤية الألوان الأخرى ومشتقاتها نتيجة إثارة هذه الألياف مجتمعة من قبل الأشعة المناسبة. ثم جاء هيرينغ ليقول بوجود عمليتي الهدم والبناء لبعض الأسس الكيميائية التي تثير الإحساس بالألوان الستة المزدوجة: الأبيض- الأسود، الأحمر- الأخضر، الأصفر- الأزرق كأساسٍ لرؤية الألوان. ففي عملية الهدم يظهر أحد الإحساسات، وفي عملية البناء يظهر إحساس آخر مناقض له. ويجد أن الألوان الأخرى تتم رؤيتها بفعل التجميع المتنوع للعمليات العصبية.
لقد تناولت النظريتان جانباً من الظاهرة المدروسة التي ظلت لأعوام طويلة موضوع اهتمام المشتغلين في هذا الميدان. وقاد ذلك إلى نشوء نظريات متعددة لم تتمكن من الصمود طويلاً أمام المعطيات التي مكنت من الحصول عليها الأجهزة الحديثة وما واكبها من تحسن في طرائق بحث العمليات البيوفيزيوكيميائية للمحلل البصري.
وبينما كان هؤلاء العلماء يواصلون بحوثهم في مجال الإحساس البصري، كان هناك علماء آخرون يبحثون في مجالات أخرى للإحساس، كالسمع واللمس وغيرهما. ففي عام 1875 نشر ماخ مقالاً بعنوان "أساسيات في دراسة الإحساس بالحركة" عرض فيه نتائج سلسلة من التجارب التي خصصها لدراسة أثر وضعية الرأس في الإحساس بالمكان والصور اللاحقة الناجمة عن التغيرات التي تطرأ على تلك الوضعية. وفي الوقت ذاته كان كرمبرون وبروير يدرسان، كل لوحده، نفس الظاهرة سعياً وراء تقديم تفسير للعلاقة بين الأذن الداخلية والإحساس بالتوازن التي كشف عنها فلورنز من قبل. وتمكن الثلاثة من معرفة آليات عملية حفظ توازن الجسم البشري واختلاله. فقد وجدوا أن السائل الموجود في القنوات الهلالية هو المسؤول عن تلك العملية. فتحريك الرأس يؤدي إلى تحرك ذلك السائل، وهذا بدوره يؤثر في وضع شعيرات نهاية القنوات الهلالية مما يثير الأعصاب التي تنقل ذلك إلى المنطقة المختصة في الدماغ.
ومن الأمور الهامة في هذا السياق ذلك البحث الذي قام به ك. شتومبف خلال العقد التاسع من القرن الماضي، واتخذ من الموسيقيين المحترفين موضوعاً له. فقد انتهى إلى نتائج مناقضة للنتائج التي توصل إليها كل من سكريبجور وكريفر في مخبر فوندت. إذ عمل شتومبف على تتبع مظاهر الوعي كما هي وبصورة مباشرة، بينما لجأ سكريبجور وكريفر إلى تحليلها بهدف التعرف على عناصرها الأولية.
وخلال هذه الفترة كان علماء آخرون ينهضون بدراسة الإحساسات الأخرى ومن أشهرهم غولدشايدر وفري وبليكس ودونالدسون. فقد أماط هؤلاء اللثام عن تفاوت الإحساس الجلدي من مكان إلى آخر من الجسم وتنوع هذا الإحساس تبعاً لبنية الجلد.
وكشفوا عن وجود أربعة أنواع من الإحساسات: الإحساس بالضغط، والإحساس بالألم، والإحساس بالحرارة، والإحساس بالبرودة. ولقد فتح هذا الاكتشاف الباب أمام العلماء لتطوير المعارف حول هذا الموضوع. يضاف إلى هذا الرصيد العلمي بحث تسوارد ماكر حول الإحساس الشمي والأعمال التي خصّصها كيزوف لدراسة حاسة الذوق.
ومن جهة أخرى بقي زمن الرجع واحداً من الموضوعات التي استرعت اهتمام السيكولوجيين في تلك المرحلة. فقد خلص الألماني لودفيغ لانج(1825-1885م) بعد سلسلة من التجارب إلى أن زمن الرجع يكون أطول في الاستجابات الحسية منه في الاستجابات العضلية. وعلل ذلك بأن الانتباه في الأولى يكون موجهاً نحو المثير، وفي الثانية يكون موجهاً نحو الحركة المزمع القيام بها. وتعكس هذه النتيجة اهتمام لانج بالدور الأساسي الذي يلعبه الانتباه في نشاط الفرد. وهو ما سعى العديد من العلماء لمعرفته فيما بعد. فقد كان زمن الرجع والانتباه المحور الرئيسي الذي أولاه كاتل عناية خاصة في الطور الأول من حياته العلمية. ولدراسة هذا الموضوع صمم كاتل جهازاً لقياس الزمن الذي يستغرقه الفرد في الإدراك وتسمية الأشكال والصور والكلمات. ووجد أن حجم الانتباه عند البشر يصل في المتوسط إلى خمسة موضوعات. وظل كاتل يواصل بحوثه في الإدراك وزمن الرجع واعتبره، في وقت لاحق، سمة من السمات التي تميز الفرد عن غيره.
وما دام الكلام يدور عن زمن الرجع والإدراك والانتباه فإن لغالتون حقاً على علم النفس في هذا الشأن ينبغي إبرازه والاعتراف به. ويبدو أنّ من المناسب، هنا، أن نشير إلى تجربته المعروفة بـ "الترابط" والتي ذاع صيتها وانتشرت في صفوف المهتمين بمسائل علم النفس. وخلاصة هذه التجربة هي أن غالتون وضع قائمة تحتوي على 75 كلمة، كان يغطيها أثناء العرض، ولا يظهر منها إلا كلمة واحدة. وبمجرد رؤيته لها كان يضغط على عقرب المزمان CHRONOMETRE ليطلقه. ولدى تشكل أول تصور تستدعيه هذه الكلمة كان يوقف المزمان فوراً. ولعلّ مثل هذه الإجراءات التي حددها غالتون هي التي جعلت من تجربته أقل دقّة من سواها إلى دراسة العمليات النفسية الداخلية. فقد لاقت هذه الوضعيّة الاستبطانية استحساناً كبيراً لدى فوندت فقام باستخدامها مباشرة. كما أطلع عليها كاتل(مثلما أطلع على الكثير من تجارب غالتون) أثناء وجوده في لايبزيغ وزيارته لغالتون نفسه في بريطانيا. ويتحدث مؤرخو علم النفس مطولاً عن تأثر كاتل بأعمال غالتون، وخاصة في مجال إعداد التجارب وبناء الاختبارات.
ومهما يكن من أمر فإن الوضعية التجريبية التي شرع علماء النفس نشاطهم من خلالها ذات أصول فيزيولوجية. فهي أعدت لدراسة الوقائع النفسية البسيطة، كالإدراك الحسي وسرعة الاستجابة التي تخضع للملاحظة الخارجية بقليل من الصعوبة. وبالطريقة ذاتها حاول فوندت وتلاميذه بحث الوظائف النفسية المعقدة. فبالنسبة لهم أصبحت رؤية الكلمة أو سماعها والاستجابة الظاهرية التي تستدعيها الموضوع الذي يجب أن يتناوله النشاط التجريبي. وهذا معناه إسقاط العمليات النفسية التي تحدث بين إدراك الكلمة والاستجابة عليها من حسابهم بدعوى عدم جدوى دراستها بالطريقة التجريبية. وقد تصدى لهذا الزعم عالم النفس الألماني هيرمان ابنغهاوس(1850-1909)، حيث أخضع إحدى الوظائف النفسية المعقدة، وهي التذكر، للدراسة التجريبية، مدشناً بذلك عهداً جديداً في تاريخ علم النفس التجريبي.
تلقى ابنغهاوس تعليمه العالي في مدينة بون. ومن جامعتها نال شهادة الدكتوراه عام 1973 على أطروحته التي عالج فيها اللاشعور في فلسفة فون هارتمان. وبعد ذلك قضى سبع سنوات في البحث عن المعرفة. وسافر خلالها إلى فرنسا وانكلترا. وفي إحدى زياراته لفرنسا، وبينما كان يطوف شوارع باريز عثر بالمصادفة في أحد المحلات الصغيرة لبيع الكتب على كتاب "عناصر السيكوفيزياء". وقد أعجب بهذا المؤلف أيّما إعجاب، ولا سيما برهان صاحبه على إمكانية قياس الظاهرة النفسية(الحس) قياساً كمياً. وقرر المضي في هذا المنهج، فوقع اختياره على موضوع التذكر.
إن دراسة ابنغهاوس لم تكن في واقع الحال مقتصرة على التذكر كمجموع لعمليات أو مراحل هي الاستظهار والحفظ والاسترجاع فقط، بل وتطرقت لبعض القوانين العامة التي تتحكم في تكون ردود الأفعال الحسية عند الإنسان، واكتسابه الخبرة الفردية. ولا يخفى هنا تأثر ابنغهاوس بتعاليم الارتباطيين الانكليز الذين أرجعوا الحركات والعمليات التي تقوم بها العضوية إلى نشاط الخلايا العصبية واتحادها بعضها مع بعض. ولما لم تكن الفيزيولوجيا قادرة على دراسة اكتساب تلك العضوية لأنماط جديدة من السلوك عن طريق مبدأ التلاؤم والتكيف الذي اعتمدت عليه آنذاك، فقد أصبح هذا الموضوع هدفاً لعلماء النفس.
اشتملت دراسة ابنغهاوس على 2300 مقطعٍ لا تحمل أي معنى، ولقد ساعدته لغته الألمانية المعروفة بكلماتها الطويلة من وضع هذا العدد من المقاطع. ويكمن سبب اختياره للمقاطع عديمة المعنى في أنه أراد أن تكون عناصر مادة تجربته متساوية في درجة صعوبتها لكي تكون لها أوزان متساوية. وزيادة على هذا حرص على استبعاد أي تصور أو تداع محتمل يمكن أن يثيره العنصر(المقطع) لدى المفحوص. ثم قام ابنغهاوس بترتيب هذه المقاطع في سلاسل ذات أطوال متدرجة، تتألف أولاها من ثلاثة مقاطع والثانية من أربعة مقاطع، وهكذا إلى أن يصل عدد مقاطع السلسلة الأخيرة إلى ثلاثة عشر. وبذا توصل ابنغهاوس إلى وضع العديد من المهمات التي تتألف كل واحدة من مجموعة من السلاسل.
اتخذ ابنغهاوس من نفسه مفحوصاً، وبدأ محاولاته لحفظ المقاطع التي تشتمل عليها السلاسل في كل مهمة مؤكداً على عدد المرات الذي يلزمه لاسترجاعها بصورة صحيحة ودونما أخطاء من جهة، وعلى عدد المرات اللازم لاعادة حفظها بعد مرور فترات مختلفة من الزمن من جهة ثانية وتوصل في النتيجة إلى أن عدد المرات اللازم لاسترجاع مادة ما يتناسب طرداً مع طولها، فكلما كانت المادة طويلة تطلبت مهمة حفظها واسترجاعها فيما بعد على نحو صحيح عدداً أكبر من المرات... ووجد أن عدد المرات اللازم لإعادة حفظ موضوع ما يتناقص مع مرور الزمن، إذ أن الجزء الأكبر من المادة المنسية يقع في الفترة الزمنية التي تعقب الحفظ مباشرة.
إن اختيار ابنغهاوس للمقطع الذي لا يثير لدى المفحوص أيَّ تداع ممكن يحمل أهمية سيكولوجية خاصة، فهو يعتبر مؤشراً على عدم صلاحية الكلمة لكي تكون عنصراً أو وحدة لبحث الظواهر النفسية ومعرفة كنهها. ذلك لأن الكلمة تتضمن معنى محدداً وتدل على شيء(أشياء) أو ظاهرة(ظواهر) معينة. ولهذا فهي تثير لدى المفحوص تصورات وتداعيات شتى، تختلف كثيراً أو قليلاً عما تثيره لدى مفحوص آخر. إن العنصر الأساسي في النفس البشرية، والحالة هذه، يتمثل، بالنسبة لابنغهاوس، في الكلمة المسموعة أو المنطوقة، وليس في الإحساس كما هو الأمر بالنسبة لبعض العلماء.
لقد سمحت آراء ابنغهاوس بالانتقال من مجال النظرية إلى ميدان تطبيقها وتعميمها على أرض الواقع. ولهذا السبب الجوهري يمكن اعتبار طريقة ابنغهاوس أول طريقة سيكولوجية علمية. صحيح أن فوندت وغالتون أجريا تجارب كثيرة في نفس الفترة التي كان ابنغهاوس ينهض بعمله، بل وأنهما نشرا نتائج دراساتهما قبله، إلا أن دراسته تعد أفضل وقيمتها العلمية أكبر نظراً لاستخدامه طريقة موضوعية في بحث واحدة من الوظائف العقلية العليا وتأكيده على قياس الفعل وليس القول مثلما فعل فوندت وغالتون. وفي هذه اللحظة تتجلى نظرته إلى الوعي واعتباره إياه نتاج النشاط الذي يمارسه الفرد. وبكلمات أخرى فإن ابنغهاوس يرى أن الظاهرة النفسية هي عملية موضوعية تحدث في الزمان والمكان، ولذا فإن بمستطاع الباحث قياسها، بل والتدخل في جريانها وتطورها. وعلى هذا الأساس انصرف لمراقبة التذكر والنسيان ورسم مجراهما على شكل منحنى، وانتهى إلى صياغة القوانين والاقتراحات التي من شأنها أن تزيد من قدرة الإنسان على التذكر.
وفي الحين الذي اقتصرت فيه الدراسات السيكولوجية قبل ابنغهاوس على الوظيفة الحسية وحساب زمن استجابة الفرد على المثيرات الخارجية، دون أن تتوخى معرفة إمكانية تغيير هذه الاستجابة، أي أنها لم تهتم بزيادة قدرة الفرد على الإحساس أو تمييزه للمثيرات على نحو أفضل أو التقليل من الزمن الذي يلزمه للقيام بالاستجابة المناسبة، شدّد ابنغهاوس على وجوب الربط بين المنبه والفعل(قراءة المقاطع أو سماعها عدداً من المرات، تكرار الاسترجاع) وتغير الاستجابة تبعاً لعدد مرات التكرار وزمن الاسترجاع. وقد تمكن بذلك من توضيح العلاقة الإيجابية القائمة بين استرجاع الموضوع من جهة، وعدد مرات قراءته أو سماعه من جهة ثانية.
لقد كتب النقاد والمؤرخون من المهتمين بعلم النفس الكثير عن أعمال ابنغهاوس. ويكاد يجمع هؤلاء على أن كتاب "حول التذكر" الذي نشره ابنغهاوس عام 1885 هو واحد من أكثر المؤلفات في علم النفس التجريبي دقة وأصالة. فقد ذهب تيتشنر، أحد تلاميذ فوندت الأوفياء، إلى القول بأن تجربة "المقاطع عديمة المعنى" هي أهم حدث في تاريخ علم النفس بعد أرسطو. كما أعرب فلوجل عن شديد إعجابه بكتاب ابنغهاوس، حيث قال في هذا الشأن: "لم يفتح هذا العمل آفاقاً جديدة فحسب، بل كان في حد ذاته مثلاً بارزاً على المهارة التكنيكية والمثابرة الدؤوبة"(1979، 137)، ويرجح أن يكون هذا العمل سبباً في ترقية صاحبه عام 1886 إلى أستاذ فوق العادة في جامعة برلين، ومن ثم منحه كرسي الأستاذ ليبز في جامعة برسلاو(فلوجل) 1979، 138).
وينحو ياروشيفسكي نفس المنحى فيشيد بابنغهاوس ويثني على أعماله. ولكنه ينصح بعدم المبالغة في تقويمها، مشيراً إلى نوع من التناقض بين منطلقاته النظرية وأعماله التجريبية. فابنغهاوس- عنده- لم يرفض الاستبطانية، بل إنه، على العكس، اعتمد عليها في صياغة نظريته. وهذا ما يبرز في كتابيه "أسس علم النفس" و"الموجز في علم النفس" اللذين ظهرا عام 1897 وعام 1908 على التوالي. بينما نراه يستخدم الطريقة الموضوعية في دراسته الميدانية(ياروشيفسكي، 1985، 255).
ومهما تكن طبيعة الملاحظات والانتقادات التي وجهت إلى عنوان ابنغهاوس فإن دوره الفعال في تطور المنهج التجريبي في علم النفس لا يرقى إليه شك. وهذا ما يشهد به "اختبار التكميل" لدراسة القدرات العقلية الذي وضعه بعد اختبار المقاطع عديمة المعنى لدراسة التذكر. ولقد حقق "اختبار التكميل" نجاحاً كبيراً ولقي انتشاراً واسعاً، وأصبح مصدراً للعديد من الاختبارات التي وضعها علماء النفس فيما بعد لقياس الذكاء. كما أن طريقته في دراسة التذكر فرضت نفسها كنموذج عني الباحثون عقوداً بمحاكاته وتحسينه. ومن بين أولئك الباحثين ميوللر.
درس جورج الياس ميوللر(1850- 1934م) في جامعة غوتينغن وتتلمذ على يد لوتزه. وفي عام 1881 خلفه في كرسي الأستاذية، وصار مشرفاً على مخبر البحوث السيكولوجية في نفس الجامعة. وهو المخبر الذي كان يحتل المركز الثاني بعد مخبر فوندت. وبفضل دأب ميوللر ومواظبته على البحث وحرصه على المكانة التي يحتلها هذا المخبر استطاع أن يستقطب عدداً من الباحثين النشيطين، أمثال شومان ومارتن وبيلزكر وسبيرمان ويانيش وجامبل وغيرهم.
كان ميوللر ذا نزعة تجريبية وميل إلى العمل المخبري أكثر منه إلى الجانب النظري، مما جعل شخصيته العلمية قريبة من شخصية ابنغهاوس. وقد انصب نشاطه بصورة أساسية نحو معالجة مسائل السيكوفيزياء والتذكر. وله في هذين المجالين عدة مؤلفات وبحوث. وهو صاحب أحد أهم المراجع في سيكوفيزياء تلك الفترة، الذي صدر عام 1878 تحت عنوان "أساس السيكوفيزياء". أما في مجال التذكر فقد أدخل مع مساعديه تقنيات حديثة على طريقة ابنغهاوس، وتوصلوا عبر سلسلة من التجارب إلى وجود عوامل أخرى غير التي ذكرها ابنغهاوس، تؤثر في عملية التذكر. فتوفر الدافع الإيجابي لدى الفرد إزاء الموضوع يسرع من وتائر حفظه له ويطيل في أمد احتفاظه به وييسر استرجاعه له. وهذه النتيجة تتجاوز التفسير الآلي للعمليات العقلية الذي يميز النظرية الارتباطية. كما أن قراءة المادة كلها دفعة واحدة من أجل حفظها أفضل من تجزئتها وقراءة كل جزء لوحده. ومما لا شك فيه هو أن جميع هذه النتائج تصب في التيار المتنامي الذي يجسد النزعة نحو ربط النظرية بالتطبيق والبحث العلمي بالحياة.
بوح الروح
ألمحنا منذ قليل إلى أن فوندت أثار لدى تلاميذه النزعة التجريبية. وهذا ما تجسد بوضوح في إقامتهم المخابر النفسية في أوطانهم بعد عودتهم إليها. فقد عرفت الولايات المتحدة الأمريكية وبعض البلدان الأوربية حتى نهاية القرن التاسع عشر ظهور عشرات المخابر النفسية. وتعكس هذه الظاهرة بحد ذاتها الميل القوي الذي أخذ يبديه الناس آنذاك نحو النشاط النفسي وتجلياته. كما أنها تعكس أمراً آخر أكثر أهمية على صعيد التقدم العلمي، يتمثل في نظرة المشتغلين في ميدان علم النفس إلى الظاهرة النفسية نظرة موضوعية باعتبارها تحدث في الزمان والمكان.
ولقد جاءت هذه النظرة لتحل محل النظرة القديمة التي ترى أن من غير الممكن إخضاع الظاهرة النفسية للدراسة بوصفها شيئاً يختلف عن بقية الظواهر اختلافاً جوهرياً. وربما رسخت النظرة الجديدة إلى النفس الاعتقاد بإمكانية قيام علم موضوعي يقف على قدم المساواة مع علوم الطبيعة، وشجعت أصحابها على اتباع الطرائق واستخدام الأدوات التي تستخدم في تلك العلوم.
ومن الثابت تاريخياً أن هذه النظرة حملت أصحابها إلى استخدام التجربة في نشاطهم العلمي نظراً لما توفره للباحث من إمكانية ملاحظة الظاهرة السلوكية أكثر من مرة ضمن شروط معينة، ثابتة أو متغيرة، وفهم الأسباب والعوامل التي تقود إليها، ومعرفة النتائج التي تترتب عن حدوثها. وأصبحت المخابر النفسية مركز نشاط المهتمين بالعلم الجديد في العديد من بلدان العالم، ولا سيما في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإيطاليا وانكلترا والدول الاسكندنافية. ولقد تركزت أعمال العلماء والباحثين في تلك المخابر حول ثلاثة محاور رئيسية، وهي سيكوفيزيولوجيا الإدراك والسيكوفيزياء والقياس النفسي. واستحوذ المحور الأول(سيكوفيزيولوجيا الإدراك) على جلّ اهتمام أولئك العلماء والباحثين، وحظي بنصيب وافر من أعمالهم. ولعله من اليسير أن يتلمس المرء أسباب ذلك. فمن خلال دراسة الإحساس والإدراك وقف العلماء قبل أن يصبح علم النفس علماً قائماً بذاته على تخوم الظاهرة النفسية، وحاولوا استجلاء طبيعتها وقوانين تكونها وتطورها بوسائل موضوعية، وأحياناً بلغة علومهم. وبذا مهدوا السبيل أمام علماء النفس لدراستها بنفس الوسائل، ولكن بلغة علمهم الناشئ. ثم إن إفادتهم من التقنيات المستعملة في العلوم القريبة من علم النفس كالفيزيولوجيا والتشريح.. الخ وتوظيفها في دراسة موضوعات تلك المحاور رسّخا لديهم الإيمان بجدوى عملهم، وموضوعية النتائج التي كانوا يتوصلون إليها.
ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن الدراسات التي تناولت الوظائف الحسية بعيد استقلال علم النفس كانت استمراراً للدراسات التي أجريت قبله. فقد تتبع العلماء في مخبر فوندت، كما في غيره من المخابر، الظواهر الحسية المختلفة التي عني بدراستها كل من هيلمهولتز وموللر ودونديرس، حيث تولى كريشمان وتيتشز في ثمانينيات القرن التاسع عشر دراسة الإبصار المحيطي والمزدوج. بينما تولى، في الوقت ذاته غ. أوبيرت وزميله أ. فولكمان دراسة ظاهرة التكيف البصري. وفي عام 1894 تمكن فون كريس من عرض تصور كامل عن الأجسام المخروطية والأجسام الأسطوانية التي تدخل في بنية العين ودورها في عملية الإبصار. وهو، بهذا، يكمل اكتشاف شولتز لهذه الأجسام عام 1866 الذي اعتمد على جملة من الوقائع التي كشف عنها تشريحه للعين عند الإنسان والحيوانات. وبفضل ذلك تبين له أن العين عند الحيوانات الليلية لا تملك إلا أجساماً أسطوانية، في حين أن العين عند الحيوانات الأخرى والإنسان مزودة، إضافة إلى ذلك، بأجسام مخروطية. وقاده ذلك إلى نتيجة مؤداها أن وظيفة الأجسام الأسطوانية هي الرؤية في ظروف العتمة والظلام. وأن الأجسام المخروطية تتولى مهمة الإبصار في ظروف الإضاءة. غير أن كريس لم يحدد الكيفية التي تتم بها رؤية الألوان، وهو ما كرس له ايوالد هيرينغ(1834-1918م) شطراً هاماً من نشاطه العلمي.
انطلق هيرينغ من الاعتقاد بأن شبكية العين تملك القدرة على رؤية المكان منذ البداية دون أن تخضع للتجربة والتدريب. ويرى أن كل نقطة فيها تحتوي على ثلاث إشارات موضعية تسمح بإدراك الأبعاد الثلاثة(الطول والعمق والارتفاع) بصرف النظر عن حركة العين. وواضح أن هذا الاعتقاد يخالف ما استخلصه هيلمهولتز من أن الرؤية هي نتاج نشاط العين.
والنقطة الثانية التي عالجها هيرينغ واختلف حولها مع هيلمهولتز تتعلق برؤية الألوان فقد افترض هيلمهولتز(ومن قبله يونغ)، وجود ثلاثة ألياف في كل عنصر من العناصر المختصة برؤية الألوان، وأن هذه الألياف يختص كل منها برؤية الألوان الثلاثة: الأحمر والأخضر والبنفسجي. وتتم رؤية الألوان الأخرى ومشتقاتها نتيجة إثارة هذه الألياف مجتمعة من قبل الأشعة المناسبة. ثم جاء هيرينغ ليقول بوجود عمليتي الهدم والبناء لبعض الأسس الكيميائية التي تثير الإحساس بالألوان الستة المزدوجة: الأبيض- الأسود، الأحمر- الأخضر، الأصفر- الأزرق كأساسٍ لرؤية الألوان. ففي عملية الهدم يظهر أحد الإحساسات، وفي عملية البناء يظهر إحساس آخر مناقض له. ويجد أن الألوان الأخرى تتم رؤيتها بفعل التجميع المتنوع للعمليات العصبية.
لقد تناولت النظريتان جانباً من الظاهرة المدروسة التي ظلت لأعوام طويلة موضوع اهتمام المشتغلين في هذا الميدان. وقاد ذلك إلى نشوء نظريات متعددة لم تتمكن من الصمود طويلاً أمام المعطيات التي مكنت من الحصول عليها الأجهزة الحديثة وما واكبها من تحسن في طرائق بحث العمليات البيوفيزيوكيميائية للمحلل البصري.
وبينما كان هؤلاء العلماء يواصلون بحوثهم في مجال الإحساس البصري، كان هناك علماء آخرون يبحثون في مجالات أخرى للإحساس، كالسمع واللمس وغيرهما. ففي عام 1875 نشر ماخ مقالاً بعنوان "أساسيات في دراسة الإحساس بالحركة" عرض فيه نتائج سلسلة من التجارب التي خصصها لدراسة أثر وضعية الرأس في الإحساس بالمكان والصور اللاحقة الناجمة عن التغيرات التي تطرأ على تلك الوضعية. وفي الوقت ذاته كان كرمبرون وبروير يدرسان، كل لوحده، نفس الظاهرة سعياً وراء تقديم تفسير للعلاقة بين الأذن الداخلية والإحساس بالتوازن التي كشف عنها فلورنز من قبل. وتمكن الثلاثة من معرفة آليات عملية حفظ توازن الجسم البشري واختلاله. فقد وجدوا أن السائل الموجود في القنوات الهلالية هو المسؤول عن تلك العملية. فتحريك الرأس يؤدي إلى تحرك ذلك السائل، وهذا بدوره يؤثر في وضع شعيرات نهاية القنوات الهلالية مما يثير الأعصاب التي تنقل ذلك إلى المنطقة المختصة في الدماغ.
ومن الأمور الهامة في هذا السياق ذلك البحث الذي قام به ك. شتومبف خلال العقد التاسع من القرن الماضي، واتخذ من الموسيقيين المحترفين موضوعاً له. فقد انتهى إلى نتائج مناقضة للنتائج التي توصل إليها كل من سكريبجور وكريفر في مخبر فوندت. إذ عمل شتومبف على تتبع مظاهر الوعي كما هي وبصورة مباشرة، بينما لجأ سكريبجور وكريفر إلى تحليلها بهدف التعرف على عناصرها الأولية.
وخلال هذه الفترة كان علماء آخرون ينهضون بدراسة الإحساسات الأخرى ومن أشهرهم غولدشايدر وفري وبليكس ودونالدسون. فقد أماط هؤلاء اللثام عن تفاوت الإحساس الجلدي من مكان إلى آخر من الجسم وتنوع هذا الإحساس تبعاً لبنية الجلد.
وكشفوا عن وجود أربعة أنواع من الإحساسات: الإحساس بالضغط، والإحساس بالألم، والإحساس بالحرارة، والإحساس بالبرودة. ولقد فتح هذا الاكتشاف الباب أمام العلماء لتطوير المعارف حول هذا الموضوع. يضاف إلى هذا الرصيد العلمي بحث تسوارد ماكر حول الإحساس الشمي والأعمال التي خصّصها كيزوف لدراسة حاسة الذوق.
ومن جهة أخرى بقي زمن الرجع واحداً من الموضوعات التي استرعت اهتمام السيكولوجيين في تلك المرحلة. فقد خلص الألماني لودفيغ لانج(1825-1885م) بعد سلسلة من التجارب إلى أن زمن الرجع يكون أطول في الاستجابات الحسية منه في الاستجابات العضلية. وعلل ذلك بأن الانتباه في الأولى يكون موجهاً نحو المثير، وفي الثانية يكون موجهاً نحو الحركة المزمع القيام بها. وتعكس هذه النتيجة اهتمام لانج بالدور الأساسي الذي يلعبه الانتباه في نشاط الفرد. وهو ما سعى العديد من العلماء لمعرفته فيما بعد. فقد كان زمن الرجع والانتباه المحور الرئيسي الذي أولاه كاتل عناية خاصة في الطور الأول من حياته العلمية. ولدراسة هذا الموضوع صمم كاتل جهازاً لقياس الزمن الذي يستغرقه الفرد في الإدراك وتسمية الأشكال والصور والكلمات. ووجد أن حجم الانتباه عند البشر يصل في المتوسط إلى خمسة موضوعات. وظل كاتل يواصل بحوثه في الإدراك وزمن الرجع واعتبره، في وقت لاحق، سمة من السمات التي تميز الفرد عن غيره.
وما دام الكلام يدور عن زمن الرجع والإدراك والانتباه فإن لغالتون حقاً على علم النفس في هذا الشأن ينبغي إبرازه والاعتراف به. ويبدو أنّ من المناسب، هنا، أن نشير إلى تجربته المعروفة بـ "الترابط" والتي ذاع صيتها وانتشرت في صفوف المهتمين بمسائل علم النفس. وخلاصة هذه التجربة هي أن غالتون وضع قائمة تحتوي على 75 كلمة، كان يغطيها أثناء العرض، ولا يظهر منها إلا كلمة واحدة. وبمجرد رؤيته لها كان يضغط على عقرب المزمان CHRONOMETRE ليطلقه. ولدى تشكل أول تصور تستدعيه هذه الكلمة كان يوقف المزمان فوراً. ولعلّ مثل هذه الإجراءات التي حددها غالتون هي التي جعلت من تجربته أقل دقّة من سواها إلى دراسة العمليات النفسية الداخلية. فقد لاقت هذه الوضعيّة الاستبطانية استحساناً كبيراً لدى فوندت فقام باستخدامها مباشرة. كما أطلع عليها كاتل(مثلما أطلع على الكثير من تجارب غالتون) أثناء وجوده في لايبزيغ وزيارته لغالتون نفسه في بريطانيا. ويتحدث مؤرخو علم النفس مطولاً عن تأثر كاتل بأعمال غالتون، وخاصة في مجال إعداد التجارب وبناء الاختبارات.
ومهما يكن من أمر فإن الوضعية التجريبية التي شرع علماء النفس نشاطهم من خلالها ذات أصول فيزيولوجية. فهي أعدت لدراسة الوقائع النفسية البسيطة، كالإدراك الحسي وسرعة الاستجابة التي تخضع للملاحظة الخارجية بقليل من الصعوبة. وبالطريقة ذاتها حاول فوندت وتلاميذه بحث الوظائف النفسية المعقدة. فبالنسبة لهم أصبحت رؤية الكلمة أو سماعها والاستجابة الظاهرية التي تستدعيها الموضوع الذي يجب أن يتناوله النشاط التجريبي. وهذا معناه إسقاط العمليات النفسية التي تحدث بين إدراك الكلمة والاستجابة عليها من حسابهم بدعوى عدم جدوى دراستها بالطريقة التجريبية. وقد تصدى لهذا الزعم عالم النفس الألماني هيرمان ابنغهاوس(1850-1909)، حيث أخضع إحدى الوظائف النفسية المعقدة، وهي التذكر، للدراسة التجريبية، مدشناً بذلك عهداً جديداً في تاريخ علم النفس التجريبي.
تلقى ابنغهاوس تعليمه العالي في مدينة بون. ومن جامعتها نال شهادة الدكتوراه عام 1973 على أطروحته التي عالج فيها اللاشعور في فلسفة فون هارتمان. وبعد ذلك قضى سبع سنوات في البحث عن المعرفة. وسافر خلالها إلى فرنسا وانكلترا. وفي إحدى زياراته لفرنسا، وبينما كان يطوف شوارع باريز عثر بالمصادفة في أحد المحلات الصغيرة لبيع الكتب على كتاب "عناصر السيكوفيزياء". وقد أعجب بهذا المؤلف أيّما إعجاب، ولا سيما برهان صاحبه على إمكانية قياس الظاهرة النفسية(الحس) قياساً كمياً. وقرر المضي في هذا المنهج، فوقع اختياره على موضوع التذكر.
إن دراسة ابنغهاوس لم تكن في واقع الحال مقتصرة على التذكر كمجموع لعمليات أو مراحل هي الاستظهار والحفظ والاسترجاع فقط، بل وتطرقت لبعض القوانين العامة التي تتحكم في تكون ردود الأفعال الحسية عند الإنسان، واكتسابه الخبرة الفردية. ولا يخفى هنا تأثر ابنغهاوس بتعاليم الارتباطيين الانكليز الذين أرجعوا الحركات والعمليات التي تقوم بها العضوية إلى نشاط الخلايا العصبية واتحادها بعضها مع بعض. ولما لم تكن الفيزيولوجيا قادرة على دراسة اكتساب تلك العضوية لأنماط جديدة من السلوك عن طريق مبدأ التلاؤم والتكيف الذي اعتمدت عليه آنذاك، فقد أصبح هذا الموضوع هدفاً لعلماء النفس.
اشتملت دراسة ابنغهاوس على 2300 مقطعٍ لا تحمل أي معنى، ولقد ساعدته لغته الألمانية المعروفة بكلماتها الطويلة من وضع هذا العدد من المقاطع. ويكمن سبب اختياره للمقاطع عديمة المعنى في أنه أراد أن تكون عناصر مادة تجربته متساوية في درجة صعوبتها لكي تكون لها أوزان متساوية. وزيادة على هذا حرص على استبعاد أي تصور أو تداع محتمل يمكن أن يثيره العنصر(المقطع) لدى المفحوص. ثم قام ابنغهاوس بترتيب هذه المقاطع في سلاسل ذات أطوال متدرجة، تتألف أولاها من ثلاثة مقاطع والثانية من أربعة مقاطع، وهكذا إلى أن يصل عدد مقاطع السلسلة الأخيرة إلى ثلاثة عشر. وبذا توصل ابنغهاوس إلى وضع العديد من المهمات التي تتألف كل واحدة من مجموعة من السلاسل.
اتخذ ابنغهاوس من نفسه مفحوصاً، وبدأ محاولاته لحفظ المقاطع التي تشتمل عليها السلاسل في كل مهمة مؤكداً على عدد المرات الذي يلزمه لاسترجاعها بصورة صحيحة ودونما أخطاء من جهة، وعلى عدد المرات اللازم لاعادة حفظها بعد مرور فترات مختلفة من الزمن من جهة ثانية وتوصل في النتيجة إلى أن عدد المرات اللازم لاسترجاع مادة ما يتناسب طرداً مع طولها، فكلما كانت المادة طويلة تطلبت مهمة حفظها واسترجاعها فيما بعد على نحو صحيح عدداً أكبر من المرات... ووجد أن عدد المرات اللازم لإعادة حفظ موضوع ما يتناقص مع مرور الزمن، إذ أن الجزء الأكبر من المادة المنسية يقع في الفترة الزمنية التي تعقب الحفظ مباشرة.
إن اختيار ابنغهاوس للمقطع الذي لا يثير لدى المفحوص أيَّ تداع ممكن يحمل أهمية سيكولوجية خاصة، فهو يعتبر مؤشراً على عدم صلاحية الكلمة لكي تكون عنصراً أو وحدة لبحث الظواهر النفسية ومعرفة كنهها. ذلك لأن الكلمة تتضمن معنى محدداً وتدل على شيء(أشياء) أو ظاهرة(ظواهر) معينة. ولهذا فهي تثير لدى المفحوص تصورات وتداعيات شتى، تختلف كثيراً أو قليلاً عما تثيره لدى مفحوص آخر. إن العنصر الأساسي في النفس البشرية، والحالة هذه، يتمثل، بالنسبة لابنغهاوس، في الكلمة المسموعة أو المنطوقة، وليس في الإحساس كما هو الأمر بالنسبة لبعض العلماء.
لقد سمحت آراء ابنغهاوس بالانتقال من مجال النظرية إلى ميدان تطبيقها وتعميمها على أرض الواقع. ولهذا السبب الجوهري يمكن اعتبار طريقة ابنغهاوس أول طريقة سيكولوجية علمية. صحيح أن فوندت وغالتون أجريا تجارب كثيرة في نفس الفترة التي كان ابنغهاوس ينهض بعمله، بل وأنهما نشرا نتائج دراساتهما قبله، إلا أن دراسته تعد أفضل وقيمتها العلمية أكبر نظراً لاستخدامه طريقة موضوعية في بحث واحدة من الوظائف العقلية العليا وتأكيده على قياس الفعل وليس القول مثلما فعل فوندت وغالتون. وفي هذه اللحظة تتجلى نظرته إلى الوعي واعتباره إياه نتاج النشاط الذي يمارسه الفرد. وبكلمات أخرى فإن ابنغهاوس يرى أن الظاهرة النفسية هي عملية موضوعية تحدث في الزمان والمكان، ولذا فإن بمستطاع الباحث قياسها، بل والتدخل في جريانها وتطورها. وعلى هذا الأساس انصرف لمراقبة التذكر والنسيان ورسم مجراهما على شكل منحنى، وانتهى إلى صياغة القوانين والاقتراحات التي من شأنها أن تزيد من قدرة الإنسان على التذكر.
وفي الحين الذي اقتصرت فيه الدراسات السيكولوجية قبل ابنغهاوس على الوظيفة الحسية وحساب زمن استجابة الفرد على المثيرات الخارجية، دون أن تتوخى معرفة إمكانية تغيير هذه الاستجابة، أي أنها لم تهتم بزيادة قدرة الفرد على الإحساس أو تمييزه للمثيرات على نحو أفضل أو التقليل من الزمن الذي يلزمه للقيام بالاستجابة المناسبة، شدّد ابنغهاوس على وجوب الربط بين المنبه والفعل(قراءة المقاطع أو سماعها عدداً من المرات، تكرار الاسترجاع) وتغير الاستجابة تبعاً لعدد مرات التكرار وزمن الاسترجاع. وقد تمكن بذلك من توضيح العلاقة الإيجابية القائمة بين استرجاع الموضوع من جهة، وعدد مرات قراءته أو سماعه من جهة ثانية.
لقد كتب النقاد والمؤرخون من المهتمين بعلم النفس الكثير عن أعمال ابنغهاوس. ويكاد يجمع هؤلاء على أن كتاب "حول التذكر" الذي نشره ابنغهاوس عام 1885 هو واحد من أكثر المؤلفات في علم النفس التجريبي دقة وأصالة. فقد ذهب تيتشنر، أحد تلاميذ فوندت الأوفياء، إلى القول بأن تجربة "المقاطع عديمة المعنى" هي أهم حدث في تاريخ علم النفس بعد أرسطو. كما أعرب فلوجل عن شديد إعجابه بكتاب ابنغهاوس، حيث قال في هذا الشأن: "لم يفتح هذا العمل آفاقاً جديدة فحسب، بل كان في حد ذاته مثلاً بارزاً على المهارة التكنيكية والمثابرة الدؤوبة"(1979، 137)، ويرجح أن يكون هذا العمل سبباً في ترقية صاحبه عام 1886 إلى أستاذ فوق العادة في جامعة برلين، ومن ثم منحه كرسي الأستاذ ليبز في جامعة برسلاو(فلوجل) 1979، 138).
وينحو ياروشيفسكي نفس المنحى فيشيد بابنغهاوس ويثني على أعماله. ولكنه ينصح بعدم المبالغة في تقويمها، مشيراً إلى نوع من التناقض بين منطلقاته النظرية وأعماله التجريبية. فابنغهاوس- عنده- لم يرفض الاستبطانية، بل إنه، على العكس، اعتمد عليها في صياغة نظريته. وهذا ما يبرز في كتابيه "أسس علم النفس" و"الموجز في علم النفس" اللذين ظهرا عام 1897 وعام 1908 على التوالي. بينما نراه يستخدم الطريقة الموضوعية في دراسته الميدانية(ياروشيفسكي، 1985، 255).
ومهما تكن طبيعة الملاحظات والانتقادات التي وجهت إلى عنوان ابنغهاوس فإن دوره الفعال في تطور المنهج التجريبي في علم النفس لا يرقى إليه شك. وهذا ما يشهد به "اختبار التكميل" لدراسة القدرات العقلية الذي وضعه بعد اختبار المقاطع عديمة المعنى لدراسة التذكر. ولقد حقق "اختبار التكميل" نجاحاً كبيراً ولقي انتشاراً واسعاً، وأصبح مصدراً للعديد من الاختبارات التي وضعها علماء النفس فيما بعد لقياس الذكاء. كما أن طريقته في دراسة التذكر فرضت نفسها كنموذج عني الباحثون عقوداً بمحاكاته وتحسينه. ومن بين أولئك الباحثين ميوللر.
درس جورج الياس ميوللر(1850- 1934م) في جامعة غوتينغن وتتلمذ على يد لوتزه. وفي عام 1881 خلفه في كرسي الأستاذية، وصار مشرفاً على مخبر البحوث السيكولوجية في نفس الجامعة. وهو المخبر الذي كان يحتل المركز الثاني بعد مخبر فوندت. وبفضل دأب ميوللر ومواظبته على البحث وحرصه على المكانة التي يحتلها هذا المخبر استطاع أن يستقطب عدداً من الباحثين النشيطين، أمثال شومان ومارتن وبيلزكر وسبيرمان ويانيش وجامبل وغيرهم.
كان ميوللر ذا نزعة تجريبية وميل إلى العمل المخبري أكثر منه إلى الجانب النظري، مما جعل شخصيته العلمية قريبة من شخصية ابنغهاوس. وقد انصب نشاطه بصورة أساسية نحو معالجة مسائل السيكوفيزياء والتذكر. وله في هذين المجالين عدة مؤلفات وبحوث. وهو صاحب أحد أهم المراجع في سيكوفيزياء تلك الفترة، الذي صدر عام 1878 تحت عنوان "أساس السيكوفيزياء". أما في مجال التذكر فقد أدخل مع مساعديه تقنيات حديثة على طريقة ابنغهاوس، وتوصلوا عبر سلسلة من التجارب إلى وجود عوامل أخرى غير التي ذكرها ابنغهاوس، تؤثر في عملية التذكر. فتوفر الدافع الإيجابي لدى الفرد إزاء الموضوع يسرع من وتائر حفظه له ويطيل في أمد احتفاظه به وييسر استرجاعه له. وهذه النتيجة تتجاوز التفسير الآلي للعمليات العقلية الذي يميز النظرية الارتباطية. كما أن قراءة المادة كلها دفعة واحدة من أجل حفظها أفضل من تجزئتها وقراءة كل جزء لوحده. ومما لا شك فيه هو أن جميع هذه النتائج تصب في التيار المتنامي الذي يجسد النزعة نحو ربط النظرية بالتطبيق والبحث العلمي بالحياة.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح