** الاسلام والمعرفه البشريه - الجزء الثالث
ملاحظات حول الفلسفة الماركسيّة
وفيما يتعلّق بالمناهج الفلسفية الأُخرى وخُصوصاً الإلحادية منها فقد تمثّل الماركسية أكثرها شُيوعاً ونُفوذاً خاصّة عندما كانت هي المنهج الذي تسير عليه الكُتلة الأشتراكية قبل اندثار الأتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينات من القرن العشرين. ولقد اقتبس ماركس منهج "الديالكتيك dialecticمن هيجل ولكنه حوًّره حسب رؤيته وقد عبّر هو عن ذلك حين قال" لقد وجدتُ هيجل واقِفاً على رأسه فوضعتُه على رجليه".وهو يعني بذلك : أنه قَلَبَ مفاهيم هيجل المثاليّة الى منطق الديالكتيك المادي dialedtic materialism، واعتبر أن ذلك هو المنهج الواقعي الصارم. تقول الماركسيّة في شرحها لهذا الديالكتيك: "إن المادّة هي أصل كل شيء وهي تحتوي في داخلها على عناصر مُتناقضة ومُتصارعة تؤدّي بمرورالزمن الى تحوّلها من حالة الى حالة أخرى تكون أرقى من الحالة الأولى في سُلَّم التطوّر. ويستمر هذا التحوّل الى ما لا نهاية.ويُطلق الماركسيّون على حالة ماديّة معينّة إسم الأُطروحة thesisوعلى نقيضها اسم الطِباق anti-thesisوعلى الحالة المتكوّنة من "صِراع" الحالتين السابقتين واندماجهما اسم حالة التركيب synthesis.والحالة الأخيرة تكون بدورها بداية لسلسلة جديدة من التحوّلات تكون حالة التركيب السالفة موضوعاً لأطروحة جديدة ينتج من تفاعلها مع نقيضها حالة تركيب جديدة وهكذا. ويقول الماركسيون أن الحركة والتحوّل هما من صُلب خصائص المادة. وهم يُفسّرون كل شيء في الوجود على أساس هذه الحركة التي يقولون أنَّها تؤدّي الى الصُعود في سُلَّم التطوّر. وحاولتْ الماركسّية أن تُفسّر التأريخ على أساس الديالكتيك المادّي وأنتجتْ بذلك نظريّة الماديّة التأريخيّة historical materialism والتي يكون فيها صِراع الطبقات الأجتماعيّة class struggle هو الداينمو المُحرِّك للتأريخ. وأخيراً بشّرتْ الماركسّية بأن الصِراع الطبقي في العَصر الحديث بين الرأسمالية والبروليتاريا سيؤدّي في النهاية الى اندحار الرأسماليّة بثورة الطبقة العاملة وامتصاصها بقايا العناصر الرأسمالية بحسب التنظير القائل بأن اندماج الأطروحة (الطبقة الرأسمالية) مع الطباق (الطبقة العاملة) ينتج عنه التركيب (المجتمع اللاطبقي). ولقد انبرى الكثير من المفكّرين الى مُساءلة الماركسية وأفكارها، وأشار العديد منهم إلى تناقض الماركسية مع نظريّتها في تفسير التأريخ على ضوء فكرة الصراع الطبقي: إذ كيف يكون نوع "التَحَرُّك" الأجتماعي (الذي سُيصبح هو التأريخ عند المجتمع اللاطبقي) بعد انتصار البروليتاريا العنيف ضد الرأسمالية وامتصاصها لبقايا هذه الطبقة؟ وهل سيتوقف تطوّر المجتمع البشري بعد أن تختفي الطبقات (أي تختفي النقائض)؟ أم هل سَتستَجِدّ قوانين أخرى للتُحرُّك الأجتماعي مُكوِّنة تأريخاً فريداً للمُجتمع اللاطبقي؟ ولكن الماركسيّة، وكما هو مُتوقّع، لم تستطع أن تُجيب على هذه التساؤلات بما ينسجم و مُنطلقاتها الفكريّة. فممّا يُؤثَر عن كارل ماركس أنه قال: "إنَّ وظيفتنا هي ليست في تفسير الوجود، وإنما يجب أن تنصبَّ جهودنا على تغيّير العالَم." وهذه العبارة لوحدها تبيّن أن الماركسية ليست مُهتّمة بالدرجة الأولى بتتبُّع الحقائق الموضوعية، كما تدعو إلى ذلك المناهج الفلسفية عُموماً، ولكنّها حركة اجتماعية-سياسيّة تهدف الى أن تُحدث انقلاباً في العلاقات الأجتماعية. ولا مفرَّ من الأستنتاج أنها، ومن أجل إعطاء مُبرّر فكري لهدفها هذا، فإنها وجدت في فلسفة الجدليّة الماديّة dialectic materialism وسيلة نافِعة جِدّاً للوُصول الى هذا الهدف.وعدا عن عجز الماركسيّة عن تعريف التأريخ في المجتمع اللاّطبقي، فقد تَصدّى كثير من المُفكريّن ومن بينهم باحثون مُبرّزون من قادة الفِكر الأسلامي لتفنيد أُسس الديالكتيك المادّي الذي نادت به الماركسية. وأوضحوا أن الماركسيّة ،في تبنّيها لوجود النقائِض في كل شيء وفي ذات الوقت، أعلنتْ إنكارها لمبدأ "عدم التناقُض" الذي نادتْ به المناهِج الفلسفية الأخرى قاطِبة، ولم تُكن تنطلق من فَهْمٍ واضح لطبيعة التحوّلات والتغيُّرات التي تطرأ على الأشياء وعلى النُظُم الطبيعية. وهي تُفَسّر حالة التغّير (التي يمُكن ان تكون مُتصاعِدة كما يمكن أن تكون مُرتَدّة ) بأنها نتاج "صراع" او "جدل" بين وضعين تتَّجه مُحصِّلته إلى مستوىً أعلى دائماً . والواقع أن احد الوضعين (كوصول الماء الى درجة حرارة معيّنة مثلاً ) هو وضع فريد في لحظة زمنية معينة. أما درجة الحرارة اللاحقة فهي أيضاً وضعية فريدة في اللحظة الزمنية التي تُقاس فيها. ولا يمكن للماء أن يكون وفي نفس اللحظة منطوياً على درجتين مختلفتين رغم توّفر المصدر الحراري الذّي يسمح بصعود درجة الحرارة. ونفس الشيء يمكن أن يُقال عند سحب مصدر التسخين لذلك الماء، فإن اللحظات الزمنية المختلفة تُعطي قياسات لدرجات حرارة فريدة ولكنها متنازلة في قيمتها العددية. هذا فيما يتعلّق بكتلة ماديّة مُتجانسة تحتوي على نفس النوع من الجزيئات و الذرّات. وليس واضحا،ً حتى على فرض ثبوت صحّة المنطق المادي الديالكتيكي على كتلة من المادة الجامدة في حالة تغيُّر، كيف يمكن أن ينسحب ذلك على مجموعة كبيرة من الكائنات الحيّة وخُصوصاً الُمجتمعات البشرية التي تلعب فيها الأفكار و الأمزجة، حتّى في ظل الصراع الأجتماعي، دوراً بالغ الأهمية يجعل علاقتها بأصلها المادي غير الحي علاقة ليست آليّة automatic في أغلب الأحيان؟ومن الجدير بالذكر أن المعروف علمياً هو أن المادة تبقى على وضعها إلاّ إذا جرتْ عليها تفاعُلات كيمياوية بإتِّحادها مع مادة أو أكثر فينتج من هذا التفاعل مادة واحدة جديدة أو أكثر.أما علم الفيزياء فيأخذ بقانون إسحاق نيوتن في الأستمرارية inertia الذي يَنِصُّ على:"كل جسم يبقى على حالته من السُكون أو الحركة الاّ أذا أثّرتْ عليه قوّة خارجية" . وهكذا أثبت العلم أن المادة لا تستطيع تغيير نفسها بنفسها تركيبياً من دون مادة أخرى لها قابلية التفاعل الكيمياوي معها،كما لا تستطيع تغيير وضعها الحركي dynamic أو السكوني static إلاّ بتأثير قوّة خارجية. وهذا يُعارض تماماً ما تقول به الماركسية. والماركسية تعتبر أن المادّة المتحوّلة ذاتيّاً باستطاعتها أن تُنتج الحركة ومظاهر الحياة الأخرى بما فيها الروح. وهنا نرى من المناسب أن نذكر ما جاء به الفيلسوف الإسلامي المّجدّد صدر الدين الشيرازي المعروف بصدر المُتألّهين عن كيفية تحول المادة الجامدة الى نسيج حي. فهو يعزو ذلك الى حصول ما يُسمّيه ب "الحَرَكَة الجَوْهَرِيِّة" في داخل المادة غير الحية فتنقلب بذلك إلى جسم حيّ. وهو يُعزي سبب هذه الحركة إلى مَصدر خارجي هو الله سبحانه وتعالى. وسوف تكون لنا عودة الى فلسفة هذا العالِم الإسلامي في وقت لاحق. ولكننا نرى من المناسب عند الحديث عن تفسير الماركسية للحياة والروح أن نُورد هنا ما يقوله المُفكّر الأسلامي الراحل السيد محمد باقر الصدر في كتابه "فلسفتنا" عن وصف الحركة الجوهرية للعلاقة بين المادّة والروح:"وأخيراً وَجَدَ تفسير الإنسان على أساس العُنصِرين الروحي والمادّي تصميمه الأفضل على يد الفيلسوف الأسلامي صدر المُتألّهين الشيرازي . فقد استكشف هذا الفيلسوف الكبير حركة جوهرية في صميم الطبيعة هي الرصيد الأعمق لكل الحركات الطارئة المحسوسة التي تزخر بها الطبيعة. وهذه الحركة الجوهرية هي الجسر الذي كشفه الشيرازي بين المادة والروح. فإن المادة في حركتها الجوهرية تتكامل في وجودها وتستمرّ في تكامُلها حتى تتجرّد عن ماديّتها ضمن شروط مُعيّنة وتُصبح كائناً غير مادي أي كائناً روحيّاً. فليس بين المادّي والروحي حدود فاصلة بل هما درجتان من درجات الوجود. والروح، بالرغم من أنها ليست مادية، ذات نَسَبٍ مادي لإنها المرحلة العُليا لتكامُل المادة في حركتها الجوهرية. وفي هذا الضوء نستطيع أن نفهم العلاقة بين الروح والجسم. ويبدو من المألوف أن يتبادل العقل والجسم-الروح والمادة-تأثيراتهما لإن العقل ليس شيئاً مفصولاً عن المادة بهُوّة سحيقة كما كان يُخيّل إلى ديكارت حين اُضطُر إلى إنكار التأثير المُتبادل والقول يمُجرّد المُوازنة. بل أن العقل ليس إلاّ صورة مادّية عند تصعيدها إلى أعلى من خلال الحركة الجوهرية. والفرق بين المادية والروحية فرق درجة فقط كالفرق بين الحرارة الشديدة والحرارة الأقّل منها درجة. ولكن هذا لا يعني أن الروح نتاج للمادة وأثر من آثارها ، بل هي نتاج للحركة الجوهرية ، والحركة الجوهرية لا تنبع من نفس المادة، لإن الحركة -كل حركة- خُروج للشيئ من القُوّة (أي الأحتمال) إلى الفعل تدريجيّاً ، والقوة لا تصنع الفعل والإمكان لا يصنع الوجود. فالحركة الجوهرية سببها خارج نطاق المادة المُتحركّة، والروح هي الجانب غير المادي من الإنسان نتيجة لهذه الحركة. والحركة نفسها هي الجسر بين المادية والروحية." ومما يجدر ذكره أن استخدام تعبير "الشيئ الموجود بالقوّة" في المفهوم الفلسفي باللغة العربية تعني الشيء الكامن أو المُحتمل ويقابلها في اللغة الأنجليزية كلمة potential مُقارنة بالشيء الموجود بالفعل existing.
ولا نريد أن ندخل في تفاصيل أكثر حول النظرية الماركسية التي تنفي وجود كل شيء خارج حدود المادة وتجلّياتها وبالتالي فهي تُنكر وجود قوّة خالقة مُستقلة عن المادة. ويكفي أن نذكر هنا مقالة وردت لماركس يذكر فيها:"بأن الحياة ووقائعها هي مقياس صحّة الفكر أو زَيْفِهِ". وبناء على مقولة ماركس هذه فإن الحياة ووقائعها قد بيّنت بصورة حاسِمة أن تطبيق الأفكار الماركسية في الأتحاد السوفيتي السابق وتوابعه لمدة تزيد على سبعين عاماً لم تُثبِت صحة المواقف التي نادت بها الماركسية (وبشكل يقيني) مُعتبرةً أن منهجها هو الطريق الذي ستسلكه البشرية حَتماً وهو فلسفة تنتهي عندها كل الفلسفات. بل أثبت الواقع أن العكس هو ما تأكّدت صحته وهو أن الماركسية لم تنجح في وصف واقع الحياة الأجتماعية والعوامل التي تتحَكَّم في حركتها. و لو أن الماركسية إعتبرت أن التغّير الذي يطرا على المادة هو من فعل قوة خارجة عنها لتجّنبتْ الصِدام مع مبدأ "عدم التناقض" الذي يلتزم به المنطق البشري ولأقتربتْ كثيراً من واقع الوجود ولألتقتْ مع العقيدة الأسلامية بمفهومها العام ولوجدتْ الطريق الأمثل لإقامة العدالة في الُمجتمع الإنساني:{ إنَّ اللهَ يأمُرُ بالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذي القُربى وينْهى عن الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونْ (النَحْل-90)، وتحت مفاهيم الفحشاء والمُنكر و البغي تتخفّى كل العلل الإجتماعية الممقوتة كالبُخل والأنانية والحَسَد والنِفاق والجُبن وكل ما يؤدّي إلى إضعاف أو هَتْك النسيج الإجتماعي وإضعاف الروابط بين أفراد المجتمع. أليس القضاء على هذه العِلَل هو المقدّمة الضرورية لإيجاد المجتمع العادل المُتضامن الذي تُنادي به العقائد المُسمّاة ب "الإشتراكية"؟
و الشيء الأساسي الذي نستطيع أن نستخلصه من هذه النظرة السريعة على المدارس الفلسفية عبر التأريخ: أن هناك ثلاثة اتّجاهات أحدها يؤمن بوجود خالق لهذا الوجود والثاني إلحادي والثالث متوقّف أو لاأدري.agnostic. والمناهج التي تُنكر وجود الخالق كالفرع الألحادي من الوجودية والمدرسة الماركسية لم تنجح في أن تتفادى التناقُضات الداخلية او أن تتنّبأ بدقّة بمسيرة الأحداث في الُمجتمعات الأنسانية المُختلفة. والفلسفات الأوربية الإلحادية واللاّأدرية تُمثّل في الغالِب الأعَمّ ردود أفعال لمواقِف الكنيسة وفلسفتها في التوصّل الى الخَلاصsalvation من خلال نظرية الخطيئة الأصلية والتجسد الألهي في لحظة تأريخية معيّنة ثُمَّ قيام البشر بصلب الأله ومعاناة الأله على الصليب لتكون هي الثمن المكافيء لخطيئة آدم التي ورثها أبناؤه عنه. فمن يعتقد بهذا التصوّر يحصل على الخلاص والسعادة والحياة الأبدّية. إنَّ كثيراً من المثقفين والباحثين وخصوصاً منذ عصر النهضة أصبحوا لا يستطيعون التوفيق بين الحقائق العلمية وبين المسلّمات المسيحية dogmas، إضافة الى أن إله الحب الذي تدعو إليه المسيحية تُظهره بأنَّه أيضاً إلهٌ حَقودٌ مُنتقم لا يُفرّق بين الآباء و الأبناء والأحفاد و لا يشفي غَليله إلاّ الدم، تعالى الله عمّا يصفون إذ أنه هو القائل:{إنَّهُ مَنْ عَمِلَ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِن بَعدِهِ وأصْلَحَ فإنَّهُ غَفُورٌ رَحيمٌ} (الأنعام-54) ، {إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأولئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيئاتِهِم حَسَناتٍ وَ كانَ اللهُ غَفوراً رَحيماً} (الفرقان-70) . ولعلاقة المسيحية باليهودية واشتراكها معها في كثير من المُنطلقات فقد سَحَبَ هؤلاء المثقّفون والباحثون اسنتاجاتهم عن المسيحية على كل الأديان واعتبروا، خطأً، أن الدين الأسلامي هو يهودية أو مسيحية مُحرّفة، ولم يلتفتوا الى حقيقة أن الأسلام قد صدّق بعض ما جاء في التوراة و الأناجيل المتداولة ولكنه أشار أيضا بوضوح الى أن كثيراً مما ورد في هذه الكتب هو من وضع أشخاص من البشر وليس هو من الوحي الذي أنزله الله على أنبيائه ورُسله:{فَوَيلٌ للذينَ يَكتُبونَ الكِتابَ بِأيديهِم ثُمَّ يقولونَ هذا مِن عِندِ اللهِ لِيَشتَروا بِهِ ثَمَناً قَليلاً فَوَيلٌ لَهُم ممّا كتَبَت أَيديهِم وَ وَيلٌ لَهُم مِمّا يَكسِبون} (البقرة-79).
الخلاصة
والخلاصة ان المناهج الفلسفية الأوربية عموماً، ولأسباب مختلفة ذكرنا بعضها أعلاه، لم تُتَح لها فرصة لدراسة الإسلام بصورة موضوعية وعادلة لترى كيف أن العقيدة الإسلامية-كما جاء بها القرآن- هي في توافُق تام مع واقع الوجود وأنها تكلّمتْ عن حقائق الطبيعة بدِقّة منذ ما يقرب من أربعة عشر قرناً. ومن تدقيق النظر في القرآن يظهر وكأنه يحثُّ الأنسان إلى تحصيل المعرفة عن قوانين الوجود ثُمَّ ليقارنها بعد ذلك بما ورد في القرآن عنها ليتيقّن أن القرآن يتكلم عن الحقائق الأزلية التي يكشف عنها الأنسان العادي رويداً رويداً. فبما ان الفلسفة تُعتبر بأنها العلم الكلي الذي يتعامل مع الوجود بأجمعه وأن ميدانها هو هو النظر العقلي و التأمّل الفكري في هذا الكون بما فيه الحياة و الحركة و المنجزات الإنسانية ، فقد وجدنا أن الفلسفة بإعتبارها إحدى الوسائل للوصول إلى المعرفة التي تنفع الإنسان في بلوغ السعادة المبنيّة على أسس واقعية متينة تنتهي دائماً إلى عكس هذا الهذف إذا لم تصل بها تأملّاتها و تحليلاتها إلى إكتشاف الكيان الروحي الأكبر في هذا الكون: اي الآله القادر الحكيم الرؤوف الرحيم. ذلك الخالق الذي الذي لم يخلق إحتياجاً أو غريزة في غلإنسان أو حتى في غيره من الأحياء إلا و خلق لها ما يشبعها و يجعل المخلوق يحس باللذة و الراحة والإطمئنان. وأخطر الإحتياجات و الغرائز التي جُبلت عليها النفس البشرية هي حاجة الخلود في الهناء و السعادة الأبدية و التي لا تتم إلا بالإيمان بوجود هذا الخالق القدير الرحيم. إضافة إلى ذلك فإن ميدان الفلسفة في خارج النفس البشرية هو التأمّل في خلق السموات و الأرض واختلاف الليل و النهار وغيرها من الظواهر الطبيعية التي تخضع إلى نواميس دقيقة محكمة. فإن التمعن القيق المستمر في ظواهر الون و الحياة و مقارنة نتائج ذلك مع ما جاء به القرآن قبل ما يقارب أربعة عشر قرناً سوف يُعطي لمَن يشتغل في ميدان الفلسفة –أي حب الحكمة- براهين ساطعة على أن ما جاء في القرآن من إشارات إلى حقائق الوجود و الحياة لا يمكن أن يكون مصدره إلا من خالق هذا الوجود. و إن إزدياد المعرفة البشرية عن الكون و الحياة سوف يؤدي إلى إكتشاف الفلاسفة خصوصاً و الناس عموماً إن أحد البراهين على وجود هذا الخالق هو ما نزل به الوحي على الرسول (ص) و ما جاء به القرآن من حقائق قبل قرون عديدة. ووصول الإنسان إل مجمل هذه الحقائق يوماً ما هو ما تعهد به القرآن حين يقول بثقة مؤكّدة: { سَنُريهِم آياتِنا في الآفاقِ وفي أنفُسِهِم حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أنَّهُ الحَقُّ...ْ} (فُصِّلَتْ- 53). و استخدام حرف التسويف "السين" يدل على شيء سوف يحدث في المستقبل. والمستقبل هو كل زمان بعد نزول القرآن. وفي هذا الصدد يقول الباحث الفرنسي الدكتور موريس بوكاي:"..بالنظر لمُستوى المعرفة في زمان محمد فإنه لا يُعقل ان تكون المقولات العديدة التي وردت في القرآن والمرتبطة بالعلوم هي من عمل أحد الرجال. وأنه، من جهة أخرى، يكون من المشروع تماماً ليس فقط أن نعتبر القرآن تعبيراً عن الوحي، ولكن أيضاً من الواجب إعطاؤه مكانة خاصّة جداً نظراً لما يتمتّع به من الموثوقيّة المؤكّدة وبسبب وجود مقولات علمية فيه عندما تُدرس اليوم تبدو وكأنها تمتنع عن الأيضاح بتعابير إنسانية. " والجُملة الأخيرة في مقالة بوكاي تُشير الى بعض ما جاء في القرآن ولم تستطع المعرفة البشرية من اختباره لحد الآن. وأخيراً فليس مستبعداً، في ظل التقدم الفكري و العلمي المتسارع، أن يشرق اليوم الذي تتأكد فيه مصداقيّة القرآن على أوسع نِطاق تحقيقاً لقوله تعالى {هَوَ الّذي أرسَلَ رَسولَهُ بالهُدى ودينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ على الدينِ كُلِّهِ ولَو كَرِهَ المُشرِكون} (الصف-9). وهكذا فإن مصداقية القرآن التي برهنت عليها المعرفة العلمية المتصاعدة، كما سنبين ذلك في الفصل القادم، هي البرهان الذي يحتاج إليه الفيلسوف المتشكك و الباحث المتوقّف للإيمان بوجود قدرة كلية خلاقة تعلم بحقائق الوجود بدقة ووضوح:" أنّما إلهُكم اللهُ الذي لا إلهَ إلا هو وَسِعَ كلَّ شيءٍ عِلماً" (طه-98) وفوق ذلك فإن هذه القدرة الكليةالتي نطلق عليها في اللغة العربية إسم "الله"، الخالق القدير العزيز الحكيم، يتميّز بالرحمة بكل شيء في هذا الكون. ومن مظاهر رحمته أنه أرسل الأنبياء لهداية البشر إلى سبيل السعادة الأبدية- أي في هذه الحياة الدنيا وفي ما بعدها.
مع أرق وأجمل ألأمنيات.
بوح الروح
ملاحظات حول الفلسفة الماركسيّة
وفيما يتعلّق بالمناهج الفلسفية الأُخرى وخُصوصاً الإلحادية منها فقد تمثّل الماركسية أكثرها شُيوعاً ونُفوذاً خاصّة عندما كانت هي المنهج الذي تسير عليه الكُتلة الأشتراكية قبل اندثار الأتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينات من القرن العشرين. ولقد اقتبس ماركس منهج "الديالكتيك dialecticمن هيجل ولكنه حوًّره حسب رؤيته وقد عبّر هو عن ذلك حين قال" لقد وجدتُ هيجل واقِفاً على رأسه فوضعتُه على رجليه".وهو يعني بذلك : أنه قَلَبَ مفاهيم هيجل المثاليّة الى منطق الديالكتيك المادي dialedtic materialism، واعتبر أن ذلك هو المنهج الواقعي الصارم. تقول الماركسيّة في شرحها لهذا الديالكتيك: "إن المادّة هي أصل كل شيء وهي تحتوي في داخلها على عناصر مُتناقضة ومُتصارعة تؤدّي بمرورالزمن الى تحوّلها من حالة الى حالة أخرى تكون أرقى من الحالة الأولى في سُلَّم التطوّر. ويستمر هذا التحوّل الى ما لا نهاية.ويُطلق الماركسيّون على حالة ماديّة معينّة إسم الأُطروحة thesisوعلى نقيضها اسم الطِباق anti-thesisوعلى الحالة المتكوّنة من "صِراع" الحالتين السابقتين واندماجهما اسم حالة التركيب synthesis.والحالة الأخيرة تكون بدورها بداية لسلسلة جديدة من التحوّلات تكون حالة التركيب السالفة موضوعاً لأطروحة جديدة ينتج من تفاعلها مع نقيضها حالة تركيب جديدة وهكذا. ويقول الماركسيون أن الحركة والتحوّل هما من صُلب خصائص المادة. وهم يُفسّرون كل شيء في الوجود على أساس هذه الحركة التي يقولون أنَّها تؤدّي الى الصُعود في سُلَّم التطوّر. وحاولتْ الماركسّية أن تُفسّر التأريخ على أساس الديالكتيك المادّي وأنتجتْ بذلك نظريّة الماديّة التأريخيّة historical materialism والتي يكون فيها صِراع الطبقات الأجتماعيّة class struggle هو الداينمو المُحرِّك للتأريخ. وأخيراً بشّرتْ الماركسّية بأن الصِراع الطبقي في العَصر الحديث بين الرأسمالية والبروليتاريا سيؤدّي في النهاية الى اندحار الرأسماليّة بثورة الطبقة العاملة وامتصاصها بقايا العناصر الرأسمالية بحسب التنظير القائل بأن اندماج الأطروحة (الطبقة الرأسمالية) مع الطباق (الطبقة العاملة) ينتج عنه التركيب (المجتمع اللاطبقي). ولقد انبرى الكثير من المفكّرين الى مُساءلة الماركسية وأفكارها، وأشار العديد منهم إلى تناقض الماركسية مع نظريّتها في تفسير التأريخ على ضوء فكرة الصراع الطبقي: إذ كيف يكون نوع "التَحَرُّك" الأجتماعي (الذي سُيصبح هو التأريخ عند المجتمع اللاطبقي) بعد انتصار البروليتاريا العنيف ضد الرأسمالية وامتصاصها لبقايا هذه الطبقة؟ وهل سيتوقف تطوّر المجتمع البشري بعد أن تختفي الطبقات (أي تختفي النقائض)؟ أم هل سَتستَجِدّ قوانين أخرى للتُحرُّك الأجتماعي مُكوِّنة تأريخاً فريداً للمُجتمع اللاطبقي؟ ولكن الماركسيّة، وكما هو مُتوقّع، لم تستطع أن تُجيب على هذه التساؤلات بما ينسجم و مُنطلقاتها الفكريّة. فممّا يُؤثَر عن كارل ماركس أنه قال: "إنَّ وظيفتنا هي ليست في تفسير الوجود، وإنما يجب أن تنصبَّ جهودنا على تغيّير العالَم." وهذه العبارة لوحدها تبيّن أن الماركسية ليست مُهتّمة بالدرجة الأولى بتتبُّع الحقائق الموضوعية، كما تدعو إلى ذلك المناهج الفلسفية عُموماً، ولكنّها حركة اجتماعية-سياسيّة تهدف الى أن تُحدث انقلاباً في العلاقات الأجتماعية. ولا مفرَّ من الأستنتاج أنها، ومن أجل إعطاء مُبرّر فكري لهدفها هذا، فإنها وجدت في فلسفة الجدليّة الماديّة dialectic materialism وسيلة نافِعة جِدّاً للوُصول الى هذا الهدف.وعدا عن عجز الماركسيّة عن تعريف التأريخ في المجتمع اللاّطبقي، فقد تَصدّى كثير من المُفكريّن ومن بينهم باحثون مُبرّزون من قادة الفِكر الأسلامي لتفنيد أُسس الديالكتيك المادّي الذي نادت به الماركسية. وأوضحوا أن الماركسيّة ،في تبنّيها لوجود النقائِض في كل شيء وفي ذات الوقت، أعلنتْ إنكارها لمبدأ "عدم التناقُض" الذي نادتْ به المناهِج الفلسفية الأخرى قاطِبة، ولم تُكن تنطلق من فَهْمٍ واضح لطبيعة التحوّلات والتغيُّرات التي تطرأ على الأشياء وعلى النُظُم الطبيعية. وهي تُفَسّر حالة التغّير (التي يمُكن ان تكون مُتصاعِدة كما يمكن أن تكون مُرتَدّة ) بأنها نتاج "صراع" او "جدل" بين وضعين تتَّجه مُحصِّلته إلى مستوىً أعلى دائماً . والواقع أن احد الوضعين (كوصول الماء الى درجة حرارة معيّنة مثلاً ) هو وضع فريد في لحظة زمنية معينة. أما درجة الحرارة اللاحقة فهي أيضاً وضعية فريدة في اللحظة الزمنية التي تُقاس فيها. ولا يمكن للماء أن يكون وفي نفس اللحظة منطوياً على درجتين مختلفتين رغم توّفر المصدر الحراري الذّي يسمح بصعود درجة الحرارة. ونفس الشيء يمكن أن يُقال عند سحب مصدر التسخين لذلك الماء، فإن اللحظات الزمنية المختلفة تُعطي قياسات لدرجات حرارة فريدة ولكنها متنازلة في قيمتها العددية. هذا فيما يتعلّق بكتلة ماديّة مُتجانسة تحتوي على نفس النوع من الجزيئات و الذرّات. وليس واضحا،ً حتى على فرض ثبوت صحّة المنطق المادي الديالكتيكي على كتلة من المادة الجامدة في حالة تغيُّر، كيف يمكن أن ينسحب ذلك على مجموعة كبيرة من الكائنات الحيّة وخُصوصاً الُمجتمعات البشرية التي تلعب فيها الأفكار و الأمزجة، حتّى في ظل الصراع الأجتماعي، دوراً بالغ الأهمية يجعل علاقتها بأصلها المادي غير الحي علاقة ليست آليّة automatic في أغلب الأحيان؟ومن الجدير بالذكر أن المعروف علمياً هو أن المادة تبقى على وضعها إلاّ إذا جرتْ عليها تفاعُلات كيمياوية بإتِّحادها مع مادة أو أكثر فينتج من هذا التفاعل مادة واحدة جديدة أو أكثر.أما علم الفيزياء فيأخذ بقانون إسحاق نيوتن في الأستمرارية inertia الذي يَنِصُّ على:"كل جسم يبقى على حالته من السُكون أو الحركة الاّ أذا أثّرتْ عليه قوّة خارجية" . وهكذا أثبت العلم أن المادة لا تستطيع تغيير نفسها بنفسها تركيبياً من دون مادة أخرى لها قابلية التفاعل الكيمياوي معها،كما لا تستطيع تغيير وضعها الحركي dynamic أو السكوني static إلاّ بتأثير قوّة خارجية. وهذا يُعارض تماماً ما تقول به الماركسية. والماركسية تعتبر أن المادّة المتحوّلة ذاتيّاً باستطاعتها أن تُنتج الحركة ومظاهر الحياة الأخرى بما فيها الروح. وهنا نرى من المناسب أن نذكر ما جاء به الفيلسوف الإسلامي المّجدّد صدر الدين الشيرازي المعروف بصدر المُتألّهين عن كيفية تحول المادة الجامدة الى نسيج حي. فهو يعزو ذلك الى حصول ما يُسمّيه ب "الحَرَكَة الجَوْهَرِيِّة" في داخل المادة غير الحية فتنقلب بذلك إلى جسم حيّ. وهو يُعزي سبب هذه الحركة إلى مَصدر خارجي هو الله سبحانه وتعالى. وسوف تكون لنا عودة الى فلسفة هذا العالِم الإسلامي في وقت لاحق. ولكننا نرى من المناسب عند الحديث عن تفسير الماركسية للحياة والروح أن نُورد هنا ما يقوله المُفكّر الأسلامي الراحل السيد محمد باقر الصدر في كتابه "فلسفتنا" عن وصف الحركة الجوهرية للعلاقة بين المادّة والروح:"وأخيراً وَجَدَ تفسير الإنسان على أساس العُنصِرين الروحي والمادّي تصميمه الأفضل على يد الفيلسوف الأسلامي صدر المُتألّهين الشيرازي . فقد استكشف هذا الفيلسوف الكبير حركة جوهرية في صميم الطبيعة هي الرصيد الأعمق لكل الحركات الطارئة المحسوسة التي تزخر بها الطبيعة. وهذه الحركة الجوهرية هي الجسر الذي كشفه الشيرازي بين المادة والروح. فإن المادة في حركتها الجوهرية تتكامل في وجودها وتستمرّ في تكامُلها حتى تتجرّد عن ماديّتها ضمن شروط مُعيّنة وتُصبح كائناً غير مادي أي كائناً روحيّاً. فليس بين المادّي والروحي حدود فاصلة بل هما درجتان من درجات الوجود. والروح، بالرغم من أنها ليست مادية، ذات نَسَبٍ مادي لإنها المرحلة العُليا لتكامُل المادة في حركتها الجوهرية. وفي هذا الضوء نستطيع أن نفهم العلاقة بين الروح والجسم. ويبدو من المألوف أن يتبادل العقل والجسم-الروح والمادة-تأثيراتهما لإن العقل ليس شيئاً مفصولاً عن المادة بهُوّة سحيقة كما كان يُخيّل إلى ديكارت حين اُضطُر إلى إنكار التأثير المُتبادل والقول يمُجرّد المُوازنة. بل أن العقل ليس إلاّ صورة مادّية عند تصعيدها إلى أعلى من خلال الحركة الجوهرية. والفرق بين المادية والروحية فرق درجة فقط كالفرق بين الحرارة الشديدة والحرارة الأقّل منها درجة. ولكن هذا لا يعني أن الروح نتاج للمادة وأثر من آثارها ، بل هي نتاج للحركة الجوهرية ، والحركة الجوهرية لا تنبع من نفس المادة، لإن الحركة -كل حركة- خُروج للشيئ من القُوّة (أي الأحتمال) إلى الفعل تدريجيّاً ، والقوة لا تصنع الفعل والإمكان لا يصنع الوجود. فالحركة الجوهرية سببها خارج نطاق المادة المُتحركّة، والروح هي الجانب غير المادي من الإنسان نتيجة لهذه الحركة. والحركة نفسها هي الجسر بين المادية والروحية." ومما يجدر ذكره أن استخدام تعبير "الشيئ الموجود بالقوّة" في المفهوم الفلسفي باللغة العربية تعني الشيء الكامن أو المُحتمل ويقابلها في اللغة الأنجليزية كلمة potential مُقارنة بالشيء الموجود بالفعل existing.
ولا نريد أن ندخل في تفاصيل أكثر حول النظرية الماركسية التي تنفي وجود كل شيء خارج حدود المادة وتجلّياتها وبالتالي فهي تُنكر وجود قوّة خالقة مُستقلة عن المادة. ويكفي أن نذكر هنا مقالة وردت لماركس يذكر فيها:"بأن الحياة ووقائعها هي مقياس صحّة الفكر أو زَيْفِهِ". وبناء على مقولة ماركس هذه فإن الحياة ووقائعها قد بيّنت بصورة حاسِمة أن تطبيق الأفكار الماركسية في الأتحاد السوفيتي السابق وتوابعه لمدة تزيد على سبعين عاماً لم تُثبِت صحة المواقف التي نادت بها الماركسية (وبشكل يقيني) مُعتبرةً أن منهجها هو الطريق الذي ستسلكه البشرية حَتماً وهو فلسفة تنتهي عندها كل الفلسفات. بل أثبت الواقع أن العكس هو ما تأكّدت صحته وهو أن الماركسية لم تنجح في وصف واقع الحياة الأجتماعية والعوامل التي تتحَكَّم في حركتها. و لو أن الماركسية إعتبرت أن التغّير الذي يطرا على المادة هو من فعل قوة خارجة عنها لتجّنبتْ الصِدام مع مبدأ "عدم التناقض" الذي يلتزم به المنطق البشري ولأقتربتْ كثيراً من واقع الوجود ولألتقتْ مع العقيدة الأسلامية بمفهومها العام ولوجدتْ الطريق الأمثل لإقامة العدالة في الُمجتمع الإنساني:{ إنَّ اللهَ يأمُرُ بالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذي القُربى وينْهى عن الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونْ (النَحْل-90)، وتحت مفاهيم الفحشاء والمُنكر و البغي تتخفّى كل العلل الإجتماعية الممقوتة كالبُخل والأنانية والحَسَد والنِفاق والجُبن وكل ما يؤدّي إلى إضعاف أو هَتْك النسيج الإجتماعي وإضعاف الروابط بين أفراد المجتمع. أليس القضاء على هذه العِلَل هو المقدّمة الضرورية لإيجاد المجتمع العادل المُتضامن الذي تُنادي به العقائد المُسمّاة ب "الإشتراكية"؟
و الشيء الأساسي الذي نستطيع أن نستخلصه من هذه النظرة السريعة على المدارس الفلسفية عبر التأريخ: أن هناك ثلاثة اتّجاهات أحدها يؤمن بوجود خالق لهذا الوجود والثاني إلحادي والثالث متوقّف أو لاأدري.agnostic. والمناهج التي تُنكر وجود الخالق كالفرع الألحادي من الوجودية والمدرسة الماركسية لم تنجح في أن تتفادى التناقُضات الداخلية او أن تتنّبأ بدقّة بمسيرة الأحداث في الُمجتمعات الأنسانية المُختلفة. والفلسفات الأوربية الإلحادية واللاّأدرية تُمثّل في الغالِب الأعَمّ ردود أفعال لمواقِف الكنيسة وفلسفتها في التوصّل الى الخَلاصsalvation من خلال نظرية الخطيئة الأصلية والتجسد الألهي في لحظة تأريخية معيّنة ثُمَّ قيام البشر بصلب الأله ومعاناة الأله على الصليب لتكون هي الثمن المكافيء لخطيئة آدم التي ورثها أبناؤه عنه. فمن يعتقد بهذا التصوّر يحصل على الخلاص والسعادة والحياة الأبدّية. إنَّ كثيراً من المثقفين والباحثين وخصوصاً منذ عصر النهضة أصبحوا لا يستطيعون التوفيق بين الحقائق العلمية وبين المسلّمات المسيحية dogmas، إضافة الى أن إله الحب الذي تدعو إليه المسيحية تُظهره بأنَّه أيضاً إلهٌ حَقودٌ مُنتقم لا يُفرّق بين الآباء و الأبناء والأحفاد و لا يشفي غَليله إلاّ الدم، تعالى الله عمّا يصفون إذ أنه هو القائل:{إنَّهُ مَنْ عَمِلَ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِن بَعدِهِ وأصْلَحَ فإنَّهُ غَفُورٌ رَحيمٌ} (الأنعام-54) ، {إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأولئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيئاتِهِم حَسَناتٍ وَ كانَ اللهُ غَفوراً رَحيماً} (الفرقان-70) . ولعلاقة المسيحية باليهودية واشتراكها معها في كثير من المُنطلقات فقد سَحَبَ هؤلاء المثقّفون والباحثون اسنتاجاتهم عن المسيحية على كل الأديان واعتبروا، خطأً، أن الدين الأسلامي هو يهودية أو مسيحية مُحرّفة، ولم يلتفتوا الى حقيقة أن الأسلام قد صدّق بعض ما جاء في التوراة و الأناجيل المتداولة ولكنه أشار أيضا بوضوح الى أن كثيراً مما ورد في هذه الكتب هو من وضع أشخاص من البشر وليس هو من الوحي الذي أنزله الله على أنبيائه ورُسله:{فَوَيلٌ للذينَ يَكتُبونَ الكِتابَ بِأيديهِم ثُمَّ يقولونَ هذا مِن عِندِ اللهِ لِيَشتَروا بِهِ ثَمَناً قَليلاً فَوَيلٌ لَهُم ممّا كتَبَت أَيديهِم وَ وَيلٌ لَهُم مِمّا يَكسِبون} (البقرة-79).
الخلاصة
والخلاصة ان المناهج الفلسفية الأوربية عموماً، ولأسباب مختلفة ذكرنا بعضها أعلاه، لم تُتَح لها فرصة لدراسة الإسلام بصورة موضوعية وعادلة لترى كيف أن العقيدة الإسلامية-كما جاء بها القرآن- هي في توافُق تام مع واقع الوجود وأنها تكلّمتْ عن حقائق الطبيعة بدِقّة منذ ما يقرب من أربعة عشر قرناً. ومن تدقيق النظر في القرآن يظهر وكأنه يحثُّ الأنسان إلى تحصيل المعرفة عن قوانين الوجود ثُمَّ ليقارنها بعد ذلك بما ورد في القرآن عنها ليتيقّن أن القرآن يتكلم عن الحقائق الأزلية التي يكشف عنها الأنسان العادي رويداً رويداً. فبما ان الفلسفة تُعتبر بأنها العلم الكلي الذي يتعامل مع الوجود بأجمعه وأن ميدانها هو هو النظر العقلي و التأمّل الفكري في هذا الكون بما فيه الحياة و الحركة و المنجزات الإنسانية ، فقد وجدنا أن الفلسفة بإعتبارها إحدى الوسائل للوصول إلى المعرفة التي تنفع الإنسان في بلوغ السعادة المبنيّة على أسس واقعية متينة تنتهي دائماً إلى عكس هذا الهذف إذا لم تصل بها تأملّاتها و تحليلاتها إلى إكتشاف الكيان الروحي الأكبر في هذا الكون: اي الآله القادر الحكيم الرؤوف الرحيم. ذلك الخالق الذي الذي لم يخلق إحتياجاً أو غريزة في غلإنسان أو حتى في غيره من الأحياء إلا و خلق لها ما يشبعها و يجعل المخلوق يحس باللذة و الراحة والإطمئنان. وأخطر الإحتياجات و الغرائز التي جُبلت عليها النفس البشرية هي حاجة الخلود في الهناء و السعادة الأبدية و التي لا تتم إلا بالإيمان بوجود هذا الخالق القدير الرحيم. إضافة إلى ذلك فإن ميدان الفلسفة في خارج النفس البشرية هو التأمّل في خلق السموات و الأرض واختلاف الليل و النهار وغيرها من الظواهر الطبيعية التي تخضع إلى نواميس دقيقة محكمة. فإن التمعن القيق المستمر في ظواهر الون و الحياة و مقارنة نتائج ذلك مع ما جاء به القرآن قبل ما يقارب أربعة عشر قرناً سوف يُعطي لمَن يشتغل في ميدان الفلسفة –أي حب الحكمة- براهين ساطعة على أن ما جاء في القرآن من إشارات إلى حقائق الوجود و الحياة لا يمكن أن يكون مصدره إلا من خالق هذا الوجود. و إن إزدياد المعرفة البشرية عن الكون و الحياة سوف يؤدي إلى إكتشاف الفلاسفة خصوصاً و الناس عموماً إن أحد البراهين على وجود هذا الخالق هو ما نزل به الوحي على الرسول (ص) و ما جاء به القرآن من حقائق قبل قرون عديدة. ووصول الإنسان إل مجمل هذه الحقائق يوماً ما هو ما تعهد به القرآن حين يقول بثقة مؤكّدة: { سَنُريهِم آياتِنا في الآفاقِ وفي أنفُسِهِم حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أنَّهُ الحَقُّ...ْ} (فُصِّلَتْ- 53). و استخدام حرف التسويف "السين" يدل على شيء سوف يحدث في المستقبل. والمستقبل هو كل زمان بعد نزول القرآن. وفي هذا الصدد يقول الباحث الفرنسي الدكتور موريس بوكاي:"..بالنظر لمُستوى المعرفة في زمان محمد فإنه لا يُعقل ان تكون المقولات العديدة التي وردت في القرآن والمرتبطة بالعلوم هي من عمل أحد الرجال. وأنه، من جهة أخرى، يكون من المشروع تماماً ليس فقط أن نعتبر القرآن تعبيراً عن الوحي، ولكن أيضاً من الواجب إعطاؤه مكانة خاصّة جداً نظراً لما يتمتّع به من الموثوقيّة المؤكّدة وبسبب وجود مقولات علمية فيه عندما تُدرس اليوم تبدو وكأنها تمتنع عن الأيضاح بتعابير إنسانية. " والجُملة الأخيرة في مقالة بوكاي تُشير الى بعض ما جاء في القرآن ولم تستطع المعرفة البشرية من اختباره لحد الآن. وأخيراً فليس مستبعداً، في ظل التقدم الفكري و العلمي المتسارع، أن يشرق اليوم الذي تتأكد فيه مصداقيّة القرآن على أوسع نِطاق تحقيقاً لقوله تعالى {هَوَ الّذي أرسَلَ رَسولَهُ بالهُدى ودينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ على الدينِ كُلِّهِ ولَو كَرِهَ المُشرِكون} (الصف-9). وهكذا فإن مصداقية القرآن التي برهنت عليها المعرفة العلمية المتصاعدة، كما سنبين ذلك في الفصل القادم، هي البرهان الذي يحتاج إليه الفيلسوف المتشكك و الباحث المتوقّف للإيمان بوجود قدرة كلية خلاقة تعلم بحقائق الوجود بدقة ووضوح:" أنّما إلهُكم اللهُ الذي لا إلهَ إلا هو وَسِعَ كلَّ شيءٍ عِلماً" (طه-98) وفوق ذلك فإن هذه القدرة الكليةالتي نطلق عليها في اللغة العربية إسم "الله"، الخالق القدير العزيز الحكيم، يتميّز بالرحمة بكل شيء في هذا الكون. ومن مظاهر رحمته أنه أرسل الأنبياء لهداية البشر إلى سبيل السعادة الأبدية- أي في هذه الحياة الدنيا وفي ما بعدها.
مع أرق وأجمل ألأمنيات.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح