***الاسلام والمعرفه البشريه - الجزء السابع
عِلْمُ النَفْسِ القُرْآنِي
يتبيّن مما ذكرنا أعلاه أن المُشتغلين في علم النفس وحتى المُعاصر منه لم يتّفقوا على منهج واحد يتناولون فيه المسألة النفسية عند الإنسان. وهذا الإختلاف له سببان رئيسيان.الأول: أن هذا الفرع من العُلوم لا يزال في حالة من النمو والتوسُّع ولهذا فالنفسانيون المُعاصرون يعتبرون هذا الإختلاف شيئاً لامندوحة عنه بينما تستمر البحوث للوصول إلى نظرية شاملة يمكن في النهاية أن تُنسِّق المعلومات المتوفرة وتضعها في نظام منهجي مُوحَّد. السبب الثاني في الأختلاف بين مدارس علم النفس المُعاصر وخاصة العلاجي منه أن هذا العلاج أصبح في الدول الصناعية الرأسمالية، وخصوصاً الولايات المُتحدة، نوعاً من التجارة المُربحة التي تَدُرُّ على أصحابها الأموال الطائلة. ومن الناقدين من يَتَّخذ موقِفاً قاسياً من محاولات المُعالجين النفسانيين لتوسيع نشاطهم إلى كل شرائح المجتمع. ونقتطع بعض ما جاء في مقال لبيرني زيلبرجلد bernie zilbergeldفي كتابه:" بيع العلاج النفسي" كمثال على ذلك: "إنَّ إعتقادنا _نحن الأمريكان_ بتفوّق الإختصاص وولوعنا بحل المشاكل والميل نحو الكمال يدفعنا لأن نعتمد على الإختصاصيين. وليس هناك مكان يكون إعتمادنا فيه على المُختصين أكثر وضوحاً من حقل التوجيه الشخصي. ومن الخطأ أن نُفَكِّر أن المؤسسة العلاجية النفسية تزدهر فقط لأننا نعاني من المشاكل ونرغب في أن نجد الإختصاصيين الذين يستطيعون أن يُساعدونا في حَلِّها. إن المُعالجين النفسيين أنفسهم نشيطون جداً في الدِعاية وزيادة الطلب على خدماتهم. إن هذا ليس من الصعب فهمه إذا تقبلّنا حقيقة أن العلاج النفسي، مهما كانت صفاته الأخرى، فإنه عملية تجارية. ومن سُخرية الأحوال فإن التثقيف في حقل الصحة العقلية، والذي يهدف إلى تعليم الناس كيفية التعامل بطريقة أكفأ مع الحياة، فإنه بدلاً من ذلك أدّى إلى زيادة الطلب على خدمات العلاج النفسي. إن الطريقة التي يبيع المعالجون بها خدماتهم ويساهمون بالتالي في زيادة الطلب عليهم يمكن أن توصف في الخطوات التالية:
1. الإستمرار في سكلجة الحياة psychologization of life
2. إفتعال "المشاكل" من بعض الصُعوبات ودَقُّ ناقوس الخطر.
3. العمل على تقبّل فِكرة وجود المشاكل لدى الأفراد وفي نفس الوقت عدم القُدرة على حلِّها من قبل الفرد العادي بنفسه.
4. الإستعداد لتقديم الخلاص salvation.
إن هذه الصيغة أو ما يقرب منها هي التي يقوم بتطبيقها المُعالجون الأفراد والمؤسسات العلاجية."
ويمضي زيلبرجيلد قائلاً:" إن ما أريد تأكيده هو أن هذه الصيغة ليست نتيجة لمؤامرة أو حتى أن التوصل إليها تم بصورة مقصودة. كذلك فإن تفاصيل هذه الطريقة أو إطارها العام لا تُدرّس في المدارس المهنية أو دراسات البحوث. ولكن المعالجين المختصين بكل وضوح يرغبون في ان يتمتَّعوا بمستوىً لائق من الحياة بإشتغالهم في حقل يُحِبُّون العمل فيه وغالباً فإنهم لا يجدون طلباً كبيراً عليه، فيكتشفون أنه لا بُدَّ لهم من عمل شيء لخلق مُستهلكين لأحاديثهم وكُتبهم ودوراتهم التثقيفية ومُعالجاتهم.وهكذا فإنهم ينتتهون بصورة واعية أو لاواعية إلى القيام بإتباع الصيغة التي ذّكرت أعلاه."
المسألة التجارية و الطريقة القرآنية: وفي رأينا أن العامل التجاري هو من العوامل المهمة جداً في اختلاف وإشاعة كثير من العِلاجات النفسية غير المُمحّصة خصوصاً، وباعتراف الباحثين الغربيين أنفسهم، بعد تضاؤل ما يُسمى ب "مصادر المعاني و التضامن التقليدية". والتعبير الأخير يعني ضمن ما يعنيه تضاؤل العقيدة الدينية والروابط الأسرية والإجتماعية. والعامل التجاري يمكن أن يكون، أو هو على الغالب، سبباً جذرياً في عدم وضع الحقيقة المُجرّدة والرَحْمَة بالأنسانية نُصْبَ عيون المُشتغلين في العلاج النفسي.
إن النظرة إلى العامل التجاري والموقف منه هو ما يُميّز العلاج القرآني عن العلاجات المُعاصرة. فالقرآن يَنُصُّ بوضوح أن الرسول ( ص) لا يطلب أجراً ولا عِوَضاً ماديّاً على ما يقوم به من تبليغ الرسالة وجعل الشِفاء في مُتناول أيدي الناس، فقد وردتْ عبارة
{ وَما أساَلُكُم عَليهِ مِنْ أجْرٍ إنْ أجري إلاّ على رَبِّ العالَمين} في خمس آيات في سورة "الشُعَراء". ويتكرَّر نفس المعنى في آيات عديدة فنقرأ مثلاً: {ومَا تَسأَلُهُم عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ للعالَمين} (يوسف-104)، {قُلْ لا أسْأَلُكُم عَلَيْهِ أجراً إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرى للعالَمين} (الأنْعام-90)، {قُلْ ما سْألتُكُم مِنْ أجْرٍ فَهُوَ لَكُم إنْ أجْري إلاّ على اللهِ} (سَبَأ-47) إلى غير ذلك من الآيات التي خرجت لنفس الغرض. وأكثر ما سُمح للرسول (ص) أن يسأل من أجر كان هوطلب الموَدَّة في أقربائه:{ قُلْ لا أسْأَلُكُم عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ في القُرْبى} (الشورى-23). وهكذا فإن العلاج القرآني الذي جاء به الرسول (ص) هو علاج مجّاني تماماً متطابق مع مضمون الآية: {ومَا أرْسَلناكَ إلاّ رَحْمَةً لِلعالَمين} (الأنبياء-107). وعن القرآن نفسه تذكر الآيات أنه شِفاء للنفوس ( ما في الصدور) و رحمة وهدىً لمن يؤمن بالله وحكمته: {يا أيُّها الناسُ قَدْ جاءَتْكُم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُم وشِفاءٌ لِما في الصُدُور وهُدىً ورَحْمَةٌ للمُؤمِنين} (يونس-57). وتتكررالآيات في وصف القرآن بأنه رحمة وهدى وبُشرى للمؤمنين في آيات عديدة.
التضامن الجماعي والطريقة القرآنية: المعالجون النفسيون يعتبرون أن وجود الجماعة البشرية المساندة support group هي من ضرورات الإستشفاء النفسي الناجع. فالإختلاف الآخر بين العلاج القرآني والعلاج النفسي لكثير من الطرق المُعاصرة هو أن القرآن يجعل من تضامُن المؤمنين وتوادّهم موضوعاً أساسياً في تقوية الفرد والمجموع ولا ينظر إلى الفرد وكأنه مُنعزل عن محيطه الإنساني كما يذهب عملياً إلى ذلك البعض من مناهج العلاج النفسي:{والمُؤمِنُونَ والمُؤمِناتُ بَعضُهُم أوْلِياءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بالمَعروفِ ويَنْهَونَ عَنِ المُنكَرِ ويُقيمُونَ الصلاةَ ويُؤتُون الزَكاةَ ويُطيعونَ اللهَ ورسُولَهُ أولئكَ سَيَرحَمُهُمُ اللهُ أنَّ اللهََ عَزيزٌ حَكيمٌ} (التوبَة-71). وفي آية أخرى:{مُحَمَّدٌ رَسولُ اللهِ والّذين مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُم...} (الفَتْح-29). فالمؤمنون هم أولياء أي أصدقاء وأحبّاء بعضهم البعض وأن شدّتهم هي على الكافرين فقط ومتى ما أصبح الكافرون مسلمين فأنهم يكونون عندها إخواناً للمؤمنين وأولياء لهم. وفوق ذلك فإن كل المؤمنين يتّحدون في إتخاذ الله سبحانه هو الوليُّ الأكبر لهم جميعاً :{إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسولُهُ والّذينَ آمَنُوا الّذينَ يُقيمونَ الصَلاةَ ويُؤتونَ الزَكاةَ وهُم راكِعونَ}(المائدَة-55)، {اللهُ وَليُّ الّذينَ آمَنُوا يُخرِجُهُم مِنَ الظُلُماتِ إلى النُورِ ...} (البقرة-257)، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تؤكّد على المؤمنين أن يتخذوا الله وليّاً أعلى لهم لإنه {نِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النصير...} (الحَجّ-13).وإذا قارنّا هذا الجوّ الإجتماعي وتأثيره الإيجابي على الحالة النفسية للفرد لوجدنا أن العلاج النفسي يعتبر وجود مثل هذا التنظيم جُزءاً اساسياً في بلوغ الحالة النفسية الصحيّة. إضافة إلى ذلك فإن إشاعة الروح الجماعية واضحة جداً في العبادات الإسلامية من تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد ومن الأدعية التي تأتي بصيغة الجمع حتى وإن كان الذي يقوم بالدعاء هو فرد واحد من المسلمين:{ رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعدَ إذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِن لَدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ انْتَ الوَهَّابُ} (آل عِمران-، {رَبَّنا آتِنا في الدُنيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النارِ} (البَقَرَة-201). كما أن إيتاء الزكاة والصدقات هو من الحلول الواقعية للتضامن الإجتماعي للتخفيف من الضائقة الإقتصادية للأفراد المُحتاجين. وهذا التشابه في الإستنتاج سبق وأن أشرنا إليه عندما تكلمنا بإختصار عن طريقة المدرسة "الإسترجاعية الحيوية" ،إذ يقول جيروم فرانك:"وبما أن الشخص المُعالِج يُمثّل المجتمع الأوسع فإن مُجرّد قبوله للمريض كشخص يستحقُّ المساعدة يؤدي إلى مُكافحة شعور المريض بالعُزلة ويساعد في إعادة إحساسه بالإرتباط مع مجموعته." إذن فعدم وجود العُزلة الإجتماعية في الإسلام هو جزء رئيسي من الوصفة القرآنية لبوغ الصحة النفسية. ويصف الرسول (ص) العلاقة بين أفراد المجموعة الإسلامية بأنها كالعلاقة بين أعضاء الجسد الواحد فيقول:" مَثَلُ المُؤمِنينَ في توادِّهم وتَراحُمِهم كَمَثَلِ الجَسَدِ الواحِدِ إذا اشتَكى منهُ عُضوٌ تَداعى لهُ سائرُ الأعضاءِ بالسَهَرِ والحُمَّى." بل أن النظام الإجتماعي في الإسلام مُسخّرٌ لخدمة حاجات جميع أبنائه. فكما يقول المفكر الراحل السيد محمد باقر الصدر في كتابه المعروف "إقتصادنا" عند مقارنة النُظُم الإجتماعية من راسمالية و إشتراكية : " وأما الإسلام فهو يحكم على كل نظام في ضوء صلته بالحاجات الإنسانية المتنوعة، التي يجب على النظام تكييف الحياة تكييفاً يضمن إشباعها بوصفها الأساس لنشوء الحياة الإجتماعية. و لا يعتبر هذا الشكل أو ذاك من أشكال الإنتاج مبرراً لقيام نظام إجتماعي و علاقات توزيع لا تكفل إشباع تلك الحاجات لأنه يُنكر تلك الصلة الحتمية المزعومة بين أشكال افنتاج و النُظُم الإجتماعية". كذلك فإن الإعتقاد بوجود إله خالق عادل حكيم رحمة واسعة و بعيد عن الظلم يُشكّل ما يُسمّى في المفهوم المعاصر "الأساس المنطقي rationale” لبلوغ المستوى المرغوب من الصحة النفسية ببناء الثقة بان الخالق لا يريد للفرد و للمجتمع الإنساني إلا الخير رغم وجود المصاعب التي تعترض الطريق و تُعتبر نوعاً من الإمتحان (البلاء) يُعرف بها الذين لا يفقدون الأمل و الثقة بالحكمة الآلهية عن غيرهم :" ما يَفعلُ اللهُ بِعذابِكُم إنْ شَكرتُم و آمنتُم وكانَ اللهُ شاكِراً عليماً" (النساء-147). و لسان المؤمنين هؤلاء يقول: "قُلْ لَن يثصيبنا إلاّ ما كَتَبَ اللهُ لنا هوَ مولانا و على اللهِ فليتوكّلِ المؤمنون" (التوبة-51). وكما مرَّ بنا فإن أحد أركان نجاح أي علاج نفسي هو "وجود الساس المنطقي rationale " أو المخطط الفكري الذي يعطي شرحأً مقبولاً لإعراض المريض و يصف إجراءات للخلاص منها. وغني عن القول أن الأساس الفكري للشِفاء في القرآن هو التسليم طوعاً و إقتناعاً لسلطة الخالق الرحيم النهائية باعتياره "القاهر فوق عباده" وأنه هو العليم الحكيم.
روقٌ أُخرى: أما الفرق الجوهري بين طريقة العلاج القرآني و الطرق المعاصرة في العلاج النفسي فهو أن المُعالج في الطريقة القرآنية هو الله تعالى وأنه مُستعِدٌّ دوماً لقبول و"إحتضان" الفرد إذا قرر ذلك الفرد أن يُفوّض أمره إلى خالقه ويؤمن بعدالته:{ ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُم إن شَكَرتُم وآمَنتُم وكانَ اللهُ شاكِراً عَليمَاًْ} ( النِساء-147). ولهذا فإن ما يقوله المُعالجون النفسانيون المُعاصرون من ضرورة وجود المُشاركة الفعّالة بين المريض والمُعالج يُعادلها في الطريقة القرآنية العلاقة الحميمة بين الله وبين الفرد تتمثّل اساساً في غقامة الصلوات اليومية الخمس و النوافل والأدعية و الذكار المستمرة طيلة أوقات اليقظة: "فإذا قُضيت الصلاةُ فانتشروا في الأرضِ وابْتَغوا مِن فَضلِ اللهِ واذكروا اللهَ كثيراً لَعَلَّكم تُلحون" (الجمعة 10). وقد يكون هناك مُرشداً بشرياً يُوجّه ذلك الفرد إلى ناحية الخالِق وإلى تشجيعه على إنشاء علاقة حميمة معه ولكن في النهاية يجب أن تكون العِلاقة بين الله وبين الفرد. ,قد أبدلتْ طرق العلاج النفسي العلاقة المصيرية بين الخالق والفرد إلى علاقة "مصيرية" بين المُعالج النفسي والمريض بقولها:" إن الإجراءات تتطلَّب المشاركة الفعّالة من المريض والمُعالج وهما يعتقدان كلاهما أنها الطريق المُناسب لإستعادة صحّة المريض." وبالتأكيد فإن المريض يعلم جيداً أن المُعالِج مهما بلغ من العلم والخبرة فإنه في التحليل الأخيركائن ذو قدرة محدودة لأنه إنسان مثله. أما في الطريقة القرآنية فإن الفرد لا يحتاج إلى شخص آخر من بني البشر لإن المُعالج هو عين الخالق العادل القادر الرؤوف الرحيم. ودور أي إنسان آخر هو دور المرشد والدليل لإقامة هذه العلاقة الحميمة بين الفرد وبين خالقه وهذا هو في الواقع دور الأنبياء والصالحين في العقيدة الإسلامية: أن يعملوا على أن يكونوا مُرشدين لمساعدة الإنسان على أن يصل إلى معرفة الخالق وتفويض أمره إليه.فالإنسان إذن، في المفهوم القرآني، قادر بنفسه على أن يصل إلى حالة الصحة النفسية بمفرده، ودور الأفراد الآخرين لا يمكن أن يكون إلا أحد العوامل التي تُسرع في بلوغ الفرد مرحلة إقامة الحوار مع الله سبحانه وتعالى.
وكما ذكرنا سابقاً أن القرآن عندما يُشير إلى بعض الظواهر الكونية و الحياتية فإنه لا يهدف إلى إستقصاء كل حقائق الوجود أو أن يكون كتاباً غايته أن يُبّين قوانين الطبيعة ويقف عند حدودها. إن الهدف من هذه الإشارات، التي برهن العلم على تطابقها مع المعرفة العلمية المعاصرة، هو أن يوصل الإنسان ليؤمن بوجود خالق قديرعارف تماماً بحقائق الوجود وإن علمه قد أحاط بتفاصيل كل شيء.
كيفيّة التخلُّص من القَلق في الطريقة القرآنية: أمّا الهدف االنهائي والجوهري للقرآن، في رأينا، فهو إيصال الإنسان إلى حالة السلام والإطمئنان النفسي المُتولّد من الإيمان الذي يؤيده العقل. وأبرز عوامل إطمئنان النفس هو إيقاف القلق على مصير الإنسان والإقتناع بأنه راجع إلى ربٍّ رحيم رؤوف عادل لا يُريد للإنسان إلاّ الخير والسعادة التي تتحقق من إطاعة نواميس الفطرة التي خلقه الله عليها :{ ما يَفعَلُ اللهُ بِعَذابِكُم إنْ شَكَرتُم وآمَنتُم وكانَ اللهُ شاكراً عليماً} (النساء-147). و الشيئ الذي يمكن الإشارة إليه هنا هو أن الخالق تعالى قد وفّر للإنسان كل ما يحتاج إليه في حياته الدنيا و للا توجد حاجة لم يخلق الله لها ما يشبعها. فأليس من المنطق أن تكون الحاجة الكبرى وهي حب البقاء و الخلود قد خلقها الله واقعاً و لكن لحكمة قد جعلها في طور آخر هو طور الحياة الأخرى؟ فإذن أن هناك أساساً منطقياً لتوقع إستمرار الحياة ولو إعترض الموت طريق الحياة الدنيا. فبداية الحكمة (أو العلاج النفسي) في القرآن ونهايتها هي القبول والرضا بوضع النفس والمصير في يد خالق الوجود والرضا بما قدّر على الإنسان من الحياة ومتطلّباتها والموت وحتميّته. وهكذا فإن القبول بكل نواميس الوجود يتضمن الرضا بنهاية الحياة على هذه الأرض. وقد أقرَّ علم النفس بإن المسألة البيولوجية (أي غريزة حب البقاء) وموقف الإنسان منها هي صُلب المسألة النفسية عند الفرد. ولا شكَّ أن قبول حقيقة الموت، رغم تعارضها الظاهري مع غريزة حب البقاء، وعدم الخوف منه بل والنظر إلى ما وراءه بأمل وشوق هو الحلُّ الأوحد والنهائي لقضية المسألة النفسية عند الإنسان. وللتدليل على هذا الأستنتاج فإن القرآن لا ينظر إلى هذه الحياة التي يُسمّيها الحياة الدُنيا إلاّ أنها مَمَرٌ إلى حياة دائمة خالدة وهي الحياة الآخرة: {وَ ما هذِهِ الحَياةُ الدُنيا إلاّ لَهْوٌ و لَعِبٌ وإنَّ الدارَ الآخِرَة لَهِيَ الحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون} (العَنْكَبوت-64). فالحياة التي تستحِقُّ أن يُطلق عليها هذا الأسم هي الحياة (الحَيَوان) في الدار الآخرة أي بعد فراق هذه الدنيا. {اعْلَموا أَنَّما الحَياةُ الدُنيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ و زينَةٌ وتَفاخُرٌ بَيْنَكُم و تَكاثُرٌ في الأمْوالِ و الأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتراهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكونُ حُطامَاً وفي الآخِرَةِ عَذابٌ شَديدٌ و مَغْفِرةٌ مِنَ اللهِ و رِضوانٌ وما الحياةُ الدُنيا إلاّ مَتاعُ الغُرورِ} (الحَديد-20) والآيات التي تصف هذه الحياة بأنها مؤقّتة، وأنها لا تُساوي شيئاً مُقارنة بالحياة الآخرة، كثيرة جداً، ولنُورد بعض الأمثلة الأخرى إستتماماً للفائدة: {وَفَرِحوا بالحَياةِ الدُنيا و ما الحَياةُ الدُنيا في الآخِرَةِ إلاّ مَتاعٌ} (الرَعْد-26). {أرَضيتُم بالحياةِ الدُنيا مِنَ الآخِرَةِ فَما مَتاعُ الحَياةِ الدُنيا في الآخِرَةِ إلاّ قَليلٌ} (التوبة-38). {بَلْ تُؤثِرونَ الحَياةَ الدُنيا و الآخِرةُ خَيْرٌ وأَبْقى} (الأعْلى-16). إذن، فإن أوّل عوامل الطَمْأنينة هو أن يقتنع الأنسان بأن الموت لا يُساوي الفَناء، بل أن الموت هو حد يفصل حياة مُؤقّتة عن حياة دائمة. ولكن القرآن لم يطلب من الناس أن يُديروا ظهورهم إلى هذه الحياة الدنيا، كما فعلتْ بعض الأديان الأخرى، رغم قِصَر مُدَّتها وهوان شأنها عند مُقارنتها مع الحياة الآخرة بل نراه ينصح الأنسان أن يعيش هذه الحياة بعُمق لأن الله جعلها داراً يُمتِّع بها الناس إلى فترة محدودة ويبتليهم بها لأنها دار الإعداد للدار الآخرة: {وَ ابْتَغِ فيما آتاكَ اللهُ الدارَ الآخِرَةَ و لا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُنيا} (القَصَص-77). ومثل آخر:{ وَ قِيلَ للذّينَ اتَّقَوْا ماذا أنْزَلَ رَبُّكُم قالوا خَيْراً للذِّين أحْسَنوا في هذهِ الدُنيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ و لَنِعمَ دارُ المُتَّقينَ} (النحل-31).أما الموقف الأساسي في القرآن فهو الأستعداد الدائم للانتفال من هذه الدنيا والألتحاق بالحياة الآخرة . فالمؤمنون الحقيقيون يفرحون بالأنتقال إلى الدار الآخرة لأن {ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ للأبرارِ} (آل عِمران-198). والرسالة النهائيّة التي يُبلُّغها القرآن للجنس البشري هي:{ :كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ، وإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُم يَوْمَ القِيامَةِ، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النارِ وأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فازَ، وما الحياةُ الدُنيا إلاّ مَتاعُ الغُرُور} (آل عِمران-185). فإذا آمن الأنسان أن هذه حياة لها ما بعدها فإنه يُمكن أن يتَقَبَّل أخيراً مسألة موته وتُحَلُّ أكبر مشاكله وهي مُشكلة الحاجة أو الأحتياج الى البقاء need to surviveالتي يعتبرها علماء النفس، كما مرَّ أعلاه، هي العلّة الأصليّة في نشوء المرض النفسي. وكما مرَّ بنا أن الحاجة للبقاء هي أول حاجة يواجهها الأنسان منذ تكوينه جنيناً في بطن أمّه. وبما أن الخوف من الألم هو في أساسه خوف من الفناء أو الموت فالإيمان بالحياة الآخرة يعني أن مشكلة الخوف من الألم ، مهما تعدّدتْ أسبابه، لم تعُد مع الإيمان، مسألة تُثير القلق أو الهلع. ويمثّل الدعاء التالي المأثور عن أحد أئمة المسلمينموقف المسلم المؤمن فيما يخص الموت وحب البقاء في هذه الدنيا: " اللهُمَّ صلِّ على محمّدٍ وآله واكفنا طول الأمل و قَصرّه عنا بِصِدقِ العَمَل، حتى لا نؤمّل استتمامَ ساعةٍ بعد ساعة، ولا استيفاءَ يومٍ بعد يومولا اتصّالَ نَفَسٍ بنَفَس و لا لُحوقَ قدمٍ بقدم وسلّمنا منِ غروره وآمنّا من شُرورِه. وانصبالموتَ بين أيدينا نَصباً و لاتجعلْ ذكرنا له غِبَّاَ واجعلْ لنا من صالح الأعمالِ عَملاً نستبطيءُ معهُ المصيرَ إليكَ و نَحرصُ لهُ على وَشَكِ اللّحاقِ بكَ حتّى يكونَ الموتُ مأنسَنا الذي نأنَسُ به و مألَفَنا الذي نشتاقُ إليه وحامّتنا التي نُحبُّ الدُنوَّ منها . فإذا أوردتَه علينا وأنزلتَهُ بنا فأسعِدنا به زائراً وآنسنا به قادْماً. و لا تُشقنا بضيافته ولا تُحزنّا بزيارتِه. و اجعلهُ باباً من ابوابِ رحمتِكَ ومِفتاحاً من مفاتيح رحمتك. أمِتنا مُهتدين غير ضالّين طائعين غير مُستَكرهين تائبين غير عاصين ولا مُصرّين ، يا ضامن جزاء المحسنين و مستصلح عملَ المُفسِدين.
النَفْسُ المُطمئِنَّة : والمِقياس الذي يضعه القرآن للتفريق بين من "يُزحزح عن النار ويدخُل الجنَّة" وبين مَن يدخل النار هو حالة الأطمِئنان . فالمؤمن حينما يحين وقت رحيله عن هذه الدنيا يكون مُطمئن البال ونفسه هادئة راجية للثواب، وعنه يقول القرآن: { يا أيَّتُها النَفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ، اِرْجِعي إلى رَبِّكِ راضِيةً مَرْضِّيةً، فادْخُلي في عِبادي ، وادْخُلي جَنَّتي} (الفَجْر-27-30). والنفس في لُغة القرآن تعني الروح والجسد أي كامل الكيان الأنساني.والوصول إلى حالة الأطمئنان هذه في كل لحظة من لحظات الحياة هو البؤرة focusالتي تتكلم عنها كافَّة آيات القرآن مُباشرة أو بصورة استنتاجية غير مباشرة. فمن التعابير المُباشرة عن حالة الأطمئنان هذه نقرأ في سورة "مُحَمَّد" {والّذينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصالِحاتِ وآمَنُوا بِما نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ وهُوَ الحَقُّ مِن رَبِّهِم كَفَّرَ عَنْهُم سَيِّئاتِهِم وأَصْلَحَ بالَهُمْ} (مُحَمَّد-2). ف"إصلاح البال" يعني إختفاء حالة القَلَق الذهني و الأضطراب الفكري وهي مُعادلة لحالة الأطمئنان والسعادة.
خَصائِصُ النَفْسِ المُطمَئِنَّة: أمّا أكبر خصائص "النفس المُطمئنّة" والتي تُصاحِب صلاح البال " والذينَ آمنوا وعَمِلوا الصالحاتِ وآمنوا بما نُزّلً على مُحمدٍ وهوَ الحقُّ من ربِّهم كَفّرَ عنهُم سيِئاتِهم و أصلَحَ بالَهم" ( محمد-2). وهي صفة التمتُّع ب "القَلب المُطْمئِن": {الّذينَ آمَنوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ، ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلوبُ} (الرَعْد-28)، أوحالة "القلب السليم" التي ذكرها القرآن في دُعاء النبي إبراهيم (ع): {ولا تُخْزِني يَوْمَ يُبْعَثون، يَوْمَ لا يَنفَعُ مالٌ ولا بَنُون، إلاّ مَنْ أتى اللهَ بِقَلْبٍ سَليم" (الشُعَراء-87-89). إذن فالقلب السليم هو المِعيار لرِضاء الله وبالتالي الفوز بالجنّة. وهكذا يقودنا القرآن إلى إستنتاج المعدلات البسيطة التالية:
النفس المُطْمَئنَّة (القَلْب المُطْمَئِن) = حالة صلاح البال= حالة القلب السليم= الحالة الواجبة لدخول الجنّة
وهذه الحالات لها مظاهر أخرى كعدم وجود الخوف و الحُزن: {أَلا إنَّ أَوْلياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِم ولا هُمْ يَحْزَنُون} (يونس-62)، {إِنَّ الّذينَ آمَنُوا و عَمِلُوا الصالِحاتِ وأَقامُوا الصَلاةَ و آتَوْا الزَكاةَ لَهُم أجْرُهُم عِندَ رَبِّهِم ولا خَوْفٌ عَلَيْهم ولا هُم يَحْزَنون} (البَقَرَة-277)، ويتكّرر ذكر ذلك في آياتٍ متعددة. و جدير ذكره أن "الخوف" و"الحزن" عاطفتان تتولّدان من "الأَلَم" المُتولّد بدوره من عدم الحصول على ما يحتاجه الأنسان ويرغب فيه.
لقَلْبُ السَليم: و ذِكْرُ "القَلْب" في القرآن وإعتباره مِعياراً لدخول الجنّة إذا كان سليماً وسَبَباً لدخول النار إذا كان مريضاً (كما سنذكر بعد قليل) يتّخذ أهميَّة بالغة بالنسبة لنا نحن البشر. فالقلب جهاز عُضوي نحس بوجوده دائماً وفوق ذلك فإننا نحسّ بنبضاته وإنفعالاته في كل لحظة من حياتنا. فما هو المقصود ب"سلامة " القلب في القرآن؟ القلب السليم لُغةً هو القلب الخالي من الأمراض والآفات وهو صيغة مُبالغة من الفعل الثلاثي "سَلِمَ" الذي تكون صيغة إسم الفاعل فيه "سالِم". ويذهب بعض المُفَسِّرين إلى أن كلمة "سليم" الواردة في القرآن تعني السلامة من مرض "النفاق و الشَكّ". وواضح جدّاً أن "القلب السليم" في القرآن لا يُقصد به القلب الخالي من العاهات الخَلْقيّة والعُضويّة الخالِصة ، كنقص بعض أجزائه منذُ الوُلادة أو إنسداد بعض الصمّامات أو ضيق الشرايين أو غير ذلك من الأعراض التي تُعزى إلى أسباب عضوية بحتة. ,إنما القصد القرآني من إستخدام عبارة "القلب السليم" لا بُدَّ أن يكون الأشارة إلى القلب القائم بوظائفه الطبيعية كلها كما خُلِقَتْ فيه وأن لا تكون هذه الوظائف مُعَطَّلة جُزئيّاً أو كُلِّياً بسبب مُداخلات نفسية يمكن أن تُصبح أمراضاً نفسيعضويةpsychophysiological فتشِّل القلب قليلاً أو كثيراً عن القيام ببعض وظائفه التي فطره الله عليها. ولقد رأينا عند الكلام عن مدارس علم النفس كيف أن البُحوث المعاصرة تُقِرُّ الآن أن الأنفعالات النفسية يُمكن أن تتحوّل إلى أعراضٍ مرضيّة عُضويّة (فيزيولوجية) إذا لم يستطع الأنسان أن يتخلَّص منها ويمنعها من أن تتحوّل إلى عاهة تُصيب الدماغ بالذات في مناطق الإحساس feeling locations، وبذلك تُؤثِّر على أكثر الأعضاء إرتباطاً بالأحساس وهو القلب.وعلاوة على ذلك فقد أثبتتْ البحوث الحديثة أن مُعظم أمراض القلب بما فيها الذبحة الصدريّة heart attack أو الإحتشاءmyocardial infarctions يكون السبب في حدوثها في أحيان كثيرة إنفعالات نفسية حادّة أو مُستمرة.
ولشدّة إرتباط القلب بالدماغ (بما فيه الجزء العاقل) فإن العرب كانت تُطلق كلمة "القلب" وهي تُريد به "العقل" والإحساس معاً، فهم يقولون مثلاً :" إنَّ المَرءَ بِأصغَرَيْه قَلْبِه و لِسانِه"، ويقول شاعرهم :
لِسانُ الفَتى نِصْفٌ ونِصفٌ فُؤادُهُ فَلَمْ يَبْقَ إلاّ صُورَةُ اللَحْمِ والدَمِ
وقد جرى القرآن على إقتباس هذا المفهوم وأقرّه. ولنأخذ الآية التالية كمثال على ذلك: {أَفَلَمْ يَسيروا في الأرْضِ فَتكونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلونَ بِها أو آذانٌ يَسْمَعونَ بِها فإنَّها لا تَعمى الأبْصارُ ولكِنْ تَعمى القُلوبُ الّتي في الصُدُورِ} (الحَجّ-46).
لقَلْبُ المَريض: وهكذا يُقرّر القرآن أن القلوب يُمكن أن تُصاب ب "العمى"، وهو بالنسبة للقلب كناية عن عدم الإحساس جزئياً أو كليّاً، أي أنها يُمكن أن تُصبح في وضع لا تقوم فيه بوظيفتها التي فُطرتْ عليها أو، باستخدام تعبير أكثر حَداثةً، لا تعمل كما هي مُبرمَجة بيولوجيّاً biologically -programmed. وهذا المفهوم تؤكّده البحوث النفسية المُعاصرة. تقول مدرسة "الأَلَم الأساسي": "إن الأحاسيس بنفسها هي معقولة تماماً ولها منطقها الخاص بها وعندما نَحِسُّ بها فإنها تُعطي لكثير من تصرُّفاتنا هدفاً ومعنى. إن العواطف ليستْ عَمياء إلاّ إذا سُدَّتْ و مُنعتْ من أن تصل إلى إحساسنا. إن الذهن العقلاني يصبح مُشوَّهاً ومُغلّفاً فقط باالعَواطِف المحروفة غير المحسوسة. ولهذا فمعنى أن لا نكون عاطفيّين هو أن لا نكون عقلانيّين. وأن يكون الشخص ذا عاطفة هو أن يكون عقلانيّاً. إنَّ الإحساس والعقل بإتِّحادهما يكوّنان العقلانية الحقيقية true rationality." وإذا عدنا إلى تعابير القرآن فإن إصابة القلب بالمرض تعني إذن فقدان العقلانية التي تشمل الإحساس والعقل كما هو واضح من الآية السالفة. وهكذا نأتي مرة أخرى إلى تشخيص قرآني بيّن يقول أن "العقل" والإحساس في كثير من الناس يُصاب بعاهاتٍ وأمراض تمنعه من أن يقوم بوظيفة التفكير والتحليل الّلذَيْنِ يقودان في النهاية إلى الإستدلال على وجود الخالق سبحانه والإيمان به: {إنَّ في خَلْقِ السَمواتِ والأرضِ واختِلافِ اللّيلِ والنَهارِ لآياتٍ لإُولي الألْبابِ. الذّين يَذْكُرونَ اللهَ قِياماً وَ قُعوداً وعلى جُنُوبِهم ويَتَفَكَّرونَ في خَلْقِ الَسَمواتِ والأرضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النارِ} (آل عِمران-190-191). و "أُولي الألباب" يُقصدُ به أصحاب العقول أي هم أصحاب القلوب اليقظة المُنتبهة. ومعنى ذلك أن القرآن يُقرّر في هذه الآيات وفي كثير غيرها أن الدلائل المذكورة في هذه الآيات القرآنية لا يُلاحظها ولا يستنتج معانيها الإيمانية إلاّ الأشخاص الذين "يَتَفَكَّرون" أي الذين "يَعْقلون"وهم الذين لمْ تُصَبْ عقولهم وقلوبهم بالعَمى المُتسبّب عن مرض نفسي-عضوي. {إنَّ في السَمواتِ والأرْضِ لآياتٍ للمُؤمِنينَ. وفي خَلْقِكُم وما يَبُثُّ مِن دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنون. وا‘خْتِلافِ اللّيلِ والنَهارِ وما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَماءِ مِنْ رِزْقٍ فأحيا بِهِ الأرضَ بَعدَ مَوْتِها وتَصْريفِ الرِياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلونَ} (الجاثيَة-3-5). ويربط القرآن ربطاً مُحْكَماً بين القلب وأمراضه وبين العقل ووظائفه الطبيعية حين يقول: { يا أَيُّها الناسُ قَدْ جاءَتْكُم مَوْعِظَةٌ مِن ربِّكُم وشِفاءٌ لِما في الصُدُور وهُدىً و رَحْمَةٌ لِلمُؤمِنين} (يونس-57). ففي هذه الآية تعبير واضح ، بألفاظ يستطيع أن يَفْقهها حتى المُعاصرون لنزول القرآن، عن حالة المرض الذي تُصاب به قلوب الناس. وعبارة "ما في الصُدور" هي تعبير بديل عن ذكر القلب بصورة مُباشرة. وفي هذه الآية يُعطي القرآن أملاً وعهداً من الله تعالى بأن هذا المرض الذي يُصاب به القلب والعقل ممكن مُداواته والشِفاء منه باتّباع العلاج القرآني:{وَ نُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ ورَحمَةٌ للمُؤمِنين} (الإِسراء 82).
تَغيّيرُ الحالَةِ الداخليّة:
ولكنَّ هذا الشِفاء لا يتمُّ إلاّ إذا قرّر الإنسان بأنه يُريد حقَّاً وصِدقاً أن يعود إلى الحالة الطبيعية الفِطرية التي خلقه الله عليها: {إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّروا ما بِأَنْفُسِهِم} (الرَعْد-11). وهذا تعبير بسيط ولكنه عميق عن طريقة العلاج النفسي الذي يدعو إليه القرآن. فتعبير "حَتَّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم" يتضمّن الدعوة إلى الغَوْص (باستخدام العقل لفحص ردود الأفعال للأحداث الماضية) في داخل النفس وفي أعماقها لكي يُصبح التغيير ممكناً، وهذا يعني أساساً فحص جميع ما تَرسَّب في النفس (أي الجهاز العصبي وخاصّةً في المُخ في المفهوم التشريحي) من مواقِف ومفاهيم وقرارات وردود أفعال منذُ الطفولة الباكِرة وحتى اللحظة الراهِنة، ثُمَّ بذل الجُهد الصادق للتخلُّص من تَبِعات الماضي وبقاياه التي لا تتناسب مع "التصميم programming" الذي أراده الله للناس، والذي كثيراً ما ينحرفون عن إتباع خُطواته. أليستْ هذه هي الطريقة المُتَّبعة في العلاج النفسي الحديث؟ وقد وعد القرآن أن الله سبحانه سوف يُساعد الإنسان الذي يُخلص في بذل الجُهد لتغيّير نفسه :{.....اللهُ يَجْتَبي مَن يَشاءُ وَيَهدي إلَيْهِ مَن يُنيبُ} (الشُورى-13). و"الإِنابَة" هي التوبة والرجوع إلى حُكم الله دون مُعارضة أو عِصيان للنواميس الأساسية التي خُلق الأنسان عليها للفَوْز برضاء الله والطُمأنينة: {وَ أُزْلِفَتِ الجَنَّةُ للمُتَّقينَ غَيْرَ بَعيدٍ. هذا ما تُوعَدون لِكُلِّ أوَّابٍ حَفيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَحمنَ بالغَيْبِ وجاءَ بِقَلْبٍ مُنيبٍ} (ٌ-31-33). ولا بُدَّ أن نُسرع فنقول أن "القلب المُنيب"، حسب المفهوم القرآني، هو القلب الذي أصبح سليماً بعد أن تعافى من "مرضه" بتغيّير ما في النفس، ولذلك فإن صاحبه تنطبق عليه الآن جميع صفات أصحاب القلب السليم في الدنيا والآخرة لإنه أصبح بعد الإنابة من "أولياء الله" :{ ألا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِم ولا هُم يَحْزَنون. الّذينَ آمَنُوا و كانُوا يَتَّقونَ. لَهُمُ البُشْرى في الحَياةِ الدُنيا وفي الآخِرَةِ، لا تَبْديلَ لِكَلِماتِ اللهِ، ذلكَ الفَوْزُ العظيم} .
والواقع أن عدد الآيات القرآنية التي تُشير الى القلب السليم والعقل الخالي من الأوهام مباشرة أو ضِمناً لا تكاد تنتهي ، مما يسمح لنا أن نؤكّد مرة أخرى: إنَّ الذين يدخلون الجنَّة لا بُدَّ بالضرورة أن يكونوا من أصحاب العقول السليمة، لإنهم هم أصحاب النفوس المُطمئنّة:{يا أَيَّتُها النَفْسُ المُطْمَئِنَةُ ا‘رْجِعي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فا‘دْخُلي في عِبادي وا‘دْخُلي جَنَّتي} (الفَجْر-27-30). وهم المُتَّقون وفيهم يقول القرآن:
{ وسارِعُوا إلى مَغْفِرةٍ مِن رَبِّكُم وَ جَنَّةٍ عَرضُها السَمواتُ والأرضُ أُعِدَّتْ لِلمُتَّقين} (آل عِمران-133). وكل صفات أهل الجنة تنطبق عليهم بما فيها العيش المُطمئن في هذه الحياة الدنيا بلا خوف ولا حزن متمتِّعين بالحياة الطيّبة : { مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِن ذَكَرٍ أو أُنْثى و هُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحْييَّنَهُ حَياةً طَيِّبّةً ولَنَجْزِيَّنَهُم أجْرَهُم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلونَ} (النَحْل-97).
وعلى العكس من ذلك أصحاب القلوب المريضة والقلوب الميّتة ( أو المَختومَة بالتعبير القرآني) : {إنَّ الّذينَ كَفَروا سَواءٌ عَلَيْهِم أَأَنْذَرْتَهُم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُم لا يُؤمِنون. خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِم وعلى سَمْعِهِم، وَعلى أبْصارِهِم غِشاوَةٌ ولَهُم عَذابٌ عَظيمٌ} (البَقَرَة-6-7). وهؤلاء الكافرون أصبحوا هكذا لإنَّهم لا يُريدون (وبإصرار) أن يُنيبوا إلى الله، ولهذا فإن الله حمَّلهم مَغَبَّةَ اختيارهم هذا وأراهم نتيجة إبتعادهم عن الفِطْرة السليمة. وسوف نشرح في فصل لاحق عن "مشيئة الله وإرادة الأنسان" العلاقة بين ما يُريده الله لبني البشر وبين ما أعطاه من حريّة للأختيار:{ إنَّا هَدَيْناهُ السَبيلَ إمّا شاكِراً وإمّا كَفُوراً} (الأنسان-3).
عودة إلى صفات القلوب:
ونعود إلى وصف القلوب. فهناك آيات كثيرة أيضاً تصف أصحاب القلوب المريضة وتتنبّأ بمصيرهم الكئيب:{ وَمِنَ الناسِ مَن يَقولُ آمَنَّا باللهِ وباليَوْمِ الآخِرِ وما هُمْ بِمُؤمِنينَ. يُخادِعونَ اللهَ والّذينَ آمَنُوا و ما يَخْدَعون إلاّ اَنفُسَهُم وما يَشْعُرونَ. في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضَاً ولَهُم عَذابٌ أليمٌ بِما كانُوا يَكْذِبون} (البَقَرة-8-10). ونذكر مَثَلاً آخر في هذا الصدد:{ وإذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنهُم مَن يَقولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إيمانَاً ، فَأمّا الّذينَ آمَنُوا فَزادَتْهم إيمانَاً وهُم يَسْتَبْشِرونَ. وأمّا الّذينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزادَتْهُم رِجسَاً إلى رِجْسِهِم وماتُوا وهُم كافِرون} (التوبة 124-125). والرِجْسُ هو عدم الطهارة وخُصوصاً طهارة النفس و العقل وهذا هو تعبير آخر عن أحد خصائص "القلب المريض". فالقلب الأخير الحاوي على الرجس هو من الأعضاء غير النقيّة أو بعبير علمي فإنه قلب يحتوي على شوائب impuritiesوبذلك فهو لا يتميّز الصفاء و النقاوة. ويقول القرآن أن ظاهرة الكُفر هي الحالة المُتَفشِيّة بين البشر:{إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ ولكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يُؤمِنونَ} (هود-17). وتقول آية أخرى :{ وَ ما أَكْثَرُ الناسِ و لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤمِنين} (يوسف-103). وآية أخرى مُشابهة :{ ولَقَد صَرَّفناهُ بَيْنَهُم لِيَذَكَّروا فأبى أكْثَرُ الناسِ إلاّ كُفُوراً} (الفُرْقان-50)، والضمير في "صَرَّفناهُ" يعود على القرآن. وهذه الآيات تُخبرنا بأن أكثر الناس يمكن أن يكونوا ليسوا من ذوي القلوب السليمة ، أي أنهم من ذوي العقول غير الطبيعية أي غير الصِحّية. لذلك فإنهم يعيشون في هذه الحياة الدنيا بتعاسة وهم في الآخرة ليسوا من الذين يدخلون الجنّة: {لَهُم في الدُنيا خِزيٌ ولَهُم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ} (المائِدَة-41). والخِزي هو الهَوان والإذلال والفضيحة والعِقاب والإبعاد والنَدامة. وفي آية أخرى:{ لَهُم عَذابٌ في الحَياةِ الدُنيا وَ لَعَذابُ الآخِرَةِ أشّقُّ وما لَهُم مِنَ اللهِ مِن واقٍ} (الرَعْد-34). وحال هؤلاء التُعساء في الدُنيا والآخرة هو على النقيض من حال المُؤمنين الصادِقين الذين هم بالتأكيد من ذوي القلوب (والعقول ) السليمة الذين مرَّ وصف حالهم في ما سبق والذين يؤكّد القرآن حالهم مراراً :
{.... للّذينَ أَحْسَنُوا في هذه الدُنْيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْر، وَ لَنِعْمَ دارُ المُتَّقين}. (النَحْل-30)، إلى غير ذلك من الآيات التي تُشير إلى أن المُؤمنين الصادقين (ذوي القلوب السليمة والعقول الطبيعية) يتمتَّعون في هذه الحياة ثُمَّ ينقلِبون إلى الجزاء الطيّب في الآخرة. وما أدّق تعبير الأمام علي بن أبي طالب عن صفة المُتَّقين حين يقول:
"واعْلموا عبادَ اللهِ أنَّ المُتَّقينَ ذَهَبوا بِعاجِلِ الدُنيا وآجِلِ الآخِرةِ، فَشارَكوا أهْل الدُنيا في دُنياهم ولَمْ يُشارِكْهُم أهْلُ الدُنيا في آخِرَتِهم. سَكَنوا الدُنيا بأفْضَلِ ما سُكِنَتْ، وأكَلوها بِأفضَلِ ما أُكِلَتْ ، فَحَظُوا مِنَ الدُنيا بِما حَظِيَ بِهِ المُتْرَفونَ ، وأخَذوا مِنها ما أخَذَهُ الجَبابِرَةُ المُتَكَبِّرون، ثُمَّ انْقَلَبوا عَنها بالزادِ المُبَلِّغ والمَتْجرِ الرابِحِ".
السؤال الكبير:
والسؤال الأكبر الذي يطرح نفسه هو: لماذا يختار الناس الكُفر على الإيمان فيعيشوا حياة تعيسة في هذه الحياة الدنيا أوَّلاً وليس لهم نصيب فيما سيأتي في الآخرة من سعادة؟
وجواب هذا السؤال لا يمكن العثور عليه إلاّ في ما توصّل إليه علم النفس المعاصر من تحليلات ونتائج تكاد تكون مُتطابقة تمام التطابق مع ما يصفه القرآن عن حالات قلوب البشر وعقولهم التي تتحكّم في مصائرهم.
ولقد اقتربتْ مدرسة "الأَلَم الأساسي primal pain" كثيراً من إعطائنا صورة لحال أغلبية الناس حين يقول عنهم مؤسّس هذه المدرسة الدكتور آرثر جانوف في كتابه "سُجناء الأَلَم prisoners of pain" :" إن البشرية مُقيّدة من يديها و رِجليها بداءٍ خبيث. إنه أكثر الأمراض خَفاءً وتدميراً واتِّساعاً. إنه حالة عضويّة-بيولوجية ولكن ليس بالمُستطاع إزالتها بريجيم غذائي أو بتمارين رياضيّة أو بتصرُّف عفيف أو بالعقاقير أو بالجِراحة. إن هذا المرض ليس له موقع مُعيّن. إنه المرض الوحيد الذي يوجد في كل مكان تقريباً في الجسم وفي المُخ. ورغم ذلك فإن كل فرد تقريباً غير مُدرك لوجوده. إنه يتسبّب في كثير من الأعراض ويبدو وكأنه مِئاتُ الأمراض وليس مرضاً واحداً. إن هذا المرض هو العُصاب neurosis".
وما هي أعراض هذا المرض إذا تمكَّن من الإنسان؟ يُجيب جانوف، كما مرَّ سابقاً، بأن " الألَم المكبوت والذي هو سبب العُصاب، يجعلنا نتحايل على أنفسنا وعلى الآخرين فنحصل على تصُوّرات خاطئة ونقوم بتصرُّفات غير لآئقة بدون تعمُّد منا، ولا نستمع بانتباه ، ونسمع ونُبصر بصورة خاطئة".
ألا تُذكّرنا هذه الأعراض المرضية النفسية بما جاء في القرآن الكريم بأن كثيرا من الناس {...لَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقَهونَ بِها ولَهُم أعْيُنٌ لا يُبْصِرونَ بها ولَهُم آذانٌ لا يَسْمَعونَ بِها ،أُولئِكَ كَالأنْعامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الغافِلونَ} (الأعْراف-179). وفي آية أخرى :{وإنْ تَدعوهُم إلى الهُدى لا يَسْمَعوا وتَراهُم يَنْظُرونَ إلَيْكَ وهُم لا يُبْصِرون} الأعْراف-198).
ويقول جانوف: "الأَلَم الأساسي إمّا أن يكون بدنيّاً physical أو عاطفيّاً emotional. ورغم الإعتقاد السائد بأنَّ هذين هما نوعان مُختلفان من الوَجَع فإنهما في الواقع مُتساويان من ناحية تعامُل النظام الجسمي معهما." ولا نُريد أن ندخل هنا في تفاصيل عملية الكَبْت repression والتي هي النقيض من عملية الإظهار expression ، ولكن نذكر هنا أنه من المعروف الآن أنَّ الدماغ يستطيع أن يفرز مادّة عضويّة مُخدِّرة من نوع الأندورفين endorphin قد تكون قوّة مفعولها تفوق مفعول المورفين المُخدّر المعروف بعشرات أو بمئات المرّات. ويكون تأثيرها النهائي هو منع الخلايا العصبية التي تختص بالتعامل مع الألم من "التفاعُل" مع الطاقة الإلكتروكيمياوية electrochemical energy التي يُولّدها الإحساس بالألم. وهذه الطاقة لا يُمكن أن "تُبدّد" dissipated إلاّ في تلك المراكز العصبية ولذلك فإنها إذا مُنعتْ من الوصول إلى تلك المراكز المختصة فإنها تنتشر إلى مناطق المُخ الأخرى التي لم "تُخْلَقْ" لكي تتعامل معها و "تُبدّدها". ولهذا ففي مراحل البلوغ تكون هذه الطاقة المُختزنة قد غَمَرتْ خلايا الجزء الفكري أو العاقل intellect من الدماغ الذي لمْ يُخلق لا‘ستهلاكها وتبديدها فتشغله عن التعامل مع وقائع الحياة الآنية بصورة واعية تماماً أي بالتحليل الفكري والتقدير الموضوعي. إنَّ التخلُّص من الألم الأساسي، كما يقول جانوف، يَكْمِن في مواجهته وإرجاعه إلى المراكز العصبية التي خُلقتْ للتعامُل معه. وهذه المُواجهة لا تكون فِكرية بَحْتَة بل مواجهة فِكرية-حِسَّية تستحضر الظرف الزماني والمكاني الذي حصل فيه الألم الأساسي primal pain . يقول جانوف :" عندما نرى كيف يتولّد العُصاب neurosis فإنّنا نرى بصورة أكثر وضوحاً كيف نُعالجه. ومن حُسن الحظّ فإن عندنا في كل الأوقات الوسائل التي نستطيع بها أن نُعالج نفوسنا. إن إطلاق قُدرة العقل هو الكفيل بإنهاء المُعاناة."
إستِخدامُ قُدرَةِ العَقْلِ لِبُلوغِ الصِحَّةِ النَفْسِّية: وهذا توافقٌ تام بين ما توصّل إليه علم النفس الحديث وبين ما أوضحه الأسلام عن طبيعة النفس البشريّة. بل أن القرآن ينصُّ بكُل وضوح أنَّ الذين لا يستطيعون أن يستخدموا عقولهم وأعضاء الحِسِّ عندهم هم الذين سيدخلون النار:{ولَقَد ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثيراً مِنَ الجِنِّ والإنْسِ لَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقهون بِها ولَهُم أعْيُنٌ لا يُبْصِرون بِها ولَهُم آذانٌ لا يَسْمعونَ بِها ، أُولئكَ كالأنعامِ بَلْ هُم أضَلُّ أؤلئكَ هُمُ الغافِلون} (الأعْراف-179). أليست الأعراض الواردة في هذه الآية هي نفس أعراض مرض العُصاب neurosisالذي يجعل أصحابه ناقصي الوعي أو بدون وعي أي "غافلين" عمّا يُحيط بهم؟ فكلمة "الغافلون" الواردة في آخر الآية يمكن ترجمتها بكلمة unconscious أو كلمة unawareوهي إحدى صفات مرض العُصاب كما يُقرر ذلك آرثر جانوف وأوردناه في أعلاه. وعدم الوعي (أو الغَفْلَة) هو نتيجة لتعطُّل الفكر عن القيام بأعماله الفطرية، ولهذا يقول المختصّون بعلم النفس الحديث أنَّ الوَعْي هو الحريّة الوحيدة consciousness is the only freedom. والقرآن يذهب إلى أبعد من ذلك في وصف الذين لا يستخدمون عقولهم في رؤية الأشياء كما هي إذ يغدون وكأنهم نوع آخر من المخلوقات (الدوابّ) ويتوقّفون عن أن يكونوا بشراً حقيقيّين حين يقول:{ إنَّ شّرَّ الدَوابِّ عِندَ اللهِ الصُمُّ البُكمُ الّذينَ لا يَعقِلونَ. وَلَو عَلِمَ اللهُ فيهِم خَيْراً لأَسمَعَهُم وَلَو أَسمَعَهُم لَتَوَلَّوْا وهُم مُعرِضون} (الأنفال-22-23). ألا يذكّرنا هذا الوصف القرآني لبعض الناس بما يقوله أريك بيرن مُؤسِّس مدرسة التحليل التعامُلي حين يقول أن كثيراً من الناس يُصبحون وبتأثير الوالدين أطفالاً "مُغيّرين" أو "مُبدّلين" أي أطفالاً غير طبيعيين ويكبرون ليُصبحوا أشخاصاً غير حقيقيّين أو مُستعَبدين؟
واضح أنَّ القرآن والعقيدة الأسلامية تجعل الإنسان مسؤولاً عن عدم وعيه لِما يُحيط به ومسؤولاً عن غفلته، ويُهدِّدانه بمصير مُظلم في الدنيا والآخرة:{ وقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ او نَعْقِلُ ما كُنَّا في أصْحابِ السَعيرِ} (المُلْك-10). والعلاج القرآني المُتَمَثِّل في "التوبة" والعودة إلى الله أو "الإِنابة"يتضمَّن في ما يتضمَّن الحضور العاطفي الجيّاش مُتمثّلاً بالبُكاء، إضافة إلى الحضور العقلي المُركّز:{وَ يَقولُونَ سُبحانَ رَبِّنا إنْ كانَ وَعدُ رَبِّنا لَمَفعولاً. ويَخِرُّونَ لِلأذْقانِ يَبكُونَ ويَزيدُهُم خُشُوعاً} (الإسراء-108-109)، وفي آية أخرى:{...إذا تُتْلى عَلَيْهِم آياتُ الرَحمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيّاً} (مَريَم-58). والبُكاء بين يدي الله يُذكّرنا بما تدعو إليه بعض طُرق العلاج النفسي الحديث من ضرورة مُصاحبة تذكُّر آلام الماضي (وقرارات رد الفعل غير الحكيمة) بإتاحة المجال للتعبير عن الإحساس بالألم حتى بالبكاء.
من الممكن من هذه الآيات والوقائع إستنتاج المفولة الخطيرة والبسيطة التالية: إنََّّ الإنسان الذي يعيش حياة الفِطرة (أي الحياة الطبيعية) في هذه الدنيا فإنه سيحيا سعيداّ في هذه الحياة وسوف يكون من أصحاب الجنَّة في الآخرة. وهذا يعني ضمناً أن الفطرة الإنسانية تنطوي على الإيمان. وهذا الأستنتاج تُبرزه الآية التي تقول:{ فَأَقِمْ وَجهَكَ للدينِ حَنيفَاً، فِطرَةَ اللهِ التي فَطَرَ الناسَ عَلَيها ، لا تَبديلَ لِخَلْقِ اللهِ، ذلِكَ الدينُ القَيِّمُ ولكِنَّ أكْثرَ الناسِ لا يَعلَمون} (الروم-30).
مع أجمل وأرق ألأمنيات.
بوح الروح
عِلْمُ النَفْسِ القُرْآنِي
يتبيّن مما ذكرنا أعلاه أن المُشتغلين في علم النفس وحتى المُعاصر منه لم يتّفقوا على منهج واحد يتناولون فيه المسألة النفسية عند الإنسان. وهذا الإختلاف له سببان رئيسيان.الأول: أن هذا الفرع من العُلوم لا يزال في حالة من النمو والتوسُّع ولهذا فالنفسانيون المُعاصرون يعتبرون هذا الإختلاف شيئاً لامندوحة عنه بينما تستمر البحوث للوصول إلى نظرية شاملة يمكن في النهاية أن تُنسِّق المعلومات المتوفرة وتضعها في نظام منهجي مُوحَّد. السبب الثاني في الأختلاف بين مدارس علم النفس المُعاصر وخاصة العلاجي منه أن هذا العلاج أصبح في الدول الصناعية الرأسمالية، وخصوصاً الولايات المُتحدة، نوعاً من التجارة المُربحة التي تَدُرُّ على أصحابها الأموال الطائلة. ومن الناقدين من يَتَّخذ موقِفاً قاسياً من محاولات المُعالجين النفسانيين لتوسيع نشاطهم إلى كل شرائح المجتمع. ونقتطع بعض ما جاء في مقال لبيرني زيلبرجلد bernie zilbergeldفي كتابه:" بيع العلاج النفسي" كمثال على ذلك: "إنَّ إعتقادنا _نحن الأمريكان_ بتفوّق الإختصاص وولوعنا بحل المشاكل والميل نحو الكمال يدفعنا لأن نعتمد على الإختصاصيين. وليس هناك مكان يكون إعتمادنا فيه على المُختصين أكثر وضوحاً من حقل التوجيه الشخصي. ومن الخطأ أن نُفَكِّر أن المؤسسة العلاجية النفسية تزدهر فقط لأننا نعاني من المشاكل ونرغب في أن نجد الإختصاصيين الذين يستطيعون أن يُساعدونا في حَلِّها. إن المُعالجين النفسيين أنفسهم نشيطون جداً في الدِعاية وزيادة الطلب على خدماتهم. إن هذا ليس من الصعب فهمه إذا تقبلّنا حقيقة أن العلاج النفسي، مهما كانت صفاته الأخرى، فإنه عملية تجارية. ومن سُخرية الأحوال فإن التثقيف في حقل الصحة العقلية، والذي يهدف إلى تعليم الناس كيفية التعامل بطريقة أكفأ مع الحياة، فإنه بدلاً من ذلك أدّى إلى زيادة الطلب على خدمات العلاج النفسي. إن الطريقة التي يبيع المعالجون بها خدماتهم ويساهمون بالتالي في زيادة الطلب عليهم يمكن أن توصف في الخطوات التالية:
1. الإستمرار في سكلجة الحياة psychologization of life
2. إفتعال "المشاكل" من بعض الصُعوبات ودَقُّ ناقوس الخطر.
3. العمل على تقبّل فِكرة وجود المشاكل لدى الأفراد وفي نفس الوقت عدم القُدرة على حلِّها من قبل الفرد العادي بنفسه.
4. الإستعداد لتقديم الخلاص salvation.
إن هذه الصيغة أو ما يقرب منها هي التي يقوم بتطبيقها المُعالجون الأفراد والمؤسسات العلاجية."
ويمضي زيلبرجيلد قائلاً:" إن ما أريد تأكيده هو أن هذه الصيغة ليست نتيجة لمؤامرة أو حتى أن التوصل إليها تم بصورة مقصودة. كذلك فإن تفاصيل هذه الطريقة أو إطارها العام لا تُدرّس في المدارس المهنية أو دراسات البحوث. ولكن المعالجين المختصين بكل وضوح يرغبون في ان يتمتَّعوا بمستوىً لائق من الحياة بإشتغالهم في حقل يُحِبُّون العمل فيه وغالباً فإنهم لا يجدون طلباً كبيراً عليه، فيكتشفون أنه لا بُدَّ لهم من عمل شيء لخلق مُستهلكين لأحاديثهم وكُتبهم ودوراتهم التثقيفية ومُعالجاتهم.وهكذا فإنهم ينتتهون بصورة واعية أو لاواعية إلى القيام بإتباع الصيغة التي ذّكرت أعلاه."
المسألة التجارية و الطريقة القرآنية: وفي رأينا أن العامل التجاري هو من العوامل المهمة جداً في اختلاف وإشاعة كثير من العِلاجات النفسية غير المُمحّصة خصوصاً، وباعتراف الباحثين الغربيين أنفسهم، بعد تضاؤل ما يُسمى ب "مصادر المعاني و التضامن التقليدية". والتعبير الأخير يعني ضمن ما يعنيه تضاؤل العقيدة الدينية والروابط الأسرية والإجتماعية. والعامل التجاري يمكن أن يكون، أو هو على الغالب، سبباً جذرياً في عدم وضع الحقيقة المُجرّدة والرَحْمَة بالأنسانية نُصْبَ عيون المُشتغلين في العلاج النفسي.
إن النظرة إلى العامل التجاري والموقف منه هو ما يُميّز العلاج القرآني عن العلاجات المُعاصرة. فالقرآن يَنُصُّ بوضوح أن الرسول ( ص) لا يطلب أجراً ولا عِوَضاً ماديّاً على ما يقوم به من تبليغ الرسالة وجعل الشِفاء في مُتناول أيدي الناس، فقد وردتْ عبارة
{ وَما أساَلُكُم عَليهِ مِنْ أجْرٍ إنْ أجري إلاّ على رَبِّ العالَمين} في خمس آيات في سورة "الشُعَراء". ويتكرَّر نفس المعنى في آيات عديدة فنقرأ مثلاً: {ومَا تَسأَلُهُم عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ للعالَمين} (يوسف-104)، {قُلْ لا أسْأَلُكُم عَلَيْهِ أجراً إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرى للعالَمين} (الأنْعام-90)، {قُلْ ما سْألتُكُم مِنْ أجْرٍ فَهُوَ لَكُم إنْ أجْري إلاّ على اللهِ} (سَبَأ-47) إلى غير ذلك من الآيات التي خرجت لنفس الغرض. وأكثر ما سُمح للرسول (ص) أن يسأل من أجر كان هوطلب الموَدَّة في أقربائه:{ قُلْ لا أسْأَلُكُم عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ في القُرْبى} (الشورى-23). وهكذا فإن العلاج القرآني الذي جاء به الرسول (ص) هو علاج مجّاني تماماً متطابق مع مضمون الآية: {ومَا أرْسَلناكَ إلاّ رَحْمَةً لِلعالَمين} (الأنبياء-107). وعن القرآن نفسه تذكر الآيات أنه شِفاء للنفوس ( ما في الصدور) و رحمة وهدىً لمن يؤمن بالله وحكمته: {يا أيُّها الناسُ قَدْ جاءَتْكُم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُم وشِفاءٌ لِما في الصُدُور وهُدىً ورَحْمَةٌ للمُؤمِنين} (يونس-57). وتتكررالآيات في وصف القرآن بأنه رحمة وهدى وبُشرى للمؤمنين في آيات عديدة.
التضامن الجماعي والطريقة القرآنية: المعالجون النفسيون يعتبرون أن وجود الجماعة البشرية المساندة support group هي من ضرورات الإستشفاء النفسي الناجع. فالإختلاف الآخر بين العلاج القرآني والعلاج النفسي لكثير من الطرق المُعاصرة هو أن القرآن يجعل من تضامُن المؤمنين وتوادّهم موضوعاً أساسياً في تقوية الفرد والمجموع ولا ينظر إلى الفرد وكأنه مُنعزل عن محيطه الإنساني كما يذهب عملياً إلى ذلك البعض من مناهج العلاج النفسي:{والمُؤمِنُونَ والمُؤمِناتُ بَعضُهُم أوْلِياءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بالمَعروفِ ويَنْهَونَ عَنِ المُنكَرِ ويُقيمُونَ الصلاةَ ويُؤتُون الزَكاةَ ويُطيعونَ اللهَ ورسُولَهُ أولئكَ سَيَرحَمُهُمُ اللهُ أنَّ اللهََ عَزيزٌ حَكيمٌ} (التوبَة-71). وفي آية أخرى:{مُحَمَّدٌ رَسولُ اللهِ والّذين مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُم...} (الفَتْح-29). فالمؤمنون هم أولياء أي أصدقاء وأحبّاء بعضهم البعض وأن شدّتهم هي على الكافرين فقط ومتى ما أصبح الكافرون مسلمين فأنهم يكونون عندها إخواناً للمؤمنين وأولياء لهم. وفوق ذلك فإن كل المؤمنين يتّحدون في إتخاذ الله سبحانه هو الوليُّ الأكبر لهم جميعاً :{إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسولُهُ والّذينَ آمَنُوا الّذينَ يُقيمونَ الصَلاةَ ويُؤتونَ الزَكاةَ وهُم راكِعونَ}(المائدَة-55)، {اللهُ وَليُّ الّذينَ آمَنُوا يُخرِجُهُم مِنَ الظُلُماتِ إلى النُورِ ...} (البقرة-257)، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تؤكّد على المؤمنين أن يتخذوا الله وليّاً أعلى لهم لإنه {نِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النصير...} (الحَجّ-13).وإذا قارنّا هذا الجوّ الإجتماعي وتأثيره الإيجابي على الحالة النفسية للفرد لوجدنا أن العلاج النفسي يعتبر وجود مثل هذا التنظيم جُزءاً اساسياً في بلوغ الحالة النفسية الصحيّة. إضافة إلى ذلك فإن إشاعة الروح الجماعية واضحة جداً في العبادات الإسلامية من تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد ومن الأدعية التي تأتي بصيغة الجمع حتى وإن كان الذي يقوم بالدعاء هو فرد واحد من المسلمين:{ رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعدَ إذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِن لَدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ انْتَ الوَهَّابُ} (آل عِمران-، {رَبَّنا آتِنا في الدُنيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النارِ} (البَقَرَة-201). كما أن إيتاء الزكاة والصدقات هو من الحلول الواقعية للتضامن الإجتماعي للتخفيف من الضائقة الإقتصادية للأفراد المُحتاجين. وهذا التشابه في الإستنتاج سبق وأن أشرنا إليه عندما تكلمنا بإختصار عن طريقة المدرسة "الإسترجاعية الحيوية" ،إذ يقول جيروم فرانك:"وبما أن الشخص المُعالِج يُمثّل المجتمع الأوسع فإن مُجرّد قبوله للمريض كشخص يستحقُّ المساعدة يؤدي إلى مُكافحة شعور المريض بالعُزلة ويساعد في إعادة إحساسه بالإرتباط مع مجموعته." إذن فعدم وجود العُزلة الإجتماعية في الإسلام هو جزء رئيسي من الوصفة القرآنية لبوغ الصحة النفسية. ويصف الرسول (ص) العلاقة بين أفراد المجموعة الإسلامية بأنها كالعلاقة بين أعضاء الجسد الواحد فيقول:" مَثَلُ المُؤمِنينَ في توادِّهم وتَراحُمِهم كَمَثَلِ الجَسَدِ الواحِدِ إذا اشتَكى منهُ عُضوٌ تَداعى لهُ سائرُ الأعضاءِ بالسَهَرِ والحُمَّى." بل أن النظام الإجتماعي في الإسلام مُسخّرٌ لخدمة حاجات جميع أبنائه. فكما يقول المفكر الراحل السيد محمد باقر الصدر في كتابه المعروف "إقتصادنا" عند مقارنة النُظُم الإجتماعية من راسمالية و إشتراكية : " وأما الإسلام فهو يحكم على كل نظام في ضوء صلته بالحاجات الإنسانية المتنوعة، التي يجب على النظام تكييف الحياة تكييفاً يضمن إشباعها بوصفها الأساس لنشوء الحياة الإجتماعية. و لا يعتبر هذا الشكل أو ذاك من أشكال الإنتاج مبرراً لقيام نظام إجتماعي و علاقات توزيع لا تكفل إشباع تلك الحاجات لأنه يُنكر تلك الصلة الحتمية المزعومة بين أشكال افنتاج و النُظُم الإجتماعية". كذلك فإن الإعتقاد بوجود إله خالق عادل حكيم رحمة واسعة و بعيد عن الظلم يُشكّل ما يُسمّى في المفهوم المعاصر "الأساس المنطقي rationale” لبلوغ المستوى المرغوب من الصحة النفسية ببناء الثقة بان الخالق لا يريد للفرد و للمجتمع الإنساني إلا الخير رغم وجود المصاعب التي تعترض الطريق و تُعتبر نوعاً من الإمتحان (البلاء) يُعرف بها الذين لا يفقدون الأمل و الثقة بالحكمة الآلهية عن غيرهم :" ما يَفعلُ اللهُ بِعذابِكُم إنْ شَكرتُم و آمنتُم وكانَ اللهُ شاكِراً عليماً" (النساء-147). و لسان المؤمنين هؤلاء يقول: "قُلْ لَن يثصيبنا إلاّ ما كَتَبَ اللهُ لنا هوَ مولانا و على اللهِ فليتوكّلِ المؤمنون" (التوبة-51). وكما مرَّ بنا فإن أحد أركان نجاح أي علاج نفسي هو "وجود الساس المنطقي rationale " أو المخطط الفكري الذي يعطي شرحأً مقبولاً لإعراض المريض و يصف إجراءات للخلاص منها. وغني عن القول أن الأساس الفكري للشِفاء في القرآن هو التسليم طوعاً و إقتناعاً لسلطة الخالق الرحيم النهائية باعتياره "القاهر فوق عباده" وأنه هو العليم الحكيم.
روقٌ أُخرى: أما الفرق الجوهري بين طريقة العلاج القرآني و الطرق المعاصرة في العلاج النفسي فهو أن المُعالج في الطريقة القرآنية هو الله تعالى وأنه مُستعِدٌّ دوماً لقبول و"إحتضان" الفرد إذا قرر ذلك الفرد أن يُفوّض أمره إلى خالقه ويؤمن بعدالته:{ ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُم إن شَكَرتُم وآمَنتُم وكانَ اللهُ شاكِراً عَليمَاًْ} ( النِساء-147). ولهذا فإن ما يقوله المُعالجون النفسانيون المُعاصرون من ضرورة وجود المُشاركة الفعّالة بين المريض والمُعالج يُعادلها في الطريقة القرآنية العلاقة الحميمة بين الله وبين الفرد تتمثّل اساساً في غقامة الصلوات اليومية الخمس و النوافل والأدعية و الذكار المستمرة طيلة أوقات اليقظة: "فإذا قُضيت الصلاةُ فانتشروا في الأرضِ وابْتَغوا مِن فَضلِ اللهِ واذكروا اللهَ كثيراً لَعَلَّكم تُلحون" (الجمعة 10). وقد يكون هناك مُرشداً بشرياً يُوجّه ذلك الفرد إلى ناحية الخالِق وإلى تشجيعه على إنشاء علاقة حميمة معه ولكن في النهاية يجب أن تكون العِلاقة بين الله وبين الفرد. ,قد أبدلتْ طرق العلاج النفسي العلاقة المصيرية بين الخالق والفرد إلى علاقة "مصيرية" بين المُعالج النفسي والمريض بقولها:" إن الإجراءات تتطلَّب المشاركة الفعّالة من المريض والمُعالج وهما يعتقدان كلاهما أنها الطريق المُناسب لإستعادة صحّة المريض." وبالتأكيد فإن المريض يعلم جيداً أن المُعالِج مهما بلغ من العلم والخبرة فإنه في التحليل الأخيركائن ذو قدرة محدودة لأنه إنسان مثله. أما في الطريقة القرآنية فإن الفرد لا يحتاج إلى شخص آخر من بني البشر لإن المُعالج هو عين الخالق العادل القادر الرؤوف الرحيم. ودور أي إنسان آخر هو دور المرشد والدليل لإقامة هذه العلاقة الحميمة بين الفرد وبين خالقه وهذا هو في الواقع دور الأنبياء والصالحين في العقيدة الإسلامية: أن يعملوا على أن يكونوا مُرشدين لمساعدة الإنسان على أن يصل إلى معرفة الخالق وتفويض أمره إليه.فالإنسان إذن، في المفهوم القرآني، قادر بنفسه على أن يصل إلى حالة الصحة النفسية بمفرده، ودور الأفراد الآخرين لا يمكن أن يكون إلا أحد العوامل التي تُسرع في بلوغ الفرد مرحلة إقامة الحوار مع الله سبحانه وتعالى.
وكما ذكرنا سابقاً أن القرآن عندما يُشير إلى بعض الظواهر الكونية و الحياتية فإنه لا يهدف إلى إستقصاء كل حقائق الوجود أو أن يكون كتاباً غايته أن يُبّين قوانين الطبيعة ويقف عند حدودها. إن الهدف من هذه الإشارات، التي برهن العلم على تطابقها مع المعرفة العلمية المعاصرة، هو أن يوصل الإنسان ليؤمن بوجود خالق قديرعارف تماماً بحقائق الوجود وإن علمه قد أحاط بتفاصيل كل شيء.
كيفيّة التخلُّص من القَلق في الطريقة القرآنية: أمّا الهدف االنهائي والجوهري للقرآن، في رأينا، فهو إيصال الإنسان إلى حالة السلام والإطمئنان النفسي المُتولّد من الإيمان الذي يؤيده العقل. وأبرز عوامل إطمئنان النفس هو إيقاف القلق على مصير الإنسان والإقتناع بأنه راجع إلى ربٍّ رحيم رؤوف عادل لا يُريد للإنسان إلاّ الخير والسعادة التي تتحقق من إطاعة نواميس الفطرة التي خلقه الله عليها :{ ما يَفعَلُ اللهُ بِعَذابِكُم إنْ شَكَرتُم وآمَنتُم وكانَ اللهُ شاكراً عليماً} (النساء-147). و الشيئ الذي يمكن الإشارة إليه هنا هو أن الخالق تعالى قد وفّر للإنسان كل ما يحتاج إليه في حياته الدنيا و للا توجد حاجة لم يخلق الله لها ما يشبعها. فأليس من المنطق أن تكون الحاجة الكبرى وهي حب البقاء و الخلود قد خلقها الله واقعاً و لكن لحكمة قد جعلها في طور آخر هو طور الحياة الأخرى؟ فإذن أن هناك أساساً منطقياً لتوقع إستمرار الحياة ولو إعترض الموت طريق الحياة الدنيا. فبداية الحكمة (أو العلاج النفسي) في القرآن ونهايتها هي القبول والرضا بوضع النفس والمصير في يد خالق الوجود والرضا بما قدّر على الإنسان من الحياة ومتطلّباتها والموت وحتميّته. وهكذا فإن القبول بكل نواميس الوجود يتضمن الرضا بنهاية الحياة على هذه الأرض. وقد أقرَّ علم النفس بإن المسألة البيولوجية (أي غريزة حب البقاء) وموقف الإنسان منها هي صُلب المسألة النفسية عند الفرد. ولا شكَّ أن قبول حقيقة الموت، رغم تعارضها الظاهري مع غريزة حب البقاء، وعدم الخوف منه بل والنظر إلى ما وراءه بأمل وشوق هو الحلُّ الأوحد والنهائي لقضية المسألة النفسية عند الإنسان. وللتدليل على هذا الأستنتاج فإن القرآن لا ينظر إلى هذه الحياة التي يُسمّيها الحياة الدُنيا إلاّ أنها مَمَرٌ إلى حياة دائمة خالدة وهي الحياة الآخرة: {وَ ما هذِهِ الحَياةُ الدُنيا إلاّ لَهْوٌ و لَعِبٌ وإنَّ الدارَ الآخِرَة لَهِيَ الحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون} (العَنْكَبوت-64). فالحياة التي تستحِقُّ أن يُطلق عليها هذا الأسم هي الحياة (الحَيَوان) في الدار الآخرة أي بعد فراق هذه الدنيا. {اعْلَموا أَنَّما الحَياةُ الدُنيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ و زينَةٌ وتَفاخُرٌ بَيْنَكُم و تَكاثُرٌ في الأمْوالِ و الأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتراهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكونُ حُطامَاً وفي الآخِرَةِ عَذابٌ شَديدٌ و مَغْفِرةٌ مِنَ اللهِ و رِضوانٌ وما الحياةُ الدُنيا إلاّ مَتاعُ الغُرورِ} (الحَديد-20) والآيات التي تصف هذه الحياة بأنها مؤقّتة، وأنها لا تُساوي شيئاً مُقارنة بالحياة الآخرة، كثيرة جداً، ولنُورد بعض الأمثلة الأخرى إستتماماً للفائدة: {وَفَرِحوا بالحَياةِ الدُنيا و ما الحَياةُ الدُنيا في الآخِرَةِ إلاّ مَتاعٌ} (الرَعْد-26). {أرَضيتُم بالحياةِ الدُنيا مِنَ الآخِرَةِ فَما مَتاعُ الحَياةِ الدُنيا في الآخِرَةِ إلاّ قَليلٌ} (التوبة-38). {بَلْ تُؤثِرونَ الحَياةَ الدُنيا و الآخِرةُ خَيْرٌ وأَبْقى} (الأعْلى-16). إذن، فإن أوّل عوامل الطَمْأنينة هو أن يقتنع الأنسان بأن الموت لا يُساوي الفَناء، بل أن الموت هو حد يفصل حياة مُؤقّتة عن حياة دائمة. ولكن القرآن لم يطلب من الناس أن يُديروا ظهورهم إلى هذه الحياة الدنيا، كما فعلتْ بعض الأديان الأخرى، رغم قِصَر مُدَّتها وهوان شأنها عند مُقارنتها مع الحياة الآخرة بل نراه ينصح الأنسان أن يعيش هذه الحياة بعُمق لأن الله جعلها داراً يُمتِّع بها الناس إلى فترة محدودة ويبتليهم بها لأنها دار الإعداد للدار الآخرة: {وَ ابْتَغِ فيما آتاكَ اللهُ الدارَ الآخِرَةَ و لا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُنيا} (القَصَص-77). ومثل آخر:{ وَ قِيلَ للذّينَ اتَّقَوْا ماذا أنْزَلَ رَبُّكُم قالوا خَيْراً للذِّين أحْسَنوا في هذهِ الدُنيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ و لَنِعمَ دارُ المُتَّقينَ} (النحل-31).أما الموقف الأساسي في القرآن فهو الأستعداد الدائم للانتفال من هذه الدنيا والألتحاق بالحياة الآخرة . فالمؤمنون الحقيقيون يفرحون بالأنتقال إلى الدار الآخرة لأن {ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ للأبرارِ} (آل عِمران-198). والرسالة النهائيّة التي يُبلُّغها القرآن للجنس البشري هي:{ :كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ، وإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُم يَوْمَ القِيامَةِ، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النارِ وأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فازَ، وما الحياةُ الدُنيا إلاّ مَتاعُ الغُرُور} (آل عِمران-185). فإذا آمن الأنسان أن هذه حياة لها ما بعدها فإنه يُمكن أن يتَقَبَّل أخيراً مسألة موته وتُحَلُّ أكبر مشاكله وهي مُشكلة الحاجة أو الأحتياج الى البقاء need to surviveالتي يعتبرها علماء النفس، كما مرَّ أعلاه، هي العلّة الأصليّة في نشوء المرض النفسي. وكما مرَّ بنا أن الحاجة للبقاء هي أول حاجة يواجهها الأنسان منذ تكوينه جنيناً في بطن أمّه. وبما أن الخوف من الألم هو في أساسه خوف من الفناء أو الموت فالإيمان بالحياة الآخرة يعني أن مشكلة الخوف من الألم ، مهما تعدّدتْ أسبابه، لم تعُد مع الإيمان، مسألة تُثير القلق أو الهلع. ويمثّل الدعاء التالي المأثور عن أحد أئمة المسلمينموقف المسلم المؤمن فيما يخص الموت وحب البقاء في هذه الدنيا: " اللهُمَّ صلِّ على محمّدٍ وآله واكفنا طول الأمل و قَصرّه عنا بِصِدقِ العَمَل، حتى لا نؤمّل استتمامَ ساعةٍ بعد ساعة، ولا استيفاءَ يومٍ بعد يومولا اتصّالَ نَفَسٍ بنَفَس و لا لُحوقَ قدمٍ بقدم وسلّمنا منِ غروره وآمنّا من شُرورِه. وانصبالموتَ بين أيدينا نَصباً و لاتجعلْ ذكرنا له غِبَّاَ واجعلْ لنا من صالح الأعمالِ عَملاً نستبطيءُ معهُ المصيرَ إليكَ و نَحرصُ لهُ على وَشَكِ اللّحاقِ بكَ حتّى يكونَ الموتُ مأنسَنا الذي نأنَسُ به و مألَفَنا الذي نشتاقُ إليه وحامّتنا التي نُحبُّ الدُنوَّ منها . فإذا أوردتَه علينا وأنزلتَهُ بنا فأسعِدنا به زائراً وآنسنا به قادْماً. و لا تُشقنا بضيافته ولا تُحزنّا بزيارتِه. و اجعلهُ باباً من ابوابِ رحمتِكَ ومِفتاحاً من مفاتيح رحمتك. أمِتنا مُهتدين غير ضالّين طائعين غير مُستَكرهين تائبين غير عاصين ولا مُصرّين ، يا ضامن جزاء المحسنين و مستصلح عملَ المُفسِدين.
النَفْسُ المُطمئِنَّة : والمِقياس الذي يضعه القرآن للتفريق بين من "يُزحزح عن النار ويدخُل الجنَّة" وبين مَن يدخل النار هو حالة الأطمِئنان . فالمؤمن حينما يحين وقت رحيله عن هذه الدنيا يكون مُطمئن البال ونفسه هادئة راجية للثواب، وعنه يقول القرآن: { يا أيَّتُها النَفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ، اِرْجِعي إلى رَبِّكِ راضِيةً مَرْضِّيةً، فادْخُلي في عِبادي ، وادْخُلي جَنَّتي} (الفَجْر-27-30). والنفس في لُغة القرآن تعني الروح والجسد أي كامل الكيان الأنساني.والوصول إلى حالة الأطمئنان هذه في كل لحظة من لحظات الحياة هو البؤرة focusالتي تتكلم عنها كافَّة آيات القرآن مُباشرة أو بصورة استنتاجية غير مباشرة. فمن التعابير المُباشرة عن حالة الأطمئنان هذه نقرأ في سورة "مُحَمَّد" {والّذينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصالِحاتِ وآمَنُوا بِما نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ وهُوَ الحَقُّ مِن رَبِّهِم كَفَّرَ عَنْهُم سَيِّئاتِهِم وأَصْلَحَ بالَهُمْ} (مُحَمَّد-2). ف"إصلاح البال" يعني إختفاء حالة القَلَق الذهني و الأضطراب الفكري وهي مُعادلة لحالة الأطمئنان والسعادة.
خَصائِصُ النَفْسِ المُطمَئِنَّة: أمّا أكبر خصائص "النفس المُطمئنّة" والتي تُصاحِب صلاح البال " والذينَ آمنوا وعَمِلوا الصالحاتِ وآمنوا بما نُزّلً على مُحمدٍ وهوَ الحقُّ من ربِّهم كَفّرَ عنهُم سيِئاتِهم و أصلَحَ بالَهم" ( محمد-2). وهي صفة التمتُّع ب "القَلب المُطْمئِن": {الّذينَ آمَنوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ، ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلوبُ} (الرَعْد-28)، أوحالة "القلب السليم" التي ذكرها القرآن في دُعاء النبي إبراهيم (ع): {ولا تُخْزِني يَوْمَ يُبْعَثون، يَوْمَ لا يَنفَعُ مالٌ ولا بَنُون، إلاّ مَنْ أتى اللهَ بِقَلْبٍ سَليم" (الشُعَراء-87-89). إذن فالقلب السليم هو المِعيار لرِضاء الله وبالتالي الفوز بالجنّة. وهكذا يقودنا القرآن إلى إستنتاج المعدلات البسيطة التالية:
النفس المُطْمَئنَّة (القَلْب المُطْمَئِن) = حالة صلاح البال= حالة القلب السليم= الحالة الواجبة لدخول الجنّة
وهذه الحالات لها مظاهر أخرى كعدم وجود الخوف و الحُزن: {أَلا إنَّ أَوْلياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِم ولا هُمْ يَحْزَنُون} (يونس-62)، {إِنَّ الّذينَ آمَنُوا و عَمِلُوا الصالِحاتِ وأَقامُوا الصَلاةَ و آتَوْا الزَكاةَ لَهُم أجْرُهُم عِندَ رَبِّهِم ولا خَوْفٌ عَلَيْهم ولا هُم يَحْزَنون} (البَقَرَة-277)، ويتكّرر ذكر ذلك في آياتٍ متعددة. و جدير ذكره أن "الخوف" و"الحزن" عاطفتان تتولّدان من "الأَلَم" المُتولّد بدوره من عدم الحصول على ما يحتاجه الأنسان ويرغب فيه.
لقَلْبُ السَليم: و ذِكْرُ "القَلْب" في القرآن وإعتباره مِعياراً لدخول الجنّة إذا كان سليماً وسَبَباً لدخول النار إذا كان مريضاً (كما سنذكر بعد قليل) يتّخذ أهميَّة بالغة بالنسبة لنا نحن البشر. فالقلب جهاز عُضوي نحس بوجوده دائماً وفوق ذلك فإننا نحسّ بنبضاته وإنفعالاته في كل لحظة من حياتنا. فما هو المقصود ب"سلامة " القلب في القرآن؟ القلب السليم لُغةً هو القلب الخالي من الأمراض والآفات وهو صيغة مُبالغة من الفعل الثلاثي "سَلِمَ" الذي تكون صيغة إسم الفاعل فيه "سالِم". ويذهب بعض المُفَسِّرين إلى أن كلمة "سليم" الواردة في القرآن تعني السلامة من مرض "النفاق و الشَكّ". وواضح جدّاً أن "القلب السليم" في القرآن لا يُقصد به القلب الخالي من العاهات الخَلْقيّة والعُضويّة الخالِصة ، كنقص بعض أجزائه منذُ الوُلادة أو إنسداد بعض الصمّامات أو ضيق الشرايين أو غير ذلك من الأعراض التي تُعزى إلى أسباب عضوية بحتة. ,إنما القصد القرآني من إستخدام عبارة "القلب السليم" لا بُدَّ أن يكون الأشارة إلى القلب القائم بوظائفه الطبيعية كلها كما خُلِقَتْ فيه وأن لا تكون هذه الوظائف مُعَطَّلة جُزئيّاً أو كُلِّياً بسبب مُداخلات نفسية يمكن أن تُصبح أمراضاً نفسيعضويةpsychophysiological فتشِّل القلب قليلاً أو كثيراً عن القيام ببعض وظائفه التي فطره الله عليها. ولقد رأينا عند الكلام عن مدارس علم النفس كيف أن البُحوث المعاصرة تُقِرُّ الآن أن الأنفعالات النفسية يُمكن أن تتحوّل إلى أعراضٍ مرضيّة عُضويّة (فيزيولوجية) إذا لم يستطع الأنسان أن يتخلَّص منها ويمنعها من أن تتحوّل إلى عاهة تُصيب الدماغ بالذات في مناطق الإحساس feeling locations، وبذلك تُؤثِّر على أكثر الأعضاء إرتباطاً بالأحساس وهو القلب.وعلاوة على ذلك فقد أثبتتْ البحوث الحديثة أن مُعظم أمراض القلب بما فيها الذبحة الصدريّة heart attack أو الإحتشاءmyocardial infarctions يكون السبب في حدوثها في أحيان كثيرة إنفعالات نفسية حادّة أو مُستمرة.
ولشدّة إرتباط القلب بالدماغ (بما فيه الجزء العاقل) فإن العرب كانت تُطلق كلمة "القلب" وهي تُريد به "العقل" والإحساس معاً، فهم يقولون مثلاً :" إنَّ المَرءَ بِأصغَرَيْه قَلْبِه و لِسانِه"، ويقول شاعرهم :
لِسانُ الفَتى نِصْفٌ ونِصفٌ فُؤادُهُ فَلَمْ يَبْقَ إلاّ صُورَةُ اللَحْمِ والدَمِ
وقد جرى القرآن على إقتباس هذا المفهوم وأقرّه. ولنأخذ الآية التالية كمثال على ذلك: {أَفَلَمْ يَسيروا في الأرْضِ فَتكونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلونَ بِها أو آذانٌ يَسْمَعونَ بِها فإنَّها لا تَعمى الأبْصارُ ولكِنْ تَعمى القُلوبُ الّتي في الصُدُورِ} (الحَجّ-46).
لقَلْبُ المَريض: وهكذا يُقرّر القرآن أن القلوب يُمكن أن تُصاب ب "العمى"، وهو بالنسبة للقلب كناية عن عدم الإحساس جزئياً أو كليّاً، أي أنها يُمكن أن تُصبح في وضع لا تقوم فيه بوظيفتها التي فُطرتْ عليها أو، باستخدام تعبير أكثر حَداثةً، لا تعمل كما هي مُبرمَجة بيولوجيّاً biologically -programmed. وهذا المفهوم تؤكّده البحوث النفسية المُعاصرة. تقول مدرسة "الأَلَم الأساسي": "إن الأحاسيس بنفسها هي معقولة تماماً ولها منطقها الخاص بها وعندما نَحِسُّ بها فإنها تُعطي لكثير من تصرُّفاتنا هدفاً ومعنى. إن العواطف ليستْ عَمياء إلاّ إذا سُدَّتْ و مُنعتْ من أن تصل إلى إحساسنا. إن الذهن العقلاني يصبح مُشوَّهاً ومُغلّفاً فقط باالعَواطِف المحروفة غير المحسوسة. ولهذا فمعنى أن لا نكون عاطفيّين هو أن لا نكون عقلانيّين. وأن يكون الشخص ذا عاطفة هو أن يكون عقلانيّاً. إنَّ الإحساس والعقل بإتِّحادهما يكوّنان العقلانية الحقيقية true rationality." وإذا عدنا إلى تعابير القرآن فإن إصابة القلب بالمرض تعني إذن فقدان العقلانية التي تشمل الإحساس والعقل كما هو واضح من الآية السالفة. وهكذا نأتي مرة أخرى إلى تشخيص قرآني بيّن يقول أن "العقل" والإحساس في كثير من الناس يُصاب بعاهاتٍ وأمراض تمنعه من أن يقوم بوظيفة التفكير والتحليل الّلذَيْنِ يقودان في النهاية إلى الإستدلال على وجود الخالق سبحانه والإيمان به: {إنَّ في خَلْقِ السَمواتِ والأرضِ واختِلافِ اللّيلِ والنَهارِ لآياتٍ لإُولي الألْبابِ. الذّين يَذْكُرونَ اللهَ قِياماً وَ قُعوداً وعلى جُنُوبِهم ويَتَفَكَّرونَ في خَلْقِ الَسَمواتِ والأرضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النارِ} (آل عِمران-190-191). و "أُولي الألباب" يُقصدُ به أصحاب العقول أي هم أصحاب القلوب اليقظة المُنتبهة. ومعنى ذلك أن القرآن يُقرّر في هذه الآيات وفي كثير غيرها أن الدلائل المذكورة في هذه الآيات القرآنية لا يُلاحظها ولا يستنتج معانيها الإيمانية إلاّ الأشخاص الذين "يَتَفَكَّرون" أي الذين "يَعْقلون"وهم الذين لمْ تُصَبْ عقولهم وقلوبهم بالعَمى المُتسبّب عن مرض نفسي-عضوي. {إنَّ في السَمواتِ والأرْضِ لآياتٍ للمُؤمِنينَ. وفي خَلْقِكُم وما يَبُثُّ مِن دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنون. وا‘خْتِلافِ اللّيلِ والنَهارِ وما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَماءِ مِنْ رِزْقٍ فأحيا بِهِ الأرضَ بَعدَ مَوْتِها وتَصْريفِ الرِياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلونَ} (الجاثيَة-3-5). ويربط القرآن ربطاً مُحْكَماً بين القلب وأمراضه وبين العقل ووظائفه الطبيعية حين يقول: { يا أَيُّها الناسُ قَدْ جاءَتْكُم مَوْعِظَةٌ مِن ربِّكُم وشِفاءٌ لِما في الصُدُور وهُدىً و رَحْمَةٌ لِلمُؤمِنين} (يونس-57). ففي هذه الآية تعبير واضح ، بألفاظ يستطيع أن يَفْقهها حتى المُعاصرون لنزول القرآن، عن حالة المرض الذي تُصاب به قلوب الناس. وعبارة "ما في الصُدور" هي تعبير بديل عن ذكر القلب بصورة مُباشرة. وفي هذه الآية يُعطي القرآن أملاً وعهداً من الله تعالى بأن هذا المرض الذي يُصاب به القلب والعقل ممكن مُداواته والشِفاء منه باتّباع العلاج القرآني:{وَ نُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ ورَحمَةٌ للمُؤمِنين} (الإِسراء 82).
تَغيّيرُ الحالَةِ الداخليّة:
ولكنَّ هذا الشِفاء لا يتمُّ إلاّ إذا قرّر الإنسان بأنه يُريد حقَّاً وصِدقاً أن يعود إلى الحالة الطبيعية الفِطرية التي خلقه الله عليها: {إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّروا ما بِأَنْفُسِهِم} (الرَعْد-11). وهذا تعبير بسيط ولكنه عميق عن طريقة العلاج النفسي الذي يدعو إليه القرآن. فتعبير "حَتَّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم" يتضمّن الدعوة إلى الغَوْص (باستخدام العقل لفحص ردود الأفعال للأحداث الماضية) في داخل النفس وفي أعماقها لكي يُصبح التغيير ممكناً، وهذا يعني أساساً فحص جميع ما تَرسَّب في النفس (أي الجهاز العصبي وخاصّةً في المُخ في المفهوم التشريحي) من مواقِف ومفاهيم وقرارات وردود أفعال منذُ الطفولة الباكِرة وحتى اللحظة الراهِنة، ثُمَّ بذل الجُهد الصادق للتخلُّص من تَبِعات الماضي وبقاياه التي لا تتناسب مع "التصميم programming" الذي أراده الله للناس، والذي كثيراً ما ينحرفون عن إتباع خُطواته. أليستْ هذه هي الطريقة المُتَّبعة في العلاج النفسي الحديث؟ وقد وعد القرآن أن الله سبحانه سوف يُساعد الإنسان الذي يُخلص في بذل الجُهد لتغيّير نفسه :{.....اللهُ يَجْتَبي مَن يَشاءُ وَيَهدي إلَيْهِ مَن يُنيبُ} (الشُورى-13). و"الإِنابَة" هي التوبة والرجوع إلى حُكم الله دون مُعارضة أو عِصيان للنواميس الأساسية التي خُلق الأنسان عليها للفَوْز برضاء الله والطُمأنينة: {وَ أُزْلِفَتِ الجَنَّةُ للمُتَّقينَ غَيْرَ بَعيدٍ. هذا ما تُوعَدون لِكُلِّ أوَّابٍ حَفيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَحمنَ بالغَيْبِ وجاءَ بِقَلْبٍ مُنيبٍ} (ٌ-31-33). ولا بُدَّ أن نُسرع فنقول أن "القلب المُنيب"، حسب المفهوم القرآني، هو القلب الذي أصبح سليماً بعد أن تعافى من "مرضه" بتغيّير ما في النفس، ولذلك فإن صاحبه تنطبق عليه الآن جميع صفات أصحاب القلب السليم في الدنيا والآخرة لإنه أصبح بعد الإنابة من "أولياء الله" :{ ألا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِم ولا هُم يَحْزَنون. الّذينَ آمَنُوا و كانُوا يَتَّقونَ. لَهُمُ البُشْرى في الحَياةِ الدُنيا وفي الآخِرَةِ، لا تَبْديلَ لِكَلِماتِ اللهِ، ذلكَ الفَوْزُ العظيم} .
والواقع أن عدد الآيات القرآنية التي تُشير الى القلب السليم والعقل الخالي من الأوهام مباشرة أو ضِمناً لا تكاد تنتهي ، مما يسمح لنا أن نؤكّد مرة أخرى: إنَّ الذين يدخلون الجنَّة لا بُدَّ بالضرورة أن يكونوا من أصحاب العقول السليمة، لإنهم هم أصحاب النفوس المُطمئنّة:{يا أَيَّتُها النَفْسُ المُطْمَئِنَةُ ا‘رْجِعي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فا‘دْخُلي في عِبادي وا‘دْخُلي جَنَّتي} (الفَجْر-27-30). وهم المُتَّقون وفيهم يقول القرآن:
{ وسارِعُوا إلى مَغْفِرةٍ مِن رَبِّكُم وَ جَنَّةٍ عَرضُها السَمواتُ والأرضُ أُعِدَّتْ لِلمُتَّقين} (آل عِمران-133). وكل صفات أهل الجنة تنطبق عليهم بما فيها العيش المُطمئن في هذه الحياة الدنيا بلا خوف ولا حزن متمتِّعين بالحياة الطيّبة : { مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِن ذَكَرٍ أو أُنْثى و هُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحْييَّنَهُ حَياةً طَيِّبّةً ولَنَجْزِيَّنَهُم أجْرَهُم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلونَ} (النَحْل-97).
وعلى العكس من ذلك أصحاب القلوب المريضة والقلوب الميّتة ( أو المَختومَة بالتعبير القرآني) : {إنَّ الّذينَ كَفَروا سَواءٌ عَلَيْهِم أَأَنْذَرْتَهُم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُم لا يُؤمِنون. خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِم وعلى سَمْعِهِم، وَعلى أبْصارِهِم غِشاوَةٌ ولَهُم عَذابٌ عَظيمٌ} (البَقَرَة-6-7). وهؤلاء الكافرون أصبحوا هكذا لإنَّهم لا يُريدون (وبإصرار) أن يُنيبوا إلى الله، ولهذا فإن الله حمَّلهم مَغَبَّةَ اختيارهم هذا وأراهم نتيجة إبتعادهم عن الفِطْرة السليمة. وسوف نشرح في فصل لاحق عن "مشيئة الله وإرادة الأنسان" العلاقة بين ما يُريده الله لبني البشر وبين ما أعطاه من حريّة للأختيار:{ إنَّا هَدَيْناهُ السَبيلَ إمّا شاكِراً وإمّا كَفُوراً} (الأنسان-3).
عودة إلى صفات القلوب:
ونعود إلى وصف القلوب. فهناك آيات كثيرة أيضاً تصف أصحاب القلوب المريضة وتتنبّأ بمصيرهم الكئيب:{ وَمِنَ الناسِ مَن يَقولُ آمَنَّا باللهِ وباليَوْمِ الآخِرِ وما هُمْ بِمُؤمِنينَ. يُخادِعونَ اللهَ والّذينَ آمَنُوا و ما يَخْدَعون إلاّ اَنفُسَهُم وما يَشْعُرونَ. في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضَاً ولَهُم عَذابٌ أليمٌ بِما كانُوا يَكْذِبون} (البَقَرة-8-10). ونذكر مَثَلاً آخر في هذا الصدد:{ وإذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنهُم مَن يَقولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إيمانَاً ، فَأمّا الّذينَ آمَنُوا فَزادَتْهم إيمانَاً وهُم يَسْتَبْشِرونَ. وأمّا الّذينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزادَتْهُم رِجسَاً إلى رِجْسِهِم وماتُوا وهُم كافِرون} (التوبة 124-125). والرِجْسُ هو عدم الطهارة وخُصوصاً طهارة النفس و العقل وهذا هو تعبير آخر عن أحد خصائص "القلب المريض". فالقلب الأخير الحاوي على الرجس هو من الأعضاء غير النقيّة أو بعبير علمي فإنه قلب يحتوي على شوائب impuritiesوبذلك فهو لا يتميّز الصفاء و النقاوة. ويقول القرآن أن ظاهرة الكُفر هي الحالة المُتَفشِيّة بين البشر:{إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ ولكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يُؤمِنونَ} (هود-17). وتقول آية أخرى :{ وَ ما أَكْثَرُ الناسِ و لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤمِنين} (يوسف-103). وآية أخرى مُشابهة :{ ولَقَد صَرَّفناهُ بَيْنَهُم لِيَذَكَّروا فأبى أكْثَرُ الناسِ إلاّ كُفُوراً} (الفُرْقان-50)، والضمير في "صَرَّفناهُ" يعود على القرآن. وهذه الآيات تُخبرنا بأن أكثر الناس يمكن أن يكونوا ليسوا من ذوي القلوب السليمة ، أي أنهم من ذوي العقول غير الطبيعية أي غير الصِحّية. لذلك فإنهم يعيشون في هذه الحياة الدنيا بتعاسة وهم في الآخرة ليسوا من الذين يدخلون الجنّة: {لَهُم في الدُنيا خِزيٌ ولَهُم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ} (المائِدَة-41). والخِزي هو الهَوان والإذلال والفضيحة والعِقاب والإبعاد والنَدامة. وفي آية أخرى:{ لَهُم عَذابٌ في الحَياةِ الدُنيا وَ لَعَذابُ الآخِرَةِ أشّقُّ وما لَهُم مِنَ اللهِ مِن واقٍ} (الرَعْد-34). وحال هؤلاء التُعساء في الدُنيا والآخرة هو على النقيض من حال المُؤمنين الصادِقين الذين هم بالتأكيد من ذوي القلوب (والعقول ) السليمة الذين مرَّ وصف حالهم في ما سبق والذين يؤكّد القرآن حالهم مراراً :
{.... للّذينَ أَحْسَنُوا في هذه الدُنْيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْر، وَ لَنِعْمَ دارُ المُتَّقين}. (النَحْل-30)، إلى غير ذلك من الآيات التي تُشير إلى أن المُؤمنين الصادقين (ذوي القلوب السليمة والعقول الطبيعية) يتمتَّعون في هذه الحياة ثُمَّ ينقلِبون إلى الجزاء الطيّب في الآخرة. وما أدّق تعبير الأمام علي بن أبي طالب عن صفة المُتَّقين حين يقول:
"واعْلموا عبادَ اللهِ أنَّ المُتَّقينَ ذَهَبوا بِعاجِلِ الدُنيا وآجِلِ الآخِرةِ، فَشارَكوا أهْل الدُنيا في دُنياهم ولَمْ يُشارِكْهُم أهْلُ الدُنيا في آخِرَتِهم. سَكَنوا الدُنيا بأفْضَلِ ما سُكِنَتْ، وأكَلوها بِأفضَلِ ما أُكِلَتْ ، فَحَظُوا مِنَ الدُنيا بِما حَظِيَ بِهِ المُتْرَفونَ ، وأخَذوا مِنها ما أخَذَهُ الجَبابِرَةُ المُتَكَبِّرون، ثُمَّ انْقَلَبوا عَنها بالزادِ المُبَلِّغ والمَتْجرِ الرابِحِ".
السؤال الكبير:
والسؤال الأكبر الذي يطرح نفسه هو: لماذا يختار الناس الكُفر على الإيمان فيعيشوا حياة تعيسة في هذه الحياة الدنيا أوَّلاً وليس لهم نصيب فيما سيأتي في الآخرة من سعادة؟
وجواب هذا السؤال لا يمكن العثور عليه إلاّ في ما توصّل إليه علم النفس المعاصر من تحليلات ونتائج تكاد تكون مُتطابقة تمام التطابق مع ما يصفه القرآن عن حالات قلوب البشر وعقولهم التي تتحكّم في مصائرهم.
ولقد اقتربتْ مدرسة "الأَلَم الأساسي primal pain" كثيراً من إعطائنا صورة لحال أغلبية الناس حين يقول عنهم مؤسّس هذه المدرسة الدكتور آرثر جانوف في كتابه "سُجناء الأَلَم prisoners of pain" :" إن البشرية مُقيّدة من يديها و رِجليها بداءٍ خبيث. إنه أكثر الأمراض خَفاءً وتدميراً واتِّساعاً. إنه حالة عضويّة-بيولوجية ولكن ليس بالمُستطاع إزالتها بريجيم غذائي أو بتمارين رياضيّة أو بتصرُّف عفيف أو بالعقاقير أو بالجِراحة. إن هذا المرض ليس له موقع مُعيّن. إنه المرض الوحيد الذي يوجد في كل مكان تقريباً في الجسم وفي المُخ. ورغم ذلك فإن كل فرد تقريباً غير مُدرك لوجوده. إنه يتسبّب في كثير من الأعراض ويبدو وكأنه مِئاتُ الأمراض وليس مرضاً واحداً. إن هذا المرض هو العُصاب neurosis".
وما هي أعراض هذا المرض إذا تمكَّن من الإنسان؟ يُجيب جانوف، كما مرَّ سابقاً، بأن " الألَم المكبوت والذي هو سبب العُصاب، يجعلنا نتحايل على أنفسنا وعلى الآخرين فنحصل على تصُوّرات خاطئة ونقوم بتصرُّفات غير لآئقة بدون تعمُّد منا، ولا نستمع بانتباه ، ونسمع ونُبصر بصورة خاطئة".
ألا تُذكّرنا هذه الأعراض المرضية النفسية بما جاء في القرآن الكريم بأن كثيرا من الناس {...لَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقَهونَ بِها ولَهُم أعْيُنٌ لا يُبْصِرونَ بها ولَهُم آذانٌ لا يَسْمَعونَ بِها ،أُولئِكَ كَالأنْعامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الغافِلونَ} (الأعْراف-179). وفي آية أخرى :{وإنْ تَدعوهُم إلى الهُدى لا يَسْمَعوا وتَراهُم يَنْظُرونَ إلَيْكَ وهُم لا يُبْصِرون} الأعْراف-198).
ويقول جانوف: "الأَلَم الأساسي إمّا أن يكون بدنيّاً physical أو عاطفيّاً emotional. ورغم الإعتقاد السائد بأنَّ هذين هما نوعان مُختلفان من الوَجَع فإنهما في الواقع مُتساويان من ناحية تعامُل النظام الجسمي معهما." ولا نُريد أن ندخل هنا في تفاصيل عملية الكَبْت repression والتي هي النقيض من عملية الإظهار expression ، ولكن نذكر هنا أنه من المعروف الآن أنَّ الدماغ يستطيع أن يفرز مادّة عضويّة مُخدِّرة من نوع الأندورفين endorphin قد تكون قوّة مفعولها تفوق مفعول المورفين المُخدّر المعروف بعشرات أو بمئات المرّات. ويكون تأثيرها النهائي هو منع الخلايا العصبية التي تختص بالتعامل مع الألم من "التفاعُل" مع الطاقة الإلكتروكيمياوية electrochemical energy التي يُولّدها الإحساس بالألم. وهذه الطاقة لا يُمكن أن "تُبدّد" dissipated إلاّ في تلك المراكز العصبية ولذلك فإنها إذا مُنعتْ من الوصول إلى تلك المراكز المختصة فإنها تنتشر إلى مناطق المُخ الأخرى التي لم "تُخْلَقْ" لكي تتعامل معها و "تُبدّدها". ولهذا ففي مراحل البلوغ تكون هذه الطاقة المُختزنة قد غَمَرتْ خلايا الجزء الفكري أو العاقل intellect من الدماغ الذي لمْ يُخلق لا‘ستهلاكها وتبديدها فتشغله عن التعامل مع وقائع الحياة الآنية بصورة واعية تماماً أي بالتحليل الفكري والتقدير الموضوعي. إنَّ التخلُّص من الألم الأساسي، كما يقول جانوف، يَكْمِن في مواجهته وإرجاعه إلى المراكز العصبية التي خُلقتْ للتعامُل معه. وهذه المُواجهة لا تكون فِكرية بَحْتَة بل مواجهة فِكرية-حِسَّية تستحضر الظرف الزماني والمكاني الذي حصل فيه الألم الأساسي primal pain . يقول جانوف :" عندما نرى كيف يتولّد العُصاب neurosis فإنّنا نرى بصورة أكثر وضوحاً كيف نُعالجه. ومن حُسن الحظّ فإن عندنا في كل الأوقات الوسائل التي نستطيع بها أن نُعالج نفوسنا. إن إطلاق قُدرة العقل هو الكفيل بإنهاء المُعاناة."
إستِخدامُ قُدرَةِ العَقْلِ لِبُلوغِ الصِحَّةِ النَفْسِّية: وهذا توافقٌ تام بين ما توصّل إليه علم النفس الحديث وبين ما أوضحه الأسلام عن طبيعة النفس البشريّة. بل أن القرآن ينصُّ بكُل وضوح أنَّ الذين لا يستطيعون أن يستخدموا عقولهم وأعضاء الحِسِّ عندهم هم الذين سيدخلون النار:{ولَقَد ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثيراً مِنَ الجِنِّ والإنْسِ لَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقهون بِها ولَهُم أعْيُنٌ لا يُبْصِرون بِها ولَهُم آذانٌ لا يَسْمعونَ بِها ، أُولئكَ كالأنعامِ بَلْ هُم أضَلُّ أؤلئكَ هُمُ الغافِلون} (الأعْراف-179). أليست الأعراض الواردة في هذه الآية هي نفس أعراض مرض العُصاب neurosisالذي يجعل أصحابه ناقصي الوعي أو بدون وعي أي "غافلين" عمّا يُحيط بهم؟ فكلمة "الغافلون" الواردة في آخر الآية يمكن ترجمتها بكلمة unconscious أو كلمة unawareوهي إحدى صفات مرض العُصاب كما يُقرر ذلك آرثر جانوف وأوردناه في أعلاه. وعدم الوعي (أو الغَفْلَة) هو نتيجة لتعطُّل الفكر عن القيام بأعماله الفطرية، ولهذا يقول المختصّون بعلم النفس الحديث أنَّ الوَعْي هو الحريّة الوحيدة consciousness is the only freedom. والقرآن يذهب إلى أبعد من ذلك في وصف الذين لا يستخدمون عقولهم في رؤية الأشياء كما هي إذ يغدون وكأنهم نوع آخر من المخلوقات (الدوابّ) ويتوقّفون عن أن يكونوا بشراً حقيقيّين حين يقول:{ إنَّ شّرَّ الدَوابِّ عِندَ اللهِ الصُمُّ البُكمُ الّذينَ لا يَعقِلونَ. وَلَو عَلِمَ اللهُ فيهِم خَيْراً لأَسمَعَهُم وَلَو أَسمَعَهُم لَتَوَلَّوْا وهُم مُعرِضون} (الأنفال-22-23). ألا يذكّرنا هذا الوصف القرآني لبعض الناس بما يقوله أريك بيرن مُؤسِّس مدرسة التحليل التعامُلي حين يقول أن كثيراً من الناس يُصبحون وبتأثير الوالدين أطفالاً "مُغيّرين" أو "مُبدّلين" أي أطفالاً غير طبيعيين ويكبرون ليُصبحوا أشخاصاً غير حقيقيّين أو مُستعَبدين؟
واضح أنَّ القرآن والعقيدة الأسلامية تجعل الإنسان مسؤولاً عن عدم وعيه لِما يُحيط به ومسؤولاً عن غفلته، ويُهدِّدانه بمصير مُظلم في الدنيا والآخرة:{ وقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ او نَعْقِلُ ما كُنَّا في أصْحابِ السَعيرِ} (المُلْك-10). والعلاج القرآني المُتَمَثِّل في "التوبة" والعودة إلى الله أو "الإِنابة"يتضمَّن في ما يتضمَّن الحضور العاطفي الجيّاش مُتمثّلاً بالبُكاء، إضافة إلى الحضور العقلي المُركّز:{وَ يَقولُونَ سُبحانَ رَبِّنا إنْ كانَ وَعدُ رَبِّنا لَمَفعولاً. ويَخِرُّونَ لِلأذْقانِ يَبكُونَ ويَزيدُهُم خُشُوعاً} (الإسراء-108-109)، وفي آية أخرى:{...إذا تُتْلى عَلَيْهِم آياتُ الرَحمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيّاً} (مَريَم-58). والبُكاء بين يدي الله يُذكّرنا بما تدعو إليه بعض طُرق العلاج النفسي الحديث من ضرورة مُصاحبة تذكُّر آلام الماضي (وقرارات رد الفعل غير الحكيمة) بإتاحة المجال للتعبير عن الإحساس بالألم حتى بالبكاء.
من الممكن من هذه الآيات والوقائع إستنتاج المفولة الخطيرة والبسيطة التالية: إنََّّ الإنسان الذي يعيش حياة الفِطرة (أي الحياة الطبيعية) في هذه الدنيا فإنه سيحيا سعيداّ في هذه الحياة وسوف يكون من أصحاب الجنَّة في الآخرة. وهذا يعني ضمناً أن الفطرة الإنسانية تنطوي على الإيمان. وهذا الأستنتاج تُبرزه الآية التي تقول:{ فَأَقِمْ وَجهَكَ للدينِ حَنيفَاً، فِطرَةَ اللهِ التي فَطَرَ الناسَ عَلَيها ، لا تَبديلَ لِخَلْقِ اللهِ، ذلِكَ الدينُ القَيِّمُ ولكِنَّ أكْثرَ الناسِ لا يَعلَمون} (الروم-30).
مع أجمل وأرق ألأمنيات.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح