الثقافة والمجتمع ودورهما في تشكل وعي الفرد وشخصيته ليست موضوعات طارئة أو مستجدة على ساحة الفكر الإنساني. بيد أنها، مع ذلك، لم تلق من الاهتمام ما يكفي لكي ينظر إليها كموضوعات مستقلة ويوجه الكلام فيها وجهة علمية اعتماداً على أدوات موضوعية يكفل استعمالها جمع المعطيات والوقائع المتعلقة بها قبل القرن التاسع عشر. فلم يمض من هذا القرن عقدان ونيف حتى أصبحت ثقافات الشعوب والتجمعات البشرية موضوع حديث المؤرخين وعلماء الأنتروبولوجيا واللغة والاجتماع. وبدا لهم هذا الموضوع آنذاك أمراً يكتنفه الغموض ويحيط به الكثير من الأسرار.
ومهما يكن من أمر فإن كيفية تشكل النتاج الثقافي وعوامله مع ما يحمله من بعد نفسي تعتبر الموضوع الأول الذي حفز هؤلاء المؤرخين والعلماء إلى البحث في هذا الميدان الرحب. وقد ارتبطت بدايات تناوله بمحاولات كل من ويتنر وستينتال ولازاروس في ألمانيا، التي تكللت بالإعلان عن قيام "سيكولوجية الشعوب".
ويجد القارئ في المقالة الافتتاحية للعدد الأول من مجلة "دراسة مقارنة للغة" الذي صدر عام 1852 أول عرض للمبادئ والمفاهيم الرئيسية لهذا العلم. كما يجد شرحاً مفصلاً لها على صفحات مجلة "سيكولوجية الشعوب وعلم اللغة" التي تعاون ستينتال ولازاروس على إصدارها عام 1860*.
إن الفكرة المركزية التي ينطلق منها مؤسسو سيكولوجية الشعوب هي وجود اختلاف بين ثقافات شعوب الأرض وإن كل واحدة منها تعكس "روح الشعب" التي تقوم على اللغة والأساطير والعادات والتقاليد.
وبعد انتشار فلسفة كونت أقبل الباحثون على دراسة الظواهر النفسية وعلاقتها بثقافة المجتمع وهم مزودون، بدرجات متفاوتة، بمفاهيم تلك الفلسفة وأفكارها. فها هو سبنسر يقيم نظرته إلى المجتمع على أساس القانون العام للتطور، ويعرف المجتمع البشري في مؤلفيه "مبادئ علم الاجتماع" و"علم الاجتماع الوصفي" بأنه كائن حي نام. ويمر خلال نموه بمراحل متعددة تكون المرحلة اللاحقة منها أكثر تركيباً وأشد تعقيداً من سابقتها. ويعتقد بعض المؤرخين أن سبنسر في نظرته هذه يتفق مع الأنتروبولوجي أ. ب. تايلور في موقفه من الحضارات، بل ويدعم استنتاجاته بشأن السمة المركزية لسلوك الإنسان البدائي المتمثلة في الأحيائيةِ Animisme حيث وجد تايلور في كتابه "الحضارة البدائية" أن الإنسان القديم يخلع على كل ما حوله صفة الحياة، ويتعامل مع الأشياء الخارجية كما لو كانت "تحس وتفكر". ولهذا فقد كان يسعى لكسب ودّها واستدرار عطفها وتجنب غضبها ما أمكنه ذلك، لتحقيق قدر من الاستقرار والطمأنينة. واعتماداً على ملاحظاته وقراءاته استنتج أن تجليات السلوك الأحيائي لم تنته مع نهاية الإنسان البدائي، وأن بعضاً منها بقي محتفظاً بدوره في المعتقدات الدينية وبعض التقاليد والأعراف الاجتماعية(فلوجل، 1979، 99).
وزيادة على هذا الاتجاه الأنتروبولوجي ثمة اتجاه آخر ارتبطت دراسة أصحابه لسلوك الفرد وعلاقته بالمؤثرات الاجتماعية، بتطور علم الأعصاب في فرنسا حتى بداية القرن العشرين. فمدرسة نانسي بزعامة ليبو وبرنغهايم، ركزت في تفسيرها ومعالجتها للأمراض الهستيرية على الجانب النفسي والاجتماعي، أي على قابلية الشخص للإيحاء سواء أكان هذا الإيحاء ذاتياً أم صادراً عن إنسان آخر، مع الإشارة إلى أن ذلك يتم بصورة لا واعية. ولما كانت أعراض التنويم الاصطناعي شبيهة بأعراض الهستيريا، فإن التنويم في رأي أنصار هذه المدرسة هو حالة خاصة من حالات الإيحاء الطبيعي.
ولقد شغلت هذه المسألة بما تحتويه من مقدمات وفرضيات وتصورات حول الشخصية ودوافعها وساحاتها(الوعي، اللاوعي) والعوامل المحددة لها(العامل الاجتماعي والعامل العضوي..) حيّزاً كبيراً في أعمال علماء فرنسيين آخرين، أمثال جانيه وبينيه وريبو. ومن المؤكد أن تأثير الحلول والتفسيرات التي قدمها هؤلاء لم يقتصر على المهتمين بالجانب النفسي أو الجانب العضوي من الشخصية فحسب، بل امتد إلى أبعد من ذلك ليطال المهتمين بجانبها الاجتماعي أيضاً. فليس من المستبعد أن تكون تلك الحلول والتفسيرات، ومن بينها قانون الإيحاء، هي التي أوحت لعالم الاجتماع الفرنسي غابرييل تارد(1843-1904م) بطرح مبدأ التقليد ليفسر به مختلف ضروب العلاقات الاجتماعية وسلوك الأفراد. ولإثبات فعالية هذا المبدأ وصدقه استعان تارد في كتابه "قوانين التقليد"(1893) بعشرات الأمثلة والشواهد التي تظهر كيف أن الفرد يتمثل القيم والمعايير الاجتماعية والأخلاقية عن طريق تقليده للآخرين، مثلما تفعل الجماعات والمجتمعات حين تنتقل العادات والتقاليد والصرعات من جماعة إلى جماعة ثانية، ومن مجتمع إلى آخر. فالضعيف منها(فرداً كان أم جماعة أم مجتمعاً) يقلد القوي، والمهزوم يقلد المنتصر، والمتخلف يقلد المتقدم. وقد عدّ تارد التقليد مبدأً أساسياً وقانوناً عاماً يسري على مختلف مستويات التفاعل الاجتماعي. وفي ضوء ذلك يقرر أن الأفكار والمشاعر التي يستوحيها الفرد من محيطه هي التي تحدد نشاطه النفسي.
ولعلنا نجد في اتجاه العلاقة بين ما هو داخل الفرد وبين ما هو خارجه على هذا النحو الذي حدده تارد تأكيداً على ضرورة الابتعاد عن التفسيرات العضوية للسلوك الإنساني، أو حرصاً على فصل ما هو اجتماعي عما هو عضوي في هذا السلوك.
ويواصل تارد معالجته لهذه القضية بصورة تفصيلية في كتابه الثاني "المنطق الاجتماعي"(1895). فيجد أن بمقدور الإنسان القيام بكثير من الأفعال والنشاطات دون أن يقتدي بأحد أو يقلد غيره، مثلما هو الحال بالنسبة للأكل والشرب والمشي والانفعال وغير ذلك مما يعزى إلى الجانب الفيزيولوجي من نشاط الإنسان. غير أن الواقع يبين أنه عندما يقوم الفرد بتلك النشاطات الحيوية، إنما يسلك مسلكاً محدداً ويستخدم أسلوباً معيناً. فهو، أثناء تناوله لطعامه وشرابه، يراعي قواعد معروفة ويستعين بأدوات محددة. كما أنه يعبر عن فرحه أو حزنه بأساليب مألوفة. وتؤلف تلك القواعد والأدوات والأساليب الجانب الاجتماعي من سلوك الفرد.
ولعل بوسع القارئ أن يدرك عبر هذا العرض المبسط والموجز لنظرية التقليد إيماءات صاحبها وإشاراته إلى ما يمكن أن ندعوه بالوراثة الاجتماعية. وبعد تارد جاء ج. بلدوين(1861-1934م) أحد مؤسسي علم النفس الاجتماعي ودأب على تطوير هذه الفكرة. ولقد قادته دراساته إلى القول بوجود نوعين من الوراثة: الوراثة الطبيعية والوراثة الاجتماعية. ويقصد بالوراثة الاجتماعية عملية انتقال الثقافة الاجتماعية مبنىً ومعنىً عبر الأجيال. وكيما يحدث هذا لا بد وأن يولد الإنسان وهو مزود بالقدرة على التعلم. وتتجسد هذه القدرة في توافر الشروط العضوية(الحسية والحركية) التي تمكن الطفل من محاكاة أفعال الآخرين وتصرفاتهم، وبالتالي تمثل العادات والقيم وكل ما تشتمل عليه خبرة المجتمع. فالطفل، منذ لحظة ولادته، يكون محاطاً بشبكة من "الإيحاءات الاجتماعية". ولا يتحقق نموه إلا بفضل الاستجابات التي تحاكي تصرفات الآخرين وسلوكياتهم(بلدوين، 1902، 158).
وهكذا فإن اهتمام تارد وبلدوين انصب على معرفة شروط وعوامل تشكل الشخصية ضمن إطار الثقافة الاجتماعية، وتحديد آليات استيعاب الفرد لعناصر تلك الثقافة.
وإذا كان طرحهما لهذه المسائل بالصيغة المذكورة والآراء التي أدليا بها حولها قد شكلت تياراً حقق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قدراً من النجاح، فإن هناك تياراً آخر ظهر في نفس الفترة، ولعب دوراً محسوساً في توجيه الأنظار نحو أهمية حل تلك المسائل وفق قواعد وقوانين جديدة. ولقد تزعم هذا التيار عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم(1858-1917م).
حدد دوركهايم المهمة المركزية التي ينبغي على الباحث أن يضطلع بها في تخليص الدراسة الاجتماعية من الطابع السيكولوجي الذي اتسمت به في حالات عديدة، ووجد أنها تتمثل في التركيز على الظواهر الاجتماعية وتحليل انعكاساتها في وعي الجماعة. وقد بنى دوركهايم اقتراحه هذا على أساس تصور جديد للعلاقة بين الظاهرة الاجتماعية والظاهرة النفسية، بين المجتمع والشخصية، الذي بسطه في مؤلفاته، وخصص له مساحة كبيرة في "قواعد المنهج السوسيولوجي"(1894) و"التصورات الفردية والجماعية"(1898).
قابل دوركهايم الوعي الاجتماعي بالوعي الفردي، وشدد على أسبقية الأول، الذي يشتمل، حسب رأيه، على تجليات الثقافة الاجتماعية من عادات وتقاليد وأعراف ومعتقدات... الخ. ولما كان وجودها على شكل تصورات جماعية، فإنها تعتبر وقائع موضوعية تتشكل في المجتمع وتتطور بتطوره، دون تدخل من جانب الفرد وبمعزل عن وعيه وإرادته.
لقد حمل هذا المدخل في طياته معاني ودلالات جديدة ذات قيمة علمية على صعيد التقريب من القضايا الاجتماعية المطروحة وفهمها. فهو، بالإضافة إلى كونه رداً على المذهب المثالي الذاتي، يقترب من حل معادلتي تكامل الفيزيولوجي والاجتماعي والنفسي وتفاضل الفردي والاجتماعي. وهذا ما يتجلى في انطلاقة دوركهايم من الشروط الاجتماعية والتاريخية للثقافة. بيد أن تلك النقطة الإيجابية يجب أن لا تحجب عنا رؤية الثغرة المنهجية التي بنى عليها دوركهايم تفسيراته وأحكامه. فقد نظر إلى الثقافة الاجتماعية على أنها العامل المحدد والعلة الأولى لكل ما يصدر عن الجماعة والفرد. ومن زاوية النظر هذه بدت "التصورات الجماعية" وكأنها كيان مستقل تدين له الوقائع الاجتماعية والنفسية جميعاً بوجودها ويناط به مصيرها. بينما تدلل وقائع الحياة الاجتماعية أن الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي، وأن "التصورات الجماعية" شأنها شأن أي نتاج أيديولوجي، ما هي إلا انعكاس للمستوى الاقتصادي والمادي للمجتمع.
وإلى جانب تلك النظريات الاجتماعية التي راعى فيها تارد ودوركهايم "التقاليد الأيديولوجية" الفرنسية لدى دراستهما للظواهر الإنسانية، كان هناك مفكرون ألمان يعالجون نفس الظواهر انطلاقاً من إرثهم الفكري الألماني. فلقد ترك عمانويل كانت وويلهلم هيغل منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر بصماتهما البارزة على ذلك الإرث. ولاقت فلسفة كل منهما صدى إيجابياً لدى المفكرين والباحثين داخل ألمانيا وخارجها. فانكب هؤلاء على تطويرها في اتجاهات متعددة. وتجيء دراسة هـ. مونستيربرغ وو. ديلتي وهـ. ريكيرت للنفس الإنسانية، والساحة الانفعالية منها تحديداً ضمن هذا السياق.
انتقد مونستيربرغ المدخل الفيزيولوجي في معالجة المظاهر السلوكية عند الفرد انطلاقاً من تعاليم الفلسفة الكانتية، وطرح مقولة القيم كبديل يجنب الباحث السيكولوجي الوقوع في معالجة النفس والنظر إليها كما ينظر إلى ظواهر الطبيعة
ويتفق ريكيرت ود. وينديلباند مع مونستيربرغ إلى حد بعيد في الموقف من المذهب الترابطي. فقوانين هذا المذهب، من وجهة نظرهم، لا تصلح لتقديم تفسير صحيح لكافة القضايا المطروحة على بساط البحث السيكولوجي. فهي تقف عاجزة أمام متابعة الارتقاء الاجتماعي وتأثيره على خصائص الشخصية.
ومن رؤية هيغلية إلى النفس أو(الروح) صاغ الفيلسوف الألماني ديلتي
(1833-1911م) مشروعه لتأسيس علمين للنفس "سيكولوجيتين" كرد فعل على النجاحات التي أحرزتها العلوم الطبيعية. ولقد سبقت الإشارة في مناسبة سابقة إلى أن علم النفس استطاع بفضل الأفكار والمناهج العلمية الطبيعية المتقدمة، أن يتجاوز النظرة الآلية لموضوعاته، ويستبدلها بأخرى تناسب طبيعة تلك الموضوعات. إلا أن تأثير ذلك لم يكن إيجابياً على بعض الباحثين والعلماء، ولا سيما ديلتي الذي كان متشبعاً بآراء هيغل حول "الروح الموضوعي". فقد أعلن في مقالة نشرها عام 1894 تحت عنوان "أفكار حول علم النفس الوصفي" عن عزمه على إنشاء مدرسة سيكولوجية تكون مهمتها إقامة علم نفس جديد خالٍ من عيوب علم النفس الرسمي" ونقائصه. وبما أن علم النفس "الرسمي" يدرس الظاهرة النفسية كما تُدرس الظاهرة الطبيعية، فإن على علم النفس المقترح أن يتخذ من "الروح الموضوعي" الذي يتجلى في الحالات النفسية(الانفعالات والعواطف والمشاعر) مادة لدراسته.
وعلى الرغم من أن ديلتي وأتباعه(إ. شبرانغر، ت. إريسمان، إ. أيوالد) لم يتمكنوا من نفي دور المنهج التجريبي في الدراسات النفسية، فإن أعمالهم جاءت خالية من كل ما يشير أو يوحي باستخدامه. وعلى العكس من ذلك فقد لجؤوا إلى اتباع سبل أخرى غير حسية مبنية أساساً على التأمل والاستبطان بحجة أنها الوسائل الوحيدة التي تحقق الغاية المتمثلة في "وصف" العالم الداخلي للفرد، وأن المعرفة الحسية التي توصلنا إليها التجربة هي ملك للعلوم الطبيعية وحدها.
وليس من الغرابة أن تتعرض آراء ديلتي إلى هجوم عنيف من جانب أنصار الفكر الترابطي والمتحمسين للمنهج التجريبي وتطبيقاته في الدراسات النفسية وفي مقدمة هؤلاء ابنغهاوس. فقد رفض فكرة "علم النفس الوصفي" بالشكل الذي عرضه ديلتي رفضاً قاطعاً، واعتبرها ضرباً من ضروب الوهم أو الخيال، ونفى أية إمكانية لإقامة هذا العلم، طالما أنه يغلب البديهيات والمسلمات، ويتجاوز أهم حلقات المنهج العلمي، وهي الفرضية، مع ما ترتبه على البحث من مهمات. كما اعترض بشدة على موقف ديلتي من جمع المعلومات المتعلقة بالحياة الواقعية عن طريق الإدراك الداخلي لكل ما يعتمل داخل الفرد ويشعر به بصورة مباشرة. فإجراء كهذا يعني، بالنسبة لابنغهاوس، إغفالاً لكل المحكات والمعايير والمقولات الموضوعية التي يفترض أن تكون جزءاً هاماً من مبادئ وأدوات النظرية العلمية عن الإنسان، والاكتفاء، عوض ذلك، بالحدس والاستبطان اللذين يعكسان النظرة الميتافيزيقية لموضوع البحث، ويعجزان عن تقديم نتائج ذات صبغة إيجابية وصحيحة باستثناء بعض الحالات النادرة.
ويشير ياروشيفسكي إلى الفكرة الإيجابية التي تضمنتها نظرية ديلتي، واعتمد عليها إ. شبرانغر(1882-1963م) وأ. ف. بفيندر(1870-1941م) وكروغر(1874-1948م) في صياغة نظرياتهم حول خصائص السلوك الإنساني. وتتجسد هذه الفكرة في الآثار الكبيرة التي تحدثها ثقافة المجتمع وقيمه الروحية في البنية النفسية للفرد.
وهذه الفكرة هي التي أوحت لشبرانغر بتقسيم البشر إلى النماذج أو الأنماط الستة التي تحدث عنها بإسهاب في كتابه "أشكال الحياة" المنشور عام 1914. وهذه الأنماط هي: النظري والاقتصادي والجمالي والاجتماعي والسياسي والديني.
إن تصور ديلتي وتلاميذه لعلاقة الفرد بالمجتمع هو تصور قاصر وعاجز عن الإحاطة بخطوط هذه العلاقة واتجاهاتها. ذلك لأنه لا يذهب بعيداً في تقصي الأسباب الفعلية التي تكمن وراء القيم الروحية وأشكال الثقافة الاجتماعية من ناحية، ولا يقيم أي وزن لتحليل عمليات التأثير الاجتماعي على مختلف جوانب الشخصية من ناحية ثانية. فليس من باب المبالغة أو العسف الحكم بأن دوركهايم قد خطا أكثر من خطوة وقدم آراء أكثر ايجابية وتقدماً بالمقارنة مع ديلتي وغيره من المفكرين الذين انطلقوا من القيم الثقافية باعتبارها الإطار الوحيد لتفسير النظام الاجتماعي ودوره في تشكل سمات الشخصية. وربما يصح الحكم ذاته لدى مقارنة اتجاه دوركهايم باتجاه آخر تناول، بدوره، الظواهر النفسية والاجتماعية، ولكن على أساس من وجود قوة عمياء تحركها وتطورها. وقد تزعم هذا الاتجاه ليبون(فرنسا) وماكدوغال(الولايات المتحدة الأمريكية).
فقد أولى عالم الاجتماع الفرنسي غ. ليبون(1841-1931م) جل اهتمامه نحو دراسة خصائص التجمعات البشرية ومرتسماتها على سلوك أعضائها. ولعله أراد بهذا الاهتمام أن يشارك مواطنيه مناقشاتهم وحواراتهم ويقترح حلوله بشأن المسألة المطروحة. ذلك ما يستشفه القارئ لدى اطلاعه على كتابه "علم نفس الجماهير" الذي عرض فيه ملاحظاته وأدلته على صورة حوادث ووقائع. ومما أبرزه في هذا العمل هو أن الغوغائية واللاإرادية واللاعقلانية ما هي إلا صفات مميزة لسلوك الحشد. وتبعاً لذلك وجد أن الحشد يسلب الفرد حريته وإرادته، ويعيده إلى حالة من البدائية يفقد فيها القدرة على المحاكمة والتفكير.
أما مكدوغال فقد اعتمد في تفسيره للسلوك الاجتماعي على الغريزة. حيث وجد أن الكائن البشري يولد وهو مزود بطاقة تقرر المدخرة العضوية سبل تفريغها وكيفية المحافظة على الاحتياطي منها. فالغريزة، بهذا المعنى، هي سر التنظيم النفسي المعقد، والمحرك الوحيد لكل نشاط معرفي أو وجداني يمارسه الإنسان.
إن ما يجمع ليبون ومكدوغال هو ابتعادهما عن المحددات الحقيقية للوعي. فقد عزلا الفرد والجماعة عن التراث الثقافي المتنامي، فتحول المجتمع إلى ما يشبه القطيع الحيواني الذي تحركه قوى عمياء. وصار الفرد مسيراً بفعل تلك القوى الداخلية(الغرائز عند مكدوغال) والخارجية(لا عقلانية الحشد أو الجمهور عند ليبون).
بوح الروح
ومهما يكن من أمر فإن كيفية تشكل النتاج الثقافي وعوامله مع ما يحمله من بعد نفسي تعتبر الموضوع الأول الذي حفز هؤلاء المؤرخين والعلماء إلى البحث في هذا الميدان الرحب. وقد ارتبطت بدايات تناوله بمحاولات كل من ويتنر وستينتال ولازاروس في ألمانيا، التي تكللت بالإعلان عن قيام "سيكولوجية الشعوب".
ويجد القارئ في المقالة الافتتاحية للعدد الأول من مجلة "دراسة مقارنة للغة" الذي صدر عام 1852 أول عرض للمبادئ والمفاهيم الرئيسية لهذا العلم. كما يجد شرحاً مفصلاً لها على صفحات مجلة "سيكولوجية الشعوب وعلم اللغة" التي تعاون ستينتال ولازاروس على إصدارها عام 1860*.
إن الفكرة المركزية التي ينطلق منها مؤسسو سيكولوجية الشعوب هي وجود اختلاف بين ثقافات شعوب الأرض وإن كل واحدة منها تعكس "روح الشعب" التي تقوم على اللغة والأساطير والعادات والتقاليد.
وبعد انتشار فلسفة كونت أقبل الباحثون على دراسة الظواهر النفسية وعلاقتها بثقافة المجتمع وهم مزودون، بدرجات متفاوتة، بمفاهيم تلك الفلسفة وأفكارها. فها هو سبنسر يقيم نظرته إلى المجتمع على أساس القانون العام للتطور، ويعرف المجتمع البشري في مؤلفيه "مبادئ علم الاجتماع" و"علم الاجتماع الوصفي" بأنه كائن حي نام. ويمر خلال نموه بمراحل متعددة تكون المرحلة اللاحقة منها أكثر تركيباً وأشد تعقيداً من سابقتها. ويعتقد بعض المؤرخين أن سبنسر في نظرته هذه يتفق مع الأنتروبولوجي أ. ب. تايلور في موقفه من الحضارات، بل ويدعم استنتاجاته بشأن السمة المركزية لسلوك الإنسان البدائي المتمثلة في الأحيائيةِ Animisme حيث وجد تايلور في كتابه "الحضارة البدائية" أن الإنسان القديم يخلع على كل ما حوله صفة الحياة، ويتعامل مع الأشياء الخارجية كما لو كانت "تحس وتفكر". ولهذا فقد كان يسعى لكسب ودّها واستدرار عطفها وتجنب غضبها ما أمكنه ذلك، لتحقيق قدر من الاستقرار والطمأنينة. واعتماداً على ملاحظاته وقراءاته استنتج أن تجليات السلوك الأحيائي لم تنته مع نهاية الإنسان البدائي، وأن بعضاً منها بقي محتفظاً بدوره في المعتقدات الدينية وبعض التقاليد والأعراف الاجتماعية(فلوجل، 1979، 99).
وزيادة على هذا الاتجاه الأنتروبولوجي ثمة اتجاه آخر ارتبطت دراسة أصحابه لسلوك الفرد وعلاقته بالمؤثرات الاجتماعية، بتطور علم الأعصاب في فرنسا حتى بداية القرن العشرين. فمدرسة نانسي بزعامة ليبو وبرنغهايم، ركزت في تفسيرها ومعالجتها للأمراض الهستيرية على الجانب النفسي والاجتماعي، أي على قابلية الشخص للإيحاء سواء أكان هذا الإيحاء ذاتياً أم صادراً عن إنسان آخر، مع الإشارة إلى أن ذلك يتم بصورة لا واعية. ولما كانت أعراض التنويم الاصطناعي شبيهة بأعراض الهستيريا، فإن التنويم في رأي أنصار هذه المدرسة هو حالة خاصة من حالات الإيحاء الطبيعي.
ولقد شغلت هذه المسألة بما تحتويه من مقدمات وفرضيات وتصورات حول الشخصية ودوافعها وساحاتها(الوعي، اللاوعي) والعوامل المحددة لها(العامل الاجتماعي والعامل العضوي..) حيّزاً كبيراً في أعمال علماء فرنسيين آخرين، أمثال جانيه وبينيه وريبو. ومن المؤكد أن تأثير الحلول والتفسيرات التي قدمها هؤلاء لم يقتصر على المهتمين بالجانب النفسي أو الجانب العضوي من الشخصية فحسب، بل امتد إلى أبعد من ذلك ليطال المهتمين بجانبها الاجتماعي أيضاً. فليس من المستبعد أن تكون تلك الحلول والتفسيرات، ومن بينها قانون الإيحاء، هي التي أوحت لعالم الاجتماع الفرنسي غابرييل تارد(1843-1904م) بطرح مبدأ التقليد ليفسر به مختلف ضروب العلاقات الاجتماعية وسلوك الأفراد. ولإثبات فعالية هذا المبدأ وصدقه استعان تارد في كتابه "قوانين التقليد"(1893) بعشرات الأمثلة والشواهد التي تظهر كيف أن الفرد يتمثل القيم والمعايير الاجتماعية والأخلاقية عن طريق تقليده للآخرين، مثلما تفعل الجماعات والمجتمعات حين تنتقل العادات والتقاليد والصرعات من جماعة إلى جماعة ثانية، ومن مجتمع إلى آخر. فالضعيف منها(فرداً كان أم جماعة أم مجتمعاً) يقلد القوي، والمهزوم يقلد المنتصر، والمتخلف يقلد المتقدم. وقد عدّ تارد التقليد مبدأً أساسياً وقانوناً عاماً يسري على مختلف مستويات التفاعل الاجتماعي. وفي ضوء ذلك يقرر أن الأفكار والمشاعر التي يستوحيها الفرد من محيطه هي التي تحدد نشاطه النفسي.
ولعلنا نجد في اتجاه العلاقة بين ما هو داخل الفرد وبين ما هو خارجه على هذا النحو الذي حدده تارد تأكيداً على ضرورة الابتعاد عن التفسيرات العضوية للسلوك الإنساني، أو حرصاً على فصل ما هو اجتماعي عما هو عضوي في هذا السلوك.
ويواصل تارد معالجته لهذه القضية بصورة تفصيلية في كتابه الثاني "المنطق الاجتماعي"(1895). فيجد أن بمقدور الإنسان القيام بكثير من الأفعال والنشاطات دون أن يقتدي بأحد أو يقلد غيره، مثلما هو الحال بالنسبة للأكل والشرب والمشي والانفعال وغير ذلك مما يعزى إلى الجانب الفيزيولوجي من نشاط الإنسان. غير أن الواقع يبين أنه عندما يقوم الفرد بتلك النشاطات الحيوية، إنما يسلك مسلكاً محدداً ويستخدم أسلوباً معيناً. فهو، أثناء تناوله لطعامه وشرابه، يراعي قواعد معروفة ويستعين بأدوات محددة. كما أنه يعبر عن فرحه أو حزنه بأساليب مألوفة. وتؤلف تلك القواعد والأدوات والأساليب الجانب الاجتماعي من سلوك الفرد.
ولعل بوسع القارئ أن يدرك عبر هذا العرض المبسط والموجز لنظرية التقليد إيماءات صاحبها وإشاراته إلى ما يمكن أن ندعوه بالوراثة الاجتماعية. وبعد تارد جاء ج. بلدوين(1861-1934م) أحد مؤسسي علم النفس الاجتماعي ودأب على تطوير هذه الفكرة. ولقد قادته دراساته إلى القول بوجود نوعين من الوراثة: الوراثة الطبيعية والوراثة الاجتماعية. ويقصد بالوراثة الاجتماعية عملية انتقال الثقافة الاجتماعية مبنىً ومعنىً عبر الأجيال. وكيما يحدث هذا لا بد وأن يولد الإنسان وهو مزود بالقدرة على التعلم. وتتجسد هذه القدرة في توافر الشروط العضوية(الحسية والحركية) التي تمكن الطفل من محاكاة أفعال الآخرين وتصرفاتهم، وبالتالي تمثل العادات والقيم وكل ما تشتمل عليه خبرة المجتمع. فالطفل، منذ لحظة ولادته، يكون محاطاً بشبكة من "الإيحاءات الاجتماعية". ولا يتحقق نموه إلا بفضل الاستجابات التي تحاكي تصرفات الآخرين وسلوكياتهم(بلدوين، 1902، 158).
وهكذا فإن اهتمام تارد وبلدوين انصب على معرفة شروط وعوامل تشكل الشخصية ضمن إطار الثقافة الاجتماعية، وتحديد آليات استيعاب الفرد لعناصر تلك الثقافة.
وإذا كان طرحهما لهذه المسائل بالصيغة المذكورة والآراء التي أدليا بها حولها قد شكلت تياراً حقق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قدراً من النجاح، فإن هناك تياراً آخر ظهر في نفس الفترة، ولعب دوراً محسوساً في توجيه الأنظار نحو أهمية حل تلك المسائل وفق قواعد وقوانين جديدة. ولقد تزعم هذا التيار عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم(1858-1917م).
حدد دوركهايم المهمة المركزية التي ينبغي على الباحث أن يضطلع بها في تخليص الدراسة الاجتماعية من الطابع السيكولوجي الذي اتسمت به في حالات عديدة، ووجد أنها تتمثل في التركيز على الظواهر الاجتماعية وتحليل انعكاساتها في وعي الجماعة. وقد بنى دوركهايم اقتراحه هذا على أساس تصور جديد للعلاقة بين الظاهرة الاجتماعية والظاهرة النفسية، بين المجتمع والشخصية، الذي بسطه في مؤلفاته، وخصص له مساحة كبيرة في "قواعد المنهج السوسيولوجي"(1894) و"التصورات الفردية والجماعية"(1898).
قابل دوركهايم الوعي الاجتماعي بالوعي الفردي، وشدد على أسبقية الأول، الذي يشتمل، حسب رأيه، على تجليات الثقافة الاجتماعية من عادات وتقاليد وأعراف ومعتقدات... الخ. ولما كان وجودها على شكل تصورات جماعية، فإنها تعتبر وقائع موضوعية تتشكل في المجتمع وتتطور بتطوره، دون تدخل من جانب الفرد وبمعزل عن وعيه وإرادته.
لقد حمل هذا المدخل في طياته معاني ودلالات جديدة ذات قيمة علمية على صعيد التقريب من القضايا الاجتماعية المطروحة وفهمها. فهو، بالإضافة إلى كونه رداً على المذهب المثالي الذاتي، يقترب من حل معادلتي تكامل الفيزيولوجي والاجتماعي والنفسي وتفاضل الفردي والاجتماعي. وهذا ما يتجلى في انطلاقة دوركهايم من الشروط الاجتماعية والتاريخية للثقافة. بيد أن تلك النقطة الإيجابية يجب أن لا تحجب عنا رؤية الثغرة المنهجية التي بنى عليها دوركهايم تفسيراته وأحكامه. فقد نظر إلى الثقافة الاجتماعية على أنها العامل المحدد والعلة الأولى لكل ما يصدر عن الجماعة والفرد. ومن زاوية النظر هذه بدت "التصورات الجماعية" وكأنها كيان مستقل تدين له الوقائع الاجتماعية والنفسية جميعاً بوجودها ويناط به مصيرها. بينما تدلل وقائع الحياة الاجتماعية أن الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي، وأن "التصورات الجماعية" شأنها شأن أي نتاج أيديولوجي، ما هي إلا انعكاس للمستوى الاقتصادي والمادي للمجتمع.
وإلى جانب تلك النظريات الاجتماعية التي راعى فيها تارد ودوركهايم "التقاليد الأيديولوجية" الفرنسية لدى دراستهما للظواهر الإنسانية، كان هناك مفكرون ألمان يعالجون نفس الظواهر انطلاقاً من إرثهم الفكري الألماني. فلقد ترك عمانويل كانت وويلهلم هيغل منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر بصماتهما البارزة على ذلك الإرث. ولاقت فلسفة كل منهما صدى إيجابياً لدى المفكرين والباحثين داخل ألمانيا وخارجها. فانكب هؤلاء على تطويرها في اتجاهات متعددة. وتجيء دراسة هـ. مونستيربرغ وو. ديلتي وهـ. ريكيرت للنفس الإنسانية، والساحة الانفعالية منها تحديداً ضمن هذا السياق.
انتقد مونستيربرغ المدخل الفيزيولوجي في معالجة المظاهر السلوكية عند الفرد انطلاقاً من تعاليم الفلسفة الكانتية، وطرح مقولة القيم كبديل يجنب الباحث السيكولوجي الوقوع في معالجة النفس والنظر إليها كما ينظر إلى ظواهر الطبيعة
ويتفق ريكيرت ود. وينديلباند مع مونستيربرغ إلى حد بعيد في الموقف من المذهب الترابطي. فقوانين هذا المذهب، من وجهة نظرهم، لا تصلح لتقديم تفسير صحيح لكافة القضايا المطروحة على بساط البحث السيكولوجي. فهي تقف عاجزة أمام متابعة الارتقاء الاجتماعي وتأثيره على خصائص الشخصية.
ومن رؤية هيغلية إلى النفس أو(الروح) صاغ الفيلسوف الألماني ديلتي
(1833-1911م) مشروعه لتأسيس علمين للنفس "سيكولوجيتين" كرد فعل على النجاحات التي أحرزتها العلوم الطبيعية. ولقد سبقت الإشارة في مناسبة سابقة إلى أن علم النفس استطاع بفضل الأفكار والمناهج العلمية الطبيعية المتقدمة، أن يتجاوز النظرة الآلية لموضوعاته، ويستبدلها بأخرى تناسب طبيعة تلك الموضوعات. إلا أن تأثير ذلك لم يكن إيجابياً على بعض الباحثين والعلماء، ولا سيما ديلتي الذي كان متشبعاً بآراء هيغل حول "الروح الموضوعي". فقد أعلن في مقالة نشرها عام 1894 تحت عنوان "أفكار حول علم النفس الوصفي" عن عزمه على إنشاء مدرسة سيكولوجية تكون مهمتها إقامة علم نفس جديد خالٍ من عيوب علم النفس الرسمي" ونقائصه. وبما أن علم النفس "الرسمي" يدرس الظاهرة النفسية كما تُدرس الظاهرة الطبيعية، فإن على علم النفس المقترح أن يتخذ من "الروح الموضوعي" الذي يتجلى في الحالات النفسية(الانفعالات والعواطف والمشاعر) مادة لدراسته.
وعلى الرغم من أن ديلتي وأتباعه(إ. شبرانغر، ت. إريسمان، إ. أيوالد) لم يتمكنوا من نفي دور المنهج التجريبي في الدراسات النفسية، فإن أعمالهم جاءت خالية من كل ما يشير أو يوحي باستخدامه. وعلى العكس من ذلك فقد لجؤوا إلى اتباع سبل أخرى غير حسية مبنية أساساً على التأمل والاستبطان بحجة أنها الوسائل الوحيدة التي تحقق الغاية المتمثلة في "وصف" العالم الداخلي للفرد، وأن المعرفة الحسية التي توصلنا إليها التجربة هي ملك للعلوم الطبيعية وحدها.
وليس من الغرابة أن تتعرض آراء ديلتي إلى هجوم عنيف من جانب أنصار الفكر الترابطي والمتحمسين للمنهج التجريبي وتطبيقاته في الدراسات النفسية وفي مقدمة هؤلاء ابنغهاوس. فقد رفض فكرة "علم النفس الوصفي" بالشكل الذي عرضه ديلتي رفضاً قاطعاً، واعتبرها ضرباً من ضروب الوهم أو الخيال، ونفى أية إمكانية لإقامة هذا العلم، طالما أنه يغلب البديهيات والمسلمات، ويتجاوز أهم حلقات المنهج العلمي، وهي الفرضية، مع ما ترتبه على البحث من مهمات. كما اعترض بشدة على موقف ديلتي من جمع المعلومات المتعلقة بالحياة الواقعية عن طريق الإدراك الداخلي لكل ما يعتمل داخل الفرد ويشعر به بصورة مباشرة. فإجراء كهذا يعني، بالنسبة لابنغهاوس، إغفالاً لكل المحكات والمعايير والمقولات الموضوعية التي يفترض أن تكون جزءاً هاماً من مبادئ وأدوات النظرية العلمية عن الإنسان، والاكتفاء، عوض ذلك، بالحدس والاستبطان اللذين يعكسان النظرة الميتافيزيقية لموضوع البحث، ويعجزان عن تقديم نتائج ذات صبغة إيجابية وصحيحة باستثناء بعض الحالات النادرة.
ويشير ياروشيفسكي إلى الفكرة الإيجابية التي تضمنتها نظرية ديلتي، واعتمد عليها إ. شبرانغر(1882-1963م) وأ. ف. بفيندر(1870-1941م) وكروغر(1874-1948م) في صياغة نظرياتهم حول خصائص السلوك الإنساني. وتتجسد هذه الفكرة في الآثار الكبيرة التي تحدثها ثقافة المجتمع وقيمه الروحية في البنية النفسية للفرد.
وهذه الفكرة هي التي أوحت لشبرانغر بتقسيم البشر إلى النماذج أو الأنماط الستة التي تحدث عنها بإسهاب في كتابه "أشكال الحياة" المنشور عام 1914. وهذه الأنماط هي: النظري والاقتصادي والجمالي والاجتماعي والسياسي والديني.
إن تصور ديلتي وتلاميذه لعلاقة الفرد بالمجتمع هو تصور قاصر وعاجز عن الإحاطة بخطوط هذه العلاقة واتجاهاتها. ذلك لأنه لا يذهب بعيداً في تقصي الأسباب الفعلية التي تكمن وراء القيم الروحية وأشكال الثقافة الاجتماعية من ناحية، ولا يقيم أي وزن لتحليل عمليات التأثير الاجتماعي على مختلف جوانب الشخصية من ناحية ثانية. فليس من باب المبالغة أو العسف الحكم بأن دوركهايم قد خطا أكثر من خطوة وقدم آراء أكثر ايجابية وتقدماً بالمقارنة مع ديلتي وغيره من المفكرين الذين انطلقوا من القيم الثقافية باعتبارها الإطار الوحيد لتفسير النظام الاجتماعي ودوره في تشكل سمات الشخصية. وربما يصح الحكم ذاته لدى مقارنة اتجاه دوركهايم باتجاه آخر تناول، بدوره، الظواهر النفسية والاجتماعية، ولكن على أساس من وجود قوة عمياء تحركها وتطورها. وقد تزعم هذا الاتجاه ليبون(فرنسا) وماكدوغال(الولايات المتحدة الأمريكية).
فقد أولى عالم الاجتماع الفرنسي غ. ليبون(1841-1931م) جل اهتمامه نحو دراسة خصائص التجمعات البشرية ومرتسماتها على سلوك أعضائها. ولعله أراد بهذا الاهتمام أن يشارك مواطنيه مناقشاتهم وحواراتهم ويقترح حلوله بشأن المسألة المطروحة. ذلك ما يستشفه القارئ لدى اطلاعه على كتابه "علم نفس الجماهير" الذي عرض فيه ملاحظاته وأدلته على صورة حوادث ووقائع. ومما أبرزه في هذا العمل هو أن الغوغائية واللاإرادية واللاعقلانية ما هي إلا صفات مميزة لسلوك الحشد. وتبعاً لذلك وجد أن الحشد يسلب الفرد حريته وإرادته، ويعيده إلى حالة من البدائية يفقد فيها القدرة على المحاكمة والتفكير.
أما مكدوغال فقد اعتمد في تفسيره للسلوك الاجتماعي على الغريزة. حيث وجد أن الكائن البشري يولد وهو مزود بطاقة تقرر المدخرة العضوية سبل تفريغها وكيفية المحافظة على الاحتياطي منها. فالغريزة، بهذا المعنى، هي سر التنظيم النفسي المعقد، والمحرك الوحيد لكل نشاط معرفي أو وجداني يمارسه الإنسان.
إن ما يجمع ليبون ومكدوغال هو ابتعادهما عن المحددات الحقيقية للوعي. فقد عزلا الفرد والجماعة عن التراث الثقافي المتنامي، فتحول المجتمع إلى ما يشبه القطيع الحيواني الذي تحركه قوى عمياء. وصار الفرد مسيراً بفعل تلك القوى الداخلية(الغرائز عند مكدوغال) والخارجية(لا عقلانية الحشد أو الجمهور عند ليبون).
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح