*** الاسلام والمعرفه البشريه - الجزء الخامس
1-طريقة التغذية الأسترجاعية الحيوية biofeedback
يقول الطبيب النفسي جيروم فرانك jerome frank في مقالة عنوانها "طريقة التغذية الإسترجاعية وتأثير عِقار التَرْضيَة biofeedback and the placebo effect": إن هذه طريقة تُستخدم فيها بعض الآلات التي تجعل المريض واعياً للأضطرابات في الأعضاء التي تنتج عنها الأعراض المَرَضيّة والتي لم يكن سابقاً يعيها وبذلك تزداد قدرته على اكتساب سيطرة محسوسة على هذه الأضطرابات. وربما كانت الآلة المُستخدمة غير ذات تأثير جوهري، لإن هذه السيطرة يمكن أن يكتسبها مُمارسو رياضة اليوجا yogis بقدرتهم على أن يحصلوا على نفس السيطرة على وظائفهم الجسدية بجعلها في متناول إحساسهم بدون مساعدة الآلة. أما عقار الترضية placeboفهو دواء أو كلمات مُهدِئة تُقدّم للمريض لتجعله يتوقّع الشفاء ، والتَوَقُّع هنا هو مفتاح النجاح في الشِفاء. وإذا عرّفنا طريقة العلاج النفسي psychotherapy بأنها تفاعُل مُحدَّد المعالِم ذو شُحنة عاطفية ومُتميّز بالثقة بين مُعالِج مُتدرّب ومُجاز إجتماعياً وبين شخص مُتألّم، وفيه يُحاول المُعالج أن يُخفّف من مُعاناة المُتألّم وعَجَزه من خلال إتصالات رَمْزيّة وهي بالدرجة الأولى كلمات ولكن أيضاً تشمل طُقوساً أو مناهج إستشفائية تجعل المريض يتوقّع الخَلاص من مُعاناته.
وتَدُلُّ الدراسات التي أُجريت على أنواع مُختلفة من طُرُق العِلاج النفسي أولاً على أن جميع أنواع العلاج النفسي يتبعها عادة تحسُّن في حالة المريض مُقارنة بمرور نفس الفترة بدون علاج، وثانياً، مع إستثناءات قليلة، فإن الإختلافات في قوة التأثير للطرق العلاجية المختلفة هي طفيفة عند معظم الأشخاص. إن تفسيراً معقولاً لهذه النتيجة هو أن معظم المُراجعين يأتون إلى العلاج النفسي ليس بسبب الأعراض فقط ولكن لإنهم يُعانون من الإحباط المعنوي demoralization.، وأن هذا الإحباط المعنوي هو مَصدر كبير لكَرَبِهم وضيقهم، وأن الخصائص المُشتركة لجميع أنواع العلاج النفسي هي أنها تؤدّي إلى تحسُّن حالة المرضى لإنها تقاوم الإحباطات المعنوية. إن لُبَّ الإحباط المعنوي هو الشعور بعدم الكفاءة مصحوباً غالباً بمشاعر الخَيْبَة والعجز وإحساس بالإغتراب والضَبابيّة في فهم معنى الأعراض الخاصّة بالحالة، وماذا يمكن أن يفعل المريض للتخُّلص منها. إن الميّزات المشتركة لجميع أنواع طرق العلاج النفسي، بما فيها طريقة التغذية الإسترجاعية، التي تُقاوم الأحباط هي:
1-علاقة ذات شُحنة عاطفية مُتميّزة بالثقة مع مُعالِج يريد المُساعدة وغالباً ما يكون ذلك مع مجموعة من الأشخاص. وبما أن الشخص المُعالِج يُمثّل المجتمع الأوسع فإن مجرد قبوله للمريض كشخص يستحق المساعدة يؤدي إلى مُكافحة شعور المريض بالعُزلة ويُساعد في إعادة إحساسه بالإرتباط مع مجموعته. إن المريض يجعل نفسه مُعتمداً على المُعالج النفسي ليساعده لثقته في كفاءة المُعالج ونيّته الحسنة تجاه المريض، ولمعرفة المريض بالتدريب الذي تلقاه المُعالج ومطابقة طريقته مع توقُّعات المريض.
2-الجَوُّ الإستشفائي healing setting الذي يقوّي العلاقة بتأكيد مكانة المُعالج وجعله رمزاً لدوره المُتوقَّع في الحصول على الشِفاء. وفي حالة طريقة التغذية الإسترجاعية فإن الجهاز الآلي يمثّل رمزاً شِفائياً مُهمَّاً ويمكن إستخدامها حتى في المُداخلات الجراحية الطبية بما فيها طب الأسنان.
3-وجودالأساس المنطقي rationale أو المُخطّط الفكري الذي يُعطي شرحاً مقبولاً لإعراض المريض ويصف إجراءات للخَلاص منها.
4-إن الإجراءات تتطلَّب المُشاركة الفعّالة من المريض والمُعالج وهما يعتقدان كلاهما أنها الطريق المُناسِب لإستعادة صحّة المريض.
إن وجود الأساس المنطقي للعلاج يكافح الإحباط بمساعدته المريض التغلُّب على الشعور بالعُزلة من خلال تجهيزه نظاماً إعتقاديّاً مشتركاً بين المريض والمُعالج. إن مثل هذا النظام الإعتقادي هو جوهري لتكوين وإدامة كافة الجماعات البشرية. إن مجرد وجود إطار فكري يمكن أن يتقبّل أعراض المريض ويحتويها يعني أن تلك الأعراض ليستْ فريدة ولا شاذّة وبهذا يمكن التغلُّب على شعور المريض بالعُزلة. أكثر من ذلك ، فإن الأطار الفكري يحوّل الأعراض من مُعاناة غير مسبوقة، مُخيفة وغامضة إلى تجربة مفهومة وبذلك ينخفض مُستوى القلق الذي يُصاحبها.
إضافة إلى الفوائد الممكنة من الطقوس الخاصة والإجراءات لمكافحة منابع معينة من الكَرْب فإنها جميعاً تشترك في خصائص شِفائية معينة. إنها تحافظ على إرتباط المريض والمُعالج بإعطائهما شيئاً يعملانه سويّةً خاصة مع غياب حُدوث أشياء أخرى. ومُعظم الإجراءات تعطي معايير لقياس التقدم إما بالحصول على وجهة نظر جديدة أو تعديلاً في السلوك وكلاهما يجعل الأمل حيّاً في النفس ويعطي مُمارسة في النجاح في رفع المعنوّيات. وأخيراً فإن السيطرة على الإطار الفكري والإجراءات العِلاجية يعطي المُعالج النفسي شعوراً بالكفاءة تُساعد بصورة غير مباشرة في إدامة إيمان المريض به أو بها.
وإذا نظرنا إلى طريقة التغذية الإسترجاعية من هذه الزاوية فإن نجاحها، كما هو الحال مع طُرُق العلاج النفسي الأخرى، يعتمد أولاً وقبل كل شيئ على تحفُّز المريض واندفاعه ليُشارك في الإجراءات المطلوبة والتي غالباً ما تكون مُزعجة أو مُثيرة للضجر. ولذلك فإن طريقة التغذية الإسترجاعية تلاقي نجاحاً أكبر مع المرضى الذين يُعانون من صُداع التوتُّر المؤلم مقارنة مع أولئك الذين لديهم ضغط عالٍ في الدم لا تُصاحبه أعراض. وهناك بصورة خاصة ميزتان علاجيّتان قويّتان بالنسبة لطريقة التغذية الإسترجاعية الحيوية وهما القابلية على إنعاش آمال المريض و تعزيز إحساسه بالسيطرة أو الكفاءة الذاتية. إن الأمل ( أو شقيقه : الإيمان التَوقَّعي expectant hope) ليس هو فقط عاطفة شافية بنفسها كما تُبّين الدراسات المتوفرة، ولكن أيضاً يُحفِّز المرضى على الإستمرار في العلاج بينما يؤي الشعور بالسيطرة إلى مكافحة الإحباط بتقوية إحترام الذات عند المريض. إن طريقة التغذية الإسترجاعية تُحافظ على إدامة إنعاش آمال المريض بتقديمها واسطة ملموسة (آلة أو جهاز) والتي يستطيع أن يراقب بها تقدمه بواسطة قدرته على السيطرة على الحوافز الصوتية و البصرية التي تُشير إلى حالة أي عضو بدني تراد مراقبته . فالمريض يسمع ويرى (بإستمرار) مُستوى الحالة التي هو فيها.
2-طريقة التحليل التعامُلي transactional analysis
جوهر هذه النظرية يكمن في اعتبار أن كل إنسان ينطوي على ثلاث "ذوات او حالات من الأنا ego states" هي:
أ-ذات الأنا الطفل child ego state
ب-ذات الأنا الوالد أو الوالدة parent ego state
ج ذات الأنا البالغ adult ego state
تقول هذه النظرية أن كل شخص يحمل في أعماقه طفلاً صغيراً (صبي صغير أو بنت صغيرة) يشعر، يُفكّر، يتصرّف، يتكلّم ويستجيب بنفس الطريقة التي يتّبعها عندما كان طفلاً في عُمُر مُعيّن. إن ذات الطفل لا تُعتبر طفوليّة أو "غير ناضجة"، وإنّما فقط أنها تعود لطفل في سنٍّ معيّنة. والعامل المهم هنا هو: العُمر الذي يُمكن أن يكون بين سنتين وخمس سنوات في الحالات الأعتيادية. يقول بيرن: "من الأهميّة بمكان أن يفهم كل شخص "الذات الطفل" في نفسه ليس فقط لأنها ستكون معه طيلة حياته وإنما لأنها أثمن جزء من شخصيّته personality".
والذات البالغ adult ego state هي "الذات" التي تُقيّم موضوعياً ما يُحيط بالأنسان و تحسب الأمكانات والأحتمالات على أساس من الخبرة السابقة. ويمكن أن نعتبر هذه الذات وكأنها تعمل كحاسبة الكترونية computer.
أما الذات الوالد parent ego state فهي الذات المُستقاة من الوالد أو الوالدة أومَنْ بحُكمهما. في هذه "الذات" أو "حالة الأنا" فإن الشخص يشعر ، يُفكّر، يتصرّف و يتكلم ويستجيب تماماً كما كان يفعل أحد والديه عندما كان صغيراً. وهذه "الذات" تكون هي السائدة عندما يكبُر هذا الشخص ويبدأ بتربية أولاده مثلاً، وحتى إذا لم تكن هذه "الذات" ظاهرة فإنها تؤثّر على تصرُّف الشخص مثل تأثير والده أو والدته وتقوم بوظيفة الضمير conscience.
إن الشخص الحقيقي (أي الطبيعي) يمكن تعريفه بأنه إنسان يتحرّك ذاتيّاً أي من تِلقاء نفسه بطريقة مُتوازنة rational وموثوقة مع إعطاء الاخرين إعتبارهم واحترامهم. إن الطفل يولد حُرّاً ولكنه سرعان ما يتعلّم أشياء كثيرة. إن وظيفة الطفل المهمة هي أن يكتشف ماذا يعني كلام والديه، وهذا يساعده على الأحتفاظ بحُبِّهما او على الأقلّ بحمايتهما. وفي حالات أخرى فإن طاعة الطفل لوالديه المُتشدّدَين قد تكون ضرورية لإبقائه على قيد الحياة!! والطفل بفِطرته يُحِبُّ والديه وهدفه الرئيسي في الحياة هو أن يُرضيهما (لو سمحا له بذلك). وحتى يستطيع أن يفعل ذلك فإنه يُريد ان يعرف ماذا يريدان منه فعلاً. فبالنسبة للطفل الصغير فإن رغبة والديه هي أوامر commandsيجب أن يُطيعها حرفيّاً. وهنا يبدا فصل من أخطر أدوار حياة الأنسان : لأن الوالدين يستطيعان أن يُبرمجا الطفل بأية طريقة يُريدانها. فإذا تم هذا التعامُل transaction بين الطفل وبين والديه بطريقة لا تدع مجالاً للطفل أن يرفض او أن يختار ما يُناسبه فإن الطفل سوف يكون واقعاً تحت تأثير خُطَّة script أو صيغة formula قد لا يستطيع الفِكاك منها حتّى عندما ينمو ويُصبح إنساناً بالِغاً. إنَّ الشخص الذي يتَّبع خطة أو صيغة لا يُعتبر بقياس الواقع الحياتي الطبيعي شخصاً حقيقياً real person. ومن الحقائق الملموسة يبدو أن الأشخاص الذين يحملون خُطة أو صيغة غُرست فيهم منذ صباهم يكوّنون الغالبية العظمى من البشر. إن الطفل الذي يتبنّى خُطَّة حياة تحت تأثير أحد الوالدين أو كليهما لا يكون طفلاً طبيعياً حُرّاً وإنما يُصبح طفلاً مُبَدَّلاً أو مُغَيَّراً adapted child ينمو ليُصبح شخصاً غير حقيقي. وطالما أن الأنسان "البالغ" ينطوي على "ذات" طفل مُبَدَّل وليس على "ذات" طفل حر فإن هذا الأنسان يفعل ما يأمره به "ذات الوالد" الكامنة عنده. وقد يكون الشخص مدفوعاً دفعاً للقيام بأعمال تُمليها عليه خطّة حياته هذه مهما كانت تلك الأعمال مُزرية أو شائنة وعندها يوصف هذا الشخص بانه مدفوع بالخطة script driven. أما النوع الآخر فهو الأنسان المقموع بالخطة script riddenوالذي سيقدّم أية تضحيات يطلبها منه "ذات الوالد" مهما كانت جسيمة.( أُلفتُ نظر القارئ أن يُقارن ذلك مع قول الرسول"ص" : يُولدُ المرءُ على الفِطرةِ مُسلِماً ولكِنَّ أَبَوْيه يّهوّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه). لذلك وحسب ما يرتأي الدكتور أريك بيرن، فإن قرارات الطفولة وليس تخطيط البالغين هي التي تُقرّر مصير الأفراد، وفي الحقيقة فإن "ذات البالغ adult ego" هي القوة الوحيدة التي تستطيع أن تتدّخل بصورة مؤثّرة بين "ذات الوالد" و"ذات الطفل" وكل المُداخلات العلاجية يجب أن تأخذ ذلك بعين الأعتبار . وحسب مذهب التحليل التعامُلي فإن "الذات البالغ" يستطيع أن يحصل على سماح من الخارج لتجهيز طاقته الخاصة به، أو أنه يُمكن شحنه بالطاقة من الخارج فيصبح بإمكانه أن "يتوسّط" بين "ذات الوالد" و "ذات الطفل" فيشتبك أو يقف في وجه "ذات الوالد". وهكذا يُترك "ذات الطفل" حُرّاً. ويبقى "ذات البالغ" هو الذات أو الحالة السائدة ليقوم بمعارضة "ذات الوالد" مُستقبلاً. ويُصبح العلاج تامَّاً متى ما أصبح "ذات الطفل" حراً تماماً من الأنصياع لأوامر "ذات الوالد" وبهذا تتحطّم وتختفي الخُطّة أو الصيغة التي تتحكّم بحياة الأنسان، وعندها يُصبح إنسانأً يتصرّف ذاتيّاً autonomous ويستجيب لظروفه بما تُمليه عليه مصلحته التي يقوم بخدمتها "الذات البالغ adult ego" عنده، ويتوقّف أن يكون عبداً مُطيعاً لخُطّة فُرضت عليه بالتخويف والإرهاب في سنوات عمره الغضَّة البريئة.
3-مذهب الألم الأساسيprimal pain therapy
يقول الباحث النفسي آرثر جانوف، مُؤسّس هذه الطريقة، بأن المسألة النفسية في الأنسان يمكن إختصارها بمدى إشباع الأحتياجات الأساسية عند الفرد.فالأحتياج need (أو الحاجة) هو حجر الأساس لحالة الصحة وحالة المرض النفسي أو العُصاب neurosis. فنحن نحسّ ب"الحاجة" بكل خلية من أجسامنا. و"الحاجة" هي حالة مُطلقة في الكائن الأنساني.-وعند الولادة فنحن لسنا إلاّ "حاجة" مُجسَّمة. فالطفل الرضيع يتطلّع إلى والديه لإشباع إحتياجاته، فهو لا يستطيع أن يُطعم نفسه، أو يُنظّف جسمه، أو أن يُدفّيء نفسه، وهو لا يستطيع أن يخدم نفسه بأي إسلوب. فإشباع هذه الحاجات يجب أن "يُوهَبَ له"، والبقاء على قيد الحياة هوفي خطر في كل لحظة تقريباً من وجوده. والحاجات الباكِرة هي حاجات بدنية. وعندما نكبر فإن مُستويات جديدة من الحاجة تأخذ بالظهور، فالحاجة تُصبح أكثر تطوّراً عندما ينضج الدماغ. وكذلك تبدأ بالنمو قابليّات عاطفية وفكرية إضافة إلى تطوير كل حاجة أساسية. وهذه التطورات ليست مُرتبطة بالعواطف أو بأية تعبيرات لفظية، ولكنها تُصبح جاهزة كأحاسيس feelingsحالما يبدأ الطفل بإكتساب إمكانيّة عاطفية emotional capacity. فانتقاد الطفل أو محاولة جعله يشعر بالعار هي بلا معنى لطفل حديث الوِلادة، وكذلك إهانة طفل عمره ثلاثة أشهر لا تعني شيئاً بالنسبة له. ولكن توجيه إهانة لطفل عمره ست سنوات (كالقول بأنه لا يساوي شيئاً) من الممكن أن يكون لها معنى خطير لأن الطفل قد وصل الآن الى مرحلة الأحتياج العاطفي. أمّا آخر التطوّرات في الأحتياجات فهي الحاجة الفكرية أو العقلية intellectual need كالحاجة إلى أن يُفسّر له الكِبار العالَمَ أو البيئة المحيطة به. فالأنسان بحاجة إلى أن يُخبَر بالحقيقة وإلى تأكيد حقائق وجوده. إن معظمنا يُعاني من إحتياج (أو إحتياجات) غير مُشبعة، وفي أحيان كثيرة فإنّا لا نستطيع أن نحسّ ما هي إحتياجاتنا الفعلية بسبب مُعاناتنا السابقة.
إن الإحتياجات الحقيقية تنبع جذورها من حُبِّ البقاء على قيد الحياة أي من الوجود الحي أو الكيان البيولوجي biology، وهذه الحاجات هي حالات نسيجية عضوية أي حالات شاملة للمُخّ والجسم وليست مفاهيم سايكولوجية مُجرّدة. هناك أيضاً حاجات سايكولوجية كالحاجة الى الفَهم understanding مثلاً. ولكنَّ الحاجات السايكولوجية المعروفة (كالهيبة والسُلطة) هي فقط مُشتقّات من الحاجات البيولوجية الأساسية، أو هي إختراعات لذِهْنٍ مُتطوّر له القابلية على تحويل الحاجة الحقيقية إلى رموز symbols. وبا‘ستثناء المُتطلّبات الأساسيّة للبقاء فإن حاجاتنا تتغيّر باستمرار متناسبة مع مراحل نموّنا. ف"الحاجة إلى المعرفة need to know" مثلاً تتغيّر ، و"التَعَرُّف" في النهاية تُساهم فيه الحواس senses والَمشاعِر أو الأحاسيس feelingsوالفِكْر أو العَقْل intellect. والرضيع لديه حِسٌّ بما يدور حوله حتّى وإن لم يكن قادراً على تفسيره. وبعد ذلك فإن هذا "الحسّ" يتطوّر إلى "فكرة idea". فهو يحسّ إذا لم يكن يشعُر بالأرتياح، وهو يعرف محيطه بوضوح تام. ولكن، وحتى يستطيع أن يتمثّل (أي يَعي) تصوُّراته فإن المُحيط الذي يضعه فيه والداه يجب أن "يكون ذا معنى" بصورة ماديّة أي ملموسة، فإذا بكى لأنه غير مُرتاح فيجب أن يُحتضن و يُواسى، فإذا لم يُفعل له ذلك فإن العالم المُحيط بالطفل يبدو وكأنّه ليس له معنى مفهوم meaninglessلأنه لا يستجيب لحاجته.
وعندما تنضج القابليّات العاطفية عند الطفل ينشأ لديه "إحساس feeling" عن العالم المحيط به. والطفل الصحي (ذَكراً كان أم أُنثى) ميّال بطبيعته إلى الحَدَس والتخمين. فإذا سُمح له بالتعبير عن أحاسيسه حول الأشياء، مهما كانت هذه الأشياء، فإنه يستطيع أن يكتسب ثقة مُتزايدة في طبيعة تصوّراته لما يُحيط به. وفي وقت مُتأخِّر فقط يستطيع أن يعرف محيطه بصورة فكريّة ويكون قادراً باستخدام الكلمات على تفسير خصائص والديه أو حياته البيتيّة. وحينذاك يحتاج الىمعلومات information لأشباع فُضوله الآخذ بالنموّ. ولكن الأحتياجات الأنسانية هي أكثر من ذلك بكثير.
فالحاجة الى النمو والتطوّر بحسب استعداد الفرد لذلك هي حاجة خطيرة. فمثلاً إذا كان الجنين مُستعدّاً للولادة والأم لم تكن مُستعدة لذلك لأي سبب، فإن الحاجة إلى النمو الطبيعي تكون قد تعرَّضت إلى خَلَلٍ. وبعد ذلك فإن حاجات النمو المتصاعدة : كالحاجة الى تعلُّم الكلام عند الأستعداد لذلك يُمكن أن تُنتهك عندما يُضغط على الطفل لكي يتكلّم. والأَمْنُ safety أيضاً من الحاجات الأساسيّة حتى عندما يكون الفرد جنيناً في بطن أمُّه، وبعد ذلك فإن الأمن يعني بيتاً مُستقرّاً بدون تهديدات مُتكرّرة بالطلاق، أو عدم الأستقراربالتنقُّلات الدائمة. وأيضاً هناك حاجة ماسَّة الى الدفء والحنان.
إن الحاجة الى الحُرّية هي حاجة بايولوجية أساسية. فعلى الصعيد الجسدي فهي تعني حُرّية أن يُولد الجنين بدون صُعوبة أو مُعوِّقات. وفي وقت لاحق يجب أن تكون هناك حرية الحركة داخل الغرفة والبيت بدلاً من حبس الطفل في حظيرة اللّعب، وأخيراً فإن الطفل النامي بحاجة الى حرية اكتشاف المنطقة التي يعيش فيها والعالَم الأوسع.
إن الحاجة الى الحرية والحاجة الى التعبير expressionهما صُنوان مُتلازِمان. فالطفل بحاجة إلى أن يكون حُراً في التعبير عن أحاسيسه feelings ثم عن أفكاره ideas. وعندما ينمو الطفل فإنه بحاجة الىأن يستمع له الآخرون ويتكلَّموا معه حتى يُمارس حرية التعبير عن المشاعِر والأفكار ، ثم حرية إختيار المهنة المُناسِبة والأصدقاء وطريقة الحياة.
يقول الباحث النفساني آرثر جانوف: إذا أُشبعتْ الأحتياجات needs عند حُدوثها فسوف لا يكون هناك أَلَمٌ painيُذكر، ولكن ما هي كميّة الإشباع المطلوبة؟ والجواب هو أن الطفل يعرف ذلك: إن إدراك حالة الأشباع satisfaction هي حالة مُتأصّلة innate في كل إنسان. ويمضي جانوف فيقول:
إنَّ لُبَّ عملية النمو هي الحاجة إلى التعبير expression. إن الأطفال ليسوا بالطبيعة غاضبين على والديهم، ولكنهم سوف يكونون غاضبين فعلاً إذا حُرموا من إشباع حاجاتهم في مُختلف مراحل النمو. إن التعبير عن المشاعر هو حاجة عميقة لإن مشاعرنا هي مِلْكُنا الفردي المُطلق ويجب أن لا تُسلب منّا، وهذه المشاعر أو الأحاسيس لا تعود لشخص آخر أبداً. إنها ليست فقط مِلكنا، إنّها ببساطة هي نحنُ: أي أننا كأفراد نساوي مشاعرنا أو أحاسيسنا.
إن الحاجة للإحساس need to feel قد تكون هي الحاجة الكبرى التي تتفرّع منها كل الحاجات الأخرى. فالكائن الأنساني هو كائن ذو إحساس feeling وهذه الخاصيّة هي من أُسس وجوده العضوي. والطريقة الوحيدة لأن ننمو ونكون مُنبسطين و قانعين كأفراد هو أن نُمارس ونُجرّب كل كياننا و نفوسنا، فالإحساس هو جوهر الحياة. feeling is the essence of life.
إن تطمين الحاجات الباكرة (أي في بداية النمو) يسمح بتكامل الفرد في كل مرحلة من مراحل العمر اللاحقة. و كُّلما أُشبعتْ حاجة في مُستوى مُعيّن، فيمكننا أن نتركها وراءنا ولا ضرورة لأن نسحبها خلفنا كعبءٍ إضافي إلى وقتنا الحاضر. ولهذا يمكننا أن نعيش اللحظة الحاضرة إذا كان ماضينا قد حُلَّتْ مَشاكله. إن الإشباع هو الذي يُمكّننا من العُبور من الحاجات الفردية للبقاء (كالماء والغذاء) الى حاجات بقاء النوع species survival كالحاجة إلى الجنس مَثَلاً. وفي الحقيقة فإننا لا نستطيع أن نُمارِس الجنس بصورة كاملة إلاّ حين تكون الحاجات السابقة قد أُشبعتْ. والواقع أنه في سُلَّم الحاجات، فإن النمو الصحي والطبيعي لكل مُستوى أو مرحلة يعتمد على تطمين الحاجة في المرحلة السابقة. إن تطمين الحاجات الباكرة هو الذي يُقرّر هيكل الشخصيّة: فهناك لُيونة وسُهولة في الشخصيّات التي اُشبعت حاجاتها يجعلها مُستعدّة للنِموّ والتطوّر كلما تغيّرتْ التجارب والأحداث.
ولكن الحاجة تَظلُّ حاجةً إلاّ إذا حوّلها الحرمان إلى ألم pain. فالأَلَم يدفعنا نحو تطمين الحاجة و يُحذّرنا بأن الجسم في خطر، ويُعِدّنا لاتّخاذ ردود فِعل دفاعية. أما الأَلَمُ الأساسي primal pain فهو حِرمان أو إصابة تُهدّد الطفل النامي. وليس الوَجَع البدني هو الذي يُحدّد الألم الأساسي primal pain، ولكنه السِياق context أو المعنى الذي يراه فيه الوعي النامي الحسّاس للطفل. فمثلاً ليس هناك معنىً كبير للوقوع على الأرض، ولكن حصول الأذى البدني بدون وجود أي شخص لمواساته وتطمينه يجعل الطفل يشعر بألم أساسي، إذ أن هناك إحتياج للحَنان والطمأنينة فإذا لم تُشبع فإنها تُهدّد عملية النضوج حتى وإن لم تكن تُهدّد البقاء البدني. وفي الحقيقة فإن الألم الأساسي يمكن أن يكون إمّا بدنيّاً أو عاطفياً. ورغم الأعتفاد الشائع بأن هذين هما نوعان مُختلفان من الوَجَع فإنهما في الواقع مُتساويان من ناحية تعامُل الجسم معهما.
إن الألم الباكر كبير جدّاً لأنَّ حرمان الطفل من الأحتياجات الأساسية يُهدّد البقاء على قيد الحياة. إن الحرمان من الحاجات الأولية، كالحاجة إلى التغذية مثلاً، وحتى لوقت قصير، له تأثيرات خطيرة، لإنها دائماً تقريباً قضيّة حياة أو موت. إن تأثير تجارب الأيّام والشهور الأولى بعد الولادة يُمكن أن يمتدَّ الى حياة الشخص البالِغ، والحرمان في مراحل مُتاخّرة يكون تأثيره أقلَّ من ذلك على الجهاز العصبي. وهذا لا يعني أنْ ليس هناك آلام مُمِضِّة ، ولكن هذه الآلام في الغالب ليست ذات تأثير ساحِق كالآلام الباكِرة. وعندما يُحرم الطفل في مراحل لاحقة فإن لديه إستجابات كثيرة لتحمُّل الضُغوط.
إن الألم هو معلومات إلكتروكيمياوية electrochemical informationتسري في مسارات حِسّية تماماً كأي طاقة تدخل في نظام مُشابه، و الألَم الأساسي هو حِمل زائد overload أي معلومات أكثر من أن يستطيع الجهاز العصبي أن يتحمَّلها ويتمثَّلها . وهذا الحمل الزائد ليس فقط تفاعُلاً سيكولوجيّاً وإنما وبصورة حرفيّة فإنه بَثٌّ لطاقة بدنيّة، فالآلام تنطبع في الجهاز العصبي حتى قبل أن يَفقَهَ الفرد معانيها.
ويقول الدكتور آرثر جانوف: إذا أحس الفرد (في مراحل الطفولة المُبِّكرة) بالألم بكل قوّته فإن هذا الألم لا يُصبح قوة خارج الوعي unconscious force ولن يكون هناك عُصاب neurosis. أما عندما يكون الألم كبيراً جداً، فإن الطفل ولِحُسن الحظِّ يفقد الوعي. ولكن هذه الرحمة لها ثمن: فالألم يُكْبَتُ repressed ولكنه يبقى داخل الجهاز العصبي للطفل بالضبط لأنه كان من الضخامة بحيث أنه لم يكن في المُستطاع أن يتحمّله الطفل ويتفهّمه ويتجاوزه. وهكذا فإن هذا الألم المكبوت يأخذ حياة خاصة به، خارج الأدراك، ويُسلّط ضغطاً مُستمراً. وطالما بقي ألمَاً لا يحِسُّ به صاحبه فإنه يتطلّب تضحيات لا تنتهي. فالكَبْتُ يُنقذ ولكنَّه أيضاً يُدَمِّر. إن إعاقة رد الفعل الطبيعي هو الذي يقود في النهاية الى العُصاب neurosis ولا يُهِمُّ أن تكون هذه الإعاقة سببها عُنف الصدمة نفسها أو الكبح المفروض بالقوّة. فإذا كَبَتَ الطفل الألم الذي يحسُّ به فإنه يكبت أيضاً حاجته الى الحُب والأمان و الحنان ، وهو لا يستطيع أن يحس بهذه الحاجات ما لم يواجه الألم المُمِضّ الناتج من حرمانه منها. إن كَبْتَ أي إحساس يؤدّي الى كبح جزء من قابلية الفرد العامة للإحساس، وكلما كثُر الكبت كلما قلَّ ما يحسُّ به الفرد وما يعيشه. وعندما لايحسُّ الأنسان فإن الحياة لا معنى لها. إن مُعاناة الآخرين تُصبح أيضاً لا معنى لها. وحتى مُعاناتنا تُصبح وكأنَّها لا تعني شيئاً لإن جُزءاً كبيراً جداً من أنفُسنا يتصارع مع العذابات الداخلية بحيث لا يتبَّقى إلاّ جزء قليل من النفس قادراً على أن يتعامل عقلانيّاً مع العالم ومع الأحبّة والأصدقاء.
إن أفظع ما في العُصاب هو ان المُصاب به لا يَعي أنه مُصاب، لأن طبيعة العُصاب هي في كونه دائماً في اللاوعي unconscious. والوقت الوحيد الذي نشعر فيه بأننا عُصابيّون هو عندما نكون تعيسين أي عندما تكون الدفاعات الكيمياوية والكهربائية المُتطوِّرة في أجسامنا عاجزة عن تحمُّل العبء ومقاومة الألم. فعندما يفشل العُصاب في جعلنا غير واعين، فإن أول وعي نَحِسُّ به هو الألم الذي فينا. وهذا الألم يتفجَّر دائماً عندما يصبح جهاز تهدئة الألم مُتحمِّلاً فوق طاقته. وفي هذه اللحظات نجد أننا نحتاج إلى مُخَدِّر drug، أو ضبط للنفس أو فكرة مُطَمئِنَة لكي تُحفِّز جهاز الكَبْت في أجسادنا ليعمل بصورة أقوى.
ن المُركَّب المنيع الذي يخلقه الألم المكبوت يقود إلى حالة من الحِياد الحَصين immune neutrality أي إلى إحساس بالعيش وراء جِدار بحيث تبدو الحياة وكأنها تسير خارج مُتناول الفرد المُصاب وبعيداً عنه. إن المَناعة ضدَّ الأحساس تعني المناعة ضد الحياة. ويقول جانوف إن القلق هو التجلّي الظاهر للألم الكامن في النظام العضوي الداخلي، وهو يُشير إلى الخوف الغامض من ألم "سائِب" هو في طريقه ليصل إلى حالة الوعي، وكل الأجهزة البدنيّة تتفاعل لتُبقيه بعيداً. إن القلق ليس مفصولاً عن الخوف، بل هو الخوف المُرعب من أيام الطفولة الباكِرة، وعندما يحسُّ المرضى أصحاب القلق الحادّ مقداراً كافياً من آلام الطفولة المُبكِّرة فإنهم عادة يتخلّصون من القَلَق. مَظهر آخر من مظاهر الألم المكبوت هو التوتُّر والذي نحسُّ به كضيق في الصدر وأَلَم في عَضَلات الظهر والعنق وتصلُّب في الأصابع وصَكّ الأسنان وتصلُّب الفكّ. ويظهر التوتُّر كذلك في الجهاز التنفُّسي حيث يكون التنفُّس ضيِّقاً وضَحْلاً، ويظهر كذلك في تعابير الوَجْه أو في هيئة انتصاب الجسم أو طريقة المشي أو النظر الشَزْر أو تقطيب الجبين وغير ذلك. إن الطاقة المُصاحبة للألم المكبوت لا تنتقي جِهازاً واحداً بل تتسلّل إلى كل الأجهزة الجسمية:-الأمعاء وجدار البدن والعضلات والأفكار والمدارك. والأعتقاد بفكرة ما مهما كانت يمتصّ ما عجز عنه التوتر من طاقة ، ويمثِّل الأستجابة النهائية للألم الكامن في الأعماق. ويُدافع الفرد عن هذه الأفكار بقوة لأنها تُدافع عنه.
إن الشخص الصحي يعيش الحياة ولا يكبتها ويستخدم الطاقة ليحيا وليس ليُكافح الألم. والطاقة الحقيقية ببساطة هي التي تُمكننا من أن نتحرَّك مُباشرة ونُشبع حاجاتنا الآنيّة ، وهذا غير ممكن إلاّ إذا خلّفنا حرماننا السابق ورائنا حَقّاً وصِدقاً. إن الألم المكبوت يجعلنا نتحايل على أنفسنا وعلى ألآخرين فنحصل على تصوّرات خاطئة ونقوم بتصرّفات غير لائقة بدون إرادة منّا ولا نستمع بانتباه ونَسمع و نُبصر بصورة خاطئة.
أخيراً فلا بُدَّ من كلمة مُختصرة حول كيفيّة التخلُص من العُصاب حسب ما يرتأيه جانوف. يقول جانوف: إن مرض المشاعِر المكبوتة هو مرض دائم إلاّ إذا إستطاع المريض أن يجد طريقاً لأسترداد نفسه الحقيقية. والطريقة الوحيدة لكي يصبح الشخص حقيقيّاً مرة أخرى هي في أن يَعكِس عمليّة العُصاب. وليس هناك طريق بلا أَلَم للوصول إلى هذا الهدف. بما أن العُصاب هو نتيجة للتناقُض بين الإظهار expression والكَبْت repression فإن العِلاج حتى يكون فعّالاً فإنه يجب أن يُركّز مُباشرةً على هذا التناقض الجوهري، وكل الفعاليّات العقليّة الأخرى كالتصوّرات والتوجُّهات والتعرُّف وحلّ الإشكالات والتعلُّم ومظاهر الشخصيّة الأخرى- يجب أن تُعتبر ثانويّة. ويُسمّي جانوف طريقة العلاج التي توصّل اليها ب" العلاج الأساسي primal therapy"، وهذه هي الطريقة التي يعتبر أن بإمكانها أن تعكس العُصاب. فبدلاً من إعاقة الإحساس بالألم، الذي يؤدّي إلى العُصاب، فإن طريقة العلاج هذه تُطلق الألم وبالتالي تُحرر المريض من مُعاناته، وبدلاً من تضخيم اللاوعي الذي يتأتّى من كَبْت الألم، فإن العملية العكسية تُعبّر عن المشاعر اللاواعية حتى تُحرر الوعي. وبما أن العُصاب قد تمَّ بناؤه من الجزء الداخلي من المُخ ثُمَّ توسَّع إلى الأجزاء الأخرى، فإن العلاج يجب أن ينطوي على أُسلوب للسير في عكس هذا الأتِّجاه التأريخي، أي من الأحداث الحاضِرة إلى تجارب الطفولة المُبكِّرة ذات الأهميّة الفائقة. إن طريقة العلاج الأساسي ، كما يُعبّر عنها آرثر جانوف، هي طريقة جسدية-نفسية psychophysiologic وتعتمد على فكرة أن العُصاب هو كيان قائم بذاته. إنها ليست علاج نفسي فقط ولا علاج بدني فقط وإنما هي العلاجان كلاهما وفي نفس الوقت. إنها مَبنيِّة على الفكرة البسيطة القائلة بأن ما يحصل لنا كأطفال لا يَتَبَخَّر في اللَّحظة التي تنتهي فيها الحادثة، ولكنّه في الواقع يبقى كجزء من أجسامنا أو فسلجتنا. إن الحادثة مُسجّلة في جهازنا العصبي كواقعة، ويجب أن يتمَّ حلّها كواقعة أيضاً. ولهذا ولأجل الشِفاء يجب تحويل الُمعاناة أو العَذاب suffering إلى أَلَمٍ pain . وعندما يصل العذاب إلى حدٍّ مُتعاظِم (كما في العلاج الأساسي) فإن الجهاز الدفاعي ينهار ويقع المريض في الحالة المُعاكسة تماماً للمُعاناة أي الشعور بالألم. بعد ذلك ينبسط البدن وتتناقص حِدَّة الأنفعالات (كدقّات القلب وضغط الدم ودرجة الحرارة) ويبدأ المُصاب يحسّ ويُعبّر عن الألم المُتَّصل بالوعي، وهكذا تبدأ عملية الألتئام أو الشِفاء healing. عندما تُصبح المُعاناة أَلَمَاً فإن كليهما سيختفي ويبقى المريض مع شيء آخر هو القدرة على الإحساس feeling. ولهذا يُقال أن الإحساس يُساوي الشِفاء. إن إدراك الألم ليس كمثل الشعور به، فالأدراك لا يُشافي. إن المطلوب هو أن يتخلَّص المُخ من قدر من الطاقة يُساوي تماماً الطاقة المُتسبّبة عن الصدمة التي حصلت في زمن الطفولة الباكر، ولهذا فغالباً ما يُصاحب العلاج صُراخٌ وبُكاءٌ ويتصرّف المريض وكأنه يحسّ بالألم كما كان طِفلاً في سِنيِّه الأولى.بل أنَّ البُكاء في مُعظم الحالات يكون جزءاً لا غِنى عنه في عملية الشِفاء healing. إن إزالة الكَبْت والأفكار المُرتبطة به يؤدّي إلى بُروز النفس الحقيقية التي كان يجب أن تكون، أي النفس المُبرمجة وراثيّاً genetically programmedوالتي أُجهضتْ في مرحلة ما من مَسار تطوُّرها. وعندما يتخلَّص الدماغ والجهاز العصبي تماماً من الألم المكبوت فإن الأنسان يكون عند ذلك حُرّاً. إن الوعي هو الحرية الحقيقية الوحيدة.
لقد أطلنا بعض الشيء في الإقتباس من طريقة "الألم الأساسي primal pain" لإنها في رأينا تُمثِّل تطوُّراً جذرياً في مدارس علم النفس الحديثة بإدخالها عُنصر الوعي consciousness كمعيار أساسي في قضايا الصحة النفسية، وهذا أقرب ما وصل إليه علم النفس،في رأينا، من مفهوم الروح وعلاقتها بالنفس، ولإنها من جانب آخر تتعامل مع مُفردات وأفكار نرى أن العقيدة الإسلامية سبق لها وأن تعاملتْ معها أو ألمحتْ إليها. وسنعود في فصول قادمة إلى مُراجعة مذهب الألم الأساسي كلما دعت الضرورة إلى ذلك.
الخُلاصة
نستنتج مما ذُكر أعلاه أن مُعظم علماء النفس في العصر الحديث وأصحاب مدارس العلاج النفسي المُعاصرون يتَّفقون عموماً على ما يلي:
1- إن الجهاز العصبي (وخصوصاً المُخ) هو الذي يتحكّم في تَصرُّف الفرد المبني أساساً على الأحاسيس feelings والأفكار ideas.
2- إن المُخ يتألَّف وظيفياً من ثلاثة أجزاء: أ-الجزء الغريزي instinctiveويُطلق عليه عند بعضهم libido or child ويؤلّف لُبَّ الدماغ ويكون كاملاً عند الولادة، ب- الجزء الوُدّي (العاطفي الخالص) emotional ويَطلق بعضهم عليه ego or parent، ويتالَّف من الطبقة المحيطة باللّب ويكتمل في سنِّ الخامسة أو السادسة من العمر، ج- الجزء الفكري أو العاقل intellectويُعرف عند البعض ب super ego or adult، وهو القِشرة الخارجية من المُخ (cerebral cortex) ويكتمل بعد سنِّ المُراهقة.
3- إن كل جزء من أجزاء المُخ له حالتان: حالة واعية conscious و حالة لاواعية unconscious والوعي الكُلِّي هو مجموع الوعي في هذه الأجزاء الثلاثة.
4- إن التصرُّف في حالة الوعي يكون معقولاً (أي محسوباً وهادفاً إلى إشباع الأحتياجات)، وأن التصرُّف في حالة اللاّوعي unconsciousness يكون مُشوّشاً و مُنفَلِتاً (غير محسوب ولا يهدف إلى إشباع الحاجات الآنيّة).
5- الأحساس بالحياة feeling يكون فقط في حالة الوعي. أما في حالة اللاّوعي فهناك حالة من العذاب suffering قد تُصبح الحياة معها عبءً ثقيلاً وتفقد معناها.
ويمكننا أن نضع علاقة رياضيّة بسيطة بين الوعي واللاّوعي بالشكل التالي:
الوعي +اللاّوعي= كميّة ثابتة (ك) في أية لحظة من حياة الأنسان
إذن الوعي= (ك) ناقصاً اللاّوعي
فإذا أصبح اللاّوعي =صفراً، يكون الوعي= ك=الوعي الكامل full consciousness.
وإذا تمكّن الأنسان أن يصل إلى حالة الوعي الكامل فيكون عند ذلك شاعراً بالحياة ومُمارساً لها في أعمق ابعادها.
6- فحالة اللاّوعي هي الخطر الأكبر لإنها تُنقص من حالة الوعي ويكون ذلك النُقصان مُساوياً تماماً لكميّة اللاّوعي.
7- إن سبب حصول حالة اللاّوعي (الجزئي أو الكلي) سببه عدم تَقَبُّل الفرد دوافع معينة أو الخوف الشديد من الإحساس بالألم pain feelingالمُتولّد من الحرمان من إشباع إحتياج أو أكثر من إحتياجات الكائن البشري أو عدم موافقة الوالدين أو المجتمع على تلبية بعض حاجات الفرد الأساسية في وقت نشؤوها خصوصاً عندما كان طفلاً.
8- العلاج النفسي psychotherapy يرتكز حول كيفية التخلُّص من حالة اللاّوعي والقلق المتولّد من معاناة تلك الحالة غير المفهومة والرجوع إلى حالة الوعي. وفي الحالة الأخيرة يكون الأنسان مُنسجماً مع نفسه الحقيقية أي مع فطرته كما تعبر عنها العقيدة الأسلامية.
ونرى من المُفيد هنا أن نذكر أن القرآن تكلَّم كثيراً عن ثلاثة أجزاء في كيان الإنسان تلعب أدواراً حاسمة في سُلوكه. ومن المقارنة مع ما ذُكر أعلاه نستطيع أن نستنتج أنَّ:
الجزء الغريزي= الفطرة {..فِطْرةَ اللهِ الّتي فَطَرَ الناسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللهِ...} (الرُوم -30)
الجزء الوُدّي ( أوالعاطفي الخالص)= الهَوَى {وأمّا مَن خافَ مَقامَ رَبِّه ونَهى النَفْسَ عَنِ الهَوَى فإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوى} (النازعات-40)
الجزء الفكري أو العاقل= العقل {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُم الآياتِ لَعَلَّكُ تَعْقِلون} (النُور61-)
العقيدة الإسلامية وعلم النفس
لقد ذكرنا في نهاية البحث عن "الطريقة العلمية" أن الباحثين المُحدَثين عندما ينظرون إلى الحقائق العلمية التي أشار إليها القرآن فإنهم يُركِّزون جُلَّ جهودهم في مُقارنة ما ورد في القرآن من إشارات إلى الطبيعة ومظاهرها وما أثبته العلم الطبيعي الحديث natural science. ولكنّا ذكرنا أيضاً أن القرآن يحمل وَعْداً قاطعاً بأن الله تعالى سوف يُري الناس آياته ليس في خارج أنفسهم فقط وإنما في أعماق نفوسهم أيضاً حتى يتبيّن لهم الحق الصُراح فيؤمنوا ، إنْ أرادوا التسليم بالحقائق، إيماناً راسخاً لا شكَّ فيه ولا ارتياب: {سَنُريهِم أياتِنا في الآفاقِ وفي أنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهيدٌ} (فُصِّلَتْ-53).
ولا بأس من إعادة القول هنا أن القرآن عندما يُشير إلى بعض الظواهر الكونية و الحياتية فإنه لا يهدف إلى إستقصاء كل حقائق الوجود أو أن يكون كتاباً غايته أن يُبّين قوانين الطبيعة ويقف عند حُدودها. إن الهدف من هذه الإشارات التي برهن العلم على تطابُقها مع المعرفة العلمية المعاصرة، هو أن يؤمن الإنسان بوجود خالق قدير لهذا الوجود وذلك بتِبيان عَظَمة الله وقُدرته على الخَلْق والإبتكار وعلى عِلمه الذي أحاط بتفاصيل كل شيء :{ إنَّما قَوْلُنا لِشَيْئٍ إِذا أرَدناهُ أن نَقولَ لَهُ كُن فَيَكون} (النَحْل-40) ، {وَسِعَ رَبِّي كّلَّ شيءٍ عِلماً أفلا تَتَذَكَّرون} (الأنعام-80)، {إِنَّما إلهُكُمُ اللهُ الّذي لا إلهَ إلاّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيءٍ عِلماً} (طه-98).
واقعاً فإن الباحث المُدقّق في القرآن لا يعدو الحقَّ إذا استنتج بأن القرآن هو أساساً كتاب تربية نفسيّة شخصية-إجتماعية يهدف أصلاً إلى المحافظة على الطبيعة الفِطرية للنفس الأنسانيّة وبذلك يجعل الأنسان قادراً على العيش بعمق في هذه الحياة وأن يُواجِه حقائق الوجود وعلى رأسها الألَم والموت بلا هَلَعٍ ولا يأس، بل بِطَمأنينة وأمَل. فما هي طريقة القرآن في الوصول إلى هذا الهدف؟
قبل أن نُجيب على هذا السؤال نرى من المُناسب أن نُبرز القَسَمات المُشتركة بين مناهج علم النفس المُعاصرة وبين منهج القرآن في إيصال الإنسان إلى حالة الصحة النفسية التي يبتغيها في قرارة نفسه. ومن الواضح من العرض المُختصر الذي ذُكر أعلاه أنه لا توجد لحد الآن طريقة مُوحَّدة في علم النفس لوصف الظواهر المختلفة. إن المشتغلين في علم النفس يعتبرون ذلك شيئاً لا مفرَّ منه بينما تتواصل البحوث للوصول إلى نظرية يمكن أن تؤدّي في النهاية إلى وضع المعرفة التي قام عليها البرهان جميعاً في نظام مُوَحَّد يُمثِّل الموقف المقبول من كل العاملين في حقل علم النفس.
القرآن والمدرسة التركيبية structuralism:
بما أن هذه المدرسة في علم النفس تعتبر أن الأستبطان الداخلي introspection أحد أركانها فإنها تلتقي إلى حدٍ ما مع مدرسة التحليل النفسي psychoanalysisالذي نادى به يوزيف بروير وسيجموند فرويد ومن جاء بعدهما. ويقول وليم جيمز أحد مؤسسي هذه المدرسة (و كما ذكرنا أثناء الحديث عن الفلسفة بأن جيمز هذا هو أيضاً أحد أعمدة الفلسفة النفعية أو الذرائعية): "على المرء أن يقوم دائماً بفحص مشاعره ودوافعه وأفكاره حتى يستطيع أن يّغيّر نمط حياته ويؤثّر تأثيراً إيجابياً في البيئة المحيطة به". وقد نقلنا أعلاه ما يُؤثر عن وليم جيمز حين يقول :" إن أعظم الثورات التي أحدثها جيلنا هي إكتشاف أن بني ألإنسان ، بتغيّيرهم المواقف الداخلية لأذهانهم، يستطيعون أن يُغيّروا السِمات الخارجية لحياتهم".. وهذه الدعوة إلى تقييم أفكار الشخص ودوافعه وأحاسيسه تلتقي مع يدعو إليه القرآن حين نقرأ مثلاً:{ إنَّ اللهَ لا يُغَيّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيّروا ما بِاَنفُسِهِم} (الرَعْد-11). وتغيير النفس لا يعني ان يُغيّر الناس مظهرهم ومأكلهم وإنما يعني وبالتأكيد تغيير أفكارهم وعواطفهم التي لا تتماشى مع حاجاتهم الطبيعية التي خُلقوا عليها. وسوف نعود إلى نِقاش هذه الحاجات في مقاطع أخرى من بحثنا. ويعود القرآن فيؤكد هذا المعنى في آية أخرى :{ ذلِكَ بأنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغيّراً نِعْمَةً أنْعَمَها على قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّروا ما بِاَنفُسِهِم } ( الأنفال-53). ولو أطّلع وليم جيمز على هذه النصوص القرآنية لما صَرَّح بأن الأكتشاف الذي تكلم عنه هو "أعظم الثورات التي أحدثها جيله" في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لإنه كان سيُدرك أن القرآن تكلّم عن هذا "الإكتشاف" قبل منتصف القرن السابع الميلادي أي قبل جيل وليم جيمز بأكثر من ثلاثة عشر قرناً!! وإضافة إلى ذلك فقد جاء في الأثر:"مَن أصْلَحَ سَريرَتَهُ أصْلَحَ اللهُ عَلانيتَهُ"، وهذا يشير بوضوح إلى أن السِمات الخارجية لحياة الإنسان (علانيته) تابعة ومترابطة مع أفكاره ومواقفه الذهنية (أي سريرته) لأنّ إصلاح الأولى يؤدي إلى إصلاح الأخيرة ، والعكس صحيح أيضاً أي أنَّ مَن أبقى على فساد سريرته (مواقفه الذهنية) فسوف ينتهي إلى إفساد سِمات حياته الخارجية (أي علانيته). وكما ذكرنا سابقاً فإن العقيدة الإسلامية تلتقي أيضاً مع أفكار الفلسفة النفعية عموماً ، فنحن نقرأ مثلاً {فأمَّا الزَبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وأمَّا ما يَنْفَعُ الناسَ فَيَمْكُثُ في الأرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ} (الَرعْد-17). وواضح أن القرآن يخبرنا بأن أي شيء أو أية فكرة لا يستفيد منها الإنسان سوف تُهمل وتُترك فتُصبح "جُفاء" وهو الشيء عديم الفائدة. والعقيدة الإسلامية وبالتأكيد تلتقي مع مقولة جيمز بأن الأيمان بالله هي فكرة نفعية لأنها تجعل الإنسان يشعر بالراحة والطمأنينة، وهذا ما نوّه عنه القرآن كثيراً، وكمثال على ذلك فهو يقول:{الّذينَ آمَنوا وتَطْمَئنُّ قُلوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ، الا بِذكرِ اللهِ تَطْمَئنُّ القُلوبُ} (الرَعْد-28).
القرآن والمدرسة السلوكية: behaviourism:
كما بينا أن هذه المدرسة تقول بأن تصرف الكائنات الحية بما فيها الإنسان هو إستجابة response للمُحفّزات stimulants التي يتعرض لها، وبعملية التكييف الإشراطي conditioningيمكن أن يحل أي محفز آخر متعلق بالمحفز الأول في إنتاج نفس السلوك عند الإنسان أو عند الحيوان. ورغم ما يبدو من أن دُعاة هذه المدرسة لا يُركّزون على المشاعِر والأحاسيس المدفونة داخل النفس، إلاّ أنه من الممكن إرجاع هذه الأحاسيس نفسها إلى تأثير حوافز في بيئة ماضية ( كبيئة عهد الطفولة مثلاً) في تكوين إستجابات "غير صحيّة" وغير مبنيّة على التفكير البنّاء و التحليل السليم للظروف المحيطة بالشخص. وهذا غير بعيد عن وصف القرآن لسلوك بعض الناس حين يقول:{ بَلْ قالوا إنَّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارِهِم مُهتدون. وكَذلِكَ ما أرْسَلنا في قَرْيَةٍ مِن نَذيرٍ إلاّ قالَ مُتْرَفوها إنَّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارِهِم مُقْتَدون } (الزُخرُف-22-23). وهكذا فإن آثار البيئة التي نشأ فيها هؤلاء لا تزال تُملي عليهم أفكارهم وبالتالي سلوكهم ونظرتهم إلى الحياة والوجود. ويعود القرآن إلى تأكيد هذا السلوك في آيات عديدة أخرى :{ وإذا قيلَ لَهُمُ اتَّبِعوا ما أنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، أوَ لَوْ كانَ آباؤهُمْ لا يَعْقِلونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدون} (البَقَرَة-170).
مع أجمل وأرق ألأمنيات.
بوح الروح
1-طريقة التغذية الأسترجاعية الحيوية biofeedback
يقول الطبيب النفسي جيروم فرانك jerome frank في مقالة عنوانها "طريقة التغذية الإسترجاعية وتأثير عِقار التَرْضيَة biofeedback and the placebo effect": إن هذه طريقة تُستخدم فيها بعض الآلات التي تجعل المريض واعياً للأضطرابات في الأعضاء التي تنتج عنها الأعراض المَرَضيّة والتي لم يكن سابقاً يعيها وبذلك تزداد قدرته على اكتساب سيطرة محسوسة على هذه الأضطرابات. وربما كانت الآلة المُستخدمة غير ذات تأثير جوهري، لإن هذه السيطرة يمكن أن يكتسبها مُمارسو رياضة اليوجا yogis بقدرتهم على أن يحصلوا على نفس السيطرة على وظائفهم الجسدية بجعلها في متناول إحساسهم بدون مساعدة الآلة. أما عقار الترضية placeboفهو دواء أو كلمات مُهدِئة تُقدّم للمريض لتجعله يتوقّع الشفاء ، والتَوَقُّع هنا هو مفتاح النجاح في الشِفاء. وإذا عرّفنا طريقة العلاج النفسي psychotherapy بأنها تفاعُل مُحدَّد المعالِم ذو شُحنة عاطفية ومُتميّز بالثقة بين مُعالِج مُتدرّب ومُجاز إجتماعياً وبين شخص مُتألّم، وفيه يُحاول المُعالج أن يُخفّف من مُعاناة المُتألّم وعَجَزه من خلال إتصالات رَمْزيّة وهي بالدرجة الأولى كلمات ولكن أيضاً تشمل طُقوساً أو مناهج إستشفائية تجعل المريض يتوقّع الخَلاص من مُعاناته.
وتَدُلُّ الدراسات التي أُجريت على أنواع مُختلفة من طُرُق العِلاج النفسي أولاً على أن جميع أنواع العلاج النفسي يتبعها عادة تحسُّن في حالة المريض مُقارنة بمرور نفس الفترة بدون علاج، وثانياً، مع إستثناءات قليلة، فإن الإختلافات في قوة التأثير للطرق العلاجية المختلفة هي طفيفة عند معظم الأشخاص. إن تفسيراً معقولاً لهذه النتيجة هو أن معظم المُراجعين يأتون إلى العلاج النفسي ليس بسبب الأعراض فقط ولكن لإنهم يُعانون من الإحباط المعنوي demoralization.، وأن هذا الإحباط المعنوي هو مَصدر كبير لكَرَبِهم وضيقهم، وأن الخصائص المُشتركة لجميع أنواع العلاج النفسي هي أنها تؤدّي إلى تحسُّن حالة المرضى لإنها تقاوم الإحباطات المعنوية. إن لُبَّ الإحباط المعنوي هو الشعور بعدم الكفاءة مصحوباً غالباً بمشاعر الخَيْبَة والعجز وإحساس بالإغتراب والضَبابيّة في فهم معنى الأعراض الخاصّة بالحالة، وماذا يمكن أن يفعل المريض للتخُّلص منها. إن الميّزات المشتركة لجميع أنواع طرق العلاج النفسي، بما فيها طريقة التغذية الإسترجاعية، التي تُقاوم الأحباط هي:
1-علاقة ذات شُحنة عاطفية مُتميّزة بالثقة مع مُعالِج يريد المُساعدة وغالباً ما يكون ذلك مع مجموعة من الأشخاص. وبما أن الشخص المُعالِج يُمثّل المجتمع الأوسع فإن مجرد قبوله للمريض كشخص يستحق المساعدة يؤدي إلى مُكافحة شعور المريض بالعُزلة ويُساعد في إعادة إحساسه بالإرتباط مع مجموعته. إن المريض يجعل نفسه مُعتمداً على المُعالج النفسي ليساعده لثقته في كفاءة المُعالج ونيّته الحسنة تجاه المريض، ولمعرفة المريض بالتدريب الذي تلقاه المُعالج ومطابقة طريقته مع توقُّعات المريض.
2-الجَوُّ الإستشفائي healing setting الذي يقوّي العلاقة بتأكيد مكانة المُعالج وجعله رمزاً لدوره المُتوقَّع في الحصول على الشِفاء. وفي حالة طريقة التغذية الإسترجاعية فإن الجهاز الآلي يمثّل رمزاً شِفائياً مُهمَّاً ويمكن إستخدامها حتى في المُداخلات الجراحية الطبية بما فيها طب الأسنان.
3-وجودالأساس المنطقي rationale أو المُخطّط الفكري الذي يُعطي شرحاً مقبولاً لإعراض المريض ويصف إجراءات للخَلاص منها.
4-إن الإجراءات تتطلَّب المُشاركة الفعّالة من المريض والمُعالج وهما يعتقدان كلاهما أنها الطريق المُناسِب لإستعادة صحّة المريض.
إن وجود الأساس المنطقي للعلاج يكافح الإحباط بمساعدته المريض التغلُّب على الشعور بالعُزلة من خلال تجهيزه نظاماً إعتقاديّاً مشتركاً بين المريض والمُعالج. إن مثل هذا النظام الإعتقادي هو جوهري لتكوين وإدامة كافة الجماعات البشرية. إن مجرد وجود إطار فكري يمكن أن يتقبّل أعراض المريض ويحتويها يعني أن تلك الأعراض ليستْ فريدة ولا شاذّة وبهذا يمكن التغلُّب على شعور المريض بالعُزلة. أكثر من ذلك ، فإن الأطار الفكري يحوّل الأعراض من مُعاناة غير مسبوقة، مُخيفة وغامضة إلى تجربة مفهومة وبذلك ينخفض مُستوى القلق الذي يُصاحبها.
إضافة إلى الفوائد الممكنة من الطقوس الخاصة والإجراءات لمكافحة منابع معينة من الكَرْب فإنها جميعاً تشترك في خصائص شِفائية معينة. إنها تحافظ على إرتباط المريض والمُعالج بإعطائهما شيئاً يعملانه سويّةً خاصة مع غياب حُدوث أشياء أخرى. ومُعظم الإجراءات تعطي معايير لقياس التقدم إما بالحصول على وجهة نظر جديدة أو تعديلاً في السلوك وكلاهما يجعل الأمل حيّاً في النفس ويعطي مُمارسة في النجاح في رفع المعنوّيات. وأخيراً فإن السيطرة على الإطار الفكري والإجراءات العِلاجية يعطي المُعالج النفسي شعوراً بالكفاءة تُساعد بصورة غير مباشرة في إدامة إيمان المريض به أو بها.
وإذا نظرنا إلى طريقة التغذية الإسترجاعية من هذه الزاوية فإن نجاحها، كما هو الحال مع طُرُق العلاج النفسي الأخرى، يعتمد أولاً وقبل كل شيئ على تحفُّز المريض واندفاعه ليُشارك في الإجراءات المطلوبة والتي غالباً ما تكون مُزعجة أو مُثيرة للضجر. ولذلك فإن طريقة التغذية الإسترجاعية تلاقي نجاحاً أكبر مع المرضى الذين يُعانون من صُداع التوتُّر المؤلم مقارنة مع أولئك الذين لديهم ضغط عالٍ في الدم لا تُصاحبه أعراض. وهناك بصورة خاصة ميزتان علاجيّتان قويّتان بالنسبة لطريقة التغذية الإسترجاعية الحيوية وهما القابلية على إنعاش آمال المريض و تعزيز إحساسه بالسيطرة أو الكفاءة الذاتية. إن الأمل ( أو شقيقه : الإيمان التَوقَّعي expectant hope) ليس هو فقط عاطفة شافية بنفسها كما تُبّين الدراسات المتوفرة، ولكن أيضاً يُحفِّز المرضى على الإستمرار في العلاج بينما يؤي الشعور بالسيطرة إلى مكافحة الإحباط بتقوية إحترام الذات عند المريض. إن طريقة التغذية الإسترجاعية تُحافظ على إدامة إنعاش آمال المريض بتقديمها واسطة ملموسة (آلة أو جهاز) والتي يستطيع أن يراقب بها تقدمه بواسطة قدرته على السيطرة على الحوافز الصوتية و البصرية التي تُشير إلى حالة أي عضو بدني تراد مراقبته . فالمريض يسمع ويرى (بإستمرار) مُستوى الحالة التي هو فيها.
2-طريقة التحليل التعامُلي transactional analysis
جوهر هذه النظرية يكمن في اعتبار أن كل إنسان ينطوي على ثلاث "ذوات او حالات من الأنا ego states" هي:
أ-ذات الأنا الطفل child ego state
ب-ذات الأنا الوالد أو الوالدة parent ego state
ج ذات الأنا البالغ adult ego state
تقول هذه النظرية أن كل شخص يحمل في أعماقه طفلاً صغيراً (صبي صغير أو بنت صغيرة) يشعر، يُفكّر، يتصرّف، يتكلّم ويستجيب بنفس الطريقة التي يتّبعها عندما كان طفلاً في عُمُر مُعيّن. إن ذات الطفل لا تُعتبر طفوليّة أو "غير ناضجة"، وإنّما فقط أنها تعود لطفل في سنٍّ معيّنة. والعامل المهم هنا هو: العُمر الذي يُمكن أن يكون بين سنتين وخمس سنوات في الحالات الأعتيادية. يقول بيرن: "من الأهميّة بمكان أن يفهم كل شخص "الذات الطفل" في نفسه ليس فقط لأنها ستكون معه طيلة حياته وإنما لأنها أثمن جزء من شخصيّته personality".
والذات البالغ adult ego state هي "الذات" التي تُقيّم موضوعياً ما يُحيط بالأنسان و تحسب الأمكانات والأحتمالات على أساس من الخبرة السابقة. ويمكن أن نعتبر هذه الذات وكأنها تعمل كحاسبة الكترونية computer.
أما الذات الوالد parent ego state فهي الذات المُستقاة من الوالد أو الوالدة أومَنْ بحُكمهما. في هذه "الذات" أو "حالة الأنا" فإن الشخص يشعر ، يُفكّر، يتصرّف و يتكلم ويستجيب تماماً كما كان يفعل أحد والديه عندما كان صغيراً. وهذه "الذات" تكون هي السائدة عندما يكبُر هذا الشخص ويبدأ بتربية أولاده مثلاً، وحتى إذا لم تكن هذه "الذات" ظاهرة فإنها تؤثّر على تصرُّف الشخص مثل تأثير والده أو والدته وتقوم بوظيفة الضمير conscience.
إن الشخص الحقيقي (أي الطبيعي) يمكن تعريفه بأنه إنسان يتحرّك ذاتيّاً أي من تِلقاء نفسه بطريقة مُتوازنة rational وموثوقة مع إعطاء الاخرين إعتبارهم واحترامهم. إن الطفل يولد حُرّاً ولكنه سرعان ما يتعلّم أشياء كثيرة. إن وظيفة الطفل المهمة هي أن يكتشف ماذا يعني كلام والديه، وهذا يساعده على الأحتفاظ بحُبِّهما او على الأقلّ بحمايتهما. وفي حالات أخرى فإن طاعة الطفل لوالديه المُتشدّدَين قد تكون ضرورية لإبقائه على قيد الحياة!! والطفل بفِطرته يُحِبُّ والديه وهدفه الرئيسي في الحياة هو أن يُرضيهما (لو سمحا له بذلك). وحتى يستطيع أن يفعل ذلك فإنه يُريد ان يعرف ماذا يريدان منه فعلاً. فبالنسبة للطفل الصغير فإن رغبة والديه هي أوامر commandsيجب أن يُطيعها حرفيّاً. وهنا يبدا فصل من أخطر أدوار حياة الأنسان : لأن الوالدين يستطيعان أن يُبرمجا الطفل بأية طريقة يُريدانها. فإذا تم هذا التعامُل transaction بين الطفل وبين والديه بطريقة لا تدع مجالاً للطفل أن يرفض او أن يختار ما يُناسبه فإن الطفل سوف يكون واقعاً تحت تأثير خُطَّة script أو صيغة formula قد لا يستطيع الفِكاك منها حتّى عندما ينمو ويُصبح إنساناً بالِغاً. إنَّ الشخص الذي يتَّبع خطة أو صيغة لا يُعتبر بقياس الواقع الحياتي الطبيعي شخصاً حقيقياً real person. ومن الحقائق الملموسة يبدو أن الأشخاص الذين يحملون خُطة أو صيغة غُرست فيهم منذ صباهم يكوّنون الغالبية العظمى من البشر. إن الطفل الذي يتبنّى خُطَّة حياة تحت تأثير أحد الوالدين أو كليهما لا يكون طفلاً طبيعياً حُرّاً وإنما يُصبح طفلاً مُبَدَّلاً أو مُغَيَّراً adapted child ينمو ليُصبح شخصاً غير حقيقي. وطالما أن الأنسان "البالغ" ينطوي على "ذات" طفل مُبَدَّل وليس على "ذات" طفل حر فإن هذا الأنسان يفعل ما يأمره به "ذات الوالد" الكامنة عنده. وقد يكون الشخص مدفوعاً دفعاً للقيام بأعمال تُمليها عليه خطّة حياته هذه مهما كانت تلك الأعمال مُزرية أو شائنة وعندها يوصف هذا الشخص بانه مدفوع بالخطة script driven. أما النوع الآخر فهو الأنسان المقموع بالخطة script riddenوالذي سيقدّم أية تضحيات يطلبها منه "ذات الوالد" مهما كانت جسيمة.( أُلفتُ نظر القارئ أن يُقارن ذلك مع قول الرسول"ص" : يُولدُ المرءُ على الفِطرةِ مُسلِماً ولكِنَّ أَبَوْيه يّهوّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه). لذلك وحسب ما يرتأي الدكتور أريك بيرن، فإن قرارات الطفولة وليس تخطيط البالغين هي التي تُقرّر مصير الأفراد، وفي الحقيقة فإن "ذات البالغ adult ego" هي القوة الوحيدة التي تستطيع أن تتدّخل بصورة مؤثّرة بين "ذات الوالد" و"ذات الطفل" وكل المُداخلات العلاجية يجب أن تأخذ ذلك بعين الأعتبار . وحسب مذهب التحليل التعامُلي فإن "الذات البالغ" يستطيع أن يحصل على سماح من الخارج لتجهيز طاقته الخاصة به، أو أنه يُمكن شحنه بالطاقة من الخارج فيصبح بإمكانه أن "يتوسّط" بين "ذات الوالد" و "ذات الطفل" فيشتبك أو يقف في وجه "ذات الوالد". وهكذا يُترك "ذات الطفل" حُرّاً. ويبقى "ذات البالغ" هو الذات أو الحالة السائدة ليقوم بمعارضة "ذات الوالد" مُستقبلاً. ويُصبح العلاج تامَّاً متى ما أصبح "ذات الطفل" حراً تماماً من الأنصياع لأوامر "ذات الوالد" وبهذا تتحطّم وتختفي الخُطّة أو الصيغة التي تتحكّم بحياة الأنسان، وعندها يُصبح إنسانأً يتصرّف ذاتيّاً autonomous ويستجيب لظروفه بما تُمليه عليه مصلحته التي يقوم بخدمتها "الذات البالغ adult ego" عنده، ويتوقّف أن يكون عبداً مُطيعاً لخُطّة فُرضت عليه بالتخويف والإرهاب في سنوات عمره الغضَّة البريئة.
3-مذهب الألم الأساسيprimal pain therapy
يقول الباحث النفسي آرثر جانوف، مُؤسّس هذه الطريقة، بأن المسألة النفسية في الأنسان يمكن إختصارها بمدى إشباع الأحتياجات الأساسية عند الفرد.فالأحتياج need (أو الحاجة) هو حجر الأساس لحالة الصحة وحالة المرض النفسي أو العُصاب neurosis. فنحن نحسّ ب"الحاجة" بكل خلية من أجسامنا. و"الحاجة" هي حالة مُطلقة في الكائن الأنساني.-وعند الولادة فنحن لسنا إلاّ "حاجة" مُجسَّمة. فالطفل الرضيع يتطلّع إلى والديه لإشباع إحتياجاته، فهو لا يستطيع أن يُطعم نفسه، أو يُنظّف جسمه، أو أن يُدفّيء نفسه، وهو لا يستطيع أن يخدم نفسه بأي إسلوب. فإشباع هذه الحاجات يجب أن "يُوهَبَ له"، والبقاء على قيد الحياة هوفي خطر في كل لحظة تقريباً من وجوده. والحاجات الباكِرة هي حاجات بدنية. وعندما نكبر فإن مُستويات جديدة من الحاجة تأخذ بالظهور، فالحاجة تُصبح أكثر تطوّراً عندما ينضج الدماغ. وكذلك تبدأ بالنمو قابليّات عاطفية وفكرية إضافة إلى تطوير كل حاجة أساسية. وهذه التطورات ليست مُرتبطة بالعواطف أو بأية تعبيرات لفظية، ولكنها تُصبح جاهزة كأحاسيس feelingsحالما يبدأ الطفل بإكتساب إمكانيّة عاطفية emotional capacity. فانتقاد الطفل أو محاولة جعله يشعر بالعار هي بلا معنى لطفل حديث الوِلادة، وكذلك إهانة طفل عمره ثلاثة أشهر لا تعني شيئاً بالنسبة له. ولكن توجيه إهانة لطفل عمره ست سنوات (كالقول بأنه لا يساوي شيئاً) من الممكن أن يكون لها معنى خطير لأن الطفل قد وصل الآن الى مرحلة الأحتياج العاطفي. أمّا آخر التطوّرات في الأحتياجات فهي الحاجة الفكرية أو العقلية intellectual need كالحاجة إلى أن يُفسّر له الكِبار العالَمَ أو البيئة المحيطة به. فالأنسان بحاجة إلى أن يُخبَر بالحقيقة وإلى تأكيد حقائق وجوده. إن معظمنا يُعاني من إحتياج (أو إحتياجات) غير مُشبعة، وفي أحيان كثيرة فإنّا لا نستطيع أن نحسّ ما هي إحتياجاتنا الفعلية بسبب مُعاناتنا السابقة.
إن الإحتياجات الحقيقية تنبع جذورها من حُبِّ البقاء على قيد الحياة أي من الوجود الحي أو الكيان البيولوجي biology، وهذه الحاجات هي حالات نسيجية عضوية أي حالات شاملة للمُخّ والجسم وليست مفاهيم سايكولوجية مُجرّدة. هناك أيضاً حاجات سايكولوجية كالحاجة الى الفَهم understanding مثلاً. ولكنَّ الحاجات السايكولوجية المعروفة (كالهيبة والسُلطة) هي فقط مُشتقّات من الحاجات البيولوجية الأساسية، أو هي إختراعات لذِهْنٍ مُتطوّر له القابلية على تحويل الحاجة الحقيقية إلى رموز symbols. وبا‘ستثناء المُتطلّبات الأساسيّة للبقاء فإن حاجاتنا تتغيّر باستمرار متناسبة مع مراحل نموّنا. ف"الحاجة إلى المعرفة need to know" مثلاً تتغيّر ، و"التَعَرُّف" في النهاية تُساهم فيه الحواس senses والَمشاعِر أو الأحاسيس feelingsوالفِكْر أو العَقْل intellect. والرضيع لديه حِسٌّ بما يدور حوله حتّى وإن لم يكن قادراً على تفسيره. وبعد ذلك فإن هذا "الحسّ" يتطوّر إلى "فكرة idea". فهو يحسّ إذا لم يكن يشعُر بالأرتياح، وهو يعرف محيطه بوضوح تام. ولكن، وحتى يستطيع أن يتمثّل (أي يَعي) تصوُّراته فإن المُحيط الذي يضعه فيه والداه يجب أن "يكون ذا معنى" بصورة ماديّة أي ملموسة، فإذا بكى لأنه غير مُرتاح فيجب أن يُحتضن و يُواسى، فإذا لم يُفعل له ذلك فإن العالم المُحيط بالطفل يبدو وكأنّه ليس له معنى مفهوم meaninglessلأنه لا يستجيب لحاجته.
وعندما تنضج القابليّات العاطفية عند الطفل ينشأ لديه "إحساس feeling" عن العالم المحيط به. والطفل الصحي (ذَكراً كان أم أُنثى) ميّال بطبيعته إلى الحَدَس والتخمين. فإذا سُمح له بالتعبير عن أحاسيسه حول الأشياء، مهما كانت هذه الأشياء، فإنه يستطيع أن يكتسب ثقة مُتزايدة في طبيعة تصوّراته لما يُحيط به. وفي وقت مُتأخِّر فقط يستطيع أن يعرف محيطه بصورة فكريّة ويكون قادراً باستخدام الكلمات على تفسير خصائص والديه أو حياته البيتيّة. وحينذاك يحتاج الىمعلومات information لأشباع فُضوله الآخذ بالنموّ. ولكن الأحتياجات الأنسانية هي أكثر من ذلك بكثير.
فالحاجة الى النمو والتطوّر بحسب استعداد الفرد لذلك هي حاجة خطيرة. فمثلاً إذا كان الجنين مُستعدّاً للولادة والأم لم تكن مُستعدة لذلك لأي سبب، فإن الحاجة إلى النمو الطبيعي تكون قد تعرَّضت إلى خَلَلٍ. وبعد ذلك فإن حاجات النمو المتصاعدة : كالحاجة الى تعلُّم الكلام عند الأستعداد لذلك يُمكن أن تُنتهك عندما يُضغط على الطفل لكي يتكلّم. والأَمْنُ safety أيضاً من الحاجات الأساسيّة حتى عندما يكون الفرد جنيناً في بطن أمُّه، وبعد ذلك فإن الأمن يعني بيتاً مُستقرّاً بدون تهديدات مُتكرّرة بالطلاق، أو عدم الأستقراربالتنقُّلات الدائمة. وأيضاً هناك حاجة ماسَّة الى الدفء والحنان.
إن الحاجة الى الحُرّية هي حاجة بايولوجية أساسية. فعلى الصعيد الجسدي فهي تعني حُرّية أن يُولد الجنين بدون صُعوبة أو مُعوِّقات. وفي وقت لاحق يجب أن تكون هناك حرية الحركة داخل الغرفة والبيت بدلاً من حبس الطفل في حظيرة اللّعب، وأخيراً فإن الطفل النامي بحاجة الى حرية اكتشاف المنطقة التي يعيش فيها والعالَم الأوسع.
إن الحاجة الى الحرية والحاجة الى التعبير expressionهما صُنوان مُتلازِمان. فالطفل بحاجة إلى أن يكون حُراً في التعبير عن أحاسيسه feelings ثم عن أفكاره ideas. وعندما ينمو الطفل فإنه بحاجة الىأن يستمع له الآخرون ويتكلَّموا معه حتى يُمارس حرية التعبير عن المشاعِر والأفكار ، ثم حرية إختيار المهنة المُناسِبة والأصدقاء وطريقة الحياة.
يقول الباحث النفساني آرثر جانوف: إذا أُشبعتْ الأحتياجات needs عند حُدوثها فسوف لا يكون هناك أَلَمٌ painيُذكر، ولكن ما هي كميّة الإشباع المطلوبة؟ والجواب هو أن الطفل يعرف ذلك: إن إدراك حالة الأشباع satisfaction هي حالة مُتأصّلة innate في كل إنسان. ويمضي جانوف فيقول:
إنَّ لُبَّ عملية النمو هي الحاجة إلى التعبير expression. إن الأطفال ليسوا بالطبيعة غاضبين على والديهم، ولكنهم سوف يكونون غاضبين فعلاً إذا حُرموا من إشباع حاجاتهم في مُختلف مراحل النمو. إن التعبير عن المشاعر هو حاجة عميقة لإن مشاعرنا هي مِلْكُنا الفردي المُطلق ويجب أن لا تُسلب منّا، وهذه المشاعر أو الأحاسيس لا تعود لشخص آخر أبداً. إنها ليست فقط مِلكنا، إنّها ببساطة هي نحنُ: أي أننا كأفراد نساوي مشاعرنا أو أحاسيسنا.
إن الحاجة للإحساس need to feel قد تكون هي الحاجة الكبرى التي تتفرّع منها كل الحاجات الأخرى. فالكائن الأنساني هو كائن ذو إحساس feeling وهذه الخاصيّة هي من أُسس وجوده العضوي. والطريقة الوحيدة لأن ننمو ونكون مُنبسطين و قانعين كأفراد هو أن نُمارس ونُجرّب كل كياننا و نفوسنا، فالإحساس هو جوهر الحياة. feeling is the essence of life.
إن تطمين الحاجات الباكرة (أي في بداية النمو) يسمح بتكامل الفرد في كل مرحلة من مراحل العمر اللاحقة. و كُّلما أُشبعتْ حاجة في مُستوى مُعيّن، فيمكننا أن نتركها وراءنا ولا ضرورة لأن نسحبها خلفنا كعبءٍ إضافي إلى وقتنا الحاضر. ولهذا يمكننا أن نعيش اللحظة الحاضرة إذا كان ماضينا قد حُلَّتْ مَشاكله. إن الإشباع هو الذي يُمكّننا من العُبور من الحاجات الفردية للبقاء (كالماء والغذاء) الى حاجات بقاء النوع species survival كالحاجة إلى الجنس مَثَلاً. وفي الحقيقة فإننا لا نستطيع أن نُمارِس الجنس بصورة كاملة إلاّ حين تكون الحاجات السابقة قد أُشبعتْ. والواقع أنه في سُلَّم الحاجات، فإن النمو الصحي والطبيعي لكل مُستوى أو مرحلة يعتمد على تطمين الحاجة في المرحلة السابقة. إن تطمين الحاجات الباكرة هو الذي يُقرّر هيكل الشخصيّة: فهناك لُيونة وسُهولة في الشخصيّات التي اُشبعت حاجاتها يجعلها مُستعدّة للنِموّ والتطوّر كلما تغيّرتْ التجارب والأحداث.
ولكن الحاجة تَظلُّ حاجةً إلاّ إذا حوّلها الحرمان إلى ألم pain. فالأَلَم يدفعنا نحو تطمين الحاجة و يُحذّرنا بأن الجسم في خطر، ويُعِدّنا لاتّخاذ ردود فِعل دفاعية. أما الأَلَمُ الأساسي primal pain فهو حِرمان أو إصابة تُهدّد الطفل النامي. وليس الوَجَع البدني هو الذي يُحدّد الألم الأساسي primal pain، ولكنه السِياق context أو المعنى الذي يراه فيه الوعي النامي الحسّاس للطفل. فمثلاً ليس هناك معنىً كبير للوقوع على الأرض، ولكن حصول الأذى البدني بدون وجود أي شخص لمواساته وتطمينه يجعل الطفل يشعر بألم أساسي، إذ أن هناك إحتياج للحَنان والطمأنينة فإذا لم تُشبع فإنها تُهدّد عملية النضوج حتى وإن لم تكن تُهدّد البقاء البدني. وفي الحقيقة فإن الألم الأساسي يمكن أن يكون إمّا بدنيّاً أو عاطفياً. ورغم الأعتفاد الشائع بأن هذين هما نوعان مُختلفان من الوَجَع فإنهما في الواقع مُتساويان من ناحية تعامُل الجسم معهما.
إن الألم الباكر كبير جدّاً لأنَّ حرمان الطفل من الأحتياجات الأساسية يُهدّد البقاء على قيد الحياة. إن الحرمان من الحاجات الأولية، كالحاجة إلى التغذية مثلاً، وحتى لوقت قصير، له تأثيرات خطيرة، لإنها دائماً تقريباً قضيّة حياة أو موت. إن تأثير تجارب الأيّام والشهور الأولى بعد الولادة يُمكن أن يمتدَّ الى حياة الشخص البالِغ، والحرمان في مراحل مُتاخّرة يكون تأثيره أقلَّ من ذلك على الجهاز العصبي. وهذا لا يعني أنْ ليس هناك آلام مُمِضِّة ، ولكن هذه الآلام في الغالب ليست ذات تأثير ساحِق كالآلام الباكِرة. وعندما يُحرم الطفل في مراحل لاحقة فإن لديه إستجابات كثيرة لتحمُّل الضُغوط.
إن الألم هو معلومات إلكتروكيمياوية electrochemical informationتسري في مسارات حِسّية تماماً كأي طاقة تدخل في نظام مُشابه، و الألَم الأساسي هو حِمل زائد overload أي معلومات أكثر من أن يستطيع الجهاز العصبي أن يتحمَّلها ويتمثَّلها . وهذا الحمل الزائد ليس فقط تفاعُلاً سيكولوجيّاً وإنما وبصورة حرفيّة فإنه بَثٌّ لطاقة بدنيّة، فالآلام تنطبع في الجهاز العصبي حتى قبل أن يَفقَهَ الفرد معانيها.
ويقول الدكتور آرثر جانوف: إذا أحس الفرد (في مراحل الطفولة المُبِّكرة) بالألم بكل قوّته فإن هذا الألم لا يُصبح قوة خارج الوعي unconscious force ولن يكون هناك عُصاب neurosis. أما عندما يكون الألم كبيراً جداً، فإن الطفل ولِحُسن الحظِّ يفقد الوعي. ولكن هذه الرحمة لها ثمن: فالألم يُكْبَتُ repressed ولكنه يبقى داخل الجهاز العصبي للطفل بالضبط لأنه كان من الضخامة بحيث أنه لم يكن في المُستطاع أن يتحمّله الطفل ويتفهّمه ويتجاوزه. وهكذا فإن هذا الألم المكبوت يأخذ حياة خاصة به، خارج الأدراك، ويُسلّط ضغطاً مُستمراً. وطالما بقي ألمَاً لا يحِسُّ به صاحبه فإنه يتطلّب تضحيات لا تنتهي. فالكَبْتُ يُنقذ ولكنَّه أيضاً يُدَمِّر. إن إعاقة رد الفعل الطبيعي هو الذي يقود في النهاية الى العُصاب neurosis ولا يُهِمُّ أن تكون هذه الإعاقة سببها عُنف الصدمة نفسها أو الكبح المفروض بالقوّة. فإذا كَبَتَ الطفل الألم الذي يحسُّ به فإنه يكبت أيضاً حاجته الى الحُب والأمان و الحنان ، وهو لا يستطيع أن يحس بهذه الحاجات ما لم يواجه الألم المُمِضّ الناتج من حرمانه منها. إن كَبْتَ أي إحساس يؤدّي الى كبح جزء من قابلية الفرد العامة للإحساس، وكلما كثُر الكبت كلما قلَّ ما يحسُّ به الفرد وما يعيشه. وعندما لايحسُّ الأنسان فإن الحياة لا معنى لها. إن مُعاناة الآخرين تُصبح أيضاً لا معنى لها. وحتى مُعاناتنا تُصبح وكأنَّها لا تعني شيئاً لإن جُزءاً كبيراً جداً من أنفُسنا يتصارع مع العذابات الداخلية بحيث لا يتبَّقى إلاّ جزء قليل من النفس قادراً على أن يتعامل عقلانيّاً مع العالم ومع الأحبّة والأصدقاء.
إن أفظع ما في العُصاب هو ان المُصاب به لا يَعي أنه مُصاب، لأن طبيعة العُصاب هي في كونه دائماً في اللاوعي unconscious. والوقت الوحيد الذي نشعر فيه بأننا عُصابيّون هو عندما نكون تعيسين أي عندما تكون الدفاعات الكيمياوية والكهربائية المُتطوِّرة في أجسامنا عاجزة عن تحمُّل العبء ومقاومة الألم. فعندما يفشل العُصاب في جعلنا غير واعين، فإن أول وعي نَحِسُّ به هو الألم الذي فينا. وهذا الألم يتفجَّر دائماً عندما يصبح جهاز تهدئة الألم مُتحمِّلاً فوق طاقته. وفي هذه اللحظات نجد أننا نحتاج إلى مُخَدِّر drug، أو ضبط للنفس أو فكرة مُطَمئِنَة لكي تُحفِّز جهاز الكَبْت في أجسادنا ليعمل بصورة أقوى.
ن المُركَّب المنيع الذي يخلقه الألم المكبوت يقود إلى حالة من الحِياد الحَصين immune neutrality أي إلى إحساس بالعيش وراء جِدار بحيث تبدو الحياة وكأنها تسير خارج مُتناول الفرد المُصاب وبعيداً عنه. إن المَناعة ضدَّ الأحساس تعني المناعة ضد الحياة. ويقول جانوف إن القلق هو التجلّي الظاهر للألم الكامن في النظام العضوي الداخلي، وهو يُشير إلى الخوف الغامض من ألم "سائِب" هو في طريقه ليصل إلى حالة الوعي، وكل الأجهزة البدنيّة تتفاعل لتُبقيه بعيداً. إن القلق ليس مفصولاً عن الخوف، بل هو الخوف المُرعب من أيام الطفولة الباكِرة، وعندما يحسُّ المرضى أصحاب القلق الحادّ مقداراً كافياً من آلام الطفولة المُبكِّرة فإنهم عادة يتخلّصون من القَلَق. مَظهر آخر من مظاهر الألم المكبوت هو التوتُّر والذي نحسُّ به كضيق في الصدر وأَلَم في عَضَلات الظهر والعنق وتصلُّب في الأصابع وصَكّ الأسنان وتصلُّب الفكّ. ويظهر التوتُّر كذلك في الجهاز التنفُّسي حيث يكون التنفُّس ضيِّقاً وضَحْلاً، ويظهر كذلك في تعابير الوَجْه أو في هيئة انتصاب الجسم أو طريقة المشي أو النظر الشَزْر أو تقطيب الجبين وغير ذلك. إن الطاقة المُصاحبة للألم المكبوت لا تنتقي جِهازاً واحداً بل تتسلّل إلى كل الأجهزة الجسمية:-الأمعاء وجدار البدن والعضلات والأفكار والمدارك. والأعتقاد بفكرة ما مهما كانت يمتصّ ما عجز عنه التوتر من طاقة ، ويمثِّل الأستجابة النهائية للألم الكامن في الأعماق. ويُدافع الفرد عن هذه الأفكار بقوة لأنها تُدافع عنه.
إن الشخص الصحي يعيش الحياة ولا يكبتها ويستخدم الطاقة ليحيا وليس ليُكافح الألم. والطاقة الحقيقية ببساطة هي التي تُمكننا من أن نتحرَّك مُباشرة ونُشبع حاجاتنا الآنيّة ، وهذا غير ممكن إلاّ إذا خلّفنا حرماننا السابق ورائنا حَقّاً وصِدقاً. إن الألم المكبوت يجعلنا نتحايل على أنفسنا وعلى ألآخرين فنحصل على تصوّرات خاطئة ونقوم بتصرّفات غير لائقة بدون إرادة منّا ولا نستمع بانتباه ونَسمع و نُبصر بصورة خاطئة.
أخيراً فلا بُدَّ من كلمة مُختصرة حول كيفيّة التخلُص من العُصاب حسب ما يرتأيه جانوف. يقول جانوف: إن مرض المشاعِر المكبوتة هو مرض دائم إلاّ إذا إستطاع المريض أن يجد طريقاً لأسترداد نفسه الحقيقية. والطريقة الوحيدة لكي يصبح الشخص حقيقيّاً مرة أخرى هي في أن يَعكِس عمليّة العُصاب. وليس هناك طريق بلا أَلَم للوصول إلى هذا الهدف. بما أن العُصاب هو نتيجة للتناقُض بين الإظهار expression والكَبْت repression فإن العِلاج حتى يكون فعّالاً فإنه يجب أن يُركّز مُباشرةً على هذا التناقض الجوهري، وكل الفعاليّات العقليّة الأخرى كالتصوّرات والتوجُّهات والتعرُّف وحلّ الإشكالات والتعلُّم ومظاهر الشخصيّة الأخرى- يجب أن تُعتبر ثانويّة. ويُسمّي جانوف طريقة العلاج التي توصّل اليها ب" العلاج الأساسي primal therapy"، وهذه هي الطريقة التي يعتبر أن بإمكانها أن تعكس العُصاب. فبدلاً من إعاقة الإحساس بالألم، الذي يؤدّي إلى العُصاب، فإن طريقة العلاج هذه تُطلق الألم وبالتالي تُحرر المريض من مُعاناته، وبدلاً من تضخيم اللاوعي الذي يتأتّى من كَبْت الألم، فإن العملية العكسية تُعبّر عن المشاعر اللاواعية حتى تُحرر الوعي. وبما أن العُصاب قد تمَّ بناؤه من الجزء الداخلي من المُخ ثُمَّ توسَّع إلى الأجزاء الأخرى، فإن العلاج يجب أن ينطوي على أُسلوب للسير في عكس هذا الأتِّجاه التأريخي، أي من الأحداث الحاضِرة إلى تجارب الطفولة المُبكِّرة ذات الأهميّة الفائقة. إن طريقة العلاج الأساسي ، كما يُعبّر عنها آرثر جانوف، هي طريقة جسدية-نفسية psychophysiologic وتعتمد على فكرة أن العُصاب هو كيان قائم بذاته. إنها ليست علاج نفسي فقط ولا علاج بدني فقط وإنما هي العلاجان كلاهما وفي نفس الوقت. إنها مَبنيِّة على الفكرة البسيطة القائلة بأن ما يحصل لنا كأطفال لا يَتَبَخَّر في اللَّحظة التي تنتهي فيها الحادثة، ولكنّه في الواقع يبقى كجزء من أجسامنا أو فسلجتنا. إن الحادثة مُسجّلة في جهازنا العصبي كواقعة، ويجب أن يتمَّ حلّها كواقعة أيضاً. ولهذا ولأجل الشِفاء يجب تحويل الُمعاناة أو العَذاب suffering إلى أَلَمٍ pain . وعندما يصل العذاب إلى حدٍّ مُتعاظِم (كما في العلاج الأساسي) فإن الجهاز الدفاعي ينهار ويقع المريض في الحالة المُعاكسة تماماً للمُعاناة أي الشعور بالألم. بعد ذلك ينبسط البدن وتتناقص حِدَّة الأنفعالات (كدقّات القلب وضغط الدم ودرجة الحرارة) ويبدأ المُصاب يحسّ ويُعبّر عن الألم المُتَّصل بالوعي، وهكذا تبدأ عملية الألتئام أو الشِفاء healing. عندما تُصبح المُعاناة أَلَمَاً فإن كليهما سيختفي ويبقى المريض مع شيء آخر هو القدرة على الإحساس feeling. ولهذا يُقال أن الإحساس يُساوي الشِفاء. إن إدراك الألم ليس كمثل الشعور به، فالأدراك لا يُشافي. إن المطلوب هو أن يتخلَّص المُخ من قدر من الطاقة يُساوي تماماً الطاقة المُتسبّبة عن الصدمة التي حصلت في زمن الطفولة الباكر، ولهذا فغالباً ما يُصاحب العلاج صُراخٌ وبُكاءٌ ويتصرّف المريض وكأنه يحسّ بالألم كما كان طِفلاً في سِنيِّه الأولى.بل أنَّ البُكاء في مُعظم الحالات يكون جزءاً لا غِنى عنه في عملية الشِفاء healing. إن إزالة الكَبْت والأفكار المُرتبطة به يؤدّي إلى بُروز النفس الحقيقية التي كان يجب أن تكون، أي النفس المُبرمجة وراثيّاً genetically programmedوالتي أُجهضتْ في مرحلة ما من مَسار تطوُّرها. وعندما يتخلَّص الدماغ والجهاز العصبي تماماً من الألم المكبوت فإن الأنسان يكون عند ذلك حُرّاً. إن الوعي هو الحرية الحقيقية الوحيدة.
لقد أطلنا بعض الشيء في الإقتباس من طريقة "الألم الأساسي primal pain" لإنها في رأينا تُمثِّل تطوُّراً جذرياً في مدارس علم النفس الحديثة بإدخالها عُنصر الوعي consciousness كمعيار أساسي في قضايا الصحة النفسية، وهذا أقرب ما وصل إليه علم النفس،في رأينا، من مفهوم الروح وعلاقتها بالنفس، ولإنها من جانب آخر تتعامل مع مُفردات وأفكار نرى أن العقيدة الإسلامية سبق لها وأن تعاملتْ معها أو ألمحتْ إليها. وسنعود في فصول قادمة إلى مُراجعة مذهب الألم الأساسي كلما دعت الضرورة إلى ذلك.
الخُلاصة
نستنتج مما ذُكر أعلاه أن مُعظم علماء النفس في العصر الحديث وأصحاب مدارس العلاج النفسي المُعاصرون يتَّفقون عموماً على ما يلي:
1- إن الجهاز العصبي (وخصوصاً المُخ) هو الذي يتحكّم في تَصرُّف الفرد المبني أساساً على الأحاسيس feelings والأفكار ideas.
2- إن المُخ يتألَّف وظيفياً من ثلاثة أجزاء: أ-الجزء الغريزي instinctiveويُطلق عليه عند بعضهم libido or child ويؤلّف لُبَّ الدماغ ويكون كاملاً عند الولادة، ب- الجزء الوُدّي (العاطفي الخالص) emotional ويَطلق بعضهم عليه ego or parent، ويتالَّف من الطبقة المحيطة باللّب ويكتمل في سنِّ الخامسة أو السادسة من العمر، ج- الجزء الفكري أو العاقل intellectويُعرف عند البعض ب super ego or adult، وهو القِشرة الخارجية من المُخ (cerebral cortex) ويكتمل بعد سنِّ المُراهقة.
3- إن كل جزء من أجزاء المُخ له حالتان: حالة واعية conscious و حالة لاواعية unconscious والوعي الكُلِّي هو مجموع الوعي في هذه الأجزاء الثلاثة.
4- إن التصرُّف في حالة الوعي يكون معقولاً (أي محسوباً وهادفاً إلى إشباع الأحتياجات)، وأن التصرُّف في حالة اللاّوعي unconsciousness يكون مُشوّشاً و مُنفَلِتاً (غير محسوب ولا يهدف إلى إشباع الحاجات الآنيّة).
5- الأحساس بالحياة feeling يكون فقط في حالة الوعي. أما في حالة اللاّوعي فهناك حالة من العذاب suffering قد تُصبح الحياة معها عبءً ثقيلاً وتفقد معناها.
ويمكننا أن نضع علاقة رياضيّة بسيطة بين الوعي واللاّوعي بالشكل التالي:
الوعي +اللاّوعي= كميّة ثابتة (ك) في أية لحظة من حياة الأنسان
إذن الوعي= (ك) ناقصاً اللاّوعي
فإذا أصبح اللاّوعي =صفراً، يكون الوعي= ك=الوعي الكامل full consciousness.
وإذا تمكّن الأنسان أن يصل إلى حالة الوعي الكامل فيكون عند ذلك شاعراً بالحياة ومُمارساً لها في أعمق ابعادها.
6- فحالة اللاّوعي هي الخطر الأكبر لإنها تُنقص من حالة الوعي ويكون ذلك النُقصان مُساوياً تماماً لكميّة اللاّوعي.
7- إن سبب حصول حالة اللاّوعي (الجزئي أو الكلي) سببه عدم تَقَبُّل الفرد دوافع معينة أو الخوف الشديد من الإحساس بالألم pain feelingالمُتولّد من الحرمان من إشباع إحتياج أو أكثر من إحتياجات الكائن البشري أو عدم موافقة الوالدين أو المجتمع على تلبية بعض حاجات الفرد الأساسية في وقت نشؤوها خصوصاً عندما كان طفلاً.
8- العلاج النفسي psychotherapy يرتكز حول كيفية التخلُّص من حالة اللاّوعي والقلق المتولّد من معاناة تلك الحالة غير المفهومة والرجوع إلى حالة الوعي. وفي الحالة الأخيرة يكون الأنسان مُنسجماً مع نفسه الحقيقية أي مع فطرته كما تعبر عنها العقيدة الأسلامية.
ونرى من المُفيد هنا أن نذكر أن القرآن تكلَّم كثيراً عن ثلاثة أجزاء في كيان الإنسان تلعب أدواراً حاسمة في سُلوكه. ومن المقارنة مع ما ذُكر أعلاه نستطيع أن نستنتج أنَّ:
الجزء الغريزي= الفطرة {..فِطْرةَ اللهِ الّتي فَطَرَ الناسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللهِ...} (الرُوم -30)
الجزء الوُدّي ( أوالعاطفي الخالص)= الهَوَى {وأمّا مَن خافَ مَقامَ رَبِّه ونَهى النَفْسَ عَنِ الهَوَى فإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوى} (النازعات-40)
الجزء الفكري أو العاقل= العقل {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُم الآياتِ لَعَلَّكُ تَعْقِلون} (النُور61-)
العقيدة الإسلامية وعلم النفس
لقد ذكرنا في نهاية البحث عن "الطريقة العلمية" أن الباحثين المُحدَثين عندما ينظرون إلى الحقائق العلمية التي أشار إليها القرآن فإنهم يُركِّزون جُلَّ جهودهم في مُقارنة ما ورد في القرآن من إشارات إلى الطبيعة ومظاهرها وما أثبته العلم الطبيعي الحديث natural science. ولكنّا ذكرنا أيضاً أن القرآن يحمل وَعْداً قاطعاً بأن الله تعالى سوف يُري الناس آياته ليس في خارج أنفسهم فقط وإنما في أعماق نفوسهم أيضاً حتى يتبيّن لهم الحق الصُراح فيؤمنوا ، إنْ أرادوا التسليم بالحقائق، إيماناً راسخاً لا شكَّ فيه ولا ارتياب: {سَنُريهِم أياتِنا في الآفاقِ وفي أنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهيدٌ} (فُصِّلَتْ-53).
ولا بأس من إعادة القول هنا أن القرآن عندما يُشير إلى بعض الظواهر الكونية و الحياتية فإنه لا يهدف إلى إستقصاء كل حقائق الوجود أو أن يكون كتاباً غايته أن يُبّين قوانين الطبيعة ويقف عند حُدودها. إن الهدف من هذه الإشارات التي برهن العلم على تطابُقها مع المعرفة العلمية المعاصرة، هو أن يؤمن الإنسان بوجود خالق قدير لهذا الوجود وذلك بتِبيان عَظَمة الله وقُدرته على الخَلْق والإبتكار وعلى عِلمه الذي أحاط بتفاصيل كل شيء :{ إنَّما قَوْلُنا لِشَيْئٍ إِذا أرَدناهُ أن نَقولَ لَهُ كُن فَيَكون} (النَحْل-40) ، {وَسِعَ رَبِّي كّلَّ شيءٍ عِلماً أفلا تَتَذَكَّرون} (الأنعام-80)، {إِنَّما إلهُكُمُ اللهُ الّذي لا إلهَ إلاّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيءٍ عِلماً} (طه-98).
واقعاً فإن الباحث المُدقّق في القرآن لا يعدو الحقَّ إذا استنتج بأن القرآن هو أساساً كتاب تربية نفسيّة شخصية-إجتماعية يهدف أصلاً إلى المحافظة على الطبيعة الفِطرية للنفس الأنسانيّة وبذلك يجعل الأنسان قادراً على العيش بعمق في هذه الحياة وأن يُواجِه حقائق الوجود وعلى رأسها الألَم والموت بلا هَلَعٍ ولا يأس، بل بِطَمأنينة وأمَل. فما هي طريقة القرآن في الوصول إلى هذا الهدف؟
قبل أن نُجيب على هذا السؤال نرى من المُناسب أن نُبرز القَسَمات المُشتركة بين مناهج علم النفس المُعاصرة وبين منهج القرآن في إيصال الإنسان إلى حالة الصحة النفسية التي يبتغيها في قرارة نفسه. ومن الواضح من العرض المُختصر الذي ذُكر أعلاه أنه لا توجد لحد الآن طريقة مُوحَّدة في علم النفس لوصف الظواهر المختلفة. إن المشتغلين في علم النفس يعتبرون ذلك شيئاً لا مفرَّ منه بينما تتواصل البحوث للوصول إلى نظرية يمكن أن تؤدّي في النهاية إلى وضع المعرفة التي قام عليها البرهان جميعاً في نظام مُوَحَّد يُمثِّل الموقف المقبول من كل العاملين في حقل علم النفس.
القرآن والمدرسة التركيبية structuralism:
بما أن هذه المدرسة في علم النفس تعتبر أن الأستبطان الداخلي introspection أحد أركانها فإنها تلتقي إلى حدٍ ما مع مدرسة التحليل النفسي psychoanalysisالذي نادى به يوزيف بروير وسيجموند فرويد ومن جاء بعدهما. ويقول وليم جيمز أحد مؤسسي هذه المدرسة (و كما ذكرنا أثناء الحديث عن الفلسفة بأن جيمز هذا هو أيضاً أحد أعمدة الفلسفة النفعية أو الذرائعية): "على المرء أن يقوم دائماً بفحص مشاعره ودوافعه وأفكاره حتى يستطيع أن يّغيّر نمط حياته ويؤثّر تأثيراً إيجابياً في البيئة المحيطة به". وقد نقلنا أعلاه ما يُؤثر عن وليم جيمز حين يقول :" إن أعظم الثورات التي أحدثها جيلنا هي إكتشاف أن بني ألإنسان ، بتغيّيرهم المواقف الداخلية لأذهانهم، يستطيعون أن يُغيّروا السِمات الخارجية لحياتهم".. وهذه الدعوة إلى تقييم أفكار الشخص ودوافعه وأحاسيسه تلتقي مع يدعو إليه القرآن حين نقرأ مثلاً:{ إنَّ اللهَ لا يُغَيّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيّروا ما بِاَنفُسِهِم} (الرَعْد-11). وتغيير النفس لا يعني ان يُغيّر الناس مظهرهم ومأكلهم وإنما يعني وبالتأكيد تغيير أفكارهم وعواطفهم التي لا تتماشى مع حاجاتهم الطبيعية التي خُلقوا عليها. وسوف نعود إلى نِقاش هذه الحاجات في مقاطع أخرى من بحثنا. ويعود القرآن فيؤكد هذا المعنى في آية أخرى :{ ذلِكَ بأنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغيّراً نِعْمَةً أنْعَمَها على قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّروا ما بِاَنفُسِهِم } ( الأنفال-53). ولو أطّلع وليم جيمز على هذه النصوص القرآنية لما صَرَّح بأن الأكتشاف الذي تكلم عنه هو "أعظم الثورات التي أحدثها جيله" في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لإنه كان سيُدرك أن القرآن تكلّم عن هذا "الإكتشاف" قبل منتصف القرن السابع الميلادي أي قبل جيل وليم جيمز بأكثر من ثلاثة عشر قرناً!! وإضافة إلى ذلك فقد جاء في الأثر:"مَن أصْلَحَ سَريرَتَهُ أصْلَحَ اللهُ عَلانيتَهُ"، وهذا يشير بوضوح إلى أن السِمات الخارجية لحياة الإنسان (علانيته) تابعة ومترابطة مع أفكاره ومواقفه الذهنية (أي سريرته) لأنّ إصلاح الأولى يؤدي إلى إصلاح الأخيرة ، والعكس صحيح أيضاً أي أنَّ مَن أبقى على فساد سريرته (مواقفه الذهنية) فسوف ينتهي إلى إفساد سِمات حياته الخارجية (أي علانيته). وكما ذكرنا سابقاً فإن العقيدة الإسلامية تلتقي أيضاً مع أفكار الفلسفة النفعية عموماً ، فنحن نقرأ مثلاً {فأمَّا الزَبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وأمَّا ما يَنْفَعُ الناسَ فَيَمْكُثُ في الأرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ} (الَرعْد-17). وواضح أن القرآن يخبرنا بأن أي شيء أو أية فكرة لا يستفيد منها الإنسان سوف تُهمل وتُترك فتُصبح "جُفاء" وهو الشيء عديم الفائدة. والعقيدة الإسلامية وبالتأكيد تلتقي مع مقولة جيمز بأن الأيمان بالله هي فكرة نفعية لأنها تجعل الإنسان يشعر بالراحة والطمأنينة، وهذا ما نوّه عنه القرآن كثيراً، وكمثال على ذلك فهو يقول:{الّذينَ آمَنوا وتَطْمَئنُّ قُلوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ، الا بِذكرِ اللهِ تَطْمَئنُّ القُلوبُ} (الرَعْد-28).
القرآن والمدرسة السلوكية: behaviourism:
كما بينا أن هذه المدرسة تقول بأن تصرف الكائنات الحية بما فيها الإنسان هو إستجابة response للمُحفّزات stimulants التي يتعرض لها، وبعملية التكييف الإشراطي conditioningيمكن أن يحل أي محفز آخر متعلق بالمحفز الأول في إنتاج نفس السلوك عند الإنسان أو عند الحيوان. ورغم ما يبدو من أن دُعاة هذه المدرسة لا يُركّزون على المشاعِر والأحاسيس المدفونة داخل النفس، إلاّ أنه من الممكن إرجاع هذه الأحاسيس نفسها إلى تأثير حوافز في بيئة ماضية ( كبيئة عهد الطفولة مثلاً) في تكوين إستجابات "غير صحيّة" وغير مبنيّة على التفكير البنّاء و التحليل السليم للظروف المحيطة بالشخص. وهذا غير بعيد عن وصف القرآن لسلوك بعض الناس حين يقول:{ بَلْ قالوا إنَّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارِهِم مُهتدون. وكَذلِكَ ما أرْسَلنا في قَرْيَةٍ مِن نَذيرٍ إلاّ قالَ مُتْرَفوها إنَّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارِهِم مُقْتَدون } (الزُخرُف-22-23). وهكذا فإن آثار البيئة التي نشأ فيها هؤلاء لا تزال تُملي عليهم أفكارهم وبالتالي سلوكهم ونظرتهم إلى الحياة والوجود. ويعود القرآن إلى تأكيد هذا السلوك في آيات عديدة أخرى :{ وإذا قيلَ لَهُمُ اتَّبِعوا ما أنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، أوَ لَوْ كانَ آباؤهُمْ لا يَعْقِلونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدون} (البَقَرَة-170).
مع أجمل وأرق ألأمنيات.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح