*** الاسلام والمعرفه البشريه - الجزء السادس
القرآن ومنهج التحليل النفسي psychoanalysis:
إن رُوّاد مدرسة التحليل النفسي هم اولُّ من أشار بوضوح إلى وجود منطقة اللاّوعي في الذهن.، وأكّدوا أن الرغبات والعواطف المدفونة في منطقة ما من الدماغ تؤثّر بصورة مَلموسة على سلوك الشخص بالرغم من رغبته العميقة في عدم إعطائها أية فرصة للظهور. وكانت أول محاولة ناجحة في هذا المضمار ما قام به يوزيف بروير في عام 1882 عندما قام بعلاج إمراة تُعاني من مرض عقلي بمساعدتها، تحت تأثير التنويم المغناطيسي، على إستحضار ذكريات مرتبطة مع إبتداء أعراض مرضها ثم أصبحت هذه الذكريات مكبوتة في اللاّوعي. إن هذا العلاج الذي ينطوي على تحرير الكَبْت قد أثّر تأثيراً بالغاً على سيجموند فرويد الذي إعتبر أنه يعطي طريقة لإستكشاف المخاوف والدوافع اللاّواعية التي كان يُخامِره الشك بأنها تختبئ وراء مرض العُصاب neurosis. وكانت هناك صُعوبات في تطبيق هذه الطريقة لإن قِسماً من المرضى كانت لديهم مناعة ضد التنويم المغناطيسي، مما اضْطُّر فرويد إلى إتباع طريقة أخرى أطلق عليها إسم التحليل النفسي psychoanalysis. وكما ألمحنا سابقاً فإن فرويد إكتشف أن المخاوف والرغبات وعواطف أخرى تُسَبِّب مشاكل سلوكية، لأنها مدفونة في اللاوعي، من الممكن أن يَتلمَّسها مُعالج حاذِق في التداعي الحر لأفكار المريض وفي أحلامه. ونحن نجد التَشابُه فيما ذهب إليه منهج التحليل النفسي وبين القرآن حين يصف القرآن في آيات عديدة المرض النفسي بأنه مرض في القلب. وكما يقول الأطبّاء النفسانيون فإن القلب، من بين جميع أعضاء البدن، هو العضو الأكثر وضوحاً في قابلية تأثّره بالمؤثّرات العاطفية، ويصفونه بأنه عضو الَمحطَّة الأخيرة للقلق end-organ of anxiety . وسوف نبيّن في وقت لاحق أن الإشارة إلى القلب في القرآن يُقصد منها العقل والإحساس جميعاً أي الكيان الإنساني بأكمله. {وإذا دُعوا إلى اللهِ ورَسولِهِ ليحكُمَ بَيْنَهُم إذا فَريقٌ مِنهُم مُعرِضون. وإنْ يَكُن لَهُم ُ الحَقُّ يأتوا إليهِ مُذْعنينَ. أفي قُلُوبِهِم مَرضٌ أمْ إرتابوا أمْ يَخافونَ أنْ يَحيفَ اللهُ عَلَيْهم ورَسولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظالِمونَ} (النُور-48-50)، وفي آية أخرى نقرأ: { أمْ حَسِبَ الّذينَ في قُلُوبهِم مَرَضٌ أنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أضْغانَهُم} (مُحَمَّد-29). ويُطلق القرآن على الأشخاص ذوي النفوس الصحية الطبيعية أصحاب "القَلْب السَليم" كما جاء في الآيات:{ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنونَ إلاّ مَنْ أتى اللهَ بِقَلْبٍ سَليمٍ } (الشُعَراء-88-89). كما يُطلق القرآن على النفس التي شفيتْ من مرضها بإنَّ صاحبها أصبح من ذوي القلوب المُنيبة والتي رجعت إلى طريق النفس الصحية الطبيعية والتحقت بذوي القلوب السليمة: { هَذا مَا تُوعَدونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَحْمنَ بالغَيْبِ وجاءَ بِقَلْبٍ مُنيبٍ} (ق-32-33)، وكذلك نقرأ في آية أخرى { وأنَيبُوا إلى رَبِّكُم وأسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يأتِيَكُمُ العَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرونَ} (الزُمَر-54).، وفي آية أخرى:{ أَفَلَم يَرَوْا إلى مابَيْنَ أيْديهِم وما خَلْفَهُم من السَماءِ والأرْضِ ، إنْ نَشَاْ نَخْسِفْ بِهُمُ الأرضَ أو نُسْقِطْ عَلَيهِم كِسَفاً مِنَ السَماء ، إنَّ في ذلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنيبٍ} (سَبَأ-9)، إلى غير ذلك من الآيات. وما يقوله التحليل النفسي عن أهمية الجِنس والعلاقات بين المرأة و الرجل فإن الإسلام عموماً والقرآن خصوصاً يتعامل معها كمسألة طبيعية جداً، ولذلك فهو لا يُقرُّ الرهبانيّة :{ ثُمَّ قَفيَّنا على آثارِهِم بِرُسُلِنا وقَفيَّنا بِعيسى بنِ مَريَمَ وآتَيْناهُ الأنْجيلَ وجَعَلنا في قُلُوبِ الّذينَ اتَّبعوهُ رَأفَةً ورَحْمَةً ورَهبانيّة ابْتَدَعوها ما كَتَبناها عَلَيْهِم إلاّ إبتِغاءَ رِضوانِ اللهِ فما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها..} (الحَديد-27). وواضح من هذه الآية أن "الرهبانيّة" لم "يكتبها" الله على أتباع السيّد المسيح (ع) أي لم يأمرهم بها أساساً وعندما تمَّ قبول ذلك منهم فإنهم لم يرعوها حق رعايتها لأنها فوق الطاقة البشرية ولأنهم كلّفوا أنفسهم ما لاينسجم مع الطبيعة التي خلقها الله في الكائنات الحية ومنها الإنسان.ويقول القرآن عن العلاقة الجنسية :{ويَسْألونَكَ عَنِ المَحيضِ قُلْ هُوَ أذىً فاعْتَزِلوا النِساءَ في المَحيضِ ولا تَقْرَبوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فإذا تَطَهَّرنَ فأتُوهُنَّ مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللهُ، إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَوّابينَ و يُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ. نِساؤكُم حَرْثٌ لَكُم فأتوا حَرْثَكُم أنَّى شِئتُم...} (البَقَرَة-222-223). وعن ما يحلُّ في ليلة الصيام فإنَّ الجُماع هو أحد المُباحات: { أُحِلَّ لَكُم لَيْلَةَ الصِيامِ الرَفَثُ إلى نِسائِكُم هُنَّ لِباسٌ لَكُم وأنْتُم لِباسٌ لَهُنَّ...} (البَقَرَة-187). و"الرَفَثُ" لُغةً يعني المُداعبة والجُماع. وعن الواقعية التي يتعامل بها الإسلام مع العلاقة الجنسية والعاطفية بين الرجل والمرأة ما جاء في حديث الرسول (ص): "الزواجُ نِصفُ الدين". إضافة إلى ذلك فإن الإسلام يحثُّ الأهل والشباب والشابّات على الزواج المُبكّر لإشباع الغريزة الجنسية وتكوين العائلة وبذلك يمنع الكبت الجنسي من جهة ويمنع من الوقوع في علاقات غير مدروسة تكون نتائجها وبالاً على المرأة أولاً وعلى الأطفال ثانياً. ويصف القرآن ببلاغة وواقعية نتائج العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة حين يقول:{ هُوَ الّذي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنها زَوْجَها لِيَسكُنَ إلَيْها، فَلَمّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفيفَاً فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ أتَيْتَنا صالِحاً لَنَكونَنَّ مِنَ الشاكِرينَ} (الأعْراف-189)، وواضح أن كلمة "تَغَشَّاها" هي تعبير بليغ ومُهذّب لكلمة "جامَعها". وهكذا نرى أن القرآن والعقيدة الإسلامية لا يَتردَّدان في التعامل مع الجنس والعلاقات الجنسية بواقعية كاملة ومن يتربّى على الثقافة الجنسية القرآنية ينمو لكي يكون شخصاً سوّياً تماماً، وليس كما تفعل الكنيسة المسيحية في محاولة إهمال هذه الغريزة الطبيعية فتكون النتيجة كَبْتاً وحِرماناً عند أتباعها قد يؤدّي كما هو في عصرنا الحاضر إلى الأنفلات واللاّمسؤولية الجنسية عند الشباب، ووضعاً نفسياً مُتأزّماً عند رُهبانها تنطلق من ثناياه الفضائح بل التعدّيات الجنسية التي يندى لها الجبين. وبهذا التناول لواقِع الفِطرة والحياة فإن القرآن والعقيدة الإسلامية لا تدعو أبداً إلى التنكُّر إلى الطاقة البدائية أو ما أطلق عليه فرويد الليبيدو أو ال id وإنما دعا إلى تهذيبها وقيادتها في قنوات لا تتعارض ومتطلبات العيش الأخرى: أي إلى إنماء ضمير وسريرة لا تنطوي على عواطف و دوافع مكبوتة. وفي منطق التحليل النفسي فإن الُمحصّلة من ذلك تكون لبيدو وأنا ego وأنا أعلى super-egoمُتسالمة و مُتصالحة في الفرد، وليست في عِراك مع بعضها تتسبَّب من ورائه الأمراض النفسية و العقلية.
القرآن وطريقة التحليل التعامُلي transactional analysis:
كما مرَّ بنا في أعلاه فإن هذه الطريقة في العلاج النفسي تُعطي أهمية كُبرى لتأثير الوالدين أو من بحُكمهما على تشكيل مشاعر وأحاسيس الطفل في حياته الباكرة وتبقى معه عند البلوغ وربما إلى نهاية الحياة. وقد يحصل أن بعض الأفراد يستطيعون أن يتخلَّصوا من هذه التأثيرات، ولكن الغالبية من الناس تبقى تحت هذا التأثير الحاصل في عهد الطفولة المُبكِّر . وما يُسميه أريك بيرن مؤسس هذه الطريقة بالخُطَّة scriptالذي إكتسبه الطفل بتأثير الوالدين أو أحدهما يمكن أن يجعل الفرد مدفوعاً driven أو أن يكون مقموعاً ridden ولكنه في الحالتين لا يسمح بنمو شخص حقيقي real person. يقول بيرن:" إن الطفل هو حبيس والديه: إنه يُصدّق ويفعل أي شيء يُمكن أن يُكسبه موافقتهما وحُبَّهما. وفي نفس الوقت فإنه يتفادى ويصدّ عن أية أفكار أو تصُّرفات تُسبّب غضب والديه وبالتالي كراهيتهما وعقابهما. إن الطفل، خُصوصاً بين سن السنتين إلى ست سنوات، يعرف أنه بدون حماية والديه وحُبِّهما ( أو أولياء أمره) فإنه لا يستطيع البقاء على قيد الحياة. فإذا أصبح الطفل مُغيّراً او مُعدَّلاً adaptedفإنه سوف ينمو ليُصبح شخصاً بالغاً غير طبيعي، أي إنساناً مُستعبداً. إنه سيتصرف، عندما يصبح بالغاً وربما طيلة حياته، كما أُجبر على أن يشعر ويفكر ويسلك ويتكلم عندما "قَوْلَبَهُ" أبواه tailored. ومثل هكذا إنسان لا يستطيع أن يُمارس الحياة "الطبيعية"التي يستطيع أن يتذوقها الإنسان الحر. إنَّ الإنسان الحر هو مُستقل ذاتيّاً ولهذا فإنه سوف يقوم على تلبية حاجاته بأفضل طريقة مُتاحة له: إنه قادر على أن ينظر إلى الأشياء و الإمكانيات التي تزخر بها الحياة بدون هلع أو رهبة. إن "إستمرارية" الصَفاء والسلام عند الإنسان الحر تمكّنه من أن ينظر إلى الأشياء والأمور بصورة موضوعية وتمعُّن ويخرج بأسنتاجات مُتوازنة يسير على هديها في التعامل مع الحياة: إنه يتكلم و يشعر و يتصرف بما يُلائم استنتاجاته العقلية الموضوعية غير المُتعجّلة. أما الشخص "المُستعبَد" فإن استنتاجاته "العقلية" مجهّزة له مُسبّقاً : بواسطة انطباعاته الطفولية وقراراته المبكرة التي طابقتْ تصوّره عن رغبات والديه. إنه يتعامل مع جميع المواقف المُستجِدّة بطريقة يجب أن تتواءم مع ما يعتقد أن والديه يريدانه أن يُمارس حياته من خلالها."
وإذا ألقينا نظرة على القرآن فإننا نجد إشارات واضحة إلى التأثير الكبير والأثر العميق الذي يمكن أن يتركه الوالدان على الطفل ويستمر معه طيلة حياته: {وإذا قيلَ لَهُمُ أتَّبِعوا ما أنْزَلَ اللهُ قالوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ، أَوَ لَو كانَ آباؤُهُم لا يَعقِلونَ شَيئاً ولا يَهتَدونَ} (البَقَرَة-170). وفي آية أخرى نقرأ: {وإذا قيلَ لَهُم تَعالَوْا إلى ما أَنْزَلَ اللهُ وإلى الرَسُولِ قالوا حَسْبُنا ما وَجَدنا عَلَيْهِ آباءَنا، أوَ لَو كانَ آباؤُهُم لا يَعْلَمونَ شيئاً ولا يَهتَدونَ} (المائِدة-104). وفي آية أخرى يقول القرآن: { وَكَذلِكَ ما أرسَلنا مِن قَبلِكَ في قَريَةٍ مِن نَذيرٍ إلاّ قالَ مُترَفوها إنَّا وَجَدنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهم مُقتَدونَ} (الزُخرُف-23). وواضح من هذه الآيات إن الذين لا يريدون أن يُصدّقوا الأنبياء لا يحتجّون بما تراه عقولهم وأفكارهم في اللحظة والمكان الذي يناقشهم فيه الأنبياء، وإنما يَحتجُّون بما أملاه عليهم آباؤهم. ألا يتطابق هذا مع ما تقوله مدرسة التحليل التعاملي من أن الطفل المُعدّل أو المُغيّر adaptedينمو ليصبح شخصاً بالغاً "مُستعَبداً"؟ ولا بأس من إعادة ما يقوله أريك بيرن مؤسس هذه الطريقة عندما يكتب : أما الشخص "المُستعَبد" فإن استنتاجاته "العقلية" مجهّزة له مُسبّقاً: بواسطة انطباعاته الطفولية وقراراته المبكرة التي طابقتْ تصوّره عن رغبات والديه. إنه يتعامل مع جميع المواقف المُستجِدّة بطريقة يجب أن تتواءم مع ما يعتقد أن والديه يريدانه أن يُمارس حياته من خلالها." ومثل هذا الشخص لا يُعتبر شخصاً حقيقياً في عُرف هذه الطريقة والقرآن كذلك لا يعتبر مثل هذا الشخص إنساناً سويّاً: { أَمْ تَحسَبُ أنَّ أَكثَرَهُم يَسمَعونَ أو يَعْقِلُونَ، إنْ هُم إلاّ كَالأنْعامِ بَلْ هَم أضَلُّ سَبيلاً} (الفُرقان-44). ففي العُرف القرآني فإن الإنسان الذي يصل حدَّ البلوغ ويبقى أسيراً لأفكار ومُعتقدات والديه التي لا تتلائم مع الطبيعة الحرة يخرج من عِداد البشر ويُصبح من الناحية الموضوعية من صنف "الأنعام" أي الكائنات غير العاقلة أو أكثر ضلالاً منها، لأن "الأنعام" لديها غريزتها التي تنفعها في طلب معاشها ، ولكن الإنسان بفقده لقائد فطرته، أي العقل، يصبح بلا دليل وضائعاً تماماً ولا يمكن أن ينطبق عليه تعريف "الإنسان الطبيعي." ويصف القرآن مثل هؤلاء الأشخاص في آية أخرى فيقول:{ وَإنْ تَدعوهُم إلى الهُدى لا يَسمَعوا وتَراهُم يَنظُرونَ إلَيْكَ وهُم لا يُبصرونَ} (الأعْراف-198). وهؤلاء الناس إذا لم يُصلحوا حالهم ويستردوا عقولهم فإنهم يكونون من أصحاب النار:{ وقالُوا لَو كُنَّا نَسمَعُ أو نَعقِلُ ما كُنَّا في أصحابِ السَعيرِ} (المُلْك-10). ولهذا فإن القرآن رغم حثِّه الإنسان على معاملة والديه بمنتهى اللطف والإحترام فإنه يضع حدوداً لطاعتهما تقف عند حدّ طلب الوالدين الشرك بالله. وفي تعبيرنا المُعاصر فإن الشرك بالله هو إطاعة بشر آخرين في تبديل الطبيعة البشرية أو الفطرة و إنتاج ما تُطلق عليه مدرسة التحليل التعاملي الطفل "المُعدّل" أو المُغيّر" الذي ينمو ليُصبح إنساناً بالغاً "مُستعَبداً". ولننظر مثلاً إلى الآية التالية:{ وَوَصَّينا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وإنْ جاهَداكَ لِتُشرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بهِ عِلمٌ فلا تُطِعهُما إلّيَّ مَرجِعُكُم فَأُنَبِّؤكُم بِما كُنتُم تَعمَلون} العَنكبوت-. وإذن فإن طاعة الوالدين واجبة إلا في حالة الشرك بالله أي الإعتقاد بإن ما خلق الله في الإنسان يمكن أن يُعدّل أو يُبدّل بناء على رغبة الوالدين أو أية عوامل أخرى. ويعود القرآن في آية أخرى إلى ذكر حدود طاعة الوالدين فيقول:{ وَوَصَيَّنا الإنسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهنَاً على وَهْنٍ وَ فِصالُهُ في عَامَيْنِ أن اُشكُر لي ولِوالِدَيْكَ إلَيَّ المَصيرُ. وإنْ جاهَداكَ عَلى أنْ تُشرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلا تُطِعهُما وصاحِبْهُما في الدُنيا مَعروفاً...} (لُقمان-14-15). إذن فإن طاعة الوالدين واجبة في حدود ما تسمح به قوانين الفطرة والعقل، أما إذا أراد الوالدان أو أحدهما أن يجعلا من رغباتهما الضيقة المبنية على الجهل بقوانين الكون ونواميسه وطبيعة النفس البشرية فلا طاعة لهما على الإنسان خصوصاً الإنسان البالغ العاقل الذي يُريد أن يعيش حياته حراً مستقلاً غير مُستعبد ولامُرتهباً. وقد أوردنا سابقاً قول الرسول (ص) عن التأثير العميق للوالدين على سلوك الإنسان ومصيره حين يحدثنا بقوله:" يُولَدُ الإنسانُ على الفِطرةِ مُسلماً ولكنَّ أبَوَيهِ يُهَوِّدانِهِ أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه." وهذا يعني أن الطفل هو فعلاً "حبيس" والديه وأنَّهما يستطيعان، إذا أصّرا، أن يجعلاه يتخذ أي توجُّه فكري أو عقائدي يجبرانه عليه بحيث يكون من الصعب جدّاً على هذا الطفل عندما ينمو ويُصبح بالغاً أن يتخلَّص من هذا "القالَب" الذي وضعاه فيه في سنِّ الطفولة المُبكرة. وهكذا نرى أن القرآن والأسلام قد ذكرا أسباب وأعراض المُداخلات النفسية لتأثير الوالدين والبيئة المُحيطة بالطفل والتي توصّلت إليها مدرسة التحليل النفسي بعد قرون عديدة.
القرآن ومدرسة الألم الأساسي primal pain :
لقد بيّنا فيما سبق المعالم الرئيسية لهذه المدرسة في كيفية شرحها لأركان الصحة النفسية لدى الإنسان بتركيزها على وجوب تَناغُم العاطفة emotionمع العمليات العقلية الفكرية intellect .وكان من الإستنتاجات المهمة التي أعطتها هذه الطريقة في العلاج النفسي هي: أن الأَلَم المكبوت يجعلنا نتحايل على أنفسنا وعلى ألآخرين فنحصل على تصوّرات خاطئة ونقوم بتصرّفات غير لائقة بدون إرادة منّا ولا نستمع بانتباه ونَسمع و نُبصر بصورة خاطئة. ألا تُذكّرنا هذه الأعراض المرضية النفسية بما جاء في القرآن الكريم بأن كثيراً من الناس {...لَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقَهونَ بِها ولَهُم أعْيُنٌ لا يُبْصِرونَ بها ولَهُم آذانٌ لا يَسْمَعونَ بِها ،أُولئِكَ كَالأنْعامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الغافِلونَ} (الأعْراف-179). وفي آية أخرى :{وإنْ تَدعوهُم إلى الهُدى لا يَسْمَعوا وتَراهُم يَنْظُرونَ إلَيْكَ وهُم لا يُبْصِرون} الأعْراف-198)
ولقد اقتربتْ مدرسة "الأَلَم الأساسي primal pain" كثيراً من وصف القرآن لحال أغلبية الناس حين يقول مؤسّس هذه المدرسة آرثر جانوف في كتابه "سُجناء الأَلَم prisoners of pain" :" إن البشرية مُقيّدة من يَدَيْهَا و رِجْلَيْها بداءٍ خبيث. إنه أكثر الأمراض خَفاءً وتدميراً واتِّساعاً. إنه حالة عضويّة-بيولوجية ولكن ليس بالمُستطاع إزالتها بريجيم غذائي أو بتمارين رياضيّة أو بتصرُّف عفيف أو بالعقاقير أو بالجراحة. إن هذا المرض ليس له موقع مُعيّن. إنه المرض الوحيد الذي يوجد في كل مكان تقريباً في الجسم وفي المُخ. ورغم ذلك فإن كل فرد تقريباً غير مُدرك لوجوده. إنه يتسبّب في كثير من الأعراض ويبدو وكأنه مِئاتُ الأمراض وليس مرضاً واحداً. إن هذا المرض هو العُصاب neurosis". والعُصاب هو المرض الذي من أعراضه أننا نحصل على تصوّرات خاطئة ونقوم بتصرّفات غير لائقة بدون تعمَّد منا ولا نستمع بإنتباه، ونسمع ونُبصر بصورة خاطئة. ولا بأس هنا أن نورد إشارات أخرى سريعة من الإطار الفكري لهذه الطريقة. يقول جانوف:"" إن المسألة النفسيّة في الإنسان يُمكن إختصارها بمدى إشباع fulfillmentالإحتياجات الأساسية عند الفرد. فالحاجة و"كيفيّة التعامُل معها" هي حجر الأساس لحالة الصحّة وحالة المرض النفسي أو العُصاب neurosis. فإشباع الحاجة يُؤدّي إلى الِرضا والأرتياح وعدم إشباعها يؤدّي إلى الأَلَم. والمسألة النفسية تنحصر في كيفيّة التعامُل مع الأَلَم المُتولِّد من عدم سدّ "الحاجة". فإذا كان الفرد قادراً أن يتفهّم إحساسه بالأَلَم ويقتنع أن في بإمكانه "تَحَمُّلَهُ" وتجاوُزَه ، فإن ذلك الفرد يكون قد خطا الخطوة الضرورية والطبيعية نحو مُعالجة الأَلَم و "الشِفاء" من آثاره والتطلُّع إلى فرُصة أخرى وظروف أكثر مُلاءمة لإشباع تلك الإحتياجات الأساسية. ولكن إذا لم يستطع الفرد أن يتفهّم و"يَتَقَبَّل" الإحساس بالأَلَم ويعتبر نفسه غير قادر على تحمُّله وتجاوُزه، فعند ذلك تبدأ سِلسِلة خطيرة من الأحداث الداخلية تجري أساساً في الخلايا العصبيّة وتعِمُّ آثارُها كل مُكوِّنات الدماغ وأجزاء الجسم الأخرى. وعدم "تَقَبُّل" الأَلَم ، والخوف منه، يكون على أَشُدّه في مراحل الطفولة المُبَكِّرة. فالطفل في أيّامه الأولى يعتبر أن كل إحساس بالأَلَم هو إنذار بان حياته مُهدّدة بالخطر، ويكون ردُّ فعله مُتناسباً مع هذا التصوُّر. وإذا لم يجد الطفل، وهو في هذه الحالة، مَنْ يُسارع إلى تطمينه وسدّ إحتياجه (كطلب الغذاء، والدفء، وإزالة ما سبّب الألَم وأنتج الخوف) فإنه عند ذاك لا يجد مَفَرّاً من التعامُل مع ما يعتبره "أَلَمَاً قاتِلاً" إلاّ أن يَكْبِتَ repressهذا الأَحساس الناتج عن الأَلَم وهكذا يفقد الطفل وَعْيَهُ consciousness. ولكن هذه "الرَحمة"، كما يقول آرثر جانوف، لها ثَمّن. فالأَلَم يُكْبَتُ" ولكنّه يبقى داخل الجهاز العصبي للطفل بالضبط لإنّه كان من الضخامة بحيث أنه لم يكُن في المُستطاع أن يتحمَّله الطفل ويتفهّمه ويتجاوزه. وهكذا فإن هذا الأَلَم المكبوت يتّخذ حياة خاصّة به، خارج الأدراك، ويُسلّط ضغطاً مُستمرّاً. وطالما بقي أَلَماً لا يَحِسُّ به صاحبه فإنه يتطلّب تضحيات لا تنتهي. فالكَبْتُ يُنقذ ولكنّه أيضاً يُدمِّر. أنَّ إعاقة ردّ الفعل الطبيعي هو الذي يقود في النهاية إلى العُصاب neurosis." وعن كيفية التَخلُّص من هذا المرض يقول جانوف:" عندما نرى كيف يتولّد العُصاب neurosis فإنّنا نرى بصورة أكثر وضوحاً كيف نُعالجه. ومن حُسن الحظّ فإن عندنا في كل الأوقات الوسائل التي نستطيع بها أن نُعالج نفوسنا. إن إطلاق قُدرة العقل هو الكفيل بإنهاء المُعاناة." وبهذا فقط يستطيع الإنسان أن يتخلّص من الألم المكبوت الذي يُعطّل إمكانات فكره intellect ويجعله يتعامل مع الحياة ومع البيئة بحسب ما تقتضيه حاجاته في اللحظة الراهنة ويستطيع عند ذاك أنْ يرى الأشياء على حقيقتها." وإستخدام قُدرة العقل كوسيلة للعلاج هو ما يَحثُّ عليه القرآن دائماً :{كَذلك يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعلَّكُم تَعْقِلون} (الَبقَرَة-242)، وفي آية أخرى:{ إنَّا أَنزَلناهُ قُرآناً عَرَبيِاً لَعَلَّكُم تَعقِلونَ} (يُوسف-2)، وغيرها من الآيات التي خرجت لنفس الغرض . والجدير ذكره أن كلمة "لَعَلَّ" لُغةً (كما في قاموس محيط المحيط) هي من الحروف المُشبَّهة بالفعل وتعني عموماً التوَقُّع وهو ترجّي الشيء المحبوب والإشفاق من المكروه. وبهذا يكون معنى " لعلكم تعقلون ولعلهم يعقلون" الواردة في القرآن انَّ الله سبحانه وتعالى يَوَدُّ ويتوقّع أن يستخدم الناس عقولهم لكي يستطيعوا أن يتشافوا من مُداخلاتهم وعِللهم النفسية. وتعليقاً على تعبير جانوف بأن الإنسان الذي يُطلق قُدرة العقل " يستطيع عند ذاك أنْ يرى الأشياء على حقيقتها." يُذكِّرنا فَوْراً بالدُعاء الذي يؤثر عن الرسول (ص) حين يقول: " اللهُمَّ مَكِّنا أن نرى الأشياء كَما هيَ." فرؤية الأشياء كما هي لا بُدَّ أن تكون من صفات المؤمنين، وعلى العكس من ذلك حال الكافرين فهم لا يستطيعون رؤية الأشياء على حقيقتها. وحسب ما ترى كافَّة مدارس علم النفس الحديث أنَّ الشخص الذي يرى الأشياء على حقيقتها هو الإنسان الذي لا يحمل مرض العُصاب neurosis الذي يُصيب كافّة أجزاء الجسم وخاصّة الدماغ والقلب. وهذا ما يتطابق مع مغزى الحديث الشريف الذي يُعَبِّر عن معنى الآية الكريمة التي تقول عن الكافرين {..ما كانُوا يَستطيعوُنَ السَمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرونَ} (هُود-20)، ومع الآية التي تصف الكافرين:{ الّذينَ كانَتْ اَعيُنُهُم في غِطاءٍ عَن ذِكري وَكانُوا لا يَستَطيعُونَ سَمْعَاً } (الكهف-101}. فالذي على عينه "غِطاء" لايستطيع بالتأكيد أن يرى حقيقة الأشياء، والتي تُصبح أكثر بُعداً عن متناول الإدراك مع عدم إستطاعة السمع. وهكذا فمن الممكن أن نستنج من هذه المُقارنات المُختصرة بين التحليل القرآني لوضع الكافرين وبين تحليل مدارس العلاج النفسي عُموماً ومنهج الأَلَم الأساسي خُصوصاً أن الكافرين مُصابون بمرض العُصاب. وبما أن أحدث الدراسات تعتبر أن مرض العُصاب هو مرض نفسي-بدني psychophysiologic فأنه لا بُدَّ أن يؤثّر على القلب (الذي يوصف بأنه العضو النهائي للإحساس بالقلق) بصورة أوضح وأظهر من أعضاء الجسم الأخرى. وهكذا فالقرآن يُعبر عن مرض العُصاب ب "مرض القلب" وعلى القلب الذي سيطر عليه المرض تماماً بأنه "مَختوم عليه". : {إنَّ الّذينَ كَفَروا سَواءٌ عَلَيْهِم أَأَنْذَرْتَهُم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُم لا يُؤمِنون. خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِم وعلى سَمْعِهِم، وَعلى أبْصارِهِم غِشاوَةٌ ولَهُم عَذابٌ عَظيمٌ} (البَقَرَة-6-7). وهؤلاء الكافرون أصبحوا هكذا لإنَّهم لا يُريدون (وبإصرار) أن يُنيبوا إلى الله، ولهذا فإن الله حمَّلهم مَغَبَّةَ اختيارهم هذا وأراهم نتيجة إبتعادهم عن الفِطرة السليمة. وعن الذين لا يُريدون أن يروا بإخلاص الحقائق الأساسية في الوجود التي تقود إلى الإيمان والإسلام نقرأ: { وَمِنَ الناسِ مَن يَقولُ آمَنَّا باللهِ وباليَوْمِ الآخِرِ وما هُمْ بِمُؤمِنينَ. يُخادِعونَ اللهَ والّذينَ آمَنُوا و ما يَخْدَعون إلاّ اَنفُسَهُم وما يَشْعُرونَ. في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضَاً ولَهُم عَذابٌ أليمٌ بِما كانُوا يَكْذِبون} (البَقَرة-8-10). فهؤلاء الأشخاص إذن حسب المفهوم القرآني هم من ذوي القلوب "المريضة" أي النفوس المتردّدة غير المتأكِّدة من مواقفها والتي لا تتميّز بوضوح تام في "بصرها" ولا في "سمعها". وهذه الأعراض هي أيضاً وحسب مفهوم مدارس العلاج النفسي (فرويد، بيرن، جانوف) من علامات مرض العُصاب. ومن الممكن القول، حسب ما يَعِدُنا القرآن، أن الإنسان متى ما شُفي من مرض القلب (الذي يُرادف مرض العُصاب) فإنه يُصبح مُنيباً (عائداً) إلى الله وسوف يصل إلى حالة السلام النفسي والنفس الصحية الطبيعية، وبهما يستطيع أن يصل إلى الإيمان بخالق وحيد عادل وحكيم:
مع أجمل وأرق ألأمنيات.
بوح الروح
القرآن ومنهج التحليل النفسي psychoanalysis:
إن رُوّاد مدرسة التحليل النفسي هم اولُّ من أشار بوضوح إلى وجود منطقة اللاّوعي في الذهن.، وأكّدوا أن الرغبات والعواطف المدفونة في منطقة ما من الدماغ تؤثّر بصورة مَلموسة على سلوك الشخص بالرغم من رغبته العميقة في عدم إعطائها أية فرصة للظهور. وكانت أول محاولة ناجحة في هذا المضمار ما قام به يوزيف بروير في عام 1882 عندما قام بعلاج إمراة تُعاني من مرض عقلي بمساعدتها، تحت تأثير التنويم المغناطيسي، على إستحضار ذكريات مرتبطة مع إبتداء أعراض مرضها ثم أصبحت هذه الذكريات مكبوتة في اللاّوعي. إن هذا العلاج الذي ينطوي على تحرير الكَبْت قد أثّر تأثيراً بالغاً على سيجموند فرويد الذي إعتبر أنه يعطي طريقة لإستكشاف المخاوف والدوافع اللاّواعية التي كان يُخامِره الشك بأنها تختبئ وراء مرض العُصاب neurosis. وكانت هناك صُعوبات في تطبيق هذه الطريقة لإن قِسماً من المرضى كانت لديهم مناعة ضد التنويم المغناطيسي، مما اضْطُّر فرويد إلى إتباع طريقة أخرى أطلق عليها إسم التحليل النفسي psychoanalysis. وكما ألمحنا سابقاً فإن فرويد إكتشف أن المخاوف والرغبات وعواطف أخرى تُسَبِّب مشاكل سلوكية، لأنها مدفونة في اللاوعي، من الممكن أن يَتلمَّسها مُعالج حاذِق في التداعي الحر لأفكار المريض وفي أحلامه. ونحن نجد التَشابُه فيما ذهب إليه منهج التحليل النفسي وبين القرآن حين يصف القرآن في آيات عديدة المرض النفسي بأنه مرض في القلب. وكما يقول الأطبّاء النفسانيون فإن القلب، من بين جميع أعضاء البدن، هو العضو الأكثر وضوحاً في قابلية تأثّره بالمؤثّرات العاطفية، ويصفونه بأنه عضو الَمحطَّة الأخيرة للقلق end-organ of anxiety . وسوف نبيّن في وقت لاحق أن الإشارة إلى القلب في القرآن يُقصد منها العقل والإحساس جميعاً أي الكيان الإنساني بأكمله. {وإذا دُعوا إلى اللهِ ورَسولِهِ ليحكُمَ بَيْنَهُم إذا فَريقٌ مِنهُم مُعرِضون. وإنْ يَكُن لَهُم ُ الحَقُّ يأتوا إليهِ مُذْعنينَ. أفي قُلُوبِهِم مَرضٌ أمْ إرتابوا أمْ يَخافونَ أنْ يَحيفَ اللهُ عَلَيْهم ورَسولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظالِمونَ} (النُور-48-50)، وفي آية أخرى نقرأ: { أمْ حَسِبَ الّذينَ في قُلُوبهِم مَرَضٌ أنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أضْغانَهُم} (مُحَمَّد-29). ويُطلق القرآن على الأشخاص ذوي النفوس الصحية الطبيعية أصحاب "القَلْب السَليم" كما جاء في الآيات:{ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنونَ إلاّ مَنْ أتى اللهَ بِقَلْبٍ سَليمٍ } (الشُعَراء-88-89). كما يُطلق القرآن على النفس التي شفيتْ من مرضها بإنَّ صاحبها أصبح من ذوي القلوب المُنيبة والتي رجعت إلى طريق النفس الصحية الطبيعية والتحقت بذوي القلوب السليمة: { هَذا مَا تُوعَدونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَحْمنَ بالغَيْبِ وجاءَ بِقَلْبٍ مُنيبٍ} (ق-32-33)، وكذلك نقرأ في آية أخرى { وأنَيبُوا إلى رَبِّكُم وأسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يأتِيَكُمُ العَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرونَ} (الزُمَر-54).، وفي آية أخرى:{ أَفَلَم يَرَوْا إلى مابَيْنَ أيْديهِم وما خَلْفَهُم من السَماءِ والأرْضِ ، إنْ نَشَاْ نَخْسِفْ بِهُمُ الأرضَ أو نُسْقِطْ عَلَيهِم كِسَفاً مِنَ السَماء ، إنَّ في ذلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنيبٍ} (سَبَأ-9)، إلى غير ذلك من الآيات. وما يقوله التحليل النفسي عن أهمية الجِنس والعلاقات بين المرأة و الرجل فإن الإسلام عموماً والقرآن خصوصاً يتعامل معها كمسألة طبيعية جداً، ولذلك فهو لا يُقرُّ الرهبانيّة :{ ثُمَّ قَفيَّنا على آثارِهِم بِرُسُلِنا وقَفيَّنا بِعيسى بنِ مَريَمَ وآتَيْناهُ الأنْجيلَ وجَعَلنا في قُلُوبِ الّذينَ اتَّبعوهُ رَأفَةً ورَحْمَةً ورَهبانيّة ابْتَدَعوها ما كَتَبناها عَلَيْهِم إلاّ إبتِغاءَ رِضوانِ اللهِ فما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها..} (الحَديد-27). وواضح من هذه الآية أن "الرهبانيّة" لم "يكتبها" الله على أتباع السيّد المسيح (ع) أي لم يأمرهم بها أساساً وعندما تمَّ قبول ذلك منهم فإنهم لم يرعوها حق رعايتها لأنها فوق الطاقة البشرية ولأنهم كلّفوا أنفسهم ما لاينسجم مع الطبيعة التي خلقها الله في الكائنات الحية ومنها الإنسان.ويقول القرآن عن العلاقة الجنسية :{ويَسْألونَكَ عَنِ المَحيضِ قُلْ هُوَ أذىً فاعْتَزِلوا النِساءَ في المَحيضِ ولا تَقْرَبوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فإذا تَطَهَّرنَ فأتُوهُنَّ مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللهُ، إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَوّابينَ و يُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ. نِساؤكُم حَرْثٌ لَكُم فأتوا حَرْثَكُم أنَّى شِئتُم...} (البَقَرَة-222-223). وعن ما يحلُّ في ليلة الصيام فإنَّ الجُماع هو أحد المُباحات: { أُحِلَّ لَكُم لَيْلَةَ الصِيامِ الرَفَثُ إلى نِسائِكُم هُنَّ لِباسٌ لَكُم وأنْتُم لِباسٌ لَهُنَّ...} (البَقَرَة-187). و"الرَفَثُ" لُغةً يعني المُداعبة والجُماع. وعن الواقعية التي يتعامل بها الإسلام مع العلاقة الجنسية والعاطفية بين الرجل والمرأة ما جاء في حديث الرسول (ص): "الزواجُ نِصفُ الدين". إضافة إلى ذلك فإن الإسلام يحثُّ الأهل والشباب والشابّات على الزواج المُبكّر لإشباع الغريزة الجنسية وتكوين العائلة وبذلك يمنع الكبت الجنسي من جهة ويمنع من الوقوع في علاقات غير مدروسة تكون نتائجها وبالاً على المرأة أولاً وعلى الأطفال ثانياً. ويصف القرآن ببلاغة وواقعية نتائج العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة حين يقول:{ هُوَ الّذي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنها زَوْجَها لِيَسكُنَ إلَيْها، فَلَمّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفيفَاً فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ أتَيْتَنا صالِحاً لَنَكونَنَّ مِنَ الشاكِرينَ} (الأعْراف-189)، وواضح أن كلمة "تَغَشَّاها" هي تعبير بليغ ومُهذّب لكلمة "جامَعها". وهكذا نرى أن القرآن والعقيدة الإسلامية لا يَتردَّدان في التعامل مع الجنس والعلاقات الجنسية بواقعية كاملة ومن يتربّى على الثقافة الجنسية القرآنية ينمو لكي يكون شخصاً سوّياً تماماً، وليس كما تفعل الكنيسة المسيحية في محاولة إهمال هذه الغريزة الطبيعية فتكون النتيجة كَبْتاً وحِرماناً عند أتباعها قد يؤدّي كما هو في عصرنا الحاضر إلى الأنفلات واللاّمسؤولية الجنسية عند الشباب، ووضعاً نفسياً مُتأزّماً عند رُهبانها تنطلق من ثناياه الفضائح بل التعدّيات الجنسية التي يندى لها الجبين. وبهذا التناول لواقِع الفِطرة والحياة فإن القرآن والعقيدة الإسلامية لا تدعو أبداً إلى التنكُّر إلى الطاقة البدائية أو ما أطلق عليه فرويد الليبيدو أو ال id وإنما دعا إلى تهذيبها وقيادتها في قنوات لا تتعارض ومتطلبات العيش الأخرى: أي إلى إنماء ضمير وسريرة لا تنطوي على عواطف و دوافع مكبوتة. وفي منطق التحليل النفسي فإن الُمحصّلة من ذلك تكون لبيدو وأنا ego وأنا أعلى super-egoمُتسالمة و مُتصالحة في الفرد، وليست في عِراك مع بعضها تتسبَّب من ورائه الأمراض النفسية و العقلية.
القرآن وطريقة التحليل التعامُلي transactional analysis:
كما مرَّ بنا في أعلاه فإن هذه الطريقة في العلاج النفسي تُعطي أهمية كُبرى لتأثير الوالدين أو من بحُكمهما على تشكيل مشاعر وأحاسيس الطفل في حياته الباكرة وتبقى معه عند البلوغ وربما إلى نهاية الحياة. وقد يحصل أن بعض الأفراد يستطيعون أن يتخلَّصوا من هذه التأثيرات، ولكن الغالبية من الناس تبقى تحت هذا التأثير الحاصل في عهد الطفولة المُبكِّر . وما يُسميه أريك بيرن مؤسس هذه الطريقة بالخُطَّة scriptالذي إكتسبه الطفل بتأثير الوالدين أو أحدهما يمكن أن يجعل الفرد مدفوعاً driven أو أن يكون مقموعاً ridden ولكنه في الحالتين لا يسمح بنمو شخص حقيقي real person. يقول بيرن:" إن الطفل هو حبيس والديه: إنه يُصدّق ويفعل أي شيء يُمكن أن يُكسبه موافقتهما وحُبَّهما. وفي نفس الوقت فإنه يتفادى ويصدّ عن أية أفكار أو تصُّرفات تُسبّب غضب والديه وبالتالي كراهيتهما وعقابهما. إن الطفل، خُصوصاً بين سن السنتين إلى ست سنوات، يعرف أنه بدون حماية والديه وحُبِّهما ( أو أولياء أمره) فإنه لا يستطيع البقاء على قيد الحياة. فإذا أصبح الطفل مُغيّراً او مُعدَّلاً adaptedفإنه سوف ينمو ليُصبح شخصاً بالغاً غير طبيعي، أي إنساناً مُستعبداً. إنه سيتصرف، عندما يصبح بالغاً وربما طيلة حياته، كما أُجبر على أن يشعر ويفكر ويسلك ويتكلم عندما "قَوْلَبَهُ" أبواه tailored. ومثل هكذا إنسان لا يستطيع أن يُمارس الحياة "الطبيعية"التي يستطيع أن يتذوقها الإنسان الحر. إنَّ الإنسان الحر هو مُستقل ذاتيّاً ولهذا فإنه سوف يقوم على تلبية حاجاته بأفضل طريقة مُتاحة له: إنه قادر على أن ينظر إلى الأشياء و الإمكانيات التي تزخر بها الحياة بدون هلع أو رهبة. إن "إستمرارية" الصَفاء والسلام عند الإنسان الحر تمكّنه من أن ينظر إلى الأشياء والأمور بصورة موضوعية وتمعُّن ويخرج بأسنتاجات مُتوازنة يسير على هديها في التعامل مع الحياة: إنه يتكلم و يشعر و يتصرف بما يُلائم استنتاجاته العقلية الموضوعية غير المُتعجّلة. أما الشخص "المُستعبَد" فإن استنتاجاته "العقلية" مجهّزة له مُسبّقاً : بواسطة انطباعاته الطفولية وقراراته المبكرة التي طابقتْ تصوّره عن رغبات والديه. إنه يتعامل مع جميع المواقف المُستجِدّة بطريقة يجب أن تتواءم مع ما يعتقد أن والديه يريدانه أن يُمارس حياته من خلالها."
وإذا ألقينا نظرة على القرآن فإننا نجد إشارات واضحة إلى التأثير الكبير والأثر العميق الذي يمكن أن يتركه الوالدان على الطفل ويستمر معه طيلة حياته: {وإذا قيلَ لَهُمُ أتَّبِعوا ما أنْزَلَ اللهُ قالوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ، أَوَ لَو كانَ آباؤُهُم لا يَعقِلونَ شَيئاً ولا يَهتَدونَ} (البَقَرَة-170). وفي آية أخرى نقرأ: {وإذا قيلَ لَهُم تَعالَوْا إلى ما أَنْزَلَ اللهُ وإلى الرَسُولِ قالوا حَسْبُنا ما وَجَدنا عَلَيْهِ آباءَنا، أوَ لَو كانَ آباؤُهُم لا يَعْلَمونَ شيئاً ولا يَهتَدونَ} (المائِدة-104). وفي آية أخرى يقول القرآن: { وَكَذلِكَ ما أرسَلنا مِن قَبلِكَ في قَريَةٍ مِن نَذيرٍ إلاّ قالَ مُترَفوها إنَّا وَجَدنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهم مُقتَدونَ} (الزُخرُف-23). وواضح من هذه الآيات إن الذين لا يريدون أن يُصدّقوا الأنبياء لا يحتجّون بما تراه عقولهم وأفكارهم في اللحظة والمكان الذي يناقشهم فيه الأنبياء، وإنما يَحتجُّون بما أملاه عليهم آباؤهم. ألا يتطابق هذا مع ما تقوله مدرسة التحليل التعاملي من أن الطفل المُعدّل أو المُغيّر adaptedينمو ليصبح شخصاً بالغاً "مُستعَبداً"؟ ولا بأس من إعادة ما يقوله أريك بيرن مؤسس هذه الطريقة عندما يكتب : أما الشخص "المُستعَبد" فإن استنتاجاته "العقلية" مجهّزة له مُسبّقاً: بواسطة انطباعاته الطفولية وقراراته المبكرة التي طابقتْ تصوّره عن رغبات والديه. إنه يتعامل مع جميع المواقف المُستجِدّة بطريقة يجب أن تتواءم مع ما يعتقد أن والديه يريدانه أن يُمارس حياته من خلالها." ومثل هذا الشخص لا يُعتبر شخصاً حقيقياً في عُرف هذه الطريقة والقرآن كذلك لا يعتبر مثل هذا الشخص إنساناً سويّاً: { أَمْ تَحسَبُ أنَّ أَكثَرَهُم يَسمَعونَ أو يَعْقِلُونَ، إنْ هُم إلاّ كَالأنْعامِ بَلْ هَم أضَلُّ سَبيلاً} (الفُرقان-44). ففي العُرف القرآني فإن الإنسان الذي يصل حدَّ البلوغ ويبقى أسيراً لأفكار ومُعتقدات والديه التي لا تتلائم مع الطبيعة الحرة يخرج من عِداد البشر ويُصبح من الناحية الموضوعية من صنف "الأنعام" أي الكائنات غير العاقلة أو أكثر ضلالاً منها، لأن "الأنعام" لديها غريزتها التي تنفعها في طلب معاشها ، ولكن الإنسان بفقده لقائد فطرته، أي العقل، يصبح بلا دليل وضائعاً تماماً ولا يمكن أن ينطبق عليه تعريف "الإنسان الطبيعي." ويصف القرآن مثل هؤلاء الأشخاص في آية أخرى فيقول:{ وَإنْ تَدعوهُم إلى الهُدى لا يَسمَعوا وتَراهُم يَنظُرونَ إلَيْكَ وهُم لا يُبصرونَ} (الأعْراف-198). وهؤلاء الناس إذا لم يُصلحوا حالهم ويستردوا عقولهم فإنهم يكونون من أصحاب النار:{ وقالُوا لَو كُنَّا نَسمَعُ أو نَعقِلُ ما كُنَّا في أصحابِ السَعيرِ} (المُلْك-10). ولهذا فإن القرآن رغم حثِّه الإنسان على معاملة والديه بمنتهى اللطف والإحترام فإنه يضع حدوداً لطاعتهما تقف عند حدّ طلب الوالدين الشرك بالله. وفي تعبيرنا المُعاصر فإن الشرك بالله هو إطاعة بشر آخرين في تبديل الطبيعة البشرية أو الفطرة و إنتاج ما تُطلق عليه مدرسة التحليل التعاملي الطفل "المُعدّل" أو المُغيّر" الذي ينمو ليُصبح إنساناً بالغاً "مُستعَبداً". ولننظر مثلاً إلى الآية التالية:{ وَوَصَّينا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وإنْ جاهَداكَ لِتُشرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بهِ عِلمٌ فلا تُطِعهُما إلّيَّ مَرجِعُكُم فَأُنَبِّؤكُم بِما كُنتُم تَعمَلون} العَنكبوت-. وإذن فإن طاعة الوالدين واجبة إلا في حالة الشرك بالله أي الإعتقاد بإن ما خلق الله في الإنسان يمكن أن يُعدّل أو يُبدّل بناء على رغبة الوالدين أو أية عوامل أخرى. ويعود القرآن في آية أخرى إلى ذكر حدود طاعة الوالدين فيقول:{ وَوَصَيَّنا الإنسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهنَاً على وَهْنٍ وَ فِصالُهُ في عَامَيْنِ أن اُشكُر لي ولِوالِدَيْكَ إلَيَّ المَصيرُ. وإنْ جاهَداكَ عَلى أنْ تُشرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلا تُطِعهُما وصاحِبْهُما في الدُنيا مَعروفاً...} (لُقمان-14-15). إذن فإن طاعة الوالدين واجبة في حدود ما تسمح به قوانين الفطرة والعقل، أما إذا أراد الوالدان أو أحدهما أن يجعلا من رغباتهما الضيقة المبنية على الجهل بقوانين الكون ونواميسه وطبيعة النفس البشرية فلا طاعة لهما على الإنسان خصوصاً الإنسان البالغ العاقل الذي يُريد أن يعيش حياته حراً مستقلاً غير مُستعبد ولامُرتهباً. وقد أوردنا سابقاً قول الرسول (ص) عن التأثير العميق للوالدين على سلوك الإنسان ومصيره حين يحدثنا بقوله:" يُولَدُ الإنسانُ على الفِطرةِ مُسلماً ولكنَّ أبَوَيهِ يُهَوِّدانِهِ أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه." وهذا يعني أن الطفل هو فعلاً "حبيس" والديه وأنَّهما يستطيعان، إذا أصّرا، أن يجعلاه يتخذ أي توجُّه فكري أو عقائدي يجبرانه عليه بحيث يكون من الصعب جدّاً على هذا الطفل عندما ينمو ويُصبح بالغاً أن يتخلَّص من هذا "القالَب" الذي وضعاه فيه في سنِّ الطفولة المُبكرة. وهكذا نرى أن القرآن والأسلام قد ذكرا أسباب وأعراض المُداخلات النفسية لتأثير الوالدين والبيئة المُحيطة بالطفل والتي توصّلت إليها مدرسة التحليل النفسي بعد قرون عديدة.
القرآن ومدرسة الألم الأساسي primal pain :
لقد بيّنا فيما سبق المعالم الرئيسية لهذه المدرسة في كيفية شرحها لأركان الصحة النفسية لدى الإنسان بتركيزها على وجوب تَناغُم العاطفة emotionمع العمليات العقلية الفكرية intellect .وكان من الإستنتاجات المهمة التي أعطتها هذه الطريقة في العلاج النفسي هي: أن الأَلَم المكبوت يجعلنا نتحايل على أنفسنا وعلى ألآخرين فنحصل على تصوّرات خاطئة ونقوم بتصرّفات غير لائقة بدون إرادة منّا ولا نستمع بانتباه ونَسمع و نُبصر بصورة خاطئة. ألا تُذكّرنا هذه الأعراض المرضية النفسية بما جاء في القرآن الكريم بأن كثيراً من الناس {...لَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقَهونَ بِها ولَهُم أعْيُنٌ لا يُبْصِرونَ بها ولَهُم آذانٌ لا يَسْمَعونَ بِها ،أُولئِكَ كَالأنْعامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الغافِلونَ} (الأعْراف-179). وفي آية أخرى :{وإنْ تَدعوهُم إلى الهُدى لا يَسْمَعوا وتَراهُم يَنْظُرونَ إلَيْكَ وهُم لا يُبْصِرون} الأعْراف-198)
ولقد اقتربتْ مدرسة "الأَلَم الأساسي primal pain" كثيراً من وصف القرآن لحال أغلبية الناس حين يقول مؤسّس هذه المدرسة آرثر جانوف في كتابه "سُجناء الأَلَم prisoners of pain" :" إن البشرية مُقيّدة من يَدَيْهَا و رِجْلَيْها بداءٍ خبيث. إنه أكثر الأمراض خَفاءً وتدميراً واتِّساعاً. إنه حالة عضويّة-بيولوجية ولكن ليس بالمُستطاع إزالتها بريجيم غذائي أو بتمارين رياضيّة أو بتصرُّف عفيف أو بالعقاقير أو بالجراحة. إن هذا المرض ليس له موقع مُعيّن. إنه المرض الوحيد الذي يوجد في كل مكان تقريباً في الجسم وفي المُخ. ورغم ذلك فإن كل فرد تقريباً غير مُدرك لوجوده. إنه يتسبّب في كثير من الأعراض ويبدو وكأنه مِئاتُ الأمراض وليس مرضاً واحداً. إن هذا المرض هو العُصاب neurosis". والعُصاب هو المرض الذي من أعراضه أننا نحصل على تصوّرات خاطئة ونقوم بتصرّفات غير لائقة بدون تعمَّد منا ولا نستمع بإنتباه، ونسمع ونُبصر بصورة خاطئة. ولا بأس هنا أن نورد إشارات أخرى سريعة من الإطار الفكري لهذه الطريقة. يقول جانوف:"" إن المسألة النفسيّة في الإنسان يُمكن إختصارها بمدى إشباع fulfillmentالإحتياجات الأساسية عند الفرد. فالحاجة و"كيفيّة التعامُل معها" هي حجر الأساس لحالة الصحّة وحالة المرض النفسي أو العُصاب neurosis. فإشباع الحاجة يُؤدّي إلى الِرضا والأرتياح وعدم إشباعها يؤدّي إلى الأَلَم. والمسألة النفسية تنحصر في كيفيّة التعامُل مع الأَلَم المُتولِّد من عدم سدّ "الحاجة". فإذا كان الفرد قادراً أن يتفهّم إحساسه بالأَلَم ويقتنع أن في بإمكانه "تَحَمُّلَهُ" وتجاوُزَه ، فإن ذلك الفرد يكون قد خطا الخطوة الضرورية والطبيعية نحو مُعالجة الأَلَم و "الشِفاء" من آثاره والتطلُّع إلى فرُصة أخرى وظروف أكثر مُلاءمة لإشباع تلك الإحتياجات الأساسية. ولكن إذا لم يستطع الفرد أن يتفهّم و"يَتَقَبَّل" الإحساس بالأَلَم ويعتبر نفسه غير قادر على تحمُّله وتجاوُزه، فعند ذلك تبدأ سِلسِلة خطيرة من الأحداث الداخلية تجري أساساً في الخلايا العصبيّة وتعِمُّ آثارُها كل مُكوِّنات الدماغ وأجزاء الجسم الأخرى. وعدم "تَقَبُّل" الأَلَم ، والخوف منه، يكون على أَشُدّه في مراحل الطفولة المُبَكِّرة. فالطفل في أيّامه الأولى يعتبر أن كل إحساس بالأَلَم هو إنذار بان حياته مُهدّدة بالخطر، ويكون ردُّ فعله مُتناسباً مع هذا التصوُّر. وإذا لم يجد الطفل، وهو في هذه الحالة، مَنْ يُسارع إلى تطمينه وسدّ إحتياجه (كطلب الغذاء، والدفء، وإزالة ما سبّب الألَم وأنتج الخوف) فإنه عند ذاك لا يجد مَفَرّاً من التعامُل مع ما يعتبره "أَلَمَاً قاتِلاً" إلاّ أن يَكْبِتَ repressهذا الأَحساس الناتج عن الأَلَم وهكذا يفقد الطفل وَعْيَهُ consciousness. ولكن هذه "الرَحمة"، كما يقول آرثر جانوف، لها ثَمّن. فالأَلَم يُكْبَتُ" ولكنّه يبقى داخل الجهاز العصبي للطفل بالضبط لإنّه كان من الضخامة بحيث أنه لم يكُن في المُستطاع أن يتحمَّله الطفل ويتفهّمه ويتجاوزه. وهكذا فإن هذا الأَلَم المكبوت يتّخذ حياة خاصّة به، خارج الأدراك، ويُسلّط ضغطاً مُستمرّاً. وطالما بقي أَلَماً لا يَحِسُّ به صاحبه فإنه يتطلّب تضحيات لا تنتهي. فالكَبْتُ يُنقذ ولكنّه أيضاً يُدمِّر. أنَّ إعاقة ردّ الفعل الطبيعي هو الذي يقود في النهاية إلى العُصاب neurosis." وعن كيفية التَخلُّص من هذا المرض يقول جانوف:" عندما نرى كيف يتولّد العُصاب neurosis فإنّنا نرى بصورة أكثر وضوحاً كيف نُعالجه. ومن حُسن الحظّ فإن عندنا في كل الأوقات الوسائل التي نستطيع بها أن نُعالج نفوسنا. إن إطلاق قُدرة العقل هو الكفيل بإنهاء المُعاناة." وبهذا فقط يستطيع الإنسان أن يتخلّص من الألم المكبوت الذي يُعطّل إمكانات فكره intellect ويجعله يتعامل مع الحياة ومع البيئة بحسب ما تقتضيه حاجاته في اللحظة الراهنة ويستطيع عند ذاك أنْ يرى الأشياء على حقيقتها." وإستخدام قُدرة العقل كوسيلة للعلاج هو ما يَحثُّ عليه القرآن دائماً :{كَذلك يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعلَّكُم تَعْقِلون} (الَبقَرَة-242)، وفي آية أخرى:{ إنَّا أَنزَلناهُ قُرآناً عَرَبيِاً لَعَلَّكُم تَعقِلونَ} (يُوسف-2)، وغيرها من الآيات التي خرجت لنفس الغرض . والجدير ذكره أن كلمة "لَعَلَّ" لُغةً (كما في قاموس محيط المحيط) هي من الحروف المُشبَّهة بالفعل وتعني عموماً التوَقُّع وهو ترجّي الشيء المحبوب والإشفاق من المكروه. وبهذا يكون معنى " لعلكم تعقلون ولعلهم يعقلون" الواردة في القرآن انَّ الله سبحانه وتعالى يَوَدُّ ويتوقّع أن يستخدم الناس عقولهم لكي يستطيعوا أن يتشافوا من مُداخلاتهم وعِللهم النفسية. وتعليقاً على تعبير جانوف بأن الإنسان الذي يُطلق قُدرة العقل " يستطيع عند ذاك أنْ يرى الأشياء على حقيقتها." يُذكِّرنا فَوْراً بالدُعاء الذي يؤثر عن الرسول (ص) حين يقول: " اللهُمَّ مَكِّنا أن نرى الأشياء كَما هيَ." فرؤية الأشياء كما هي لا بُدَّ أن تكون من صفات المؤمنين، وعلى العكس من ذلك حال الكافرين فهم لا يستطيعون رؤية الأشياء على حقيقتها. وحسب ما ترى كافَّة مدارس علم النفس الحديث أنَّ الشخص الذي يرى الأشياء على حقيقتها هو الإنسان الذي لا يحمل مرض العُصاب neurosis الذي يُصيب كافّة أجزاء الجسم وخاصّة الدماغ والقلب. وهذا ما يتطابق مع مغزى الحديث الشريف الذي يُعَبِّر عن معنى الآية الكريمة التي تقول عن الكافرين {..ما كانُوا يَستطيعوُنَ السَمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرونَ} (هُود-20)، ومع الآية التي تصف الكافرين:{ الّذينَ كانَتْ اَعيُنُهُم في غِطاءٍ عَن ذِكري وَكانُوا لا يَستَطيعُونَ سَمْعَاً } (الكهف-101}. فالذي على عينه "غِطاء" لايستطيع بالتأكيد أن يرى حقيقة الأشياء، والتي تُصبح أكثر بُعداً عن متناول الإدراك مع عدم إستطاعة السمع. وهكذا فمن الممكن أن نستنج من هذه المُقارنات المُختصرة بين التحليل القرآني لوضع الكافرين وبين تحليل مدارس العلاج النفسي عُموماً ومنهج الأَلَم الأساسي خُصوصاً أن الكافرين مُصابون بمرض العُصاب. وبما أن أحدث الدراسات تعتبر أن مرض العُصاب هو مرض نفسي-بدني psychophysiologic فأنه لا بُدَّ أن يؤثّر على القلب (الذي يوصف بأنه العضو النهائي للإحساس بالقلق) بصورة أوضح وأظهر من أعضاء الجسم الأخرى. وهكذا فالقرآن يُعبر عن مرض العُصاب ب "مرض القلب" وعلى القلب الذي سيطر عليه المرض تماماً بأنه "مَختوم عليه". : {إنَّ الّذينَ كَفَروا سَواءٌ عَلَيْهِم أَأَنْذَرْتَهُم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُم لا يُؤمِنون. خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِم وعلى سَمْعِهِم، وَعلى أبْصارِهِم غِشاوَةٌ ولَهُم عَذابٌ عَظيمٌ} (البَقَرَة-6-7). وهؤلاء الكافرون أصبحوا هكذا لإنَّهم لا يُريدون (وبإصرار) أن يُنيبوا إلى الله، ولهذا فإن الله حمَّلهم مَغَبَّةَ اختيارهم هذا وأراهم نتيجة إبتعادهم عن الفِطرة السليمة. وعن الذين لا يُريدون أن يروا بإخلاص الحقائق الأساسية في الوجود التي تقود إلى الإيمان والإسلام نقرأ: { وَمِنَ الناسِ مَن يَقولُ آمَنَّا باللهِ وباليَوْمِ الآخِرِ وما هُمْ بِمُؤمِنينَ. يُخادِعونَ اللهَ والّذينَ آمَنُوا و ما يَخْدَعون إلاّ اَنفُسَهُم وما يَشْعُرونَ. في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضَاً ولَهُم عَذابٌ أليمٌ بِما كانُوا يَكْذِبون} (البَقَرة-8-10). فهؤلاء الأشخاص إذن حسب المفهوم القرآني هم من ذوي القلوب "المريضة" أي النفوس المتردّدة غير المتأكِّدة من مواقفها والتي لا تتميّز بوضوح تام في "بصرها" ولا في "سمعها". وهذه الأعراض هي أيضاً وحسب مفهوم مدارس العلاج النفسي (فرويد، بيرن، جانوف) من علامات مرض العُصاب. ومن الممكن القول، حسب ما يَعِدُنا القرآن، أن الإنسان متى ما شُفي من مرض القلب (الذي يُرادف مرض العُصاب) فإنه يُصبح مُنيباً (عائداً) إلى الله وسوف يصل إلى حالة السلام النفسي والنفس الصحية الطبيعية، وبهما يستطيع أن يصل إلى الإيمان بخالق وحيد عادل وحكيم:
مع أجمل وأرق ألأمنيات.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح