إن إحدى الحقائق التي لا سبيل إلى نكرانها أو التغاضي عنها هي أن علم النفس بعامة، وعلم النفس المقارن وعلم نفس الطفل وعلم النفس التعليمي بخاصة، مدينون لأولئك الذين عملوا بدأب كبير وصبر جميل ضمن ظروف صعبة وعلى امتداد عقود طويلة. ونقصد العلماء الذين اتخذوا من حياة الحيوانات وسلوكها ميداناً لبحوثهم، واستطاعوا جمع معطيات وفيرة حول مراحل تطورها ومميزات سلوكها في كل مرحلة، وتوصلوا إلى القوانين التي يخضع لها تفاعلها مع العالم الخارجي وعلاقاتها بعضها ببعض داخل الجنس وخارجه في شتى المواقف الحياتية. فكان لعملهم هذا الفضل في ولادة فرع من فروع علم النفس، وهو علم النفس الحيواني، مثلما كان له شرف المشاركة في النهوض بالفروع المجاورة.
ومن المعلوم لدى المختصين بعلم الحيوان والمهتمين بمعرفة أنماط الحياة عند الحيوانات على اختلاف أنواعها أن مثل هذه البحوث ظهرت قبل الإعلان عن ظهور نظريات التطور، وأنها، ضمن المجرى العام للتقدم العلمي، جمعت مادة ثرية أفادت بها واضعي هذه النظريات. وبالمقابل فإنها عرفت، بدورها، تطوراً ملحوظاً على مستوى الأداة والمحتوى بعد انتشار الأفكار والمفاهيم التطورية. ولا سيما الداروينية منها.
لقد ذكرنا أن آليات السلوك عند الكائنات الحية كالغرائز والانفعالات. بل وحتى القدرات العقلية احتلت مساحة هامة في أعمال داروين. ومن خلال طرح هذه الموضوعات ومعالجتها أكد داروين أن نشوء الوظائف وارتقاءها، كظهور الأعضاء وتطورها، يمكّنان الكائن الحي من الصمود في صراعه المستمر مع العالم الخارجي. ومن أجل ذلك جمع كماً ضخماً من المعطيات التي استمدها من قراءاته ومشاهداته الخاصة. فزيادة على كونه قارئاً ممتازاً وناقداً منهجياً، عرف بملاحظته الدقيقة، وإمكانيته الكبيرة على رصد الحوادث والظواهر وتبويبها وفق قواعد ومقاييس موضوعية. ولهذا يكاد يجمع مؤرخو علم النفس على فعالية الدور الذي نهض به داروين على صعيد إدخال طريقة الملاحظة الموضوعية إلى الميدان السيكولوجي. ويدعمون موقفهم هذا باستعراض الكثير من الدراسات التي أجريت بعد صدور مؤلفات داروين، وخاصة كتابه "التعبير عن الانفعالات عند الحيوانات والإنسان". وتناول أصحابها فيها سلوك الحشرات والطيور والأسماك والقطط والقردة وغيرها. ومنها دراسة سبولدنج للسلوك الغريزي عند الطيور، فقد لاحظ أن صغار الطيور لا تحتاج إلى مراقبة كبارها أو إلى تدريبات خاصة لتعلم الطيران. وأنها تتمكن منه حالما تنضج عضويتها وتصبح قادرة عليه.
ولعل جون رومانيس(1848-1894م) هو واحد ممن تحتل مؤلفاته مكانة مرموقة في قائمة الأعمال التي وضعها أولئك المؤرخون. فقد كتب هذا الباحث ثلاثة كتب، كرس الأول للحديث عن "ذكاء الحيوانات"(1882). وركز في الثاني على "تطور الذكاء عند الحيوانات"(1883). وانتقل في الثالث ليعالج "تطور الذكاء عند الإنسان"(1887). ويتضح من خلال هذه العناوين اهتمام رومانيس الكبير بالقدرات النفسية عند الحيوانات والإنسان. ولعل أهم ما عرف به هو تصوره لتلك القدرات باعتبارها خطاً متصاعداً تمس نقاطه المستويات الحيوانية والمستوى الإنساني سواء بسواء. فهي، أي القدرات، أدوات الكائنات الحية والإنسان(كل من موقفه ودرجته على سلم التطور) في عملية التفاعل الجارية مع العالم الخارجي. ويعني ذلك أن الذكاء هو سمة عامة لدى الحيوانات والإنسان. والفرق الذي نلحظه بين ذكاء الإنسان وذكاء الحيوان، حسب تصوره، ليس فرقاً نوعياً، وإنما هو فرق كمي. ويعزو خطأ الآخرين في تقدير هذا الفرق إلى نتائج المقارنة الحسية التي يعقدونها بين إمكانيات الإنسان المعاصر وقدراته مع ما يقابلها لدى الحيوان. إذ أن في مثل هذه الحالة سرعان ما يقف المرء على عدد عديد من الصفات المتباينة بين موضوعي المقارنة، مما يقوده إلى الحكم لصالح وجود فوارق نوعية فيما بينها.
ويرى أن الصورة تختلف كثيراً فيما لو تمت مقارنة الإنسان البدائي بالحيوانات الراقية، أو الطفل بالقرد. ففي اعتقاده أن الباحث يجد نفسه هنا أمام صفات متشابهة لدى الطرفين أكثر بكثير مما يلقاه من فروق بينهما. وهذه الأخيرة، إن وجدت، فإنها لا تتعدى حدود الكم.
لقد جمع رومانيس عدداً ضخماً من الأدلة عن طريق ملاحظاته اليومية وملاحظات الآخرين من أجل الدفاع عن أفكاره وتصوراته. إلا أن هذه الأدلة لم تكن مقنعة بالقدر الكافي بسبب افتقار طائفة منها إلى الدقة والموضوعية. وكان ذلك ثغرة نفذ منها نقاده، وراحوا يطعنون بصحة منهجه وبالوقائع التي حصل عليها بوساطته، وفي هذا يقول فلوجل: "... جمع ذلك الباحث(رومانيس- ب.ع) كمية هائلة من الوقائع عن طريق ما سمي بعد ذلك- تندراً- بمنهج الحكايات، أي الاعتماد على التقارير العرضية حول سلوك الحيوانات. ولما كان الكثير من هذه التقارير يأتي من ملاحظين غير مدربين ذوي نظرة غير نقدية، فإنه من الواضح أنهم قد يتعرضون في بعض الأحيان لكافة مخاطر الملاحظة الخاطئة، من إهمال في الوصف وتحيّز في التفسير، وبالذات في اتجاه استقراء دوافع وعمليات فكرية إنسانية في الحيوان"(1979، 88).
والواقع أن أفكار رومانيس الطبيعية ونظرته الآلية إلى تعاقب مظاهر النفس ووحدتها عبر عمليات نشوء الأنواع الحيوانية وارتقائها هي التي كانت هدف تلك الحملة من الانتقادات الموجهة إليه. وفي ضوء ذلك يمكن معرفة مصدرها والهوية الفكرية لأصحابها. فإذا كان رومانيس من دعاة التشديد على التشابه والتماثل بين سلوك مختلف الأنواع، فإن خصومه ونقاده هم المتشددون في إبراز الاختلافات والتباينات العميقة القائمة بين سلوك أفراد أي نوع حيواني ونوع آخر. ومن أبرز هؤلاء مورغان.
عمل لويد مورغان(1852-1936م) أستاذاً لعلم الحيوان والجيولوجيا في مدينة بريستول بانكلترا. وأسهم بقسط وافر في تطور علم النفس المقارن، حيث نشر كتاباً عام 1894 تحت عنوان "المدخل إلى علم النفس المقارن". ويعرف مورغان بأنه صاحب قانون الاقتصاد في عالم الأحياء، الذي اشتهر بقانون لويد مورغان. وبموجب هذا القانون فإنه لا يجوز تفسير سلوك الحيوان انطلاقاً من قدرة نفسية عليا، إذا كان بالإمكان تفسيره على أساس قدرة تقع على درجة أقل في سلم الارتقاء النفسي. ولكي يدلل على صحة هذا القانون، استخدم المنهج الموضوعي والملاحظة المستمرة في جمع المعلومات عن تصرفات الحيوانات في مواقف طبيعية ومصطنعة مختلفة. وأخضع مشاهداته إلى تحليل دقيق ومقارنة تفصيلية وشاملة، خلص من خلالهما إلى القول بوجود وسائل نفسية متعددة تتوسط علاقة الحيوان بمحيطه، ولكنها غير كافية لتسبغ على أفعاله طابع التعقل والوعي. فالحيوان، للمثال، لا يتمكن من حل المشكلة التي تعترضه إلا بعد سلسلة من المحاولات يختبر من خلالها إمكانياته المتعددة على نحو اعتباطي. بيد أن ذلك لا يعني أن مورغان يفسر الأفعال التي تقوم بها الحيوانات من أجل الوصول إلى هدف معين تفسيراً آلياً، أو أنه يرجعه أو يختصره بالاستجابات العشوائية والعمياء. إنه يطرح المحاولة والخطأ كآلية تنظم السلوك الحيواني لحظة اختيار الأداة والأسلوب في المواقف الجديدة، وتجعله مختلفاً عن سلوك الإنسان الذي يتسم بالعقل والفهم.
وفي الفترة التي رأت فيها مؤلفات رومانيس النور ظهرت أعمال أخرى في علم النفس المقارن وعلم نفس الحيوان. فقد لفت نمط الحياة الجماعي عند الحشرات والطيور انتباه الباحثين، أمثال د. ليبوك وج. فابر، ومن ثم أ. فوريل. وقبل هؤلاء تحمل مسؤولية دراسة سلوك تلك الحيوانات. فكان أن نشر ليبوك كتابه "النمل والزنابير والنحل" في سنة 1882، وفابر "مذكرات في علم الحشرات" بين عامي 1880 و1904، وفوريل "تجارب وملاحظات نقدية حول الإحساسات عند الحشرات" في سنة 1887.
وبعد انتشار أفكار مورغان التي عرضها في كتبه "المدخل..." و"حياة الحيوان والذكاء"(1890) و"سلوك الحيوان"(1900)، قام العالم الألماني جاك لوب(1859- 1924م) بدراسة سلوك الحيوانات وحيدة الخلية مستخدماً الطريقة التجريبية. فقد كان يدخل تغييرات كيميائية أو فيزيائية على بيئة الحيوان بتسليط ضوء قوي عليه أو رفع درجة حرارة الماء الذي يوجد فيه حيناً وخفضها حيناً آخر، أو إضافة محلول كيميائي إلى الماء... الخ، ثم يراقب استجابة الحيوان على تلك التغيرات. وعقب مجموعة كبيرة من التجارب توصل إلى صياغة نظريته المعروفة بالانتحاء Tropisme التي تشبه الحيوان بجهاز يستجيب للمثيرات الخارجية(الفيزيائية والكيميائية) بصورة آلية.
إن نظرية الانتحاء تعكس التزام لوب بتعاليم مدرسة شيف التي تخرّج منها. ويتجلى ذلك عبر شفافية المبدأ الذي اعتبر منطلقاً لممثلي هذه المدرسة، ومفاده أن النشاط العصبي يخضع لقوانين الحركة الآلية. ولا يحمل هذا المبدأ أي جديد. فهو يجسد نفس النظرة التي وجدناها عند ديكارت وغاليله وهارتلي وسواهم. والاختلاف الذي يمكن أن يكون بين تفسيرات هؤلاء جميعاً يكمن في التفاصيل التي تمليها معطيات العلم والمشكلات التي يطرحها العصر في ضوء حجم تلك المعطيات ونوعها. فالتقدم العلمي على صعيد الظواهر الفيزيائية والكيميائية والحيوية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى ظهور فكرة وحدة العالم العضوي، حدا ببعض الباحثين إلى البحث عن مقدمات أو أصول سلوك الحيوانات الراقية والإنسان في سلوك الحيوانات الدنيا. وهو ما فعله لوب حين حاول التوفيق بين آراء داروين والفهم الفيزيائي والكيميائي للحياة.
لم يكن الموقف من نظرية الانتحاء مختلفاً عنه إزاء الكثير من النظريات التي عرفها علم نفس الحيوان في بداية نشأته. فقد رحب بها بعض الباحثين وتبناها البعض الآخر، وسعى إلى تطويرها. ففي ألمانيا نادى كل من أ. بيتي وت. بير وف. إكسكويل بضرورة إعادة النظر في المصطلحات السيكولوجية السائدة واستبدالها بمصطلحات فيزيولوجية لتحرير العلم الجديد من النزعة الذاتية التي يكرسها مذهب الاستبطان. واقترحوا في مقالتهم المشتركة "ثبت المصطلحات الموضوعية في فيزيولوجية الجملة العصبية"(1899) إحلال مصطلح "استقبال" محل مصطلح "إحساس" ومصطلح "تكرار" محل "تذكر"... الخ. وعللوا اقتراحهم بعدم قابلية الظواهر النفسية للدراسة العلمية الموضوعية. وكان بيتي قد طرح عام 1898 سؤالاً جعله عنواناً لمقالته "هل يتوجب علينا أن نخلع الصفات النفسية على النمل والنحل؟". وأجاب عليه بالنفي. فسلوك النحل والنمل غريزي، يتألف من سلسلة من الاستجابات الآلية، المتعاقبة التي يستدعي السابق منها اللاحق آلياً لدى تأثير البيئة الكيميائية والفيزيائية المحيطة.
لم تحظ نظرية الانتحاء بنصيب كبير من التأييد، ولاقت معارضة شديدة بسبب نزعتها الميكانيكية في تناول السلوك الحيواني ونظرتها إليه باعتباره أقل تنوعاً وأكثر تشابهاً عند مختلف الأنواع الحيوانية. ومن أشهر معارضيها عالم الحيوان الأمريكي هـ. س. جينينغز(1868-1947م).
توصل جينينغز من خلال تجاربه إلى القول باستحالة تفسير الاستجابات التكيفية للحيوانات الدنيا باستخدام المفاهيم والمقولات الكيميائية والفيزيائية. ذلك لأن العلاقة بين المنبه الخارجي ورد فعل الحيوان ليست علاقة ترادف أو تطابق. فهناك عوامل متممة ومؤثرة تتوسط تلك العلاقة. وكلما كانت العضوية معقدة، والوسط الذي تحيا فيه سريع التغير والتحول، ازدادت تلك العوامل الوسيطة تعقيداً وتغيراً وغنىً.
لقد عمل جينينغز وكثير من علماء نفس الحيوان على حل مسائل ذات طبيعة مغايرة لموضوعات اهتماماتهم الأولى. وبغض النظر عن الموقع الفكري لكل منهم، فقد انطلقوا في حل هذه المسائل من التجليات الموضوعية للنشاط الحيوي، واتخذوا من طابعها دليلاً على تأثير النظام السيكولوجي إلى جانب تأثير النظام الفيزيولوجي.
ولا تخفى القيمة المزدوجة لهذا الموقف ودوره في تطور علم النفس. فهو تشكيك في إمكانية منهج الاستبطان من جهة، وإسهام جدي في التأكيد على أهمية المنهج الموضوعي في علم النفس من جهة ثانية. وهذا ما يلمسه المرء لدى اطلاعه على تعاليم المدرسة السلوكية.
وما دمنا بصدد الحديث عن فضل الدراسات المبكرة لسلوك الحيوان على تطور الفكر والمنهج، فإن الواجب يحتم علينا أن نشير إلى أعمال العالم الفرنسي هنري بيرون(1881-1964م) التي تناول فيها الإحساسات والتذكر عند الكائنات الحية، ولا سيما اللافقاريات البحرية. ويحتل كتابه "مناهج علم نفس الحيوان" الذي صدر عام 1904 موقع الصدارة بين تلك الأعمال. كما يلزمنا أيضاً بأن ننوه بالجهود التي بذلها مؤسس علم نفس الحيوان في روسيا ف. فاغنر(1849-1934م) في دراسة الغرائز عند العناكب والنحل والسنونو، وباستنتاجاته التي تعتبر دفاعاً عن النظرية التطورية الداروينية وانتصاراً لقوانينها.
بوح الروح
ومن المعلوم لدى المختصين بعلم الحيوان والمهتمين بمعرفة أنماط الحياة عند الحيوانات على اختلاف أنواعها أن مثل هذه البحوث ظهرت قبل الإعلان عن ظهور نظريات التطور، وأنها، ضمن المجرى العام للتقدم العلمي، جمعت مادة ثرية أفادت بها واضعي هذه النظريات. وبالمقابل فإنها عرفت، بدورها، تطوراً ملحوظاً على مستوى الأداة والمحتوى بعد انتشار الأفكار والمفاهيم التطورية. ولا سيما الداروينية منها.
لقد ذكرنا أن آليات السلوك عند الكائنات الحية كالغرائز والانفعالات. بل وحتى القدرات العقلية احتلت مساحة هامة في أعمال داروين. ومن خلال طرح هذه الموضوعات ومعالجتها أكد داروين أن نشوء الوظائف وارتقاءها، كظهور الأعضاء وتطورها، يمكّنان الكائن الحي من الصمود في صراعه المستمر مع العالم الخارجي. ومن أجل ذلك جمع كماً ضخماً من المعطيات التي استمدها من قراءاته ومشاهداته الخاصة. فزيادة على كونه قارئاً ممتازاً وناقداً منهجياً، عرف بملاحظته الدقيقة، وإمكانيته الكبيرة على رصد الحوادث والظواهر وتبويبها وفق قواعد ومقاييس موضوعية. ولهذا يكاد يجمع مؤرخو علم النفس على فعالية الدور الذي نهض به داروين على صعيد إدخال طريقة الملاحظة الموضوعية إلى الميدان السيكولوجي. ويدعمون موقفهم هذا باستعراض الكثير من الدراسات التي أجريت بعد صدور مؤلفات داروين، وخاصة كتابه "التعبير عن الانفعالات عند الحيوانات والإنسان". وتناول أصحابها فيها سلوك الحشرات والطيور والأسماك والقطط والقردة وغيرها. ومنها دراسة سبولدنج للسلوك الغريزي عند الطيور، فقد لاحظ أن صغار الطيور لا تحتاج إلى مراقبة كبارها أو إلى تدريبات خاصة لتعلم الطيران. وأنها تتمكن منه حالما تنضج عضويتها وتصبح قادرة عليه.
ولعل جون رومانيس(1848-1894م) هو واحد ممن تحتل مؤلفاته مكانة مرموقة في قائمة الأعمال التي وضعها أولئك المؤرخون. فقد كتب هذا الباحث ثلاثة كتب، كرس الأول للحديث عن "ذكاء الحيوانات"(1882). وركز في الثاني على "تطور الذكاء عند الحيوانات"(1883). وانتقل في الثالث ليعالج "تطور الذكاء عند الإنسان"(1887). ويتضح من خلال هذه العناوين اهتمام رومانيس الكبير بالقدرات النفسية عند الحيوانات والإنسان. ولعل أهم ما عرف به هو تصوره لتلك القدرات باعتبارها خطاً متصاعداً تمس نقاطه المستويات الحيوانية والمستوى الإنساني سواء بسواء. فهي، أي القدرات، أدوات الكائنات الحية والإنسان(كل من موقفه ودرجته على سلم التطور) في عملية التفاعل الجارية مع العالم الخارجي. ويعني ذلك أن الذكاء هو سمة عامة لدى الحيوانات والإنسان. والفرق الذي نلحظه بين ذكاء الإنسان وذكاء الحيوان، حسب تصوره، ليس فرقاً نوعياً، وإنما هو فرق كمي. ويعزو خطأ الآخرين في تقدير هذا الفرق إلى نتائج المقارنة الحسية التي يعقدونها بين إمكانيات الإنسان المعاصر وقدراته مع ما يقابلها لدى الحيوان. إذ أن في مثل هذه الحالة سرعان ما يقف المرء على عدد عديد من الصفات المتباينة بين موضوعي المقارنة، مما يقوده إلى الحكم لصالح وجود فوارق نوعية فيما بينها.
ويرى أن الصورة تختلف كثيراً فيما لو تمت مقارنة الإنسان البدائي بالحيوانات الراقية، أو الطفل بالقرد. ففي اعتقاده أن الباحث يجد نفسه هنا أمام صفات متشابهة لدى الطرفين أكثر بكثير مما يلقاه من فروق بينهما. وهذه الأخيرة، إن وجدت، فإنها لا تتعدى حدود الكم.
لقد جمع رومانيس عدداً ضخماً من الأدلة عن طريق ملاحظاته اليومية وملاحظات الآخرين من أجل الدفاع عن أفكاره وتصوراته. إلا أن هذه الأدلة لم تكن مقنعة بالقدر الكافي بسبب افتقار طائفة منها إلى الدقة والموضوعية. وكان ذلك ثغرة نفذ منها نقاده، وراحوا يطعنون بصحة منهجه وبالوقائع التي حصل عليها بوساطته، وفي هذا يقول فلوجل: "... جمع ذلك الباحث(رومانيس- ب.ع) كمية هائلة من الوقائع عن طريق ما سمي بعد ذلك- تندراً- بمنهج الحكايات، أي الاعتماد على التقارير العرضية حول سلوك الحيوانات. ولما كان الكثير من هذه التقارير يأتي من ملاحظين غير مدربين ذوي نظرة غير نقدية، فإنه من الواضح أنهم قد يتعرضون في بعض الأحيان لكافة مخاطر الملاحظة الخاطئة، من إهمال في الوصف وتحيّز في التفسير، وبالذات في اتجاه استقراء دوافع وعمليات فكرية إنسانية في الحيوان"(1979، 88).
والواقع أن أفكار رومانيس الطبيعية ونظرته الآلية إلى تعاقب مظاهر النفس ووحدتها عبر عمليات نشوء الأنواع الحيوانية وارتقائها هي التي كانت هدف تلك الحملة من الانتقادات الموجهة إليه. وفي ضوء ذلك يمكن معرفة مصدرها والهوية الفكرية لأصحابها. فإذا كان رومانيس من دعاة التشديد على التشابه والتماثل بين سلوك مختلف الأنواع، فإن خصومه ونقاده هم المتشددون في إبراز الاختلافات والتباينات العميقة القائمة بين سلوك أفراد أي نوع حيواني ونوع آخر. ومن أبرز هؤلاء مورغان.
عمل لويد مورغان(1852-1936م) أستاذاً لعلم الحيوان والجيولوجيا في مدينة بريستول بانكلترا. وأسهم بقسط وافر في تطور علم النفس المقارن، حيث نشر كتاباً عام 1894 تحت عنوان "المدخل إلى علم النفس المقارن". ويعرف مورغان بأنه صاحب قانون الاقتصاد في عالم الأحياء، الذي اشتهر بقانون لويد مورغان. وبموجب هذا القانون فإنه لا يجوز تفسير سلوك الحيوان انطلاقاً من قدرة نفسية عليا، إذا كان بالإمكان تفسيره على أساس قدرة تقع على درجة أقل في سلم الارتقاء النفسي. ولكي يدلل على صحة هذا القانون، استخدم المنهج الموضوعي والملاحظة المستمرة في جمع المعلومات عن تصرفات الحيوانات في مواقف طبيعية ومصطنعة مختلفة. وأخضع مشاهداته إلى تحليل دقيق ومقارنة تفصيلية وشاملة، خلص من خلالهما إلى القول بوجود وسائل نفسية متعددة تتوسط علاقة الحيوان بمحيطه، ولكنها غير كافية لتسبغ على أفعاله طابع التعقل والوعي. فالحيوان، للمثال، لا يتمكن من حل المشكلة التي تعترضه إلا بعد سلسلة من المحاولات يختبر من خلالها إمكانياته المتعددة على نحو اعتباطي. بيد أن ذلك لا يعني أن مورغان يفسر الأفعال التي تقوم بها الحيوانات من أجل الوصول إلى هدف معين تفسيراً آلياً، أو أنه يرجعه أو يختصره بالاستجابات العشوائية والعمياء. إنه يطرح المحاولة والخطأ كآلية تنظم السلوك الحيواني لحظة اختيار الأداة والأسلوب في المواقف الجديدة، وتجعله مختلفاً عن سلوك الإنسان الذي يتسم بالعقل والفهم.
وفي الفترة التي رأت فيها مؤلفات رومانيس النور ظهرت أعمال أخرى في علم النفس المقارن وعلم نفس الحيوان. فقد لفت نمط الحياة الجماعي عند الحشرات والطيور انتباه الباحثين، أمثال د. ليبوك وج. فابر، ومن ثم أ. فوريل. وقبل هؤلاء تحمل مسؤولية دراسة سلوك تلك الحيوانات. فكان أن نشر ليبوك كتابه "النمل والزنابير والنحل" في سنة 1882، وفابر "مذكرات في علم الحشرات" بين عامي 1880 و1904، وفوريل "تجارب وملاحظات نقدية حول الإحساسات عند الحشرات" في سنة 1887.
وبعد انتشار أفكار مورغان التي عرضها في كتبه "المدخل..." و"حياة الحيوان والذكاء"(1890) و"سلوك الحيوان"(1900)، قام العالم الألماني جاك لوب(1859- 1924م) بدراسة سلوك الحيوانات وحيدة الخلية مستخدماً الطريقة التجريبية. فقد كان يدخل تغييرات كيميائية أو فيزيائية على بيئة الحيوان بتسليط ضوء قوي عليه أو رفع درجة حرارة الماء الذي يوجد فيه حيناً وخفضها حيناً آخر، أو إضافة محلول كيميائي إلى الماء... الخ، ثم يراقب استجابة الحيوان على تلك التغيرات. وعقب مجموعة كبيرة من التجارب توصل إلى صياغة نظريته المعروفة بالانتحاء Tropisme التي تشبه الحيوان بجهاز يستجيب للمثيرات الخارجية(الفيزيائية والكيميائية) بصورة آلية.
إن نظرية الانتحاء تعكس التزام لوب بتعاليم مدرسة شيف التي تخرّج منها. ويتجلى ذلك عبر شفافية المبدأ الذي اعتبر منطلقاً لممثلي هذه المدرسة، ومفاده أن النشاط العصبي يخضع لقوانين الحركة الآلية. ولا يحمل هذا المبدأ أي جديد. فهو يجسد نفس النظرة التي وجدناها عند ديكارت وغاليله وهارتلي وسواهم. والاختلاف الذي يمكن أن يكون بين تفسيرات هؤلاء جميعاً يكمن في التفاصيل التي تمليها معطيات العلم والمشكلات التي يطرحها العصر في ضوء حجم تلك المعطيات ونوعها. فالتقدم العلمي على صعيد الظواهر الفيزيائية والكيميائية والحيوية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى ظهور فكرة وحدة العالم العضوي، حدا ببعض الباحثين إلى البحث عن مقدمات أو أصول سلوك الحيوانات الراقية والإنسان في سلوك الحيوانات الدنيا. وهو ما فعله لوب حين حاول التوفيق بين آراء داروين والفهم الفيزيائي والكيميائي للحياة.
لم يكن الموقف من نظرية الانتحاء مختلفاً عنه إزاء الكثير من النظريات التي عرفها علم نفس الحيوان في بداية نشأته. فقد رحب بها بعض الباحثين وتبناها البعض الآخر، وسعى إلى تطويرها. ففي ألمانيا نادى كل من أ. بيتي وت. بير وف. إكسكويل بضرورة إعادة النظر في المصطلحات السيكولوجية السائدة واستبدالها بمصطلحات فيزيولوجية لتحرير العلم الجديد من النزعة الذاتية التي يكرسها مذهب الاستبطان. واقترحوا في مقالتهم المشتركة "ثبت المصطلحات الموضوعية في فيزيولوجية الجملة العصبية"(1899) إحلال مصطلح "استقبال" محل مصطلح "إحساس" ومصطلح "تكرار" محل "تذكر"... الخ. وعللوا اقتراحهم بعدم قابلية الظواهر النفسية للدراسة العلمية الموضوعية. وكان بيتي قد طرح عام 1898 سؤالاً جعله عنواناً لمقالته "هل يتوجب علينا أن نخلع الصفات النفسية على النمل والنحل؟". وأجاب عليه بالنفي. فسلوك النحل والنمل غريزي، يتألف من سلسلة من الاستجابات الآلية، المتعاقبة التي يستدعي السابق منها اللاحق آلياً لدى تأثير البيئة الكيميائية والفيزيائية المحيطة.
لم تحظ نظرية الانتحاء بنصيب كبير من التأييد، ولاقت معارضة شديدة بسبب نزعتها الميكانيكية في تناول السلوك الحيواني ونظرتها إليه باعتباره أقل تنوعاً وأكثر تشابهاً عند مختلف الأنواع الحيوانية. ومن أشهر معارضيها عالم الحيوان الأمريكي هـ. س. جينينغز(1868-1947م).
توصل جينينغز من خلال تجاربه إلى القول باستحالة تفسير الاستجابات التكيفية للحيوانات الدنيا باستخدام المفاهيم والمقولات الكيميائية والفيزيائية. ذلك لأن العلاقة بين المنبه الخارجي ورد فعل الحيوان ليست علاقة ترادف أو تطابق. فهناك عوامل متممة ومؤثرة تتوسط تلك العلاقة. وكلما كانت العضوية معقدة، والوسط الذي تحيا فيه سريع التغير والتحول، ازدادت تلك العوامل الوسيطة تعقيداً وتغيراً وغنىً.
لقد عمل جينينغز وكثير من علماء نفس الحيوان على حل مسائل ذات طبيعة مغايرة لموضوعات اهتماماتهم الأولى. وبغض النظر عن الموقع الفكري لكل منهم، فقد انطلقوا في حل هذه المسائل من التجليات الموضوعية للنشاط الحيوي، واتخذوا من طابعها دليلاً على تأثير النظام السيكولوجي إلى جانب تأثير النظام الفيزيولوجي.
ولا تخفى القيمة المزدوجة لهذا الموقف ودوره في تطور علم النفس. فهو تشكيك في إمكانية منهج الاستبطان من جهة، وإسهام جدي في التأكيد على أهمية المنهج الموضوعي في علم النفس من جهة ثانية. وهذا ما يلمسه المرء لدى اطلاعه على تعاليم المدرسة السلوكية.
وما دمنا بصدد الحديث عن فضل الدراسات المبكرة لسلوك الحيوان على تطور الفكر والمنهج، فإن الواجب يحتم علينا أن نشير إلى أعمال العالم الفرنسي هنري بيرون(1881-1964م) التي تناول فيها الإحساسات والتذكر عند الكائنات الحية، ولا سيما اللافقاريات البحرية. ويحتل كتابه "مناهج علم نفس الحيوان" الذي صدر عام 1904 موقع الصدارة بين تلك الأعمال. كما يلزمنا أيضاً بأن ننوه بالجهود التي بذلها مؤسس علم نفس الحيوان في روسيا ف. فاغنر(1849-1934م) في دراسة الغرائز عند العناكب والنحل والسنونو، وباستنتاجاته التي تعتبر دفاعاً عن النظرية التطورية الداروينية وانتصاراً لقوانينها.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح