حفظ البقاء والاستمرار، التكيف والتلاؤم، النشوء والارتقاء ومفردات أخرى شبيهة بها وقريبة منها أضحت الأدوات الأكثر تداولاً من قبل السواد الأعظم من المثقفين الأوربيين والأمريكيين في مداخلاتهم ومناظراتهم الفكرية خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ولم يتأت لهذه المفردات أن تجد طريقها إلى العقول إلا لأنها تجسد نمطاً جديداً في التفكير عليه أن يتعاطى مع إفرازات التقدم العلمي والاجتماعي. فقد عرفت أوربة والولايات المتحدة الأمريكية منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر ظهور شبكة واسعة من المؤسسات الإنتاجية والخدمية والتعليمية(معامل، شركات تجارية، مدارس، معاهد، جامعات، مراكز تربوية وتكوينية وتثقيفية...).
وأمام هذا الواقع كان لا بد من وضع قواعد وأسس لتنظم العلاقات بين مختلف الأطراف داخل تلك المؤسسات، وتحدد موقف الفرد فيها وتقوّم سلوكه بعد أن تبين لكثير من الباحثين قصور النظرة الميكانيكية التي ميزت الفكر طيلة القرون الماضية. فوجد هؤلاء في الأفكار التي حملتها النظريات التطورية، ومنها الداروينية والسبنسرية بوجه خاص، مصدراً يعينهم على أداء هذه المهمة.
ولقد أشرنا فيما سبق إلى أن هذه النظريات تنطلق في دراستها للكائن الحي من مبدأ وحدته مع بيئته الطبيعية وصراعه الدائم معها. فلكي يستمر الكائن الحي على قيد الحياة عليه أن يرد على التحديات الخارجية ويواجه تقلبات الظروف الطبيعية وتحولاتها. ولن يستطيع ذلك ما لم يتسلح بأدوات وأجهزة ملائمة. وفي مجرى هذه العلاقة تتكون لديه تلك الأدوات والأجهزة، ومع استمرارها تنمو وتتطور. فالأحداث الخارجية تؤثر فيه. وبالمقابل فإنه يستجيب لها ويرد عليها بأفعال وعمليات معقدة كثيراً أو قليلاً تبعاً لمستوى تطوره. وبفضل ذلك تنمو لديه وظائف نفسية وتتشكل أخرى. ومن هنا بدا لفريق من العلماء الأمريكيين أن معرفة آليات نشاط الوعي الإنساني والوظائف التي يقوم بها تقع ضمن اهتمامات علم النفس وصلاحياته. ذلك لأن موضوع البحث المركزي يكمن، من وجهة نظرهم، في الوصول إلى معطيات قابلة للتطبيق الميداني. والحقيقة أن القول بضرورة دراسة الوظائف النفسية ليس بالأمر الجديد على الفكر الإنساني. فقد شدت هذه المسألة إليها انتباه أنصار نظرية الملكات منذ قرنين. ورأى هؤلاء أن النفس تتألف من ملكات رئيسية، وأخرى فرعية أو ثانوية. ونجم عن هذا التقسيم وجود ملكة التذكر وملكة التخيل وملكة التفكير... الخ.
إن البحث في محتوى كل ملكة وعلاقتها بالملكات الأخرى لم يتوقف منذ ذلك التاريخ وحتى بداية القرن العشرين. وحين ظهر فريق من العلماء والمفكرين الأمريكيين لم يكن في نية أي عضو فيه تأسيس مدرسة نفسية، بقدر ما كان يرمي إلى جمع المزيد من الأدلة وتنظيم التصورات وضبط المفاهيم على قاعدة المستجدات العلمية لمصلحة ما عُرف فيما بعد بعلم النفس الوظيفي. وبناء على ذلك فإن هذا العلم ليس مدرسة كسائر المدارس، وإنما هو اتجاه عام في علم النفس يضم كافة المحاولات التي تتخذ من الوظائف النفسية موضوعاً لها.
ومن بين الحقائق التي يعترف بها المؤرخون هي أن قيام علم النفس الوظيفي جاء كرد فعل على المخطط الميكانيكي الذي وضعه علم النفس البنيوي بزعامة فوندت، ومن بعده تيتشنر. ومعلوم أن قاعدة هذا المخطط هي تجزئة الوعي إلى عناصره النهائية، دون أن يكلف واضعوه أنفسهم مهمة التعرف على تشكلها وتطورها وهذا يعني أن علم النفس البنيوي أسقط من حسابه تماماً العلاقة القائمة بين العضوية والبيئة ودورها في نشوء الوعي وعناصره.
ومن هذا المنطلق ذهب رواد علم النفس الوظيفي إلى القول بوجوب بناء المخطط البديل على أساس التلاؤم البيولوجي، ليصبح بالإمكان تفسير الوعي وتجلياته، وفي مقدمتها الفعل واتجاهه نحو حل المشكلات الحيوية التي تعترض حركة العضوية.
ومن ناحية ثانية فإن البحث عن أيسر الطرق وأقصرها لتلبية حاجات الفرد هي، في رأينا، كانت وما تزال، سمة المجتمعات الاستهلاكية. وهي السمة التي تبدو لنا أنها طبعت بصورة بارزة مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة نشوء السيطرة الاحتكارية وتحول الرأسمالية إلى الامبريالية. ويضاف إلى ذلك خصوصية بنية هذا المجتمع، حيث أنه يتألف من أفراد تنحدر أغلبيتهم الساحقة من أصول ثقافية واجتماعية مختلفة. وهم، على تباين ثقافاتهم وتنوعها وتعدد جنسياتهم الأصلية، يشتركون في تلك الدوافع التي حدت بهم إلى ترك أوطانهم والهجرة إلى بلاد العمل والمال.
ولعل علماء النفس الوظيفي، عندما أولوا اهتمامهم الخاص بدراسة الفعل كوسيلة لتذليل العقبات التي يصادفها الفرد وما يحققه لهم من فوائد ومنافع ذاتية، إنما كانوا يعبرون عن قوة هذه السمة وقدرتها على توجيه السلوك. فلا غرو أن تكون هذه الفكرة جوهر الفلسفة البراغماتية(النفعية) التي ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية على يد كل من جيمس وديوي، وأصبحت بالنسبة للوظيفيين ركناً ثانياً أقاموا عليه آراءهم وتصوراتهم.
لقد اعتقد الوظيفيون بوجود أجهزة وظيفية على غرار ما هو معروف في ميادين علمية أخرى كعلم الأحياء والتكنولوجيا وسواهما. فالعضوية تتألف من عدد من الأجهزة التي يؤدي كل منها وظيفة محددة تكمل الوظائف التي تقوم بها الأجهزة الأخرى وتحقق معها عملية التلاؤم، مثل جهاز دوران الدم، والجهاز العصبي،وجهاز التنفس، وجهاز الهضم... الخ. والآلات الميكانيكية تتركب، هي الأخرى، من مجموعة من الأجهزة، يقوم كل جهاز منها بوظيفة معينة وتتكامل مع الوظائف التي تقوم بها الأجهزة الباقية لتسيير الآلة، كجهاز الاحتراق، وجهاز ضخ الماء والتبريد، وجهاز توليد الكهرباء في محرك السيارة. ولذا فإنهم يتحدثون عن جهاز للتفكير، وثان للتذكر، وثالث للإدراك... وهكذا. ويعينون لكل واحد من هذه الأجهزة وظيفة يُناط به أداؤها. ذلك لأن مسعاهم لا يتوقف عند حدود التعرف على الأجهزة النفسية، وتحليل كل واحد منها إلى مركباته، كما هو الشأن بالنسبة للبنيويين، بل إنهم يتعدون ذلك إلى الكشف عما يقوم به كل جهاز نفسي من وظائف داخل الإطار العام لسلوك الفرد.
وبعبارات أخرى فإن مهمةا لبحث في علم النفس التي حددها فوندت وأتباعه في الإجابة على سؤال "ما هي مركبات الوعي؟" و"كيف تعمل؟" تتحول عند الوظيفيين إلى الإجابة على سؤال "ماذا يفعل الوعي؟" و"لماذا؟". فالبحث عن أجهزة النفس(أو الوعي) ليس هدفاً بحد ذاته، وإنما هو خطوة على طريق التعرف على نشاط النفس وأهدافه.
إن من شأن طرح المسألة بهذه الكيفية، بالنسبة للوظيفيين، إقامة الارتباط بين البيئة الداخلية والبيئة الخارجية للفرد انسجاماً مع مبدأ تطور السلوك تحت تأثير الشروط البيئية كفعل تكيفي، وبالتالي كوسيلة للبقاء. ولكن هذا الطرح، من حيث معناه وجوهره، ليس جديداً على الفكر السيكولوجي، كما يدعي أصحاب الاتجاه الوظيفي. فالدراسات التي أجريت في ميادين علم النفس المخلتفة، والتي كان لها الفضل في ظهورها، لم تتوقف عند حدود معرفة عناصر الوعي وماهيته. بل وعملت على تحديد مستوى وطبيعة علاقة الفرد بالوقائع والحوادث الطبيعية والاجتماعية.
ويعتبر وليم جيمس(1842-1910م) من أبرز مؤسسي الاتجاه الوظيفي في علم النفس. وقد ولد في مدينة نيويورك. ونشأ وترعرع في كنف أسرة غنية. وكان في صباه شديد الحساسية، متوزع الميول. فمن ولع بالفن إلى اهتمام بالكيمياء وعلوم الأحياء إلى حب للفلسفة. انقطع عن دراسته بسبب مرضه الذي دفعه بتشجيع من والده إلى السفر والتجوال في الكثير من بلدان أوربة الغربية. وهناك وجد في النشاطات العلمية، ولا سيما في الفيزيولوجيا، ما يستجيب لميولـه. ولمس عبر ذلك إمكانية استقلال علم النفس. ومن الدراسات التي اطلع عليها وقتذاك، وأعجب بها دراسة فخنر في السيكوفيزياء ودراسة هيلمهولتز في الإدراك البصري. ولكنه عاد فيما بعد واعترض عليها معتبراً إياها مدخلاً خاطئاً لدراسة الظواهر النفسية، وفي تلك الأعوام تعرف عن قرب على الأفكار التطورية الانكليزية. وأعرب عن اعتقاده بقدرتها على لعب الدور الذي عجزت الدراسات الفيزيولوجية الألمانية عن القيام به.
وعقب عودته إلى بلاده عُين في عام 1872 مدرساً للفيزيولوجيا في هارفارد. وقد أتاح له هذا المنصب فرصة إلقاء مجموعة من المحاضرات تحت عنوان "العلاقة بين الفيزيولوجيا وعلم النفس". اعتمد فيها بشكل رئيسي على "مبادئ علم النفس" لسبنسر.
وأثناء ذلك انتسب إلى "منتدى الميتافيزياء" الذي أسسه في هارفارد فريق من الشباب المتحمس للعلم والثقافة. وكانت آراء الفيلسوف تشارلز بيرس الموجه لنشاطات هذا المنتدى الفكرية. وهي التي أضحت بعد ذلك حجر الزاوية في نظرية جيمس البراغماتية.
ومن أهم تلك الآراء اقتراح بيرس البدء بالسؤال عن علاقة الذات بالموضوع والنتائج التي تتمخض عن أفعال الذات الموجهة نحو الموضوع. لأن معرفة الإنسان بتلك النتائج هي، في رأيه، السبيل إلى فهم المغزى الحقيقي للموضوع.
ولما كانت هذه العلاقة تتجلى على نحوٍ واضحٍ وقابلٍ للملاحظة المباشرة من خلال الفعل العملي، الخارجي، لا من خلال تركيب الوعي، فإن هذا الفعل يجب أن يكون، في تصوّر بيرس، نقطة الانطلاق في البحث المعرفي الإنساني.
عرض جيمس أفكاره في مجموعة من الأعمال، أهمها مقالته "ماهي الدوافع؟" التي نشرها عام 1884، وكتابه "مبادئ علم النفس" الذي صدر بجزأيه عام 1890، ومحاضراته المنشورة عام 1896 تحت عنوان "حوارات مع المعلمين حول علم النفس"، ومداخلته في المؤتمر الدولي الخامس لعلماء النفس الذي عقد في روما عام 1905 "هل الوعي موجود؟".
ولعل المحطة الأولى التي تستوقف المرء خلال قراءته لمؤلفات جيمس، وخاصة "المبادئ" هي وقفته الطويلة أمام فوندت وهجومه العنيف على تصوره للنفس كحاصل جمع الإحساسات البسيطة. فالحياة النفسية، عند جيمس، ليست مجرد "فسيفساء حسية" أو طبقات متفاوتة التركيب والتعقيد، وإنما هي عبارة عن تيار من الشعور أو الوعي دائم التدفق والجريان. وفي هذا يقول: "في كل واحد منا تجري بعض العمليات الواعية أثناء اليقظة(وكذا في وقت النوم غالباً). وفي داخلنا يجري تيار من شتى حالات الوعي: الإحساسات والرغبات والتأملات.. الخ التي يتتابع بعضها إثر بعض كالأمواج أو الحقول، أو سمّها ما شئت".(1902، 13). وهكذا فإن القضية التي يتوجب على علم النفس أن يتصدى لها هي تفسير هذه الحالات الدينامية ومعرفة شروطها وانعكاساتها المباشرة على وجود الفرد. ولئن وقف جيمس مطولاً عند الحالات الدينامية ليقدم وصفاً مفصلاً لعلائقها وعملها، فإنه لم يفعل ذلك مع شروطها، مما دفع بالمؤرخين إلى التساؤل عما يعنيه جيمس بهذا المفهوم والتعرف على المضمون الذي حمله إياه والموقع الذي يحتلّه بين بقية المفاهيم.
ولقد ذهب معظم هؤلاء إلى القول بأن ما قصده جيمس به هو البنية الجسدية والعصبية للوعي. ولعل هذا المدلول ينسجم مع روح منطلقات جيمس وفهمه للوعي. فهو ينظر إلى الوعي، نظرته إلى أعضاء الجسم وأجهزته، كأداة تتوسط علاقة الفرد بمحيطه وتسهم في تكيفه وتوازنه معه. وعلى هذا الأساس يشدد على ضرورة دراسة وقائع الحياة النفسية بارتباطها الوثيق مع البيئة الفيزيائية. ويستمد الدليل على استحالة الفصل بين الفرد وعالمه الخارجي لدى دراسة الظواهر النفسية من التاريخ الطبيعي للكائنات الحية التي يتميز بصراعها الحاد والدائم مع المحيط. وما نشأة تلك الظواهر وتطورها سوى نتيجة طبيعية وحتمية لهذا الصراع. فهي، والحالة هذه، كأدواتٍ تظهر في لحظة من لحظات الصراع ليتمكن الحيوان والإنسان من التكيف مع العالم الذي توجد فيه باستمرار. يقول جيمس في هذا الصدد: "لقد تطورت مختلف عمليات الإحساس والتفكير قبل تلك الحالة التي هي عليها الآن بفضل فائدتها على صعيد القيام بتأثيراتنا(استجاباتنا) على العالم الخارجي"(1902، 5).
ومن المنطقي أن تدفع هذه النظرة العامة بصاحبها خطوة أخرى إلى الأمام بغية التعرف على آلية نشوء الوظيفة النفسية وارتقائها. وهذا ما قام به جيمس بالفعل. حيث لجأ إلى تحليل علاقة الوعي والنشاط بالعالم الخارجي ليعلن، إثر ذلك، عن أن الطبيعة الانعكاسية للجسم هي مصدر، أو قل شرط رغباتنا وأفكارنا ومشاعرنا. كتب جيمس يقول: ".. إن كلّ إحساس يحدث حركة، وأن هذه الحركة هي حركة الجسم بأكمله وكل جزء فيه"(1902، 193). بيد أن فعل الانعكاس الذي يبدأ بالإحساس وينتهي بالحركة التي يستجرها لم يلق في نظرية جيمس المكانة التي يستحقها كمبدأ عام يصلح لتفسير الحوادث والوقائع النفسية جميعاً. وظل استعماله منحصراً في مستوى واحد فقط من النفس دون المستويات الأخرى. فقد نظر جيمس إلى الإحساسات البسيطة كمرحلة أولى على طريق نشوء عمليات الوعي. ووجد أنها تؤلف مجموعة من الوظائف النفسية مختلفة عن المجموعة التي ينتمي إليها الانتباه والتخيل والمحاكمة والتمييز والتذكر. والإحساسات تتشكل لدى الطفل خلال الأسابيع الأولى من حياته وفق مبدأ الانعكاس. وفي مرحلة لاحقة تتحد مع العمليات النفسية المعقدة.
لقد أراد جيمس من خلال هذا التقسيم أن يصل إلى استنتاج يتمثل في وجود قانون آخر يتحكم بنشأة وظائف الوعي المعقدة غير قانون الانعكاس. وهو ما لم يكلف نفسه عناء إيضاحه في كتاباته بالصورة التي قدمها أثناء حديثه عن نشوء الإحساسات وتطورها.
ولعل الجانب الجديد والطريف في نظرية جيمس هو موقفه من الحالات النفسية(الانفعالات) عند الإنسان. فقد خصّ هذا الموضوع بحيّز هام من أعماله، بدأه بمقالة نشرها عام 1884 بعنوان "ماهي الانفعالات؟". وفي هذه المقالة يرى جيمس أن الانفعال يتكون بسبب التغيرات التي تطرأ على العضوية. فالمثير الخارجي يستدعي اضطراباً PERTURBATION في العضلات والأجهزة الداخلية للجسم يحسّ به الفرد على صورة حالة انفعالية. إلى هنا يبدو الأمر عادياً. ولكن جدّة هذا التصوّر وطرافته تتجلى في معارضته لما هو شائع ومألوف في الأوساط العلمية من أن الانفعال هو مصدر التغيرات الفيزيولوجية التي تحدث في الأجهزة المختلفة للعضوية(الجهاز العضلي، دوران الدم، جهاز التنفس...) وليس نتيجة لها. فبدلاً من أن يكون البكاء نتيجة الحزن، والارتعاش نتيجة الخوف، والضحك نتيجة الفرح –كما هو معروف- يعكس جيمس هذه العلاقة ليصير البكاء سبباً للحزن، والارتعاش سبباً للخوف، والضحك سبباً للفرح. وبكلمات أوضح فإن جيمس أراد أن يقول إن إدراك حادثة أو واقعة ما يستجر ردود أفعال جسدية معينة. وهذه، بدورها، تؤثر في حالة الفرد النفسية، أو لنقل يكابدها الفرد كحالة نفسية خاصة.
لم ينفرد جيمس وحده بهذا التصور، وإنما شاركه فيه العالم الدانماركي ك.لانج من غير أن يكون لأيّ منهما تأثير في ذلك على الآخر. ففي نفس الفترة التي نشر فيها جيمس مقالته، عرض لانج(وبمعزل عن جيمس) رأيه في العلاقة بين الجانب العضوي والجانب النفسي عند الفرد، مدّعياً أن الفرح والحزن، والسعادة والتعاسة كمظاهر انفعالية مدينة بنشأتها للتغيرات العضوية. ولهذا فإن الأدبيات السيكولوجية غالباً ما تقرن اسمي هذين الرجلين عند عرضها لمواقف العلماء من الانفعال. فنجد عناوين رئيسية أو فرعية مثل نظرية جيمس –لانج في الانفعال، أو الانفعال عند جيمس –لانج... الخ اعترافاً منها بفضلهما معاً في صياغة هذه الفرضية.
وعندما يبرز الباحثون أهمية الانفعالات في حياة الإنسان ويشيرون إلى صعوبة دراستها، فإنهم يتوقفون عند فرضية جيمس ولانج محاولين معرفة الغاية التي سعيا إلى تحقيقها من وراء ذلك. وهنا يذهب بعضهم إلى القول بأن هذه الفرضية هي بمثابة الدعوة إلى إلحاق الانفعالات بقائمة موضوعات البحث الطبيعي. ولكنهم، في الوقت ذاته، يجدون أنها فرضية تأملية تجانب الحقيقة وتبتعد عن التفسير العلمي. ويستشهد ياروشيفسكي للبرهان على ذلك بواقعتين. تتمثل الأولى منهما في قيام ش.شيرنغتون بفصل المخ عن الأعضاء الداخلية عند الكلب عن طريق قطع نخاعه الشوكي والأعصاب الشاردة(الجوالة). وعلى الرغم من غياب التنبيه العصبي لدى الحيوان، فقد لاحظ شيرنغتون تكوّن الحالات الانفعالية عنده كالخوف والغضب. أما الثانية فتتمثل في محاولة و.كينون، أحد تلاميذ جيمس، للتحقق من صحة فرضية أستاذه. فقد استأصل كينون الجزء السمبتاوي من الجملة العصبية للقطة بواسطة عملية جراحية. ووجد، مع ذلك، أن القطة تستجيب بنفس الحركات التي كانت تميز استجابتها قبل إجراء العملية. فهي الآن ترفع قائمتها وتنشب مخالبها وتصدر أصوات التهديد وتجحظ عينيها وتكشر عن أنيابها لمجرد رؤيتها الكلب وهو يقترب منها.
إن هذه الملاحظات التي تؤكد على وجود الانفعالات عند الحيوانات مع غياب التنبيه العصبي أو التهيج تعارض تماماً رأي كل من جيمس ولانج اللذين اشترطا توفر الواقعة العصبية لحدوث السلوك الانفعالي. وقد عبر جيمس عن رأيه هذا بوضوح حين قال: "إنني لا أستطيع أن أتصور أبدأ أن يبقى انفعال الخوف في وعينا، إذا نحن حذفنا منه المشاعر المتصلة بخفقان القلب المتزايد وقصر النفس وارتعاش الشفتين وارتخاء الأعضاء... واضطرابات الأحشاء"(ياروشيفسكي 1985، 326). وربما يرى البعض في تفسير جيمس للانفعالات احتراماً لمبدأ السببية وتأكيداً على نظرته الموضوعية في البحث عن أسباب نشوء الظاهرة النفسية. ولكننا لو أمعنا النظر قليلاً في أولوية الواقعة الموضوعية، الخارجية لأدركنا وهم هذا التصور وخطأه. فالأمر لا يقتضي سوى المضي في قراءة أفكار جيمس حتى نصل إلى رأيه في النفس وأصولها والعوامل المؤثرة فيها. ومما يلفت الانتباه هنا موقفه من الإرادة باعتبارها صاحبة السلطة العليا على آلية الجسد، بل وأساس أو مصدر كل وظيفة نفسية، فهي إذ تمارس سلطتها إنما تفعل ذلك بصورة غير مباشرة، حيث توجه النزعات الانفعالية الداخلية عبر التأثير على حركات الجسد الخارجية. إنّ الفرد يستطيع أن يتحكم في الانفعالات غير المرغوب فيها بفضل أفعاله الخارجية التي تتخذ منحىً مخالفاً. فهو قادر في حالة الغضب، مثلاً، على أن يسيطر على حالته النفسية ويتجاوزها عن طريق قيامه بالحركات والأفعال التي يقوم بها الإنسان في حالات الهدوء والاتزان.
لاشك في أن الصفات الإرادية تؤثر على سلوك الإنسان وتتحكم بأفعاله وتصرفاته. ولكن المكانة التي خص بها جيمس الإرادة دون سواها من الظواهر النفسية تتجاوز حدود الواقع وتترجم نزعته إلى العودة إلى مفهوم "الإرادة العمياء" التي تتصرف بحركات الجسد وأفعال النفس باعتبارها قوة قائمة بذاتها خارج الزمان والمكان، لا تخضع لقوانين ظهور هذه الأفعال والحركات وتطورها.
وعندما يتحدث جيمس عن وظائف الوعي، فإنه يشير إلى مستويين من التكيف: الأول بسيط، والثاني معقد. ويرى أن العادات والمهارات التي يختزنها الفرد تتولى مهمة التكيف على المستوى الأول التي تتضمن حركات العضوية في المحيط وتماسّها مع عناصره وأشيائه.
أما المستوى الثاني(المعقد) من التكيف فإنه لا يتم إلا عن طريق الوعي ويتجلى هذا الأخير(الوعي) حين تعترض سبيل الفرد مشكلات في التكيف، وتعجز الانعكاسات عن حلها. فتصدر عن الفرد مجموعة من الأفعال الراقية كحصر المثيرات ومقارنتها وتصنيفها وتوجيه السلوك وضبطه على نحو يتناسب مع الموقف الجديد.
ولكن جيمس لا يتوقف عند حدود ربط الوعي بالتكيف، وإنما يتعداها إلى جانب آخر من العلاقات والارتباطات، وهو جانب الشخصية. فالوعي يرتبط –عنده- ببنية الشخصية التي تتخذ الذات فيها أشكالاً أربعة، هي:
-الأنا المادي، ويشمل البدن والأشياء التي تعود ملكيتها إلى الشخص، كاللباس والأدوات والنقود وغيرها.
-الأنا الاجتماعي، ويبدأ بنزوع الشخص للظهور بصورة معينة أمام الآخرين والصلات التي يقيمها معهم، وينتهي بنظرتهم إليه وموقفهم تجاهه.
-الأنا الروحي، ويضم أوجه النشاط النفسي المختلفة التي يمارسها الشخص.
-الأنا الخالص أو المحض، ويعني الشعور بالهوية.
وإلى جانب آراء وليم جيمس كانت آراء جون ديوي(1859-1952م) هي الأخرى تلقى صدىً إيجابياً في صفوف المهتمين بعلم النفس والفلسفة. وقد بسطها في باكورة أعماله "علم النفس" عام 1886، الذي كان أول مرجع أكاديمي أمريكي في ميدان علم النفس. ومن ثم في مقاله حول "مفهوم الفعل الانعكاسي في علم النفس"(1896) الذي عارض فيه النظرة السائدة إلى قوس الانعكاس بوصفه الوحدة الأساسية للسلوك.
يتفق ديوي مع جيمس في أهم المواقف والأفكار التي تميز الاتجاه الوظيفي. فقد رفض بحزم أن يقسم الوعي إلى عناصره أو وحداته، ونصح بدراسة فعالية الكائن الحي ككلّ عبر تفاعله مع العالم الخارجي، وتعقب الوظائف التي يؤديها الوعي باعتباره مصدر تلك الفعالية وأداتها. وهو، أي الوعي، يؤلف، حسب رأيه، وحدة متكاملة. فمن الخطأ أن ينظر إليه على أنه سلسلة من الأقواس الانعكاسية المنفصلة والمستقلة.
وعلى الرغم من دعوة ديوي إلى الأخذ بمبدأ وحدة العضوية والبيئة الخارجية، فإنه لم يتردد في تجاوزه، وحذف الحلقة الأولى من قوس الانعكاس التي تتجسد في المثير الخارجي(الصوت، الضوء، الحرارة، الرائحة...) والتي اعتبرها معظم العلماء شرطاً ضرورياً لتكون الوعي. وقصر حديثه على الحلقات التي تتشكل داخل العضوية ذاتها. الإثارة(الإحساس)، النشاط المركزي(عمليات التحليل والتركيب) الذي يقوم به الدماغ، التفريغ الحركي(الفعل).
وليس من الصعب أن ندرك خلفيات هذا الرأي وأصوله التي ترجع إلى تعاليم بيرس الذرائعية وتشديده على مقولة الفعل لدى دراسة السلوك البشري.
ويصبح تأثير ديوي في الأوساط العلمية واضحاً، خاصة بعد سفره إلى جامعة شيكاغو عام 1894 بدعوة من إدارتها. وهناك التقى بمجموعة من السيكولوجيين الشباب الذين لم يخفوا مقتهم لبنيوية فوندت وأتباعه، وتعاطفهم مع جيمس وإعجابهم بأفكاره. وكان جيمس أنجيل(1869-1949م) زعيم المجموعة. فوجد ديوي من لدن أنجيل وزملائه تجاوباً كبيراً ساعده على المضي في الاتجاه الذي بدأ عمله من أجله والتبشير له بحماس شديد. كما لاقى هؤلاء في آرائه ومواقفه حافزاً لهم على المثابرة والنشاط والمشاركة في النهوض بهذا الاتجاه.
وفي هذه الأجواء نشر أنجيل مقالاً بعنوان "مجال علم النفس الوظيفي" عام 1906. وللقارئ أن يتكهن بمحتوى هذا المقال من خلال عنوانه. فقد خصّصه صاحبه لعرض المسائل التي ينبغي على علم النفس الوظيفي مناقشتها ومعالجتها.
وتكمن المسألة المركزية التي تتفرع عنها المسائل الأخرى، في رأي أنجيل، في دراسة العمليات العقلية التي تتوسط علاقة العضوية بالبيئة، وتساعد على إشباع الحاجات(الطبيعية والمكتسبة) للعضوية. ومما يستوقفنا في هذا المقال زيادة على ذلك، هو تطابق وجهتي نظر أنجيل وجيمس فيما يتعلق بالهدف النهائي الذي تنشده العضوية. فهما يريان أن التكيف هو غاية ما يسعى إليه الكائن الحي. ولكن ذلك لا يتحقق على مستوى البشر بفضل العمليات العقلية فقط، بل إن ثمة عمليات أخرى أقل درجة تجري داخل الفرد، وتشارك فيه، كالدوافع والانفعالات. ثم إن الفرد قبل ذلك وفوقه هو حصيلة تفاعل وتعاون أجهزة بيولوجية. فبفضل تلك العمليات العقلية والدوافع والانفعالات والوظائف التي تقوم بها تلك الأجهزة يستمر تفاعله ويتحقق تكيّفه مع العالم الخارجي. وهذا يعني، باختصار، أن العضوية تعمل ككل بالتعاون والتكامل بين بنيتها النفسية وبنائها الفيزيقي.
وفي ضوء هذا الفهم يجد أنجيل أن اهتمام علم النفس يتعدى حدود الوعي ليشمل مختلف أشكال العلاقات بين الفرد وعالمه الخارجي. وهذا ما يوضحه في قولـه: "بالنسبة لي يتمثل جوهر ما أفهمه من الوظيفة وأعارض به الذرية السيكولوجية أو البنيوية الجامدة في الآتي: تحليل ووصف الجوانب الرئيسية من التجربة العقلية، ومحاولة إدخالها في مجرى العضوية الفيزيائية، ووضع ذلك في جو عام من الاعتراف بضرورة السلوك التكيفي، ومحاولة الكشف في كل مرة عن الخدمة الخاصة التي تؤديها عمليات الوعي على صعيد هذه الأفعال التكيفية"(27، 1936).
لم تكن أفكار أنجيل لتؤلف نظرية جديدة في علم النفس. ولم يطمح هو نفسه إلى ذلك. وكل ما كان يرمي من وراء طرحها أن تكون إعادة أو تأكيداً للمفاهيم والتصورات التي كانت تشكل منذ القديم مدخلاً لعلم النفس الوظيفي الذي عملت بنيوية تيتشنر على زعزعته وتقويضه.
ومن الذين تزعموا الاتجاه الوظيفي بعد أنجيل هافي كير(1873-1954م) صاحب كتاب "علم النفس" الصادر عام 1925. ولقد شاطر كير الوظيفيين الآخرين موقفهم من موضع علم النفس. حيث اقترح أن يتولى الباحث السيكولوجي دراسة النشاط الذهني MENTAL ACTIVETE الذي يشمل الوظائف النفسية: الإدراك، التذكر، التفكير، التخيل، المشاعر، الإرادة.
وإذا كان علم النفس الوظيفي يشكل اتجاهاً سيكولوجياً عاماً يعارض تقسيم الوعي إلى عناصره الأولية، ويتناول أدواره ووظائفه، فإن رواده وأنصاره لم ينزعوا إلى استخدام طريقة في البحث دون سواها، واستخدموا الاستبطان والملاحظة وتحليل نتائج النشاط(اللغة، الفن...) والتجربة الفيزيولوجية والروائز. بينما بقيت التجربة السيكولوجية بالنسبة لهم مجرد ملاحظة تقويمية. وفي هذا الموضوع يقول أنجيل: "خصص علماء النفس حتى الآن القسم الأعظم من جهودهم للبحث في بناء النفس. غير أنه في المدة الأخيرة ظهر استعداد للاهتمام اهتماماً أكثر جدية بوجوهها الوظيفية والنمائية. إن تحديد كيفية تطور الشعور وعمله لا يقل أهمية عن اكتشاف العناصر المكونة للشعور... إن الطريقة السيكولوجية الأساسية هي الاستبطان... وهو الفحص المباشر من قبل الإنسان لعملياته النفسية... ومن الممكن إكمال الاستبطان بالملاحظة الموضوعية المباشرة للأفراد الآخرين.."(عاقل، 1981، 51).
وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن المذهب الوظيفي عرف العديد من الأنصار والمؤيدين سواء داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو خارجها. ففي الولايات المتحدة ظهر فريق من الوظيفيين في جامعة كولومبيا يتصدره روبرت ودورث(1869-1962م) الذي كرس جلّ أعماله لنشر مبادئ علم النفس الوظيفي ومناهجه. ويأتي كتاباه "علم النفس الدينامي"(1918) و"دينامية السلوك"(1958) في مقدمة تلك الأعمال. ومن أبرز أعضاء هذا الفريق بلدوين وسكينتشر(1864-1927م). كما مثل هذا الاتجاه ريبو وبينيه في فرنسا وكلاباريد في سويسرا.
ومن خلال هذا العرض الموجز لأهم أفكار أعلام الاتجاه الوظيفي نجد أن هناك نقطتين أساسيتين تستحقان المراجعة والتعقيب. أما النقطة الأولى فتتعلق بدور النفس في توجيه السلوك بهدف التكيف مع العالم الخارجي. حيث وقفنا على إجماع الوظيفيين على الأهمية القصوى التي يكتسيها إبراز ما للظواهر(الوظائف) النفسية من فائدة للفرد في تحقيق استقراره وتوازنه مع المحيط. وظلّت العلاقة بين النفس والنشاط العملي، الخارجي –عندهم- تسير في اتجاه واحد. وبقي الاتجاه العكسي خارج دائرة اهتمامهم. فلم يطرح أحد منهم مسألة الأثر الذي يتركه نشاط الإنسان مع العالم الموضوعي في قدراته وإمكانياته مع ما يحمله طرحها ومعالجتها من قيمة علمية وعملية.
إن استجلاء الكيفيات التي تتم بها علاقة الإنسان في مراحل حياته مع عناصر العالم الخارجي وأشيائه عبر نشاطاته العملية(النشاط الاستكشافي، نشاط اللعب، العمل... الخ) يعد أحد الموضوعات الرئيسية التي يعالجها علم النفس المعاصر. فهو وسيلة حاسمة للتعرف على محددات التطور النفسي، ووضع أساليب ووسائل لتوجيه هذا النشاط أو ذاك بغية الارتقاء بالسلوك الإنساني.
بينما تمس النقطة الثانية الصيغة التي اقترحها الوظيفيون لتحديد الصلة بين الجانب النفسي والجانب العضوي. فعلى أساس نظرتهم إلى الظواهر النفسية كجزء من التيار العام للقوى البيولوجية، ارتبطت هذه الظواهر بأفعال الإنسان الموجهة إلى الموضوعات الخارجية.
ولكن هذه الصيغة لم تكن موضع احترامهم على الدوام. وغالباً ما كانت عرضة للتجاوز أو التناقض مع الحلول المقترحة لمسألة العلاقة بين النفس والدماغ التي تقوم على التوازي السيكوفيزيولوجي.
وهنا يطرح السؤال التالي: كيف يمكن للعمليات النفسية أن تؤثر في العضوية والسلوك، إذا كانت تجري بموازاة العمليات الفيزيولوجية؟ وفي الرد على هذا السؤال يؤكد انجيل أن الموازاة بين ماهو نفسي(عقلي) وماهو فيزيولوجي تعد الصيغة الأنسب لدراسة النفس دراسة تنأى بها عن فيزيولوجية الدماغ. وهذا تناقض صارخ وقع فيه انجيل مع نفسه حينما أكد في مكان آخر ضرورة النظر إلى العضوية ككل سيكوفيزيائي.
بوح الروح
وأمام هذا الواقع كان لا بد من وضع قواعد وأسس لتنظم العلاقات بين مختلف الأطراف داخل تلك المؤسسات، وتحدد موقف الفرد فيها وتقوّم سلوكه بعد أن تبين لكثير من الباحثين قصور النظرة الميكانيكية التي ميزت الفكر طيلة القرون الماضية. فوجد هؤلاء في الأفكار التي حملتها النظريات التطورية، ومنها الداروينية والسبنسرية بوجه خاص، مصدراً يعينهم على أداء هذه المهمة.
ولقد أشرنا فيما سبق إلى أن هذه النظريات تنطلق في دراستها للكائن الحي من مبدأ وحدته مع بيئته الطبيعية وصراعه الدائم معها. فلكي يستمر الكائن الحي على قيد الحياة عليه أن يرد على التحديات الخارجية ويواجه تقلبات الظروف الطبيعية وتحولاتها. ولن يستطيع ذلك ما لم يتسلح بأدوات وأجهزة ملائمة. وفي مجرى هذه العلاقة تتكون لديه تلك الأدوات والأجهزة، ومع استمرارها تنمو وتتطور. فالأحداث الخارجية تؤثر فيه. وبالمقابل فإنه يستجيب لها ويرد عليها بأفعال وعمليات معقدة كثيراً أو قليلاً تبعاً لمستوى تطوره. وبفضل ذلك تنمو لديه وظائف نفسية وتتشكل أخرى. ومن هنا بدا لفريق من العلماء الأمريكيين أن معرفة آليات نشاط الوعي الإنساني والوظائف التي يقوم بها تقع ضمن اهتمامات علم النفس وصلاحياته. ذلك لأن موضوع البحث المركزي يكمن، من وجهة نظرهم، في الوصول إلى معطيات قابلة للتطبيق الميداني. والحقيقة أن القول بضرورة دراسة الوظائف النفسية ليس بالأمر الجديد على الفكر الإنساني. فقد شدت هذه المسألة إليها انتباه أنصار نظرية الملكات منذ قرنين. ورأى هؤلاء أن النفس تتألف من ملكات رئيسية، وأخرى فرعية أو ثانوية. ونجم عن هذا التقسيم وجود ملكة التذكر وملكة التخيل وملكة التفكير... الخ.
إن البحث في محتوى كل ملكة وعلاقتها بالملكات الأخرى لم يتوقف منذ ذلك التاريخ وحتى بداية القرن العشرين. وحين ظهر فريق من العلماء والمفكرين الأمريكيين لم يكن في نية أي عضو فيه تأسيس مدرسة نفسية، بقدر ما كان يرمي إلى جمع المزيد من الأدلة وتنظيم التصورات وضبط المفاهيم على قاعدة المستجدات العلمية لمصلحة ما عُرف فيما بعد بعلم النفس الوظيفي. وبناء على ذلك فإن هذا العلم ليس مدرسة كسائر المدارس، وإنما هو اتجاه عام في علم النفس يضم كافة المحاولات التي تتخذ من الوظائف النفسية موضوعاً لها.
ومن بين الحقائق التي يعترف بها المؤرخون هي أن قيام علم النفس الوظيفي جاء كرد فعل على المخطط الميكانيكي الذي وضعه علم النفس البنيوي بزعامة فوندت، ومن بعده تيتشنر. ومعلوم أن قاعدة هذا المخطط هي تجزئة الوعي إلى عناصره النهائية، دون أن يكلف واضعوه أنفسهم مهمة التعرف على تشكلها وتطورها وهذا يعني أن علم النفس البنيوي أسقط من حسابه تماماً العلاقة القائمة بين العضوية والبيئة ودورها في نشوء الوعي وعناصره.
ومن هذا المنطلق ذهب رواد علم النفس الوظيفي إلى القول بوجوب بناء المخطط البديل على أساس التلاؤم البيولوجي، ليصبح بالإمكان تفسير الوعي وتجلياته، وفي مقدمتها الفعل واتجاهه نحو حل المشكلات الحيوية التي تعترض حركة العضوية.
ومن ناحية ثانية فإن البحث عن أيسر الطرق وأقصرها لتلبية حاجات الفرد هي، في رأينا، كانت وما تزال، سمة المجتمعات الاستهلاكية. وهي السمة التي تبدو لنا أنها طبعت بصورة بارزة مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة نشوء السيطرة الاحتكارية وتحول الرأسمالية إلى الامبريالية. ويضاف إلى ذلك خصوصية بنية هذا المجتمع، حيث أنه يتألف من أفراد تنحدر أغلبيتهم الساحقة من أصول ثقافية واجتماعية مختلفة. وهم، على تباين ثقافاتهم وتنوعها وتعدد جنسياتهم الأصلية، يشتركون في تلك الدوافع التي حدت بهم إلى ترك أوطانهم والهجرة إلى بلاد العمل والمال.
ولعل علماء النفس الوظيفي، عندما أولوا اهتمامهم الخاص بدراسة الفعل كوسيلة لتذليل العقبات التي يصادفها الفرد وما يحققه لهم من فوائد ومنافع ذاتية، إنما كانوا يعبرون عن قوة هذه السمة وقدرتها على توجيه السلوك. فلا غرو أن تكون هذه الفكرة جوهر الفلسفة البراغماتية(النفعية) التي ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية على يد كل من جيمس وديوي، وأصبحت بالنسبة للوظيفيين ركناً ثانياً أقاموا عليه آراءهم وتصوراتهم.
لقد اعتقد الوظيفيون بوجود أجهزة وظيفية على غرار ما هو معروف في ميادين علمية أخرى كعلم الأحياء والتكنولوجيا وسواهما. فالعضوية تتألف من عدد من الأجهزة التي يؤدي كل منها وظيفة محددة تكمل الوظائف التي تقوم بها الأجهزة الأخرى وتحقق معها عملية التلاؤم، مثل جهاز دوران الدم، والجهاز العصبي،وجهاز التنفس، وجهاز الهضم... الخ. والآلات الميكانيكية تتركب، هي الأخرى، من مجموعة من الأجهزة، يقوم كل جهاز منها بوظيفة معينة وتتكامل مع الوظائف التي تقوم بها الأجهزة الباقية لتسيير الآلة، كجهاز الاحتراق، وجهاز ضخ الماء والتبريد، وجهاز توليد الكهرباء في محرك السيارة. ولذا فإنهم يتحدثون عن جهاز للتفكير، وثان للتذكر، وثالث للإدراك... وهكذا. ويعينون لكل واحد من هذه الأجهزة وظيفة يُناط به أداؤها. ذلك لأن مسعاهم لا يتوقف عند حدود التعرف على الأجهزة النفسية، وتحليل كل واحد منها إلى مركباته، كما هو الشأن بالنسبة للبنيويين، بل إنهم يتعدون ذلك إلى الكشف عما يقوم به كل جهاز نفسي من وظائف داخل الإطار العام لسلوك الفرد.
وبعبارات أخرى فإن مهمةا لبحث في علم النفس التي حددها فوندت وأتباعه في الإجابة على سؤال "ما هي مركبات الوعي؟" و"كيف تعمل؟" تتحول عند الوظيفيين إلى الإجابة على سؤال "ماذا يفعل الوعي؟" و"لماذا؟". فالبحث عن أجهزة النفس(أو الوعي) ليس هدفاً بحد ذاته، وإنما هو خطوة على طريق التعرف على نشاط النفس وأهدافه.
إن من شأن طرح المسألة بهذه الكيفية، بالنسبة للوظيفيين، إقامة الارتباط بين البيئة الداخلية والبيئة الخارجية للفرد انسجاماً مع مبدأ تطور السلوك تحت تأثير الشروط البيئية كفعل تكيفي، وبالتالي كوسيلة للبقاء. ولكن هذا الطرح، من حيث معناه وجوهره، ليس جديداً على الفكر السيكولوجي، كما يدعي أصحاب الاتجاه الوظيفي. فالدراسات التي أجريت في ميادين علم النفس المخلتفة، والتي كان لها الفضل في ظهورها، لم تتوقف عند حدود معرفة عناصر الوعي وماهيته. بل وعملت على تحديد مستوى وطبيعة علاقة الفرد بالوقائع والحوادث الطبيعية والاجتماعية.
ويعتبر وليم جيمس(1842-1910م) من أبرز مؤسسي الاتجاه الوظيفي في علم النفس. وقد ولد في مدينة نيويورك. ونشأ وترعرع في كنف أسرة غنية. وكان في صباه شديد الحساسية، متوزع الميول. فمن ولع بالفن إلى اهتمام بالكيمياء وعلوم الأحياء إلى حب للفلسفة. انقطع عن دراسته بسبب مرضه الذي دفعه بتشجيع من والده إلى السفر والتجوال في الكثير من بلدان أوربة الغربية. وهناك وجد في النشاطات العلمية، ولا سيما في الفيزيولوجيا، ما يستجيب لميولـه. ولمس عبر ذلك إمكانية استقلال علم النفس. ومن الدراسات التي اطلع عليها وقتذاك، وأعجب بها دراسة فخنر في السيكوفيزياء ودراسة هيلمهولتز في الإدراك البصري. ولكنه عاد فيما بعد واعترض عليها معتبراً إياها مدخلاً خاطئاً لدراسة الظواهر النفسية، وفي تلك الأعوام تعرف عن قرب على الأفكار التطورية الانكليزية. وأعرب عن اعتقاده بقدرتها على لعب الدور الذي عجزت الدراسات الفيزيولوجية الألمانية عن القيام به.
وعقب عودته إلى بلاده عُين في عام 1872 مدرساً للفيزيولوجيا في هارفارد. وقد أتاح له هذا المنصب فرصة إلقاء مجموعة من المحاضرات تحت عنوان "العلاقة بين الفيزيولوجيا وعلم النفس". اعتمد فيها بشكل رئيسي على "مبادئ علم النفس" لسبنسر.
وأثناء ذلك انتسب إلى "منتدى الميتافيزياء" الذي أسسه في هارفارد فريق من الشباب المتحمس للعلم والثقافة. وكانت آراء الفيلسوف تشارلز بيرس الموجه لنشاطات هذا المنتدى الفكرية. وهي التي أضحت بعد ذلك حجر الزاوية في نظرية جيمس البراغماتية.
ومن أهم تلك الآراء اقتراح بيرس البدء بالسؤال عن علاقة الذات بالموضوع والنتائج التي تتمخض عن أفعال الذات الموجهة نحو الموضوع. لأن معرفة الإنسان بتلك النتائج هي، في رأيه، السبيل إلى فهم المغزى الحقيقي للموضوع.
ولما كانت هذه العلاقة تتجلى على نحوٍ واضحٍ وقابلٍ للملاحظة المباشرة من خلال الفعل العملي، الخارجي، لا من خلال تركيب الوعي، فإن هذا الفعل يجب أن يكون، في تصوّر بيرس، نقطة الانطلاق في البحث المعرفي الإنساني.
عرض جيمس أفكاره في مجموعة من الأعمال، أهمها مقالته "ماهي الدوافع؟" التي نشرها عام 1884، وكتابه "مبادئ علم النفس" الذي صدر بجزأيه عام 1890، ومحاضراته المنشورة عام 1896 تحت عنوان "حوارات مع المعلمين حول علم النفس"، ومداخلته في المؤتمر الدولي الخامس لعلماء النفس الذي عقد في روما عام 1905 "هل الوعي موجود؟".
ولعل المحطة الأولى التي تستوقف المرء خلال قراءته لمؤلفات جيمس، وخاصة "المبادئ" هي وقفته الطويلة أمام فوندت وهجومه العنيف على تصوره للنفس كحاصل جمع الإحساسات البسيطة. فالحياة النفسية، عند جيمس، ليست مجرد "فسيفساء حسية" أو طبقات متفاوتة التركيب والتعقيد، وإنما هي عبارة عن تيار من الشعور أو الوعي دائم التدفق والجريان. وفي هذا يقول: "في كل واحد منا تجري بعض العمليات الواعية أثناء اليقظة(وكذا في وقت النوم غالباً). وفي داخلنا يجري تيار من شتى حالات الوعي: الإحساسات والرغبات والتأملات.. الخ التي يتتابع بعضها إثر بعض كالأمواج أو الحقول، أو سمّها ما شئت".(1902، 13). وهكذا فإن القضية التي يتوجب على علم النفس أن يتصدى لها هي تفسير هذه الحالات الدينامية ومعرفة شروطها وانعكاساتها المباشرة على وجود الفرد. ولئن وقف جيمس مطولاً عند الحالات الدينامية ليقدم وصفاً مفصلاً لعلائقها وعملها، فإنه لم يفعل ذلك مع شروطها، مما دفع بالمؤرخين إلى التساؤل عما يعنيه جيمس بهذا المفهوم والتعرف على المضمون الذي حمله إياه والموقع الذي يحتلّه بين بقية المفاهيم.
ولقد ذهب معظم هؤلاء إلى القول بأن ما قصده جيمس به هو البنية الجسدية والعصبية للوعي. ولعل هذا المدلول ينسجم مع روح منطلقات جيمس وفهمه للوعي. فهو ينظر إلى الوعي، نظرته إلى أعضاء الجسم وأجهزته، كأداة تتوسط علاقة الفرد بمحيطه وتسهم في تكيفه وتوازنه معه. وعلى هذا الأساس يشدد على ضرورة دراسة وقائع الحياة النفسية بارتباطها الوثيق مع البيئة الفيزيائية. ويستمد الدليل على استحالة الفصل بين الفرد وعالمه الخارجي لدى دراسة الظواهر النفسية من التاريخ الطبيعي للكائنات الحية التي يتميز بصراعها الحاد والدائم مع المحيط. وما نشأة تلك الظواهر وتطورها سوى نتيجة طبيعية وحتمية لهذا الصراع. فهي، والحالة هذه، كأدواتٍ تظهر في لحظة من لحظات الصراع ليتمكن الحيوان والإنسان من التكيف مع العالم الذي توجد فيه باستمرار. يقول جيمس في هذا الصدد: "لقد تطورت مختلف عمليات الإحساس والتفكير قبل تلك الحالة التي هي عليها الآن بفضل فائدتها على صعيد القيام بتأثيراتنا(استجاباتنا) على العالم الخارجي"(1902، 5).
ومن المنطقي أن تدفع هذه النظرة العامة بصاحبها خطوة أخرى إلى الأمام بغية التعرف على آلية نشوء الوظيفة النفسية وارتقائها. وهذا ما قام به جيمس بالفعل. حيث لجأ إلى تحليل علاقة الوعي والنشاط بالعالم الخارجي ليعلن، إثر ذلك، عن أن الطبيعة الانعكاسية للجسم هي مصدر، أو قل شرط رغباتنا وأفكارنا ومشاعرنا. كتب جيمس يقول: ".. إن كلّ إحساس يحدث حركة، وأن هذه الحركة هي حركة الجسم بأكمله وكل جزء فيه"(1902، 193). بيد أن فعل الانعكاس الذي يبدأ بالإحساس وينتهي بالحركة التي يستجرها لم يلق في نظرية جيمس المكانة التي يستحقها كمبدأ عام يصلح لتفسير الحوادث والوقائع النفسية جميعاً. وظل استعماله منحصراً في مستوى واحد فقط من النفس دون المستويات الأخرى. فقد نظر جيمس إلى الإحساسات البسيطة كمرحلة أولى على طريق نشوء عمليات الوعي. ووجد أنها تؤلف مجموعة من الوظائف النفسية مختلفة عن المجموعة التي ينتمي إليها الانتباه والتخيل والمحاكمة والتمييز والتذكر. والإحساسات تتشكل لدى الطفل خلال الأسابيع الأولى من حياته وفق مبدأ الانعكاس. وفي مرحلة لاحقة تتحد مع العمليات النفسية المعقدة.
لقد أراد جيمس من خلال هذا التقسيم أن يصل إلى استنتاج يتمثل في وجود قانون آخر يتحكم بنشأة وظائف الوعي المعقدة غير قانون الانعكاس. وهو ما لم يكلف نفسه عناء إيضاحه في كتاباته بالصورة التي قدمها أثناء حديثه عن نشوء الإحساسات وتطورها.
ولعل الجانب الجديد والطريف في نظرية جيمس هو موقفه من الحالات النفسية(الانفعالات) عند الإنسان. فقد خصّ هذا الموضوع بحيّز هام من أعماله، بدأه بمقالة نشرها عام 1884 بعنوان "ماهي الانفعالات؟". وفي هذه المقالة يرى جيمس أن الانفعال يتكون بسبب التغيرات التي تطرأ على العضوية. فالمثير الخارجي يستدعي اضطراباً PERTURBATION في العضلات والأجهزة الداخلية للجسم يحسّ به الفرد على صورة حالة انفعالية. إلى هنا يبدو الأمر عادياً. ولكن جدّة هذا التصوّر وطرافته تتجلى في معارضته لما هو شائع ومألوف في الأوساط العلمية من أن الانفعال هو مصدر التغيرات الفيزيولوجية التي تحدث في الأجهزة المختلفة للعضوية(الجهاز العضلي، دوران الدم، جهاز التنفس...) وليس نتيجة لها. فبدلاً من أن يكون البكاء نتيجة الحزن، والارتعاش نتيجة الخوف، والضحك نتيجة الفرح –كما هو معروف- يعكس جيمس هذه العلاقة ليصير البكاء سبباً للحزن، والارتعاش سبباً للخوف، والضحك سبباً للفرح. وبكلمات أوضح فإن جيمس أراد أن يقول إن إدراك حادثة أو واقعة ما يستجر ردود أفعال جسدية معينة. وهذه، بدورها، تؤثر في حالة الفرد النفسية، أو لنقل يكابدها الفرد كحالة نفسية خاصة.
لم ينفرد جيمس وحده بهذا التصور، وإنما شاركه فيه العالم الدانماركي ك.لانج من غير أن يكون لأيّ منهما تأثير في ذلك على الآخر. ففي نفس الفترة التي نشر فيها جيمس مقالته، عرض لانج(وبمعزل عن جيمس) رأيه في العلاقة بين الجانب العضوي والجانب النفسي عند الفرد، مدّعياً أن الفرح والحزن، والسعادة والتعاسة كمظاهر انفعالية مدينة بنشأتها للتغيرات العضوية. ولهذا فإن الأدبيات السيكولوجية غالباً ما تقرن اسمي هذين الرجلين عند عرضها لمواقف العلماء من الانفعال. فنجد عناوين رئيسية أو فرعية مثل نظرية جيمس –لانج في الانفعال، أو الانفعال عند جيمس –لانج... الخ اعترافاً منها بفضلهما معاً في صياغة هذه الفرضية.
وعندما يبرز الباحثون أهمية الانفعالات في حياة الإنسان ويشيرون إلى صعوبة دراستها، فإنهم يتوقفون عند فرضية جيمس ولانج محاولين معرفة الغاية التي سعيا إلى تحقيقها من وراء ذلك. وهنا يذهب بعضهم إلى القول بأن هذه الفرضية هي بمثابة الدعوة إلى إلحاق الانفعالات بقائمة موضوعات البحث الطبيعي. ولكنهم، في الوقت ذاته، يجدون أنها فرضية تأملية تجانب الحقيقة وتبتعد عن التفسير العلمي. ويستشهد ياروشيفسكي للبرهان على ذلك بواقعتين. تتمثل الأولى منهما في قيام ش.شيرنغتون بفصل المخ عن الأعضاء الداخلية عند الكلب عن طريق قطع نخاعه الشوكي والأعصاب الشاردة(الجوالة). وعلى الرغم من غياب التنبيه العصبي لدى الحيوان، فقد لاحظ شيرنغتون تكوّن الحالات الانفعالية عنده كالخوف والغضب. أما الثانية فتتمثل في محاولة و.كينون، أحد تلاميذ جيمس، للتحقق من صحة فرضية أستاذه. فقد استأصل كينون الجزء السمبتاوي من الجملة العصبية للقطة بواسطة عملية جراحية. ووجد، مع ذلك، أن القطة تستجيب بنفس الحركات التي كانت تميز استجابتها قبل إجراء العملية. فهي الآن ترفع قائمتها وتنشب مخالبها وتصدر أصوات التهديد وتجحظ عينيها وتكشر عن أنيابها لمجرد رؤيتها الكلب وهو يقترب منها.
إن هذه الملاحظات التي تؤكد على وجود الانفعالات عند الحيوانات مع غياب التنبيه العصبي أو التهيج تعارض تماماً رأي كل من جيمس ولانج اللذين اشترطا توفر الواقعة العصبية لحدوث السلوك الانفعالي. وقد عبر جيمس عن رأيه هذا بوضوح حين قال: "إنني لا أستطيع أن أتصور أبدأ أن يبقى انفعال الخوف في وعينا، إذا نحن حذفنا منه المشاعر المتصلة بخفقان القلب المتزايد وقصر النفس وارتعاش الشفتين وارتخاء الأعضاء... واضطرابات الأحشاء"(ياروشيفسكي 1985، 326). وربما يرى البعض في تفسير جيمس للانفعالات احتراماً لمبدأ السببية وتأكيداً على نظرته الموضوعية في البحث عن أسباب نشوء الظاهرة النفسية. ولكننا لو أمعنا النظر قليلاً في أولوية الواقعة الموضوعية، الخارجية لأدركنا وهم هذا التصور وخطأه. فالأمر لا يقتضي سوى المضي في قراءة أفكار جيمس حتى نصل إلى رأيه في النفس وأصولها والعوامل المؤثرة فيها. ومما يلفت الانتباه هنا موقفه من الإرادة باعتبارها صاحبة السلطة العليا على آلية الجسد، بل وأساس أو مصدر كل وظيفة نفسية، فهي إذ تمارس سلطتها إنما تفعل ذلك بصورة غير مباشرة، حيث توجه النزعات الانفعالية الداخلية عبر التأثير على حركات الجسد الخارجية. إنّ الفرد يستطيع أن يتحكم في الانفعالات غير المرغوب فيها بفضل أفعاله الخارجية التي تتخذ منحىً مخالفاً. فهو قادر في حالة الغضب، مثلاً، على أن يسيطر على حالته النفسية ويتجاوزها عن طريق قيامه بالحركات والأفعال التي يقوم بها الإنسان في حالات الهدوء والاتزان.
لاشك في أن الصفات الإرادية تؤثر على سلوك الإنسان وتتحكم بأفعاله وتصرفاته. ولكن المكانة التي خص بها جيمس الإرادة دون سواها من الظواهر النفسية تتجاوز حدود الواقع وتترجم نزعته إلى العودة إلى مفهوم "الإرادة العمياء" التي تتصرف بحركات الجسد وأفعال النفس باعتبارها قوة قائمة بذاتها خارج الزمان والمكان، لا تخضع لقوانين ظهور هذه الأفعال والحركات وتطورها.
وعندما يتحدث جيمس عن وظائف الوعي، فإنه يشير إلى مستويين من التكيف: الأول بسيط، والثاني معقد. ويرى أن العادات والمهارات التي يختزنها الفرد تتولى مهمة التكيف على المستوى الأول التي تتضمن حركات العضوية في المحيط وتماسّها مع عناصره وأشيائه.
أما المستوى الثاني(المعقد) من التكيف فإنه لا يتم إلا عن طريق الوعي ويتجلى هذا الأخير(الوعي) حين تعترض سبيل الفرد مشكلات في التكيف، وتعجز الانعكاسات عن حلها. فتصدر عن الفرد مجموعة من الأفعال الراقية كحصر المثيرات ومقارنتها وتصنيفها وتوجيه السلوك وضبطه على نحو يتناسب مع الموقف الجديد.
ولكن جيمس لا يتوقف عند حدود ربط الوعي بالتكيف، وإنما يتعداها إلى جانب آخر من العلاقات والارتباطات، وهو جانب الشخصية. فالوعي يرتبط –عنده- ببنية الشخصية التي تتخذ الذات فيها أشكالاً أربعة، هي:
-الأنا المادي، ويشمل البدن والأشياء التي تعود ملكيتها إلى الشخص، كاللباس والأدوات والنقود وغيرها.
-الأنا الاجتماعي، ويبدأ بنزوع الشخص للظهور بصورة معينة أمام الآخرين والصلات التي يقيمها معهم، وينتهي بنظرتهم إليه وموقفهم تجاهه.
-الأنا الروحي، ويضم أوجه النشاط النفسي المختلفة التي يمارسها الشخص.
-الأنا الخالص أو المحض، ويعني الشعور بالهوية.
وإلى جانب آراء وليم جيمس كانت آراء جون ديوي(1859-1952م) هي الأخرى تلقى صدىً إيجابياً في صفوف المهتمين بعلم النفس والفلسفة. وقد بسطها في باكورة أعماله "علم النفس" عام 1886، الذي كان أول مرجع أكاديمي أمريكي في ميدان علم النفس. ومن ثم في مقاله حول "مفهوم الفعل الانعكاسي في علم النفس"(1896) الذي عارض فيه النظرة السائدة إلى قوس الانعكاس بوصفه الوحدة الأساسية للسلوك.
يتفق ديوي مع جيمس في أهم المواقف والأفكار التي تميز الاتجاه الوظيفي. فقد رفض بحزم أن يقسم الوعي إلى عناصره أو وحداته، ونصح بدراسة فعالية الكائن الحي ككلّ عبر تفاعله مع العالم الخارجي، وتعقب الوظائف التي يؤديها الوعي باعتباره مصدر تلك الفعالية وأداتها. وهو، أي الوعي، يؤلف، حسب رأيه، وحدة متكاملة. فمن الخطأ أن ينظر إليه على أنه سلسلة من الأقواس الانعكاسية المنفصلة والمستقلة.
وعلى الرغم من دعوة ديوي إلى الأخذ بمبدأ وحدة العضوية والبيئة الخارجية، فإنه لم يتردد في تجاوزه، وحذف الحلقة الأولى من قوس الانعكاس التي تتجسد في المثير الخارجي(الصوت، الضوء، الحرارة، الرائحة...) والتي اعتبرها معظم العلماء شرطاً ضرورياً لتكون الوعي. وقصر حديثه على الحلقات التي تتشكل داخل العضوية ذاتها. الإثارة(الإحساس)، النشاط المركزي(عمليات التحليل والتركيب) الذي يقوم به الدماغ، التفريغ الحركي(الفعل).
وليس من الصعب أن ندرك خلفيات هذا الرأي وأصوله التي ترجع إلى تعاليم بيرس الذرائعية وتشديده على مقولة الفعل لدى دراسة السلوك البشري.
ويصبح تأثير ديوي في الأوساط العلمية واضحاً، خاصة بعد سفره إلى جامعة شيكاغو عام 1894 بدعوة من إدارتها. وهناك التقى بمجموعة من السيكولوجيين الشباب الذين لم يخفوا مقتهم لبنيوية فوندت وأتباعه، وتعاطفهم مع جيمس وإعجابهم بأفكاره. وكان جيمس أنجيل(1869-1949م) زعيم المجموعة. فوجد ديوي من لدن أنجيل وزملائه تجاوباً كبيراً ساعده على المضي في الاتجاه الذي بدأ عمله من أجله والتبشير له بحماس شديد. كما لاقى هؤلاء في آرائه ومواقفه حافزاً لهم على المثابرة والنشاط والمشاركة في النهوض بهذا الاتجاه.
وفي هذه الأجواء نشر أنجيل مقالاً بعنوان "مجال علم النفس الوظيفي" عام 1906. وللقارئ أن يتكهن بمحتوى هذا المقال من خلال عنوانه. فقد خصّصه صاحبه لعرض المسائل التي ينبغي على علم النفس الوظيفي مناقشتها ومعالجتها.
وتكمن المسألة المركزية التي تتفرع عنها المسائل الأخرى، في رأي أنجيل، في دراسة العمليات العقلية التي تتوسط علاقة العضوية بالبيئة، وتساعد على إشباع الحاجات(الطبيعية والمكتسبة) للعضوية. ومما يستوقفنا في هذا المقال زيادة على ذلك، هو تطابق وجهتي نظر أنجيل وجيمس فيما يتعلق بالهدف النهائي الذي تنشده العضوية. فهما يريان أن التكيف هو غاية ما يسعى إليه الكائن الحي. ولكن ذلك لا يتحقق على مستوى البشر بفضل العمليات العقلية فقط، بل إن ثمة عمليات أخرى أقل درجة تجري داخل الفرد، وتشارك فيه، كالدوافع والانفعالات. ثم إن الفرد قبل ذلك وفوقه هو حصيلة تفاعل وتعاون أجهزة بيولوجية. فبفضل تلك العمليات العقلية والدوافع والانفعالات والوظائف التي تقوم بها تلك الأجهزة يستمر تفاعله ويتحقق تكيّفه مع العالم الخارجي. وهذا يعني، باختصار، أن العضوية تعمل ككل بالتعاون والتكامل بين بنيتها النفسية وبنائها الفيزيقي.
وفي ضوء هذا الفهم يجد أنجيل أن اهتمام علم النفس يتعدى حدود الوعي ليشمل مختلف أشكال العلاقات بين الفرد وعالمه الخارجي. وهذا ما يوضحه في قولـه: "بالنسبة لي يتمثل جوهر ما أفهمه من الوظيفة وأعارض به الذرية السيكولوجية أو البنيوية الجامدة في الآتي: تحليل ووصف الجوانب الرئيسية من التجربة العقلية، ومحاولة إدخالها في مجرى العضوية الفيزيائية، ووضع ذلك في جو عام من الاعتراف بضرورة السلوك التكيفي، ومحاولة الكشف في كل مرة عن الخدمة الخاصة التي تؤديها عمليات الوعي على صعيد هذه الأفعال التكيفية"(27، 1936).
لم تكن أفكار أنجيل لتؤلف نظرية جديدة في علم النفس. ولم يطمح هو نفسه إلى ذلك. وكل ما كان يرمي من وراء طرحها أن تكون إعادة أو تأكيداً للمفاهيم والتصورات التي كانت تشكل منذ القديم مدخلاً لعلم النفس الوظيفي الذي عملت بنيوية تيتشنر على زعزعته وتقويضه.
ومن الذين تزعموا الاتجاه الوظيفي بعد أنجيل هافي كير(1873-1954م) صاحب كتاب "علم النفس" الصادر عام 1925. ولقد شاطر كير الوظيفيين الآخرين موقفهم من موضع علم النفس. حيث اقترح أن يتولى الباحث السيكولوجي دراسة النشاط الذهني MENTAL ACTIVETE الذي يشمل الوظائف النفسية: الإدراك، التذكر، التفكير، التخيل، المشاعر، الإرادة.
وإذا كان علم النفس الوظيفي يشكل اتجاهاً سيكولوجياً عاماً يعارض تقسيم الوعي إلى عناصره الأولية، ويتناول أدواره ووظائفه، فإن رواده وأنصاره لم ينزعوا إلى استخدام طريقة في البحث دون سواها، واستخدموا الاستبطان والملاحظة وتحليل نتائج النشاط(اللغة، الفن...) والتجربة الفيزيولوجية والروائز. بينما بقيت التجربة السيكولوجية بالنسبة لهم مجرد ملاحظة تقويمية. وفي هذا الموضوع يقول أنجيل: "خصص علماء النفس حتى الآن القسم الأعظم من جهودهم للبحث في بناء النفس. غير أنه في المدة الأخيرة ظهر استعداد للاهتمام اهتماماً أكثر جدية بوجوهها الوظيفية والنمائية. إن تحديد كيفية تطور الشعور وعمله لا يقل أهمية عن اكتشاف العناصر المكونة للشعور... إن الطريقة السيكولوجية الأساسية هي الاستبطان... وهو الفحص المباشر من قبل الإنسان لعملياته النفسية... ومن الممكن إكمال الاستبطان بالملاحظة الموضوعية المباشرة للأفراد الآخرين.."(عاقل، 1981، 51).
وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن المذهب الوظيفي عرف العديد من الأنصار والمؤيدين سواء داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو خارجها. ففي الولايات المتحدة ظهر فريق من الوظيفيين في جامعة كولومبيا يتصدره روبرت ودورث(1869-1962م) الذي كرس جلّ أعماله لنشر مبادئ علم النفس الوظيفي ومناهجه. ويأتي كتاباه "علم النفس الدينامي"(1918) و"دينامية السلوك"(1958) في مقدمة تلك الأعمال. ومن أبرز أعضاء هذا الفريق بلدوين وسكينتشر(1864-1927م). كما مثل هذا الاتجاه ريبو وبينيه في فرنسا وكلاباريد في سويسرا.
ومن خلال هذا العرض الموجز لأهم أفكار أعلام الاتجاه الوظيفي نجد أن هناك نقطتين أساسيتين تستحقان المراجعة والتعقيب. أما النقطة الأولى فتتعلق بدور النفس في توجيه السلوك بهدف التكيف مع العالم الخارجي. حيث وقفنا على إجماع الوظيفيين على الأهمية القصوى التي يكتسيها إبراز ما للظواهر(الوظائف) النفسية من فائدة للفرد في تحقيق استقراره وتوازنه مع المحيط. وظلّت العلاقة بين النفس والنشاط العملي، الخارجي –عندهم- تسير في اتجاه واحد. وبقي الاتجاه العكسي خارج دائرة اهتمامهم. فلم يطرح أحد منهم مسألة الأثر الذي يتركه نشاط الإنسان مع العالم الموضوعي في قدراته وإمكانياته مع ما يحمله طرحها ومعالجتها من قيمة علمية وعملية.
إن استجلاء الكيفيات التي تتم بها علاقة الإنسان في مراحل حياته مع عناصر العالم الخارجي وأشيائه عبر نشاطاته العملية(النشاط الاستكشافي، نشاط اللعب، العمل... الخ) يعد أحد الموضوعات الرئيسية التي يعالجها علم النفس المعاصر. فهو وسيلة حاسمة للتعرف على محددات التطور النفسي، ووضع أساليب ووسائل لتوجيه هذا النشاط أو ذاك بغية الارتقاء بالسلوك الإنساني.
بينما تمس النقطة الثانية الصيغة التي اقترحها الوظيفيون لتحديد الصلة بين الجانب النفسي والجانب العضوي. فعلى أساس نظرتهم إلى الظواهر النفسية كجزء من التيار العام للقوى البيولوجية، ارتبطت هذه الظواهر بأفعال الإنسان الموجهة إلى الموضوعات الخارجية.
ولكن هذه الصيغة لم تكن موضع احترامهم على الدوام. وغالباً ما كانت عرضة للتجاوز أو التناقض مع الحلول المقترحة لمسألة العلاقة بين النفس والدماغ التي تقوم على التوازي السيكوفيزيولوجي.
وهنا يطرح السؤال التالي: كيف يمكن للعمليات النفسية أن تؤثر في العضوية والسلوك، إذا كانت تجري بموازاة العمليات الفيزيولوجية؟ وفي الرد على هذا السؤال يؤكد انجيل أن الموازاة بين ماهو نفسي(عقلي) وماهو فيزيولوجي تعد الصيغة الأنسب لدراسة النفس دراسة تنأى بها عن فيزيولوجية الدماغ. وهذا تناقض صارخ وقع فيه انجيل مع نفسه حينما أكد في مكان آخر ضرورة النظر إلى العضوية ككل سيكوفيزيائي.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح