[size=18][b]*** الاسلام والمعرفه البشريه - الجزء الثاني
إن الوجودية هي موقف من واقع الحياة وتهتم بوجود الأشياء وبصورة خاصة وجود الأنسان. ويتلخّص موقفها بأن "الوجود يأتي قبل الجوهر أي قبل الروح"، و تدّعي أن نقطة الأنطلاق لكل بحث فلسفي هو الوجود الفعلي للأنسان. فالأنسان يُواجه الوجود لوحده، وتوجد إمكانيته بأن "يُوجد" عندما يُغادر الواقع الذي يشترك فيه مع الأشياء ويُعلن عن نفسه كفرد حُرٍّ ومسؤول و مسلّماً نفسه بإرادته إلى سِلسِلة من الأزَمات تؤلّف مصيره. والوجود الأنساني كله عبارة عن سلسلة من المواقف الحاسِمة ينطوي كل منها على مخاطِر ويتطلّب إجتيازها كل طاقات الفرد الكامنة فيه. وحسبما يقول الوجوديون الملحدون فإن هذه السلسلة من المواقف تقود في النهاية إلى فجيعة catastrophe، وهكذا فإن العواطف السائدة في الأنسان هي الضَنَك أو الكرب anguish والحُبّ والشُعور بالذنب مُمتزجة بشعور من الحرية داخل النفس البشرية. ويقول الوجوديون أن حقيقة أن الأنسان حرٌّ بالضرورة هي مسؤولية رهيبة بالنسبة له. ففي إطار هذه الحرية يجب على الأنسان أن يُقرّر لنفسه وللآخرين مُتحمّلاً مسؤولية تَصَرُّفه. ويقول المُلحدون منهم إن الإنسان حُرٌّ تماماً لأنه لا يوجد نظام لقيمٍ محددة، ولا يوجد إله يشاركه عبء هذه المسؤولية. ولكن هذا البؤس يُعطي الأنسان كرامةً تجعله هو المؤسّس الحر لكل القيم. أمّا الوجوديون الآلهيون فيقولون إن هذه المسؤولية تقود إلى العودة الى الله، والأيمان بالله هو الذي يمكّن الأنسان من اكتساب شجاعة لا يملكها الأنسان العادي ويستطيع المؤمن أن يواجه برباطة جأش الخوف من اليأس. والأنسان "الموجود" يتحتّم عليه أن يحس بنفسه في حضرة الله. يقول كيركجارد:"أن الشخص الموجود إذا كان مؤمناً مسيحياً سيشعر بالخطيئة sin في حضرة الله، وهكذا فإنه يدخل الى الحياة الدينية بشعور من الخطيئة ولكنه سيتقدّم بنوع من الرحلة الروحية من دين يظل لصيقاً بالفلسفة الى أعلى مراحل الدين. فالشخص "الموجود" سيكون مُتوجّساً ومهتمّاً أهتماماً بلا حدود فيما يتعلق بوجوده لأن آلاماً أبدية أو مسراتٍ أبدية تعتمد على علاقته بالله".وهكذا يختلف كيركجارد عن هيجل بتأكيده على الذاتية الفردية وبالأهمية التي يُعلّقها على شدّة الأحاسيس عند الفرد.وكمؤمن بالعقيدة المسيحية يقول كيركجارد: "إن العقل يُصبح قاصراً عندما يلتقي الفرد "الموجود" المسيحي بتأكيد فكرة التجسّد الألهي في فكرة ولادة الخالق الأزلي في مكان مُعّين ولحظة تأريخية مُعيّنة." ولكن كيركجارد يقع في تناقُض مع نفسه فهو يستخدم العقل عندما يُفسّر تناقض التجسُّد مع العقل ويَعتبر هذا التناقض "إتحاداً" بين المحدود واللاّ محدود، ولكن كيركجارد عندما سُئل: كيف امكن توقُّع تجسُّد الأله في الأرض بدون إستخدام العقل؟ أجاب: "لا أزال مُستغرقاً في تأمُّل هذه المسألة وإن روحي تضِّل عن سبيلها." كذلك لا يستطيع كيركجارد أن يُجيب عن علاقة اللحظة التاريخية للتجسُد الألهي ،التي يدعو اليها، وبين الأزلية الألهية. وقد طوّر ياسبرز jaspers فلسفة كيركجارد الى نوع من الفكر الأنساني غير المرتبط بالمسيحية، ولكنه أقرَّ بأن الأنسان ورغم تقدّمه العلمي وتطّوره النفسي يحسُّ بأن هناك شيئاً ما "خارج أنفسنا متفوّقاً علينا ونحن نؤكّد أنفسنا في الوجود بعلاقتنا بهذا الشيء السامي المتفوّق". ويقول ياسبرز، على خلاف كيركجارد، بأن الأنسان ليس مُنعزلاً عن الآخرين، وأن التواصل والحب المستمر للآخرين يُكوّن جوهر الفلسفة.
التناظر بين المدارس الفلسفية والعقيدة الأسلامية
في المراجعة المُختصرة التي ذكرناها أعلاه للمناهج الفلسفية المختلفة منذ العصور الأغريقية وحتى العصر الراهن، ودون الأشارة بتفصيل الى مواقف الفلاسفة المسلمين، نلاحظ توفّر الفلاسفة الغربيين على رُكنين أساسيين من أركان الوجود:
الأول: هو الأنسان ككائن حي مفكّر، والثاني: هو ما يحيط بهذا الكائن من الكون بأجزائه المختلفة. ونستطيع أن نصنف هذه المناهج تحت نوعين أساسيين:
الأول: المنهج الواقعي realist هو الذي يؤكّد وجود العالم ومكوناته خارج ذهن الأنسان و بصورة مستقلة عن تصّوراته و يعتبر أن "الحقيقة هي الأدراك المطابق للواقع."
والثاني: المنهج المثالي idealist وهو الذي يعتبر أن ذهن الأنسان هو البداية وأن كل شيء آخر هو من نتاجاته، فلا وجود للعالم الخارجي الآّ في ذهن الأنسان. وهكذا نرى بوضوح أن المنهج المثالي قد أعطى للذهن mind (أو إحدى صوره الأخرى كالذات egoأو الروح spirit) القُدرة على خلق الظواهر الخارجية phenomena ، وبالتالي خلق العالم الخارجي. ومن المثاليّين من يؤمن بوجود خالق لهذا الكون بحيث يكون الكون كله "موجوداً في ذهن هذا الخالق" و في جميع الأوقات. ومنهم من يُنكر وجود خالقٍ لهذا الكون ولكنه يقول أن الأنسان "يتسامى" في تطلعاته transcends الى ذروة روحية عالية. وهذا ما يقول به هايديجر الألماني أحد الفلاسفة الوجوديين في القرن العشرين رغم أن الوجودي الفرنسي سارتر يبدو غامضاً حول هذا التسامي transcendenceويعود إلى إستخدام المقولة التي تدّعي أن ان الواقع الأنساني متكون من جزئينبنفسه by-itself) و (لنفسه for itself)، وهو يحاول دائماً أن يُحقّق جزء (لنفسه) بتجاوزه المراحل المتُحقّقة من هذا الأخير والتي تصبح من مكونات (بنفسه). و سارتر لا يقول لنا ما هي غاية ونهاية الجزء الذي يصفه بأنه (لنفسه)، ولكنه يختتم أفكاره الفلسفية بإبراز صورة قاتمة لوجود كله بلا معنى ونهايته اليأس والتعاسة. وبغض النظر عن الإعتبارات الأخرى فإن سارتر لو أُتيح له الإطلاع على فلسفة "الحكمة المتعالية" التي جاء بها الفيلسوف الإسلامي صدر الدين الشيرازي المعاصر تاريخياً للفيلسوف الفرنسي ديكارت لكان من الممكن أن يرى تشابهاً بين ما يسميه هو جزء "بنفسه" وبين الجزء المادي من الإنسان ، وكذلك بين جزء "لنفسه" و بين الجزء الروحي من الإنسان كما أوضحه هذا الفيلسوف الإسلامي واعتبر أن العلاقة بينهما علاقة لا تقبل الإنفصام لأن الجزء الروحي هو تصعيد للمادة إلى أعلى بتأثير حركة فاعلة في الوجود يسميها "الحركة الجوهرية" التي هي السبب الأصيل لتحول المادة غير الحية إلى كائن حي. و بهذا التعليل يختفي الغموض بين ما يسميه سارتر "بنفسه" و "لنفسه"، و يصبح واضحاً أن جزء "بنفسه" هو السابق زمنياً وأن ما يسمى "لنفسه" ما هو إلا نتاج للجزء المادي الذي يطلق سارتر عليه جزء "بنفسه".
ومن دُعاة المذهب الواقعي realist من يُنكر أي شيء خارج تجربة الحسّ المباشر وهم الوضعيون empiricists. وقد بلغت هذه الطريقة قِمتَّها في فلسفة المفكرين الأيجابيين positivists والذرائعيين pragmatists بالقول بأن المعرفة الأنسانية محدودة بحدود التجربة، وأنه من المستحيل أن يعرف الأنسان أي شيء وراء هذه الحدود. ولذلك- وبما أن طبيعة وأسباب ومصائر الموجودات لا يمكن التعرُّف عليها بواسطة الحواس senses- فإن البحث في الميتافيزيقا (أو ما وراء الطبيعة) ليس وراءه من طائل . و تَعتبر الماركسية نفسها من دعاة المذهب الواقعي وتقول بأن المادة هي أصل الوجود وهي في صَيْرورة مستمرة dialectic materialism ولا حاجة بها إلى قوى خارج نفسها لإحداث هذه التغييرات، ولهذا أنكرت الماركسية وجود خالق للكون.
والفلسفات الدينية، وبضمنها الفلسفة الأسلامية، تشترك مع دعاة المذهب الواقعي القائل بأن هناك في الكون وجوداً مستقلاً عن ذات الأنسان ويستطيع الأنسان أن يدركه بحواسه وبعقله وأن هذا الوجود كله، بما فيه الأنسان، له خالق عاقل حكيم.
وهكذا نرى أن كل المناهج الفلسفية المعروفة تعترف بوجود حاتين من الكينونة هما: الأنسان وما يحيط به. و المناهج المؤمنة منها تقول بوجود خالق لهذين الوجودَين. ومن الملفت للنظر إن المثاليين، كما يقول الفيلسوف الوضعي البريطاني برتراند روسل: "قد خلطوا بين (الفكرة عن الشيء thought about a thing) وبين الشيء نفسه. فالفكرة عن الشيء موجودة فعلاً داخل الذهن، ولكن الشيء نفسه هو بالتأكيد خارج الذهن، يدلُّ على ذلك بقاؤه المستمر وتمكُّن الأفراد الآخرين بل وحتى الحيوانات من إدراك وجوده رغم أن هذه الأدراكات قد تختلف في التفصيلات كأبعاد الشيء ولونه وملمسه الخ.."
ورغم الدور الهائل الذي تلعبه الذات أو الأناego في تحديد طبيعة الإدراك و مدياته (كما يبيّن ذلك علم النفس الحديث) فإن وجود الأشياء خارج ذهن الأنسان كحقائق مستقلة يُعتبر بديهياً للغالبية العظمى من البشر ولبقية االأحياء. أما المعلومات الحسية sense data عن أي شيء فتختلف باختلاف الزاوية التي ينظر من خلالها الأنسان الى ذلك الشيء وشدّة الضوء المُتاح للرؤيا وحالة الحواس الخمسة من الصحة أو الأعتلال. وفوق ذلك فإن هذه المعلومات الحِسّية تختلف باختلاف الأفراد حتى في ظروف مُتشابهة. وكل ذلك لا يخالف مذهب الفلسفة الواقعية realism الذي يربط بين الذهن وبين الأشياء الخارجية بالأدراك أو التصوّر، ويعتبر أن "الحقيقة truthهي الأدراك المطابق للواقع". و النتيجة المنطقية للمقولة الأخيرة هي أنَّ الأدراكات المختلفة لواقع واحد ليست متوقفة فقط على اختلاف المعلومات الحسّية sense data وإنما الجزء الأكبر من الأختلاف في الأدراك بين الأفراد يُعزى،في الغالب، الى الحالة البيولوجية-النفسية للذهن الذي يقوم بعملية التفكير المؤدّي الى الأدراك ومن ثَمَّ الوعي. فما لم يكن الذهن أو العقل في حالة طبيعية صحية فإن مُجمل الأفكار و التحليلات و الأستنتاجات ستكون مُجانبة بهذا القدر أو ذاك لخصائص الواقع الذي هو مادّة التأمُّل والتحليل و إطلاق الأحكام. و سنرى حين نتكلم عن علم النفس في فصل قادم أن الذهن أو الجزء المُفَكِّر من الدماغ هو عُرضة، في كثير من الأحيان وفي أعداد كبيرة جداً من البشر، لأن تُعاق وظائفه التأمُليّة التحليلية، ويُصبح الفرد في الواقع وكأن هناك حاجزاً بينه وبين الواقع الذي يعيش في وسطه يمنعه من أن يتواصل ويتمازج مع ذلك الواقع. ومن البديهي أن التواصل والتمازج الحميم مع ما يحيط بالأنسان هو الخطوة الأولى لجمع "أوثق" المعلومات الحسية وتجهيزها الى ذهن صحي سمح في المقام الأول باستقاء هذه المعلومات، وله الأستعداد في المراحل اللاحقة لاستخدام هذه المعلومات الحسية بأكفأ طريقة في التفكير والتحليل والأستنتاج. يقول الدكتور آرثر جانوف الباحث النفسي ومؤسس "طريقة علاج الألم الأساسي primal pain therapy" في العِلاج النفسي :" إنَّ كَبْتَ الأحاسيس المؤلمة وخاصة في عهد الطفولة المُبكّرة يؤدِّي عند البلوغ الى مرض خطير هو مرض العُصاب neurosis الذي يُصيب في الواقع أعداداً هائلة من بني البشر. وعندما ينطبع الألم المكبوت في الخلايا العصبية neurons فإن المُخ يصبح بمعظمه آلة للتعامل مع هذا الألم. وعندما يتفاقم الألم المكبوت منذ عهد الطفولة، فإن أجزاء أكثر واكثر من المخ تتحول الىجهاز للتعامل مع هذا الألم بحيث لا يتبقّى إلاّ جزء قليل من المخ العاقل intellect قادراً على القيام بعملية التصوّر perceiving و التفكير thinkingوحل المشاكل problem-solving". ويمضي جانوف فيقول:"إن شخصاً ما يمكن أن يكون منتبهاً تماماً very awareلما يحيط به وبتصوّر جيد، ورغم ذلك فإنه قد يكون له وعي زائف false consciousness. فالأنتباه يمكن أن يكون صحيحاً فيما يتعلق بالواقع الخارجي ولكنه لا يعكس الواقع داخل النفس الأنسانية. وهناك عدّة انواع من الأنتباهات ولكن هناك وعي واحد فقط:أي أن هناك وعياً "كاملاً" واحداً فحسب. إن الوعي الكامل full consciousness هي حالة مُستمرة للكائن الحي الذي يمتلك تواصُلاً سَلِسَاً fluid access بين تراكيب المُخ المختلفة. والجهاز العصبي الذي يكتنز أحاسيس مكبوتة repressed feelings لا يتميّز بهذه الخاصية وبالتالي فهو لا يمتلك حالة الوعي الكامل. فالشخص يفقد الصِلة مع العالَم الخارجي فقط بعد أن يفقد الصِلة مع عالمَه الداخلي. إن الألم المكبوت يجعلنا نلعب حِيَلاً متعددة على أنفسنا وعلى الآخرين. فنحن نُسيء التصوُّر، وتكون افعالنا غير لائقة رغماً عنّا، ونحن نستمع بلا إنتباه ونسمع ونرى بصورة خاطئة".
ملاحظات حول الفلسفة الوجوديّة
والسؤال الذي نطرحه هنا وخاصة فيما يتعلق بمسألة الشعور بالكَرَب أو الضَنَك anguish الذي يتكلم عنه الفلاسفة الوجوديون وخصوصاً المُلحدون منهم: أليس ذلك هو ما يتكلم عنه علماء النفس المعاصرون وخصوصاً أولئك الذين يعتبرون الألم المكبوت منذ زمن الطفولة سبباً للشعور بالكآبة والضيق والصُداع النصفي؟ وبمعنى آخر : إن التخلّص من حالة الكرب هذه، وهي حالة غير صحية (طبيعياً ) في الأنسان أكان فيلسوفاً أم فرداً عادياً، بمكن أن يتم بمعالجتها عِلاجاً نفسياً مناسباً فتختفي باختفاء مُسببّاتها. فهي إذن ليست حالة مُلازمة بالضرورة للوجود الأنساني على هذه الأرض، وإنما هي حالة طارئة بالرغم من أن اعداداً كثيرة من البشر تُعاني منها كما يؤكد ذلك المختصون. وهذه الحقائق تذكّرنا بما جاء في القرآن حين نقرأ:{يا أيُّها الناسُ قَدْ جاءتْكُم مَوْعِظَةٌ من ربِّكم وشِفاءٌ لما في الصُدورِ } (يونس-57). فهذه الآية وغيرها من الآيات تؤكّد ان البشر بحاجة الى شِفاءٍ لما في صدورهم أي لما في قلوبهم ونفوسهم. وإذا علمنا ان القلب كمركز للأحساس feelings مرتبط أشد الأرتباط بتراكيب المخ المختلفة تؤثّر به ويؤثّر بها، فإذا "مرض" القلب فإن ذلك إشارة الى "مرض" الدماغ واختلال وظائفه الذهنية على مختلف مستوياتها، ,إذن فإن ما يُعانيه "الأنسان الموجود existent" كما يصفه بعض اصحاب المذهب الوجودي يتطابق في أوصافه مع أعراض مرض العُصاب neurosis. ويعود القرآن في مكان آخر ليؤكّد على ظاهرة الإعتلال النفسي عند بني البشر فيقول:{وَنُنَزّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ ورَحمَةٌ للمُؤمِنين} (الأسراء-82).ويعني ذلك أن الأنسان غير المؤمن سوف لن يشعر بالراحة والأنشراح لأنه مُعرِض عن ذكر ربه وعن التسليم لحكمته وخصوصاً في قضية تقدير الموت على الكائنات الحية وعلى رأسها الأنسان. و يؤكد القرآن حالة الكرب والضنك التي يشعر بها الأنسان غير المؤمن حين يقول:{ وَ مَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكري فَإنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكَى} (طه-124). ورغم ذلك فإن مُنطلق الفلسفة الوجودية بالقول بإن الوجود يسبق الجوهر يتطابق مع ما يُصرّح به القرآن حين يقول:{ واللهُ أخرَجَكُم مِن بُطونِ أُمَّهاتِكُم لا تَعلَمون شَيْئاً وجَعَلَ لَكُم السَمعَ والأبْصارَ والأفئِدَةَ لَعَلَّكُم تَشكُرونَ} (النَحْل-78). فالعِلْمُ (أو المُحتوى الفكري)حسب منطوق هذه الآية يحصل فقط بعد أن يُولد الإنسان وينشأ على هذه الأرض وليس قبل ذلك. وهاك مثالاً آخر على تلاقي الفكرة الوجوديّة مع الإسلام:
{ هَلْ أتَى على الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيئاً مَذكوراً. إنَّا خَلَقنا الإِنسانَ مِن نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبتَليهِ فَجَعَلناه سَميعاً بَصيراً. إنّا هَدَيْناهُ السَبيلَ إمّا شاكِراً وإمّا كَفوراً} (الإنْسان-1-3). فإذن فالإنسان يُصبح "شيئاً مذكوراً" بعد زمن من عملية الإخصاب والحمل، ثُمَّ بعد أن يولد ويترعرع فإنه هوالذي يختار بنفسه عقيدته وسلوكه فيُصبح إمّا شاكراً (مؤمناً) أو كَفوراً (مُلحداً). وجدير ذكره هنا أن علم النفس كان جزءاً من مناهج الفلسفة منذ عهد الأغريق ولم يفترق عنها الاّ في أواسط القرن التاسع عشر حين اصبح علماً تجريبياً بدايةً في ألمانيا على يد فه. فونت w.wundtثم في الولايات المتحدة على يد وليم جيمس. وكل ما نريد أن نُشير إليه هنا هو أن الأنسان، حتى يكون موثوقاً في تفكيره وتحليلاته واحكامه، فإنه يجب ان يكون قادراً نفسياً على امتلاك الوعي الكامل full consciousness، وهي حالة لا تتم الآّ باستمرار المُفكِّر على دوام الأتصال بعالمه الداخلي حتى يتسنّى له ان يتواصل مع عالمه الخارجي ويراه بصورة موضوعية لا تشوّشها حالة "الوعي الناقص" التي تتسبب في إيجادها حالة مُتفاقِمة الشُيوع في النوع الأنساني وهي حالة العُصاب كما تُسمّيها البحوث النفسية الحديثة. إن المُفكرين الوجوديين المؤمنين المسيحييّن، حسب مقياس الوعي الكامل، هم أكثر تواصلاً أو تماسّاً مع محيطهم حين يتكلمون عن حالة التسامي transcendenceالتي يتميّز بها الأنسان والتي تدفع به الى الأرتفاع الى "أُفق" أعلى باتجاه خالق الوجود و عِلّته الأولى. والعقبة الكأداء التي تقف في طريق هؤلاء هي قضيّة "تَجَسُّد الأله" في العقيدة المسيحية: فهم تارة يقولون إن "العقل يصبح قاصِراً عندما يلتقي الفرد "الموجود" المسيحي بتأكيد فكرة التجسد الألهي في فكرة ولادة الخالق الأزلي في مكان مُعّين ولحظة تاريخية معينة"، ولكنهم يعودون فيستخدمون العقل عندما يُفسِّرون تناقض التجسد مع العقل ويعتبرون هذا التناقض إتحاداً ين المحدود واللامحدود. وقد بقي كيركجارد ، مؤسس الوجودية المؤمنة، الى نهاية حياته غير قادر على إعطاء جواب مُقنِع حول السؤال :كيف أمكن توقّع "تَجَسُّد الأله" على الأرض بدون استخدام العقل؟ واعترف بأنه "لا يزال مُستغرِقاً في تأمُّل هذه المسألة."
ولو نظر كيركجارد الى ما جاء به القرآن والإسلام لكان بإمكانه أن يحتفظ بإيمانه ولتوقَّفت روحه عن "أن تضلَّ عن سبيلها" كما اعترف هو بذلك. يقول القرآن في صفة الخالق الأزلي:{ليس كمثلهِ شيءٌ وهو السميعُ البصيرُ} (الشورى-11). ويقول أيضاً {إنَّ مَثَلَ عيسى عندَ اللهِ كَمَثلِ آدمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قالَ لهُ كُن فيكونُ} (آل عمران-59).، ويقول كذلك: "وقالوا اتَّخذَ الرحمنُ وَلَداً. لقد جِئتُم شيئاً إدّاً. تكادُ السمواتُ يَتَفَطّرنَ منهُ وتنشَقُّ الأرضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدّاً} (مريم-88-90).
فليس "التجسُّدُ" هو شرط لا مندوحة عنه للأيمان بخالق لهذا الوجود، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، لأن إفتراض التجسد هو تناقض صارخ مع واقع الوجود. والعقل البشري، الذي يُميِّز الأنسان عن بقية الأحياء ويجعله يعتقد بضرورة وجود خالق للوجود، غير قادر ، كما اعترف أصحاب نظرية التجسد، على إعطاء تفسير منطقي "لتجسُّم" الخالق الأزلي اللاّمادي. وموضوع "التجسد" يَنسِف كافّة الأدلّة العقلية التي يبدأ بها دُعاة الفلسفة الكهنوتية المسيحية ليُثبتوا بها ضرورة وجود خالق أزلي لهذا الكون: إذ أنهم يلجوؤن إلى أستخدام الأدلة العقلية إلى حد إثبات وجود الخالق. وعندما يحين الكلام عن "الخطيئة الأصلية" وعن "وِلادة" الخالق على هذه الأرض وفي لحظة تأريخية محددّة ليُصلب حتّى يُكفّر عن الخطيئة التي ورثها كافة بني الأنسان عن أبيهم آدم، فإن دعاة العقيدة المسيحية هؤلاء انفسهم يتخلّون عن كل دعوة لتحكيم العقل في هذه المسألة ويبدأون بالتصريح بأن الأيمان لا علاقة له بالعقل. والعلّة في هذا الموقف من العقل لا بُدَّ أن تكون نابعة من أن العقل البشري في حالته "الطبيعية الصحية" وأحاسيسه الفِطرية لا يرى ضرورة لهذا التجسد "لخَلاص" الأنسان. فالنظرية المسيحية التي تربط خلاص البشر بأن يقوم الله، الخالق الأزلي، بالتضحية ب"إبنه" الوحيد ليُقتل ومن قِبَلِ "الناس" على الصليب تمثّل فعلاً "دوغما dogma" لا يمكن للعقل البشري الطبيعي أن يتقبّلها الى درجة دعتْ بعض الباحثين المؤمنين الذين تحوّلوا من المسيحيّة الى الأسلام الى وصفها بأنها "ضربة مُميتة للعقل البشري مُستمرة منذ ألفي سنة". ولا عَجَبَ بعد ذلك أن تُنادي الكنيسة بأن الإيمان لا علاقة له بالعقل. وأن تقول ،مثلاً، "أن الأيمان هو الأعتقاد رغم أن البديهة العقلية تأمرنا بأن لا نعتقد." هناك سؤال آخر لا بد من توجيهه لرجال الكنيسة هو: هل هناك دين أو أديان عند بقية الكائنات الحية غير الأنسان؟ وهل الأنسان مختلف أساساً عن بقية الأحياء بشيء غير العقل؟ فأذن لا مفرَّ من الأستنتاج أن الأنسان أصبح يؤمن بالدين لأنه يمتلك العقل. وهكذا فإن قول الكنيسة الآنف الذكر هو كلام ليس له معنى ولا يخضع لمنطق، ويتنافى أساساً مع المنطق الذي تتبعه نفس الكنيسة لإثبات وجود الخالق الأزلي.
وعلى العكس من ذلك، نرى الأسلام والقرآن على وجه الخصوص، يجعل العِلْم و المعرفة الرصينة هما السبيل القويم لمعرفة الله والوصول الى الإيمان. فهناك عشرات الآيات التي تربط بين العقل وبين الحصول على اليقين الديني.ويكفي هنا أن نسرد أمثلة قليلة كدليل على ما نقول:{إنَّ في خَلقِ السمواتِ والأرضِ واختِلافِ اللّيلِ والنهارِ والفُلكِ الّتي تَجري في البَحرِ بما يَنفعُ الناسَ وما أنزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ من ماءٍ فأحيَا بِهِ الأرضَ بعدَ مَوتِها وبثَّ فيها من كُلِّ دابّةٍ وتَصريفِ الرياحِ والسَحابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَماءِ والأرضِ لآياتٍ لقومٍ يعقلون} (البقرة-164). وخذ مثلاً آخر على ذلك: {هُوَ الّذي أنزَلَ مِنَ السَماءِ ماءً لكُم منهُ شَرابٌ ومنهُ شَجرٌ فيهِ تَسيمونَ، يُنبِتُ لكُم بِهِ الزَرعَ والزَيتونَ و النَخيل و الأعنابَ ومن كُلِّ الثَمراتِ ، إنَّ في ذلكَ لآيةً لَقَومٍ يَتَفَكَّرون. و سَخَّرَ لكُم اللَّيلَ و النَهارَ والشَمسَ والقَمَر والنُجومُ مُسَخَّراتٌ بأمرِهِ إنَّ في ذلِكَ لآياتٍ لقَومٍ يَذَّكرون} (النحل-10-13). بل أن القرآن يقول أن الله يَمقُتُ الذين لا يستخدمون عقولهم حين يُخبرنا:{ إنَّ شَرَّ الدوابِّ عِندَ اللهِ الصُمُّ البُكمُ الذّين لا يَعقِلون} (الأنفال-22). ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يذكر أن أصحاب النار هم من الذين لا يعقلون: { وقالوا لَو كُنّا نَسمَعُ أو نَعقِلُ ما كُنّا في أصحابِ السَعيرِ} (الملك-10). وقد جاء في الأثر عن الرسول (ص) :" للهِ على الناسِ حُجَّتانِ ظاهرةٌ وباطِنةٌ. فأما الحُجَّةُ الظاهِرَةُ فهي الرُسُلُ و الأنبياءُ، و أمّا الحُجَّة الباطنِةُ فهيَ العَقلُ، والعقل أيضاً هو الدليلُ على صِحِّة الحُجَّةِ الأولى".ولا نُريد هنا أن نورد أمثلة أخرى مما يَزخَر به القرآن عن أهمية العقل في التوصل الى الأيمان، ولكن القرآن يتكلم أيضاً عن "القَلْب السَليم"، وهو تعبير عن (الإحساس الصحّي) وعن العقل الذي يتدبّر ( أي الذي يُحلّل) ويعتبرهما من صفات المؤمنين الصادقين.وسوف نرى عندما نستعرض التطوّرات المعاصرة في علم النفس كيف يرتبط الأحساس feelingمع الدماغ ومع الوعيconsciousness بحيث لا يُمكن الفصل بينهما أبداً. وهكذا فأن القلب والعقل وحدة واحدة حتى من الناحية البيولوجية.ومرة أخرى يتَّضح جليّاً بُطلان دعوة من يقول: أن الإيمان لا علاقة له بالعقل. بل ان الموقف الأسلامي هو كما جاء على لسان أحد أئمة المسلمين في قوله:"لا عقل لمن لا إيمان له"، ثقةً منه بأن الأنسان العاقل المفكر لا بد له في نهاية المطاف أن يصل الى الأيمان بخالق حكيم قدير لهذا الوجود.
مُلاحظات حول الفلسفة النفعيّة و الإيجابية
وأمّا دُعاة المناهج الوضعية بما فيها النفعية الذرائعية pragmatism والأيجابية المنطقية logical positivism والتي تُنادي فقط باعتماد الأفكار التي لها قيمة عملية أو ما يثَبُت البرهان عليه فأصبحوا بصورة عملية تابعين لأصحاب التجربة وما تؤكده العلوم الطبيعية ، وبذلك أنزلوا المنهج الفلسفي من كونه "العلم الشُمولي" الذي يبحث في كل شيء الى مرتبة يكون فيها تابعاً لما تُقرّره العلوم الطبيعية التجريبية، وتصبح وظيفته هي اختيار اللغة والألفاظ التي توضِّح معاني وأهمية هذه العلوم فقط. ورغم ذلك فإن تأريخ دعاة هذا المنهج لا يخلو من الصدام والأختلافات الحادة. فممّا يُروى عن وليم جيمس إنه صرّح، وحسب مفهومه للمذهب النفعي الذرائعي الذي يقيس كل فكرة بمدى منفعتها العملية للأنسان، أن الإيمان بالله فكرة ذرائعية (عملية)pragmatic لأنها تجعل الأنسان يشعر بالطمأنينة والأرتياح. فما كان من قائد المذهب الذرائعي في زمانه شارلز ساندرز بيرس charles sanders pierce إلاّ أن أعلن براءته وبراءة المذهب الذرائعي من وليم جيمس وقام بطرده من مجموعته.، ولم يُرِدْ الأعتراف بأن الأيمان حاجة غريزية لدى الأنسان لا بد من إشباعها ليشعر الأنسان بالسعادة والطمأنينة. ونريد هنا وبمناسبة الكلام عن الفلسفة النفعية أوالذرائعية أن نذكر إن فلسفة العقيدة الأسلامية هي أيضاً في التحليل الأخير منهج نفعي هدفه إيصال الأنسان الى الراحة النفسية أو السعادة بإرشاده الى الطُرق والمَسالِك العمليّة التي توصله الى ذلك. ويتذبذب دُعاة الطريقة المنطقية الأيجابية (وهم أتباع الفرع الأوربي للطريقة الوضعية) بين الألحاد وبين اللاّأدريّة agnosticism. فهذا برتراند روسل البريطاني نراه يكتب في فترة ما من حياته حول جوهر الدين the essence of religion فيقول:
"إن نفس الأنسان هي خليط غريب من "إله" ووحش، فهي لذلك ساحة صراع بين طبيعتين: واحدة خاصّة ومحدودة ومشغولة بنفسها، والأخرى كَوْنِيِّة غير محدودة وغير مُتَحَيِّزة. والنفس المحدودة، التي يشترك فيها الأنسان والحيوان، مُرتبطة بالجسم وتنظر إلى العالم من موقف مُحدَّد مكانياً وزمانياً (كحُبِّ المرأة والرجل والتعاطُف مع الحُلفاء والأصدقاء الخ..). أما الجزء غير المحدود من حياتنا فإنه لا يرى العالَم من زاوية نظر واحدة: إنها تشعُّ بدون تمييز كالضوء الهادىء على بحر يُغطيه السَحاب. وفي أشخاص كثيرين تكون النفس المحدودة سجّاناً للنفس الكونيّة، ولكن عند بعض الأشخاص يحصل إنطلاق نادر ولمدة محدودة لهذه النفس الكونية. وفجأة يظهر الجمال في وسط الصِراع ويظهر الحب اللامحدود حتى في الرياح التي تعصِف بالأشجار ليلاً. وكل ذلك يُشير إلى إمكانيّة وجود حياة متحررة من الصِراعات ومن الصَغائر التي تزخَر بها الحياة اليومية، إنها حياة فيها سَلام من النوع الذي لا تُزعزعه المآسي والكوارث. ونَشعُر أن هكذا حياة ستكون بلا صراعات وهي في توافُقٍ مع الوجود كله خارج أسوار السجن الذي تبنيه الرغبات الغريزية للنفس المحدودة.إن هذا الشعور بالحِكمة المُفاجئة هو المصدر لما هو جوهري في الدين." ويمضي روسل في تأمّلاته فيقول:"وهذا الجمال وهذا السلام ليسا في عالَم آخر، بل أنهما يمكن العثور عليهما في هذا العالم الحقيقي الذي نعيش فيه في وسط العمل ومتطلّبات المعاش اليومي. ولكنه العالم الحقيقي كما تراه النفس الكونية، وفي وسط النشاط والحركة، كما توحي به رؤيتها. والأنتقال من حياة النفس المحدودة الى الحياة اللامحدودة يتطلب عُموماً لحظة من استسلام النفس المُطلق عندما تتوقف كل الأرادة الشخصية وتشعر النفس أنها في حالة "إستسلامٍ" غير مقاوم passive submission للوجود وللكون. إن "إسلام" النفس self surrender الذي تُولَدُ فيه النفس اللامحدودة يمكن أن يكون أكثر سهولة لبعض الناس عندما يعتقدون بإله حكيم يكون "الإسلام" له submission واجباً عليهم."
مما يُلفت النظر ان برتراند روسل يستعمل كلمة submission وتعبير self-surrender وهما المُعادلان الحرفيّان لكلمة "إسلام" في اللغة العربية. وواقعاً فإن القرآن والعقيدة الأسلامية يهدفان الى دفع كل إنسان للوصول لحالة "إسلام النفس" هذه وفي هذه الحياة الدنيا وفي هذا العالم الماثل أمامنا :{ أَفَغيرَ دينِ اللهِ يَبغونَ ولهُ أسلَمَ من في السَموات والأرضِ وإليهِ يُرجعون} (آل عمران-83) أو كما جاء في آية أخرى: {وَمَن أحسَنُ ديناً مِمّن أسلمَ وَجهَهُ للهِ وهو مُحسِنٌ} (النساء-125). فالإسلام submissionفي القرآن يعني الأستسلام غير المشروط من قبل الأنسان،كما استسلم الكون كله بغير شروط، للقوانين والنواميس التي تسيّر مصيره وتتحكّم في حركته. ولكن هذا الأستسلام يمثّل المرحلة التي تسبق الأيمان الكامل الذي يُريده القرآن. فالأنسان إذا "أسلم" نفسه وأصبح في توافق مع الكون فكأنه أصبح مُطيعاً طاعةً لا ريب فيها ولا شروط لمن أوجد هذا الكون وأوجد قوانينه. ولو استطعنا أن نستعير تعابير إجتماعية لعلاقة الأنسان بالكون لاتضح لنا أن "الإسلام" في القرآن يعني: أن يصبح الأنسان "أخاً" أو "عضواً" في المجموعة الكونية التي تخضع كلها وبدون مقاومة الى خالق هذا الكون ومُوجده.:{أَلَم تَرَ أنَّ اللهَ يَسجُدُ لهُ مَن في السَمواتِ ومَن في الأرضِ والشمسُ والقَمرُ والنُجومُ والجبالُ والشَجرُ والدوابُّ وكثيرٌ مِنَ الناسِ}.(الحج-18) وهنا نصل الى نقطة الخِلاف مع روسل والسائرين على نهجه فهو يقول:"إن إسلام النفس self-surrenderفي جوهره ليس مُعتمداً على الأعتقاد بوجود إلهٍ حكيم أو أية عقيدة أخرى. إن أديان الماضي، في الحقيقة، اعتمدت كلها الى هذا الحد أو ذاك على هذه المُسَلَّمة dogma(التي لا تقوم على بُرهان) أي على نظرية تتعلق بطبيعة وهدف الوجود.ولكن اضمحلال العقائد التقليدية جعل كل ديانة معتمدة على المُسلّمات dogmasفي موقف مُتَرجرِج أو حتى غير مُمكن بالنسبة لكثير من الناس الذين هم بطبيعتهم مُتَدينون بعُمق.وهكذا فإن أولئك الذين لا يتقبّلون عقائد الماضي، وهم في نفس الوقت مُقتنعون بأن كل توجُّه ديني ينطوي على المسلّمات ، يفتقدون ما هو غير محدود في الحياة ويُصبحون محددّين في أفكارهم بالمسائل والقضايا اليومية العادية.إنهم يفتقدون الوعي بالحياة الكُلّية ويخسرون ذلك الحس الأندماجي الذي لا يمكن التعبير عنه والذي يؤدّي إلى الرحمة وإلى خِدمة الأنسانية بغير تردّد. إنهم لا يرون في الجمال آيات مُفصحة عن مجد تراه البصيرة الثاقبة في كل شيء، أو يرون في الحب طريقاً الى ذلك العالم المُتحوّل الذي يكون فيه إتّحادنا واندماجنا مع الكون قد تحقّق. وهكذا فإن نظرتهم إلى الحياة تصبح أضيق حتى من أجزائها المحدودة."
إن كلام روسل هذا يتّفق تماماً مع ما يقوله القرآن عن الأيمان بعقيدة الأسلام، فهناك آيات كثيرة تؤيّد استنتاج روسل الأخير:{وَمَن أعرَضَ عَن ذِكري فَإنَّ لهُ معيشةً ضَنكى} (طه-124). وكذلك نقرأ في آية أخرى :{فَمَن يُرِدِ اللهُ أن يَهديَهُ يَشرَح صَدرَهُ لَلأسلامِ ومَن يُرِد أن يُضلَّهُ يَجعَل صَدرَهُ ضيِّقاً حَرَجَاً كَأنَّما يَصَّعَدُ في السَماء} (الأنعام-125). فالذي يقوله روسل عن افتقار حياة الكثيرين إلى الشعور بالأنفتاح على أعماق الحياة والأندماج في الكون الواسع المُترامي الأطراف يجد صداه الواضح البيّن في كثير من آيات القرآن. فالقرآن يصف الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون بكلمات ليست بعيدة عن استنتاجات روسل، فاستمع إليه حين يقول:{ مَثَلُ الفَريقَينِ كالأعمى والأصَمِّ والبصيرِ والسَميعِ هَل يَستَويانِ مَثَلاً أفَلا تَذَكَّرون} (هود-124). وواضح أنه من التمعّن في آيات القرآن أن هذا الشعور بالأنشراح ونقاء البصيرة والهدوء النفسي هو ما يمرُّ به الأنسان في هذا العالم وفي هذه الحياة وليس فقط ما سيلقاه في الحياة الآخرة:{مَن عَمِلَ صالحاً مِن ذَكَرٍ أو أُنثى وهُوَ مؤمِنٌ فَلَنُحيِينَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَّنَهُم أَجرَهُم بأحسَنِ ما كانُوا يَعمَلون} (النحل-97). و"الحياة الطيّبة" هي في هذه الدنيا أيضاً وليست في الآخرة فقط. وهذا ما تؤكّده آيات أخرى:{ أَلا إنَّ أولياءَ اللهِ لا خَوفٌ عَلَيْهم ولا هُم يَحزَنون. الّذينَ آمّنُوا وكانُوا يَتّقون.لَهُمُ البُشرى في الحَياةِ الدُنيا وفي الآخِرَةِ، لاتَبديلَ لِكَلِماتِ اللهِ ، ذلِكَ الفَوْزُ العَظيمُ } (يونس-62-64) وإصرار روسل على القول بأن الأديان التقليدية لا بُدَّ وأن تنطوي على مسلّمات لا تستند على أساس ولا ينهض لها برهان " ، غير واقعي. فمن المشكوك فيه كثيراً في أن يكون روسل قد قرأ القرآن أو تحرّى عن أُسس العقيدة الأسلامية بصورة متمعّنة وموضوعية كما فعل غيره من الباحثين الذين لا يرتضون بغير الحقيقة بَدَلاً.وأكبر الظَنّ أن خِلاف روسل مع العقيدة المسيحية ومسلّماتها المعروفة وعلى رأسها قضيّة تجسُد الإله جعله يسحب هذا الأنطباع وهذه المسلّمات الى كل الأديان الأخرى ويَسِمُها بنفس المَيْسَم. وليس مُستبعداً كذلك أن عُنصرية روسل، المؤسفة في مفكّر مثله، قدلعبت دوراً حال بينه وبين التعمّق في دراسة أُسس العقيدة الأسلامية وكتابها المقدّس. وماذا يُنتظر من إنسان يُعلن بكل صراحة: "إن الشعوب السامية غير قادرة على إنتاج الأفكار الفلسفية"!! وليس معروفاً إذا كان أدولف هتلر، الذي يُتّهم من قبل أدعياء الإنسانية في الغرب بأنه عنصري فاشستي، قد أباح لنفسه بأن يقول مثل هذا الكلام. ولا بُدَّ إن هذه القناعة قد جعلت روسل -وامثاله من المفكّرين الغربيين- يصدّون بعيداً عن كل الحضارة العربية -وهي طبعاً حضارة أحد الشعوب السامية بقرآنها وإسلامها ومفكريها وفلسفتها بل وإهمال ما أنتجه المفكرون المُسلمون من الشعوب غير السامية.ويُكمِل روسل نظرته العنصرية هذه بان يُصرِّح في أحد كتبه عن تأريخ الفلسفة :" إن العرب والمسلمين ليس لهم فضل في تأريخ الفكر والفلسفة سوى أنهم كانوا نَقَلَةً للفكر اليوناني الى أوربا الحديثة"!! وهذا ما ينطبق تماماً مع موقف الكنيسة والحركات العُنصرية التي كانت تهدف أساساً الى تشويه سُمعة العقيدة الأسلامية وإثارة الشعور العنصري المعادي للعرب والمسلمين في العصور الوسيطة وخصوصاً في فترة الحروب الصليبيّة. ولهذا فإن إطلاق روسل الأحكام وتعميم إنطباعه عن المسلمّات المسيحية يُعتبر نقصاً فاضِحاً في صَفحة أفكار هذا المثقّف ذي الأنتاج الواسع في العلوم والفكر الفلسفي. فعندما يرفض روسل الأفكار المسيحية واليهودية التي تنطوي على تحديد لذات الخالق وتجسيم لوجوده فإنه في الواقع يقف في صف العقيدة الإسلامية التي ترفض التجسيم والتشبيه. فالقرآن يقول عن الذات الألهية :{لا تُدرِكُهُ الأبصارُ وَهُوَ يُدرِكُ الأبصارَ وهوالَّلطيفُ الخبيرُ} (الأنعام-103). أين مضمون هذه الآية من قول بعض "الحكماء الألهيين!" المسيحيين واليهود حين يعلنون بأنه" توجد مسافة فاصلة طولها ستة آلاف فرسخ (حوالي ثلاثين ألف كيلو متر) بين إنسان العين"اليمنى و إنسان العين اليسرى للأب الخالد (وهو الله)"!! وأين آيات القرآن في صفة الله الذي {ليس كَمثلِهِ شيءٌ وهوَ السميعُ البصيرُ} وما يكون روسل قد قراه بالتأكيد عن القديّس توما الأكويني thomas aquinas الذي يُعتبر أكبر الحكماء المسيحيين في القرون الوسطى وهو مؤسّس الفلسفة الأسكولاستية (المدرسية) في تلك العصور وبقيت كتبه لمدة أربعمائة سنة هي الكتب الرسمية للمؤسسات العلمية والدينية في أوربا. لقد خصص توما الأكويني فصلاً من كتاب "المجموعة اللاّهوتية" يدور حول هذا السؤال: "ما هو عدد الملائكة التي يمكن أن تحلَّ في رأس إبرة؟"!! وإذا أضفنا ملاحقة السلطات الكنسية في أوربا لللعلماء وأصحاب الأفكار الأصلاحية في بداية عصر النهضة، فلا عجب أن نرى عزوف الباحثين والمؤمنين بالطريقة العلمية عن مناهج الكنيسة وعقائدها. ويذهب كثير من المؤرخين الغربيين الى القول بأن الكنيسة الكاثوليكية وتعاليمها ومواقفها هي السبب الأول في انتشار الأفكار الإلحادية في أوربا منذ بداية عصر النهضة. إن هذا العزوف عن الدين المسيحي هو ما يتكلم عنه روسل حين يقول:" ان أولئك الذين لا يتقبّلون عقائد الماضي، وهم في نفس الوقت مُقتنعون بأن كل توجُّه ديني ينطوي على مسلّمات لا عقلانية ، يفتقدون ما هو غير محدود في هذه الحياة". إن قناعة المثقفين الغربيين حول لاعقلانية الخطيئة الأصلية وحول لامنطقية "الخلاص salvation بتجسُّد الأله الخالق وولادته من إمرأة من بني البشر ثُمَّ صلبه وموته على الصليب هي العِلَّة الأساسية في تعميمهم هذه الأستنتاجات حول الأديان عموماً. كما أن تصديق الغربيين، بدوافع لا تخلو من العنصرية، بأن القرآن هو توراة أو إنجيل مُحرّف كتبه النبي محمد (ص) لا بد أن يكون قد لعب دوراً في عدم إلتفات المثقّفين الغربيين الىالإصالة والموثوقية التي يتميّز بها القرآن. يقول الطبيب والباحث المنُصف موريس بوكاي الفرنسي:"إن القرآن لا يحتوي على أيّة مقولة يمكن دحضها من وجهة نظر علمية معاصرة".أما في الغرب ،كما يقول بوكاي،فإن:"اليهودية والمسيحية لا تُخفيان عجزهما عن أن تتغلّبا على موجة الماديّة والغزو الإلحادي للغرب.إن كليهما قد أُخذتا على حين غَرَّة ، ومن عَقْدٍ من السنين الى آخر فأن الأنسان يرى بشكل مؤكّد كيف أن مقاومتهما تزداد ضَعفاً في وجه هذا التيّار الذي يهدّد باقتلاع كل شيء. إن الألحادي المادي يرى في المسيحية التقليدية لا شيء أكثر من نظام system أُقيم من قبل البشر خلال الألفي سنة الأخيرة مُصمّم لتأمين سلطة الأقليّة على بني جَلْدتهم من البشر الآخرين. وهو غير قادر أن يجد في الكتابات المسيحية اليهودية أية لغة تتشابه ولو من بعيد مع لغته. إنهما (المسيحية واليهودية) تتضمّنان عدداً كبيراً من المُستحيلات والأضداد والتناقُضات مع المعُطيات العلمية بحيث تجعله يرفض أن يعطي أي أعتبار لنصوص من الكتاب المقدّس ترغب الغالبية العظمى من اللاّهوتيين في أن تراها مقبولة بِرُمّتها. وعندما يُذكَرُ الأسلام للألحادي المادّي الغربي فإنه يبتسم بتعالٍ لا يُساويه إلاّ جهله بالموضوع. وهو يشترك مع الغالبية من المثقفين الغربيين ومهما يكن إنتماؤهم الديني في تجميعهم للكثير من الأفكار الملفّقة عن الأسلام." وبعد أن يؤكّد بوكاي أنه ليست هناك في القرآن أية مقولة تتنافى ونتائج العلم الحديث، نراه يلتفت الى خصيلة أخرى من خصائل العقيدة الأسلامية فيقول:" في العالم المسيحي،ولعدّة قرون، قاومت السلطات الدينية التقدّم العلمي بمبادراتها الخاصة وليس بالرجوع الى كتب دينية موثوقة. أما في حالة الأسلام فإن الموقف تجاه العلم كان، على وجه العموم، مختلفاً. فليس هناك أوضح من الحديث النبوي القائل"إطلب العلم ولو في الصين"، أو الحديث الآخر الذي يقول "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة". ومن الحقائق المهمة أن القرآن، في نفس الوقت الذي يدعونا فيه الى رعاية العلم،فإنه نفسه يحوي مُشاهدات متعددة لظواهر طبيعية ويتضّمن تفاصيل إيضاحية نراها على إتفاق تام مع الحقائق العلمية الحديثة." ويمضي الدكتور بوكاي فيقول:" ومن المؤسف إن مقاطع من القرآن، وخصوصاً تلك التي تتعلق بمُعطيات علمية، قد تُرجمت وفُسِّرت بصورة رديئة ولذلك فإن من حق العالِم أن يوجّه أنتقاداً-له ظاهرياً ما يُبرّره- بصورة لا يستحقّها القرآن.ولهذا يجب مُلاحظة هذه النقطة من الآن فصاعداً: إن عدم الدقّة في الترجمة أو التعليقات الخاطئة (وإن الواحدة متعلقة بالأخرى) التي لم تكن لتُفاجيء أحداً منذ قرن أو قرنين من الزمان أصبحت الآن تستفزّ الباحثين العلميين." ويُعزي بوكاي سبب التراجم الخاطئة الىعدم تَوَفُّق المترجمين لاختيار المعنى المناسب لكلمة عربية تشتمل على معانٍ متعددّة.ولم يكن في مقدورهم أن يفهموا المعنى الحقيقي للكلمة أو المقطع الذي أصبح مفهوماً في الوقت الحاضر فقط بفضل المعرفة العلمية.
وهكذا نرى أن عدة عوامل قد تآزرتْ وتآمرتْ على إبعاد القرآن عن أن يحظى بالمكانة التي يستحقُّها عند كثير من المثقفين الغربيين الباحثين عن الحقائق. ولكن ذلك كله لم يكن مانعاً كافياً لصد طُّلاب الحقيقة المخلصين من أمثال الطبيب الجراّح موريس بوكاي من الوصول الى هدفهم والكشف عن الحق والحقيقة التي يتكلم عنها القرآن وسوف نأتي مرة أخرى على أفكار العلاّمة بوكاي عندما يحين الكلام عن "الطريقة العلمية" في دراسة الظواهر الطبيعية..ومن المؤسف أن الفيلسوف الراحل برتراند روسل، وهو المولع بحب العلم الى درجة جعلته يعتبر أن الفلسفة يجب أن تكون جزءاً من العلوم الطبيعية، وكثيرون غيره، كان يجب عليهم أن يُلقوا نظرة غير متحيّزة على القرآن ليكتشفوا كيف أن هذا الكتاب الذي جاء قبل ما يقارب الأربعة عشر قرناً يجعل العلم والبحث عن الحقيقة هما السبيل الوحيد للوصول الى الإيمان حتّى أنه يقول{ إنَّما يَخشى اللهَ مِن عِبادِهِ العُلماءُ} (فاطر-28) ، ولكن ومع الأسف أنهم لم يكونوا من طبقة العلاّمة موريس بوكاي دامتْ إفاضاته.
لقد أطلنا بعض الشيء في مناقشة فكرة برتراند روسل عن "جوهر الدين" لأنّنا، وكما قلنا سابقاً، نراها تتفق مع رحلة الإيمان التي ينادي بها القرآن، كما ألمحنا إلى أن الطريقة الإسلامية في بلوغ سبيل السعادة والسلام والوصول الى حالة "الأسلام" submission لا تكون بالأستسلام الى الكون ، ولكن بالتسليم بدون قيد أو شرط الى القوانين التي تحكم الوجود ومكوّناته ومن جملتها الأنسان. إن إسلام النفس لهذه النواميس هو الذي يجعل الفرد منسجماً تمام الأنسجام مع كل شيء في هذا الكون.والعقيدة الأسلامية ترى ان المرحلة التالية والأخيرة، وهي عبادة خالق هذه النواميس يكون من تحصيل الحاصل. فالإسلام القرآني يؤكّد المبدأ العقلي البديهي القائل بأن "لكُلِّ أثرٍ سبباً أو عِلّة"، ولا يمكن ان يكون كل هذا الوجود هو نتاج الصدفة العمياء البحتة، التي يُصرِّح بها المُلحدون، وأن النواميس الطبيعية التي يخضع لها كل شيء ، والتي يجب أن يخضع لها الأنسان إذا أراد أن يتذوّق الحياة بكل عمقها ومتعتها، لا بُدَّ لها من خالق قدير حكيم.ومن المفيد أن نؤكّد هنا أن القرآن وأحاديث الرسول (ص) وإئمة المسلمين تُحرّم وصف الله بصفات المخلوقين ولنستمع الى ما جاء عن الأمام علي بن أبي طالب حين يقول:"...فَمَن وَصَفَ اللهَ سُبحانَهُ فَقَد قَرَنَهُ، وَمَن قَرَنَهُ فَقَد ثَنّاهُ، ومَن ثنّاهُ فَقَد جزّّأهُ، ومَن جزّأهُ فَقدَ جهِلَهُ، ومَن جهِلَهُ فقَد أشارَ إليهِ، ومَن أشارَ إليهِ فَقَد حَدَّهُ، ومَن حَدَّهُ فقَد عَدَّهُ، ومَن قال "فيمَ؟" فقَد ضَمَّنَهُ، ومَن قال "عَلامَ؟" فقَد أخلى مِنهُ. كائِنٌ لا عَن حَدَثٍ، مَوجودٌ لا عن عَدَمٍ، مَعَ كُلِّ شَيءٍ لا بِمُقارَنَةٍ، وَغَيرُ كُلِّ شَيءٍ لا بِمُزايَلَةٍ، فاعِلٌ لا بِمعنى الحَرَكاتِ والآلَةِ، بَصيرٌ إذْ لا مَنظورَ إليهِ مِن خلقِهِ، مُتَوَحَّدٌ إذ لا سَكَنَ يَستأنسُ بهِ ولا يَستوحِشُ لِفَقدِهِ، أنشأَ الخَلقَ إنشاءً، وابتَدأهُ إبتداءً بِلا رَوِيّةٍ أجالَها ولا تَجرِبَةٍ إستَفادَها ، ولا حَرَكَةٍ أحدَثَها ولا هُمامَةَ نَفسٍ اضطَرَبَ فيها..."ومرة أخرى لا بد من إعادة القول أن أُسس الدين الأسلامي، كما يجهر به القرآن، لا ينطوي على مُسلّماتdogmas (كما هو الحال في المسيحية ) لا يستطيع الأنسان أن يفهمها أو أن تكون خارجة عن طبيعته أو إمكانيّته، وسنرى في بحث لاحق كيف أن الأسلام لا يشترط أن يكون الأنسان كائِناً غير نفسه لينتقل من الظُلمات الى النور ويُصبح مؤهّلاً لدخول الجنّة والفَوْز بالفردوس المُستديم.
ملاحظه :يتبع الجزء الثالث
مع أجمل وارق ألأمنيات.
بوح الروح
إن الوجودية هي موقف من واقع الحياة وتهتم بوجود الأشياء وبصورة خاصة وجود الأنسان. ويتلخّص موقفها بأن "الوجود يأتي قبل الجوهر أي قبل الروح"، و تدّعي أن نقطة الأنطلاق لكل بحث فلسفي هو الوجود الفعلي للأنسان. فالأنسان يُواجه الوجود لوحده، وتوجد إمكانيته بأن "يُوجد" عندما يُغادر الواقع الذي يشترك فيه مع الأشياء ويُعلن عن نفسه كفرد حُرٍّ ومسؤول و مسلّماً نفسه بإرادته إلى سِلسِلة من الأزَمات تؤلّف مصيره. والوجود الأنساني كله عبارة عن سلسلة من المواقف الحاسِمة ينطوي كل منها على مخاطِر ويتطلّب إجتيازها كل طاقات الفرد الكامنة فيه. وحسبما يقول الوجوديون الملحدون فإن هذه السلسلة من المواقف تقود في النهاية إلى فجيعة catastrophe، وهكذا فإن العواطف السائدة في الأنسان هي الضَنَك أو الكرب anguish والحُبّ والشُعور بالذنب مُمتزجة بشعور من الحرية داخل النفس البشرية. ويقول الوجوديون أن حقيقة أن الأنسان حرٌّ بالضرورة هي مسؤولية رهيبة بالنسبة له. ففي إطار هذه الحرية يجب على الأنسان أن يُقرّر لنفسه وللآخرين مُتحمّلاً مسؤولية تَصَرُّفه. ويقول المُلحدون منهم إن الإنسان حُرٌّ تماماً لأنه لا يوجد نظام لقيمٍ محددة، ولا يوجد إله يشاركه عبء هذه المسؤولية. ولكن هذا البؤس يُعطي الأنسان كرامةً تجعله هو المؤسّس الحر لكل القيم. أمّا الوجوديون الآلهيون فيقولون إن هذه المسؤولية تقود إلى العودة الى الله، والأيمان بالله هو الذي يمكّن الأنسان من اكتساب شجاعة لا يملكها الأنسان العادي ويستطيع المؤمن أن يواجه برباطة جأش الخوف من اليأس. والأنسان "الموجود" يتحتّم عليه أن يحس بنفسه في حضرة الله. يقول كيركجارد:"أن الشخص الموجود إذا كان مؤمناً مسيحياً سيشعر بالخطيئة sin في حضرة الله، وهكذا فإنه يدخل الى الحياة الدينية بشعور من الخطيئة ولكنه سيتقدّم بنوع من الرحلة الروحية من دين يظل لصيقاً بالفلسفة الى أعلى مراحل الدين. فالشخص "الموجود" سيكون مُتوجّساً ومهتمّاً أهتماماً بلا حدود فيما يتعلق بوجوده لأن آلاماً أبدية أو مسراتٍ أبدية تعتمد على علاقته بالله".وهكذا يختلف كيركجارد عن هيجل بتأكيده على الذاتية الفردية وبالأهمية التي يُعلّقها على شدّة الأحاسيس عند الفرد.وكمؤمن بالعقيدة المسيحية يقول كيركجارد: "إن العقل يُصبح قاصراً عندما يلتقي الفرد "الموجود" المسيحي بتأكيد فكرة التجسّد الألهي في فكرة ولادة الخالق الأزلي في مكان مُعّين ولحظة تأريخية مُعيّنة." ولكن كيركجارد يقع في تناقُض مع نفسه فهو يستخدم العقل عندما يُفسّر تناقض التجسُّد مع العقل ويَعتبر هذا التناقض "إتحاداً" بين المحدود واللاّ محدود، ولكن كيركجارد عندما سُئل: كيف امكن توقُّع تجسُّد الأله في الأرض بدون إستخدام العقل؟ أجاب: "لا أزال مُستغرقاً في تأمُّل هذه المسألة وإن روحي تضِّل عن سبيلها." كذلك لا يستطيع كيركجارد أن يُجيب عن علاقة اللحظة التاريخية للتجسُد الألهي ،التي يدعو اليها، وبين الأزلية الألهية. وقد طوّر ياسبرز jaspers فلسفة كيركجارد الى نوع من الفكر الأنساني غير المرتبط بالمسيحية، ولكنه أقرَّ بأن الأنسان ورغم تقدّمه العلمي وتطّوره النفسي يحسُّ بأن هناك شيئاً ما "خارج أنفسنا متفوّقاً علينا ونحن نؤكّد أنفسنا في الوجود بعلاقتنا بهذا الشيء السامي المتفوّق". ويقول ياسبرز، على خلاف كيركجارد، بأن الأنسان ليس مُنعزلاً عن الآخرين، وأن التواصل والحب المستمر للآخرين يُكوّن جوهر الفلسفة.
التناظر بين المدارس الفلسفية والعقيدة الأسلامية
في المراجعة المُختصرة التي ذكرناها أعلاه للمناهج الفلسفية المختلفة منذ العصور الأغريقية وحتى العصر الراهن، ودون الأشارة بتفصيل الى مواقف الفلاسفة المسلمين، نلاحظ توفّر الفلاسفة الغربيين على رُكنين أساسيين من أركان الوجود:
الأول: هو الأنسان ككائن حي مفكّر، والثاني: هو ما يحيط بهذا الكائن من الكون بأجزائه المختلفة. ونستطيع أن نصنف هذه المناهج تحت نوعين أساسيين:
الأول: المنهج الواقعي realist هو الذي يؤكّد وجود العالم ومكوناته خارج ذهن الأنسان و بصورة مستقلة عن تصّوراته و يعتبر أن "الحقيقة هي الأدراك المطابق للواقع."
والثاني: المنهج المثالي idealist وهو الذي يعتبر أن ذهن الأنسان هو البداية وأن كل شيء آخر هو من نتاجاته، فلا وجود للعالم الخارجي الآّ في ذهن الأنسان. وهكذا نرى بوضوح أن المنهج المثالي قد أعطى للذهن mind (أو إحدى صوره الأخرى كالذات egoأو الروح spirit) القُدرة على خلق الظواهر الخارجية phenomena ، وبالتالي خلق العالم الخارجي. ومن المثاليّين من يؤمن بوجود خالق لهذا الكون بحيث يكون الكون كله "موجوداً في ذهن هذا الخالق" و في جميع الأوقات. ومنهم من يُنكر وجود خالقٍ لهذا الكون ولكنه يقول أن الأنسان "يتسامى" في تطلعاته transcends الى ذروة روحية عالية. وهذا ما يقول به هايديجر الألماني أحد الفلاسفة الوجوديين في القرن العشرين رغم أن الوجودي الفرنسي سارتر يبدو غامضاً حول هذا التسامي transcendenceويعود إلى إستخدام المقولة التي تدّعي أن ان الواقع الأنساني متكون من جزئينبنفسه by-itself) و (لنفسه for itself)، وهو يحاول دائماً أن يُحقّق جزء (لنفسه) بتجاوزه المراحل المتُحقّقة من هذا الأخير والتي تصبح من مكونات (بنفسه). و سارتر لا يقول لنا ما هي غاية ونهاية الجزء الذي يصفه بأنه (لنفسه)، ولكنه يختتم أفكاره الفلسفية بإبراز صورة قاتمة لوجود كله بلا معنى ونهايته اليأس والتعاسة. وبغض النظر عن الإعتبارات الأخرى فإن سارتر لو أُتيح له الإطلاع على فلسفة "الحكمة المتعالية" التي جاء بها الفيلسوف الإسلامي صدر الدين الشيرازي المعاصر تاريخياً للفيلسوف الفرنسي ديكارت لكان من الممكن أن يرى تشابهاً بين ما يسميه هو جزء "بنفسه" وبين الجزء المادي من الإنسان ، وكذلك بين جزء "لنفسه" و بين الجزء الروحي من الإنسان كما أوضحه هذا الفيلسوف الإسلامي واعتبر أن العلاقة بينهما علاقة لا تقبل الإنفصام لأن الجزء الروحي هو تصعيد للمادة إلى أعلى بتأثير حركة فاعلة في الوجود يسميها "الحركة الجوهرية" التي هي السبب الأصيل لتحول المادة غير الحية إلى كائن حي. و بهذا التعليل يختفي الغموض بين ما يسميه سارتر "بنفسه" و "لنفسه"، و يصبح واضحاً أن جزء "بنفسه" هو السابق زمنياً وأن ما يسمى "لنفسه" ما هو إلا نتاج للجزء المادي الذي يطلق سارتر عليه جزء "بنفسه".
ومن دُعاة المذهب الواقعي realist من يُنكر أي شيء خارج تجربة الحسّ المباشر وهم الوضعيون empiricists. وقد بلغت هذه الطريقة قِمتَّها في فلسفة المفكرين الأيجابيين positivists والذرائعيين pragmatists بالقول بأن المعرفة الأنسانية محدودة بحدود التجربة، وأنه من المستحيل أن يعرف الأنسان أي شيء وراء هذه الحدود. ولذلك- وبما أن طبيعة وأسباب ومصائر الموجودات لا يمكن التعرُّف عليها بواسطة الحواس senses- فإن البحث في الميتافيزيقا (أو ما وراء الطبيعة) ليس وراءه من طائل . و تَعتبر الماركسية نفسها من دعاة المذهب الواقعي وتقول بأن المادة هي أصل الوجود وهي في صَيْرورة مستمرة dialectic materialism ولا حاجة بها إلى قوى خارج نفسها لإحداث هذه التغييرات، ولهذا أنكرت الماركسية وجود خالق للكون.
والفلسفات الدينية، وبضمنها الفلسفة الأسلامية، تشترك مع دعاة المذهب الواقعي القائل بأن هناك في الكون وجوداً مستقلاً عن ذات الأنسان ويستطيع الأنسان أن يدركه بحواسه وبعقله وأن هذا الوجود كله، بما فيه الأنسان، له خالق عاقل حكيم.
وهكذا نرى أن كل المناهج الفلسفية المعروفة تعترف بوجود حاتين من الكينونة هما: الأنسان وما يحيط به. و المناهج المؤمنة منها تقول بوجود خالق لهذين الوجودَين. ومن الملفت للنظر إن المثاليين، كما يقول الفيلسوف الوضعي البريطاني برتراند روسل: "قد خلطوا بين (الفكرة عن الشيء thought about a thing) وبين الشيء نفسه. فالفكرة عن الشيء موجودة فعلاً داخل الذهن، ولكن الشيء نفسه هو بالتأكيد خارج الذهن، يدلُّ على ذلك بقاؤه المستمر وتمكُّن الأفراد الآخرين بل وحتى الحيوانات من إدراك وجوده رغم أن هذه الأدراكات قد تختلف في التفصيلات كأبعاد الشيء ولونه وملمسه الخ.."
ورغم الدور الهائل الذي تلعبه الذات أو الأناego في تحديد طبيعة الإدراك و مدياته (كما يبيّن ذلك علم النفس الحديث) فإن وجود الأشياء خارج ذهن الأنسان كحقائق مستقلة يُعتبر بديهياً للغالبية العظمى من البشر ولبقية االأحياء. أما المعلومات الحسية sense data عن أي شيء فتختلف باختلاف الزاوية التي ينظر من خلالها الأنسان الى ذلك الشيء وشدّة الضوء المُتاح للرؤيا وحالة الحواس الخمسة من الصحة أو الأعتلال. وفوق ذلك فإن هذه المعلومات الحِسّية تختلف باختلاف الأفراد حتى في ظروف مُتشابهة. وكل ذلك لا يخالف مذهب الفلسفة الواقعية realism الذي يربط بين الذهن وبين الأشياء الخارجية بالأدراك أو التصوّر، ويعتبر أن "الحقيقة truthهي الأدراك المطابق للواقع". و النتيجة المنطقية للمقولة الأخيرة هي أنَّ الأدراكات المختلفة لواقع واحد ليست متوقفة فقط على اختلاف المعلومات الحسّية sense data وإنما الجزء الأكبر من الأختلاف في الأدراك بين الأفراد يُعزى،في الغالب، الى الحالة البيولوجية-النفسية للذهن الذي يقوم بعملية التفكير المؤدّي الى الأدراك ومن ثَمَّ الوعي. فما لم يكن الذهن أو العقل في حالة طبيعية صحية فإن مُجمل الأفكار و التحليلات و الأستنتاجات ستكون مُجانبة بهذا القدر أو ذاك لخصائص الواقع الذي هو مادّة التأمُّل والتحليل و إطلاق الأحكام. و سنرى حين نتكلم عن علم النفس في فصل قادم أن الذهن أو الجزء المُفَكِّر من الدماغ هو عُرضة، في كثير من الأحيان وفي أعداد كبيرة جداً من البشر، لأن تُعاق وظائفه التأمُليّة التحليلية، ويُصبح الفرد في الواقع وكأن هناك حاجزاً بينه وبين الواقع الذي يعيش في وسطه يمنعه من أن يتواصل ويتمازج مع ذلك الواقع. ومن البديهي أن التواصل والتمازج الحميم مع ما يحيط بالأنسان هو الخطوة الأولى لجمع "أوثق" المعلومات الحسية وتجهيزها الى ذهن صحي سمح في المقام الأول باستقاء هذه المعلومات، وله الأستعداد في المراحل اللاحقة لاستخدام هذه المعلومات الحسية بأكفأ طريقة في التفكير والتحليل والأستنتاج. يقول الدكتور آرثر جانوف الباحث النفسي ومؤسس "طريقة علاج الألم الأساسي primal pain therapy" في العِلاج النفسي :" إنَّ كَبْتَ الأحاسيس المؤلمة وخاصة في عهد الطفولة المُبكّرة يؤدِّي عند البلوغ الى مرض خطير هو مرض العُصاب neurosis الذي يُصيب في الواقع أعداداً هائلة من بني البشر. وعندما ينطبع الألم المكبوت في الخلايا العصبية neurons فإن المُخ يصبح بمعظمه آلة للتعامل مع هذا الألم. وعندما يتفاقم الألم المكبوت منذ عهد الطفولة، فإن أجزاء أكثر واكثر من المخ تتحول الىجهاز للتعامل مع هذا الألم بحيث لا يتبقّى إلاّ جزء قليل من المخ العاقل intellect قادراً على القيام بعملية التصوّر perceiving و التفكير thinkingوحل المشاكل problem-solving". ويمضي جانوف فيقول:"إن شخصاً ما يمكن أن يكون منتبهاً تماماً very awareلما يحيط به وبتصوّر جيد، ورغم ذلك فإنه قد يكون له وعي زائف false consciousness. فالأنتباه يمكن أن يكون صحيحاً فيما يتعلق بالواقع الخارجي ولكنه لا يعكس الواقع داخل النفس الأنسانية. وهناك عدّة انواع من الأنتباهات ولكن هناك وعي واحد فقط:أي أن هناك وعياً "كاملاً" واحداً فحسب. إن الوعي الكامل full consciousness هي حالة مُستمرة للكائن الحي الذي يمتلك تواصُلاً سَلِسَاً fluid access بين تراكيب المُخ المختلفة. والجهاز العصبي الذي يكتنز أحاسيس مكبوتة repressed feelings لا يتميّز بهذه الخاصية وبالتالي فهو لا يمتلك حالة الوعي الكامل. فالشخص يفقد الصِلة مع العالَم الخارجي فقط بعد أن يفقد الصِلة مع عالمَه الداخلي. إن الألم المكبوت يجعلنا نلعب حِيَلاً متعددة على أنفسنا وعلى الآخرين. فنحن نُسيء التصوُّر، وتكون افعالنا غير لائقة رغماً عنّا، ونحن نستمع بلا إنتباه ونسمع ونرى بصورة خاطئة".
ملاحظات حول الفلسفة الوجوديّة
والسؤال الذي نطرحه هنا وخاصة فيما يتعلق بمسألة الشعور بالكَرَب أو الضَنَك anguish الذي يتكلم عنه الفلاسفة الوجوديون وخصوصاً المُلحدون منهم: أليس ذلك هو ما يتكلم عنه علماء النفس المعاصرون وخصوصاً أولئك الذين يعتبرون الألم المكبوت منذ زمن الطفولة سبباً للشعور بالكآبة والضيق والصُداع النصفي؟ وبمعنى آخر : إن التخلّص من حالة الكرب هذه، وهي حالة غير صحية (طبيعياً ) في الأنسان أكان فيلسوفاً أم فرداً عادياً، بمكن أن يتم بمعالجتها عِلاجاً نفسياً مناسباً فتختفي باختفاء مُسببّاتها. فهي إذن ليست حالة مُلازمة بالضرورة للوجود الأنساني على هذه الأرض، وإنما هي حالة طارئة بالرغم من أن اعداداً كثيرة من البشر تُعاني منها كما يؤكد ذلك المختصون. وهذه الحقائق تذكّرنا بما جاء في القرآن حين نقرأ:{يا أيُّها الناسُ قَدْ جاءتْكُم مَوْعِظَةٌ من ربِّكم وشِفاءٌ لما في الصُدورِ } (يونس-57). فهذه الآية وغيرها من الآيات تؤكّد ان البشر بحاجة الى شِفاءٍ لما في صدورهم أي لما في قلوبهم ونفوسهم. وإذا علمنا ان القلب كمركز للأحساس feelings مرتبط أشد الأرتباط بتراكيب المخ المختلفة تؤثّر به ويؤثّر بها، فإذا "مرض" القلب فإن ذلك إشارة الى "مرض" الدماغ واختلال وظائفه الذهنية على مختلف مستوياتها، ,إذن فإن ما يُعانيه "الأنسان الموجود existent" كما يصفه بعض اصحاب المذهب الوجودي يتطابق في أوصافه مع أعراض مرض العُصاب neurosis. ويعود القرآن في مكان آخر ليؤكّد على ظاهرة الإعتلال النفسي عند بني البشر فيقول:{وَنُنَزّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ ورَحمَةٌ للمُؤمِنين} (الأسراء-82).ويعني ذلك أن الأنسان غير المؤمن سوف لن يشعر بالراحة والأنشراح لأنه مُعرِض عن ذكر ربه وعن التسليم لحكمته وخصوصاً في قضية تقدير الموت على الكائنات الحية وعلى رأسها الأنسان. و يؤكد القرآن حالة الكرب والضنك التي يشعر بها الأنسان غير المؤمن حين يقول:{ وَ مَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكري فَإنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكَى} (طه-124). ورغم ذلك فإن مُنطلق الفلسفة الوجودية بالقول بإن الوجود يسبق الجوهر يتطابق مع ما يُصرّح به القرآن حين يقول:{ واللهُ أخرَجَكُم مِن بُطونِ أُمَّهاتِكُم لا تَعلَمون شَيْئاً وجَعَلَ لَكُم السَمعَ والأبْصارَ والأفئِدَةَ لَعَلَّكُم تَشكُرونَ} (النَحْل-78). فالعِلْمُ (أو المُحتوى الفكري)حسب منطوق هذه الآية يحصل فقط بعد أن يُولد الإنسان وينشأ على هذه الأرض وليس قبل ذلك. وهاك مثالاً آخر على تلاقي الفكرة الوجوديّة مع الإسلام:
{ هَلْ أتَى على الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيئاً مَذكوراً. إنَّا خَلَقنا الإِنسانَ مِن نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبتَليهِ فَجَعَلناه سَميعاً بَصيراً. إنّا هَدَيْناهُ السَبيلَ إمّا شاكِراً وإمّا كَفوراً} (الإنْسان-1-3). فإذن فالإنسان يُصبح "شيئاً مذكوراً" بعد زمن من عملية الإخصاب والحمل، ثُمَّ بعد أن يولد ويترعرع فإنه هوالذي يختار بنفسه عقيدته وسلوكه فيُصبح إمّا شاكراً (مؤمناً) أو كَفوراً (مُلحداً). وجدير ذكره هنا أن علم النفس كان جزءاً من مناهج الفلسفة منذ عهد الأغريق ولم يفترق عنها الاّ في أواسط القرن التاسع عشر حين اصبح علماً تجريبياً بدايةً في ألمانيا على يد فه. فونت w.wundtثم في الولايات المتحدة على يد وليم جيمس. وكل ما نريد أن نُشير إليه هنا هو أن الأنسان، حتى يكون موثوقاً في تفكيره وتحليلاته واحكامه، فإنه يجب ان يكون قادراً نفسياً على امتلاك الوعي الكامل full consciousness، وهي حالة لا تتم الآّ باستمرار المُفكِّر على دوام الأتصال بعالمه الداخلي حتى يتسنّى له ان يتواصل مع عالمه الخارجي ويراه بصورة موضوعية لا تشوّشها حالة "الوعي الناقص" التي تتسبب في إيجادها حالة مُتفاقِمة الشُيوع في النوع الأنساني وهي حالة العُصاب كما تُسمّيها البحوث النفسية الحديثة. إن المُفكرين الوجوديين المؤمنين المسيحييّن، حسب مقياس الوعي الكامل، هم أكثر تواصلاً أو تماسّاً مع محيطهم حين يتكلمون عن حالة التسامي transcendenceالتي يتميّز بها الأنسان والتي تدفع به الى الأرتفاع الى "أُفق" أعلى باتجاه خالق الوجود و عِلّته الأولى. والعقبة الكأداء التي تقف في طريق هؤلاء هي قضيّة "تَجَسُّد الأله" في العقيدة المسيحية: فهم تارة يقولون إن "العقل يصبح قاصِراً عندما يلتقي الفرد "الموجود" المسيحي بتأكيد فكرة التجسد الألهي في فكرة ولادة الخالق الأزلي في مكان مُعّين ولحظة تاريخية معينة"، ولكنهم يعودون فيستخدمون العقل عندما يُفسِّرون تناقض التجسد مع العقل ويعتبرون هذا التناقض إتحاداً ين المحدود واللامحدود. وقد بقي كيركجارد ، مؤسس الوجودية المؤمنة، الى نهاية حياته غير قادر على إعطاء جواب مُقنِع حول السؤال :كيف أمكن توقّع "تَجَسُّد الأله" على الأرض بدون استخدام العقل؟ واعترف بأنه "لا يزال مُستغرِقاً في تأمُّل هذه المسألة."
ولو نظر كيركجارد الى ما جاء به القرآن والإسلام لكان بإمكانه أن يحتفظ بإيمانه ولتوقَّفت روحه عن "أن تضلَّ عن سبيلها" كما اعترف هو بذلك. يقول القرآن في صفة الخالق الأزلي:{ليس كمثلهِ شيءٌ وهو السميعُ البصيرُ} (الشورى-11). ويقول أيضاً {إنَّ مَثَلَ عيسى عندَ اللهِ كَمَثلِ آدمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قالَ لهُ كُن فيكونُ} (آل عمران-59).، ويقول كذلك: "وقالوا اتَّخذَ الرحمنُ وَلَداً. لقد جِئتُم شيئاً إدّاً. تكادُ السمواتُ يَتَفَطّرنَ منهُ وتنشَقُّ الأرضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدّاً} (مريم-88-90).
فليس "التجسُّدُ" هو شرط لا مندوحة عنه للأيمان بخالق لهذا الوجود، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، لأن إفتراض التجسد هو تناقض صارخ مع واقع الوجود. والعقل البشري، الذي يُميِّز الأنسان عن بقية الأحياء ويجعله يعتقد بضرورة وجود خالق للوجود، غير قادر ، كما اعترف أصحاب نظرية التجسد، على إعطاء تفسير منطقي "لتجسُّم" الخالق الأزلي اللاّمادي. وموضوع "التجسد" يَنسِف كافّة الأدلّة العقلية التي يبدأ بها دُعاة الفلسفة الكهنوتية المسيحية ليُثبتوا بها ضرورة وجود خالق أزلي لهذا الكون: إذ أنهم يلجوؤن إلى أستخدام الأدلة العقلية إلى حد إثبات وجود الخالق. وعندما يحين الكلام عن "الخطيئة الأصلية" وعن "وِلادة" الخالق على هذه الأرض وفي لحظة تأريخية محددّة ليُصلب حتّى يُكفّر عن الخطيئة التي ورثها كافة بني الأنسان عن أبيهم آدم، فإن دعاة العقيدة المسيحية هؤلاء انفسهم يتخلّون عن كل دعوة لتحكيم العقل في هذه المسألة ويبدأون بالتصريح بأن الأيمان لا علاقة له بالعقل. والعلّة في هذا الموقف من العقل لا بُدَّ أن تكون نابعة من أن العقل البشري في حالته "الطبيعية الصحية" وأحاسيسه الفِطرية لا يرى ضرورة لهذا التجسد "لخَلاص" الأنسان. فالنظرية المسيحية التي تربط خلاص البشر بأن يقوم الله، الخالق الأزلي، بالتضحية ب"إبنه" الوحيد ليُقتل ومن قِبَلِ "الناس" على الصليب تمثّل فعلاً "دوغما dogma" لا يمكن للعقل البشري الطبيعي أن يتقبّلها الى درجة دعتْ بعض الباحثين المؤمنين الذين تحوّلوا من المسيحيّة الى الأسلام الى وصفها بأنها "ضربة مُميتة للعقل البشري مُستمرة منذ ألفي سنة". ولا عَجَبَ بعد ذلك أن تُنادي الكنيسة بأن الإيمان لا علاقة له بالعقل. وأن تقول ،مثلاً، "أن الأيمان هو الأعتقاد رغم أن البديهة العقلية تأمرنا بأن لا نعتقد." هناك سؤال آخر لا بد من توجيهه لرجال الكنيسة هو: هل هناك دين أو أديان عند بقية الكائنات الحية غير الأنسان؟ وهل الأنسان مختلف أساساً عن بقية الأحياء بشيء غير العقل؟ فأذن لا مفرَّ من الأستنتاج أن الأنسان أصبح يؤمن بالدين لأنه يمتلك العقل. وهكذا فإن قول الكنيسة الآنف الذكر هو كلام ليس له معنى ولا يخضع لمنطق، ويتنافى أساساً مع المنطق الذي تتبعه نفس الكنيسة لإثبات وجود الخالق الأزلي.
وعلى العكس من ذلك، نرى الأسلام والقرآن على وجه الخصوص، يجعل العِلْم و المعرفة الرصينة هما السبيل القويم لمعرفة الله والوصول الى الإيمان. فهناك عشرات الآيات التي تربط بين العقل وبين الحصول على اليقين الديني.ويكفي هنا أن نسرد أمثلة قليلة كدليل على ما نقول:{إنَّ في خَلقِ السمواتِ والأرضِ واختِلافِ اللّيلِ والنهارِ والفُلكِ الّتي تَجري في البَحرِ بما يَنفعُ الناسَ وما أنزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ من ماءٍ فأحيَا بِهِ الأرضَ بعدَ مَوتِها وبثَّ فيها من كُلِّ دابّةٍ وتَصريفِ الرياحِ والسَحابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَماءِ والأرضِ لآياتٍ لقومٍ يعقلون} (البقرة-164). وخذ مثلاً آخر على ذلك: {هُوَ الّذي أنزَلَ مِنَ السَماءِ ماءً لكُم منهُ شَرابٌ ومنهُ شَجرٌ فيهِ تَسيمونَ، يُنبِتُ لكُم بِهِ الزَرعَ والزَيتونَ و النَخيل و الأعنابَ ومن كُلِّ الثَمراتِ ، إنَّ في ذلكَ لآيةً لَقَومٍ يَتَفَكَّرون. و سَخَّرَ لكُم اللَّيلَ و النَهارَ والشَمسَ والقَمَر والنُجومُ مُسَخَّراتٌ بأمرِهِ إنَّ في ذلِكَ لآياتٍ لقَومٍ يَذَّكرون} (النحل-10-13). بل أن القرآن يقول أن الله يَمقُتُ الذين لا يستخدمون عقولهم حين يُخبرنا:{ إنَّ شَرَّ الدوابِّ عِندَ اللهِ الصُمُّ البُكمُ الذّين لا يَعقِلون} (الأنفال-22). ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يذكر أن أصحاب النار هم من الذين لا يعقلون: { وقالوا لَو كُنّا نَسمَعُ أو نَعقِلُ ما كُنّا في أصحابِ السَعيرِ} (الملك-10). وقد جاء في الأثر عن الرسول (ص) :" للهِ على الناسِ حُجَّتانِ ظاهرةٌ وباطِنةٌ. فأما الحُجَّةُ الظاهِرَةُ فهي الرُسُلُ و الأنبياءُ، و أمّا الحُجَّة الباطنِةُ فهيَ العَقلُ، والعقل أيضاً هو الدليلُ على صِحِّة الحُجَّةِ الأولى".ولا نُريد هنا أن نورد أمثلة أخرى مما يَزخَر به القرآن عن أهمية العقل في التوصل الى الأيمان، ولكن القرآن يتكلم أيضاً عن "القَلْب السَليم"، وهو تعبير عن (الإحساس الصحّي) وعن العقل الذي يتدبّر ( أي الذي يُحلّل) ويعتبرهما من صفات المؤمنين الصادقين.وسوف نرى عندما نستعرض التطوّرات المعاصرة في علم النفس كيف يرتبط الأحساس feelingمع الدماغ ومع الوعيconsciousness بحيث لا يُمكن الفصل بينهما أبداً. وهكذا فأن القلب والعقل وحدة واحدة حتى من الناحية البيولوجية.ومرة أخرى يتَّضح جليّاً بُطلان دعوة من يقول: أن الإيمان لا علاقة له بالعقل. بل ان الموقف الأسلامي هو كما جاء على لسان أحد أئمة المسلمين في قوله:"لا عقل لمن لا إيمان له"، ثقةً منه بأن الأنسان العاقل المفكر لا بد له في نهاية المطاف أن يصل الى الأيمان بخالق حكيم قدير لهذا الوجود.
مُلاحظات حول الفلسفة النفعيّة و الإيجابية
وأمّا دُعاة المناهج الوضعية بما فيها النفعية الذرائعية pragmatism والأيجابية المنطقية logical positivism والتي تُنادي فقط باعتماد الأفكار التي لها قيمة عملية أو ما يثَبُت البرهان عليه فأصبحوا بصورة عملية تابعين لأصحاب التجربة وما تؤكده العلوم الطبيعية ، وبذلك أنزلوا المنهج الفلسفي من كونه "العلم الشُمولي" الذي يبحث في كل شيء الى مرتبة يكون فيها تابعاً لما تُقرّره العلوم الطبيعية التجريبية، وتصبح وظيفته هي اختيار اللغة والألفاظ التي توضِّح معاني وأهمية هذه العلوم فقط. ورغم ذلك فإن تأريخ دعاة هذا المنهج لا يخلو من الصدام والأختلافات الحادة. فممّا يُروى عن وليم جيمس إنه صرّح، وحسب مفهومه للمذهب النفعي الذرائعي الذي يقيس كل فكرة بمدى منفعتها العملية للأنسان، أن الإيمان بالله فكرة ذرائعية (عملية)pragmatic لأنها تجعل الأنسان يشعر بالطمأنينة والأرتياح. فما كان من قائد المذهب الذرائعي في زمانه شارلز ساندرز بيرس charles sanders pierce إلاّ أن أعلن براءته وبراءة المذهب الذرائعي من وليم جيمس وقام بطرده من مجموعته.، ولم يُرِدْ الأعتراف بأن الأيمان حاجة غريزية لدى الأنسان لا بد من إشباعها ليشعر الأنسان بالسعادة والطمأنينة. ونريد هنا وبمناسبة الكلام عن الفلسفة النفعية أوالذرائعية أن نذكر إن فلسفة العقيدة الأسلامية هي أيضاً في التحليل الأخير منهج نفعي هدفه إيصال الأنسان الى الراحة النفسية أو السعادة بإرشاده الى الطُرق والمَسالِك العمليّة التي توصله الى ذلك. ويتذبذب دُعاة الطريقة المنطقية الأيجابية (وهم أتباع الفرع الأوربي للطريقة الوضعية) بين الألحاد وبين اللاّأدريّة agnosticism. فهذا برتراند روسل البريطاني نراه يكتب في فترة ما من حياته حول جوهر الدين the essence of religion فيقول:
"إن نفس الأنسان هي خليط غريب من "إله" ووحش، فهي لذلك ساحة صراع بين طبيعتين: واحدة خاصّة ومحدودة ومشغولة بنفسها، والأخرى كَوْنِيِّة غير محدودة وغير مُتَحَيِّزة. والنفس المحدودة، التي يشترك فيها الأنسان والحيوان، مُرتبطة بالجسم وتنظر إلى العالم من موقف مُحدَّد مكانياً وزمانياً (كحُبِّ المرأة والرجل والتعاطُف مع الحُلفاء والأصدقاء الخ..). أما الجزء غير المحدود من حياتنا فإنه لا يرى العالَم من زاوية نظر واحدة: إنها تشعُّ بدون تمييز كالضوء الهادىء على بحر يُغطيه السَحاب. وفي أشخاص كثيرين تكون النفس المحدودة سجّاناً للنفس الكونيّة، ولكن عند بعض الأشخاص يحصل إنطلاق نادر ولمدة محدودة لهذه النفس الكونية. وفجأة يظهر الجمال في وسط الصِراع ويظهر الحب اللامحدود حتى في الرياح التي تعصِف بالأشجار ليلاً. وكل ذلك يُشير إلى إمكانيّة وجود حياة متحررة من الصِراعات ومن الصَغائر التي تزخَر بها الحياة اليومية، إنها حياة فيها سَلام من النوع الذي لا تُزعزعه المآسي والكوارث. ونَشعُر أن هكذا حياة ستكون بلا صراعات وهي في توافُقٍ مع الوجود كله خارج أسوار السجن الذي تبنيه الرغبات الغريزية للنفس المحدودة.إن هذا الشعور بالحِكمة المُفاجئة هو المصدر لما هو جوهري في الدين." ويمضي روسل في تأمّلاته فيقول:"وهذا الجمال وهذا السلام ليسا في عالَم آخر، بل أنهما يمكن العثور عليهما في هذا العالم الحقيقي الذي نعيش فيه في وسط العمل ومتطلّبات المعاش اليومي. ولكنه العالم الحقيقي كما تراه النفس الكونية، وفي وسط النشاط والحركة، كما توحي به رؤيتها. والأنتقال من حياة النفس المحدودة الى الحياة اللامحدودة يتطلب عُموماً لحظة من استسلام النفس المُطلق عندما تتوقف كل الأرادة الشخصية وتشعر النفس أنها في حالة "إستسلامٍ" غير مقاوم passive submission للوجود وللكون. إن "إسلام" النفس self surrender الذي تُولَدُ فيه النفس اللامحدودة يمكن أن يكون أكثر سهولة لبعض الناس عندما يعتقدون بإله حكيم يكون "الإسلام" له submission واجباً عليهم."
مما يُلفت النظر ان برتراند روسل يستعمل كلمة submission وتعبير self-surrender وهما المُعادلان الحرفيّان لكلمة "إسلام" في اللغة العربية. وواقعاً فإن القرآن والعقيدة الأسلامية يهدفان الى دفع كل إنسان للوصول لحالة "إسلام النفس" هذه وفي هذه الحياة الدنيا وفي هذا العالم الماثل أمامنا :{ أَفَغيرَ دينِ اللهِ يَبغونَ ولهُ أسلَمَ من في السَموات والأرضِ وإليهِ يُرجعون} (آل عمران-83) أو كما جاء في آية أخرى: {وَمَن أحسَنُ ديناً مِمّن أسلمَ وَجهَهُ للهِ وهو مُحسِنٌ} (النساء-125). فالإسلام submissionفي القرآن يعني الأستسلام غير المشروط من قبل الأنسان،كما استسلم الكون كله بغير شروط، للقوانين والنواميس التي تسيّر مصيره وتتحكّم في حركته. ولكن هذا الأستسلام يمثّل المرحلة التي تسبق الأيمان الكامل الذي يُريده القرآن. فالأنسان إذا "أسلم" نفسه وأصبح في توافق مع الكون فكأنه أصبح مُطيعاً طاعةً لا ريب فيها ولا شروط لمن أوجد هذا الكون وأوجد قوانينه. ولو استطعنا أن نستعير تعابير إجتماعية لعلاقة الأنسان بالكون لاتضح لنا أن "الإسلام" في القرآن يعني: أن يصبح الأنسان "أخاً" أو "عضواً" في المجموعة الكونية التي تخضع كلها وبدون مقاومة الى خالق هذا الكون ومُوجده.:{أَلَم تَرَ أنَّ اللهَ يَسجُدُ لهُ مَن في السَمواتِ ومَن في الأرضِ والشمسُ والقَمرُ والنُجومُ والجبالُ والشَجرُ والدوابُّ وكثيرٌ مِنَ الناسِ}.(الحج-18) وهنا نصل الى نقطة الخِلاف مع روسل والسائرين على نهجه فهو يقول:"إن إسلام النفس self-surrenderفي جوهره ليس مُعتمداً على الأعتقاد بوجود إلهٍ حكيم أو أية عقيدة أخرى. إن أديان الماضي، في الحقيقة، اعتمدت كلها الى هذا الحد أو ذاك على هذه المُسَلَّمة dogma(التي لا تقوم على بُرهان) أي على نظرية تتعلق بطبيعة وهدف الوجود.ولكن اضمحلال العقائد التقليدية جعل كل ديانة معتمدة على المُسلّمات dogmasفي موقف مُتَرجرِج أو حتى غير مُمكن بالنسبة لكثير من الناس الذين هم بطبيعتهم مُتَدينون بعُمق.وهكذا فإن أولئك الذين لا يتقبّلون عقائد الماضي، وهم في نفس الوقت مُقتنعون بأن كل توجُّه ديني ينطوي على المسلّمات ، يفتقدون ما هو غير محدود في الحياة ويُصبحون محددّين في أفكارهم بالمسائل والقضايا اليومية العادية.إنهم يفتقدون الوعي بالحياة الكُلّية ويخسرون ذلك الحس الأندماجي الذي لا يمكن التعبير عنه والذي يؤدّي إلى الرحمة وإلى خِدمة الأنسانية بغير تردّد. إنهم لا يرون في الجمال آيات مُفصحة عن مجد تراه البصيرة الثاقبة في كل شيء، أو يرون في الحب طريقاً الى ذلك العالم المُتحوّل الذي يكون فيه إتّحادنا واندماجنا مع الكون قد تحقّق. وهكذا فإن نظرتهم إلى الحياة تصبح أضيق حتى من أجزائها المحدودة."
إن كلام روسل هذا يتّفق تماماً مع ما يقوله القرآن عن الأيمان بعقيدة الأسلام، فهناك آيات كثيرة تؤيّد استنتاج روسل الأخير:{وَمَن أعرَضَ عَن ذِكري فَإنَّ لهُ معيشةً ضَنكى} (طه-124). وكذلك نقرأ في آية أخرى :{فَمَن يُرِدِ اللهُ أن يَهديَهُ يَشرَح صَدرَهُ لَلأسلامِ ومَن يُرِد أن يُضلَّهُ يَجعَل صَدرَهُ ضيِّقاً حَرَجَاً كَأنَّما يَصَّعَدُ في السَماء} (الأنعام-125). فالذي يقوله روسل عن افتقار حياة الكثيرين إلى الشعور بالأنفتاح على أعماق الحياة والأندماج في الكون الواسع المُترامي الأطراف يجد صداه الواضح البيّن في كثير من آيات القرآن. فالقرآن يصف الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون بكلمات ليست بعيدة عن استنتاجات روسل، فاستمع إليه حين يقول:{ مَثَلُ الفَريقَينِ كالأعمى والأصَمِّ والبصيرِ والسَميعِ هَل يَستَويانِ مَثَلاً أفَلا تَذَكَّرون} (هود-124). وواضح أنه من التمعّن في آيات القرآن أن هذا الشعور بالأنشراح ونقاء البصيرة والهدوء النفسي هو ما يمرُّ به الأنسان في هذا العالم وفي هذه الحياة وليس فقط ما سيلقاه في الحياة الآخرة:{مَن عَمِلَ صالحاً مِن ذَكَرٍ أو أُنثى وهُوَ مؤمِنٌ فَلَنُحيِينَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَّنَهُم أَجرَهُم بأحسَنِ ما كانُوا يَعمَلون} (النحل-97). و"الحياة الطيّبة" هي في هذه الدنيا أيضاً وليست في الآخرة فقط. وهذا ما تؤكّده آيات أخرى:{ أَلا إنَّ أولياءَ اللهِ لا خَوفٌ عَلَيْهم ولا هُم يَحزَنون. الّذينَ آمّنُوا وكانُوا يَتّقون.لَهُمُ البُشرى في الحَياةِ الدُنيا وفي الآخِرَةِ، لاتَبديلَ لِكَلِماتِ اللهِ ، ذلِكَ الفَوْزُ العَظيمُ } (يونس-62-64) وإصرار روسل على القول بأن الأديان التقليدية لا بُدَّ وأن تنطوي على مسلّمات لا تستند على أساس ولا ينهض لها برهان " ، غير واقعي. فمن المشكوك فيه كثيراً في أن يكون روسل قد قرأ القرآن أو تحرّى عن أُسس العقيدة الأسلامية بصورة متمعّنة وموضوعية كما فعل غيره من الباحثين الذين لا يرتضون بغير الحقيقة بَدَلاً.وأكبر الظَنّ أن خِلاف روسل مع العقيدة المسيحية ومسلّماتها المعروفة وعلى رأسها قضيّة تجسُد الإله جعله يسحب هذا الأنطباع وهذه المسلّمات الى كل الأديان الأخرى ويَسِمُها بنفس المَيْسَم. وليس مُستبعداً كذلك أن عُنصرية روسل، المؤسفة في مفكّر مثله، قدلعبت دوراً حال بينه وبين التعمّق في دراسة أُسس العقيدة الأسلامية وكتابها المقدّس. وماذا يُنتظر من إنسان يُعلن بكل صراحة: "إن الشعوب السامية غير قادرة على إنتاج الأفكار الفلسفية"!! وليس معروفاً إذا كان أدولف هتلر، الذي يُتّهم من قبل أدعياء الإنسانية في الغرب بأنه عنصري فاشستي، قد أباح لنفسه بأن يقول مثل هذا الكلام. ولا بُدَّ إن هذه القناعة قد جعلت روسل -وامثاله من المفكّرين الغربيين- يصدّون بعيداً عن كل الحضارة العربية -وهي طبعاً حضارة أحد الشعوب السامية بقرآنها وإسلامها ومفكريها وفلسفتها بل وإهمال ما أنتجه المفكرون المُسلمون من الشعوب غير السامية.ويُكمِل روسل نظرته العنصرية هذه بان يُصرِّح في أحد كتبه عن تأريخ الفلسفة :" إن العرب والمسلمين ليس لهم فضل في تأريخ الفكر والفلسفة سوى أنهم كانوا نَقَلَةً للفكر اليوناني الى أوربا الحديثة"!! وهذا ما ينطبق تماماً مع موقف الكنيسة والحركات العُنصرية التي كانت تهدف أساساً الى تشويه سُمعة العقيدة الأسلامية وإثارة الشعور العنصري المعادي للعرب والمسلمين في العصور الوسيطة وخصوصاً في فترة الحروب الصليبيّة. ولهذا فإن إطلاق روسل الأحكام وتعميم إنطباعه عن المسلمّات المسيحية يُعتبر نقصاً فاضِحاً في صَفحة أفكار هذا المثقّف ذي الأنتاج الواسع في العلوم والفكر الفلسفي. فعندما يرفض روسل الأفكار المسيحية واليهودية التي تنطوي على تحديد لذات الخالق وتجسيم لوجوده فإنه في الواقع يقف في صف العقيدة الإسلامية التي ترفض التجسيم والتشبيه. فالقرآن يقول عن الذات الألهية :{لا تُدرِكُهُ الأبصارُ وَهُوَ يُدرِكُ الأبصارَ وهوالَّلطيفُ الخبيرُ} (الأنعام-103). أين مضمون هذه الآية من قول بعض "الحكماء الألهيين!" المسيحيين واليهود حين يعلنون بأنه" توجد مسافة فاصلة طولها ستة آلاف فرسخ (حوالي ثلاثين ألف كيلو متر) بين إنسان العين"اليمنى و إنسان العين اليسرى للأب الخالد (وهو الله)"!! وأين آيات القرآن في صفة الله الذي {ليس كَمثلِهِ شيءٌ وهوَ السميعُ البصيرُ} وما يكون روسل قد قراه بالتأكيد عن القديّس توما الأكويني thomas aquinas الذي يُعتبر أكبر الحكماء المسيحيين في القرون الوسطى وهو مؤسّس الفلسفة الأسكولاستية (المدرسية) في تلك العصور وبقيت كتبه لمدة أربعمائة سنة هي الكتب الرسمية للمؤسسات العلمية والدينية في أوربا. لقد خصص توما الأكويني فصلاً من كتاب "المجموعة اللاّهوتية" يدور حول هذا السؤال: "ما هو عدد الملائكة التي يمكن أن تحلَّ في رأس إبرة؟"!! وإذا أضفنا ملاحقة السلطات الكنسية في أوربا لللعلماء وأصحاب الأفكار الأصلاحية في بداية عصر النهضة، فلا عجب أن نرى عزوف الباحثين والمؤمنين بالطريقة العلمية عن مناهج الكنيسة وعقائدها. ويذهب كثير من المؤرخين الغربيين الى القول بأن الكنيسة الكاثوليكية وتعاليمها ومواقفها هي السبب الأول في انتشار الأفكار الإلحادية في أوربا منذ بداية عصر النهضة. إن هذا العزوف عن الدين المسيحي هو ما يتكلم عنه روسل حين يقول:" ان أولئك الذين لا يتقبّلون عقائد الماضي، وهم في نفس الوقت مُقتنعون بأن كل توجُّه ديني ينطوي على مسلّمات لا عقلانية ، يفتقدون ما هو غير محدود في هذه الحياة". إن قناعة المثقفين الغربيين حول لاعقلانية الخطيئة الأصلية وحول لامنطقية "الخلاص salvation بتجسُّد الأله الخالق وولادته من إمرأة من بني البشر ثُمَّ صلبه وموته على الصليب هي العِلَّة الأساسية في تعميمهم هذه الأستنتاجات حول الأديان عموماً. كما أن تصديق الغربيين، بدوافع لا تخلو من العنصرية، بأن القرآن هو توراة أو إنجيل مُحرّف كتبه النبي محمد (ص) لا بد أن يكون قد لعب دوراً في عدم إلتفات المثقّفين الغربيين الىالإصالة والموثوقية التي يتميّز بها القرآن. يقول الطبيب والباحث المنُصف موريس بوكاي الفرنسي:"إن القرآن لا يحتوي على أيّة مقولة يمكن دحضها من وجهة نظر علمية معاصرة".أما في الغرب ،كما يقول بوكاي،فإن:"اليهودية والمسيحية لا تُخفيان عجزهما عن أن تتغلّبا على موجة الماديّة والغزو الإلحادي للغرب.إن كليهما قد أُخذتا على حين غَرَّة ، ومن عَقْدٍ من السنين الى آخر فأن الأنسان يرى بشكل مؤكّد كيف أن مقاومتهما تزداد ضَعفاً في وجه هذا التيّار الذي يهدّد باقتلاع كل شيء. إن الألحادي المادي يرى في المسيحية التقليدية لا شيء أكثر من نظام system أُقيم من قبل البشر خلال الألفي سنة الأخيرة مُصمّم لتأمين سلطة الأقليّة على بني جَلْدتهم من البشر الآخرين. وهو غير قادر أن يجد في الكتابات المسيحية اليهودية أية لغة تتشابه ولو من بعيد مع لغته. إنهما (المسيحية واليهودية) تتضمّنان عدداً كبيراً من المُستحيلات والأضداد والتناقُضات مع المعُطيات العلمية بحيث تجعله يرفض أن يعطي أي أعتبار لنصوص من الكتاب المقدّس ترغب الغالبية العظمى من اللاّهوتيين في أن تراها مقبولة بِرُمّتها. وعندما يُذكَرُ الأسلام للألحادي المادّي الغربي فإنه يبتسم بتعالٍ لا يُساويه إلاّ جهله بالموضوع. وهو يشترك مع الغالبية من المثقفين الغربيين ومهما يكن إنتماؤهم الديني في تجميعهم للكثير من الأفكار الملفّقة عن الأسلام." وبعد أن يؤكّد بوكاي أنه ليست هناك في القرآن أية مقولة تتنافى ونتائج العلم الحديث، نراه يلتفت الى خصيلة أخرى من خصائل العقيدة الأسلامية فيقول:" في العالم المسيحي،ولعدّة قرون، قاومت السلطات الدينية التقدّم العلمي بمبادراتها الخاصة وليس بالرجوع الى كتب دينية موثوقة. أما في حالة الأسلام فإن الموقف تجاه العلم كان، على وجه العموم، مختلفاً. فليس هناك أوضح من الحديث النبوي القائل"إطلب العلم ولو في الصين"، أو الحديث الآخر الذي يقول "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة". ومن الحقائق المهمة أن القرآن، في نفس الوقت الذي يدعونا فيه الى رعاية العلم،فإنه نفسه يحوي مُشاهدات متعددة لظواهر طبيعية ويتضّمن تفاصيل إيضاحية نراها على إتفاق تام مع الحقائق العلمية الحديثة." ويمضي الدكتور بوكاي فيقول:" ومن المؤسف إن مقاطع من القرآن، وخصوصاً تلك التي تتعلق بمُعطيات علمية، قد تُرجمت وفُسِّرت بصورة رديئة ولذلك فإن من حق العالِم أن يوجّه أنتقاداً-له ظاهرياً ما يُبرّره- بصورة لا يستحقّها القرآن.ولهذا يجب مُلاحظة هذه النقطة من الآن فصاعداً: إن عدم الدقّة في الترجمة أو التعليقات الخاطئة (وإن الواحدة متعلقة بالأخرى) التي لم تكن لتُفاجيء أحداً منذ قرن أو قرنين من الزمان أصبحت الآن تستفزّ الباحثين العلميين." ويُعزي بوكاي سبب التراجم الخاطئة الىعدم تَوَفُّق المترجمين لاختيار المعنى المناسب لكلمة عربية تشتمل على معانٍ متعددّة.ولم يكن في مقدورهم أن يفهموا المعنى الحقيقي للكلمة أو المقطع الذي أصبح مفهوماً في الوقت الحاضر فقط بفضل المعرفة العلمية.
وهكذا نرى أن عدة عوامل قد تآزرتْ وتآمرتْ على إبعاد القرآن عن أن يحظى بالمكانة التي يستحقُّها عند كثير من المثقفين الغربيين الباحثين عن الحقائق. ولكن ذلك كله لم يكن مانعاً كافياً لصد طُّلاب الحقيقة المخلصين من أمثال الطبيب الجراّح موريس بوكاي من الوصول الى هدفهم والكشف عن الحق والحقيقة التي يتكلم عنها القرآن وسوف نأتي مرة أخرى على أفكار العلاّمة بوكاي عندما يحين الكلام عن "الطريقة العلمية" في دراسة الظواهر الطبيعية..ومن المؤسف أن الفيلسوف الراحل برتراند روسل، وهو المولع بحب العلم الى درجة جعلته يعتبر أن الفلسفة يجب أن تكون جزءاً من العلوم الطبيعية، وكثيرون غيره، كان يجب عليهم أن يُلقوا نظرة غير متحيّزة على القرآن ليكتشفوا كيف أن هذا الكتاب الذي جاء قبل ما يقارب الأربعة عشر قرناً يجعل العلم والبحث عن الحقيقة هما السبيل الوحيد للوصول الى الإيمان حتّى أنه يقول{ إنَّما يَخشى اللهَ مِن عِبادِهِ العُلماءُ} (فاطر-28) ، ولكن ومع الأسف أنهم لم يكونوا من طبقة العلاّمة موريس بوكاي دامتْ إفاضاته.
لقد أطلنا بعض الشيء في مناقشة فكرة برتراند روسل عن "جوهر الدين" لأنّنا، وكما قلنا سابقاً، نراها تتفق مع رحلة الإيمان التي ينادي بها القرآن، كما ألمحنا إلى أن الطريقة الإسلامية في بلوغ سبيل السعادة والسلام والوصول الى حالة "الأسلام" submission لا تكون بالأستسلام الى الكون ، ولكن بالتسليم بدون قيد أو شرط الى القوانين التي تحكم الوجود ومكوّناته ومن جملتها الأنسان. إن إسلام النفس لهذه النواميس هو الذي يجعل الفرد منسجماً تمام الأنسجام مع كل شيء في هذا الكون.والعقيدة الأسلامية ترى ان المرحلة التالية والأخيرة، وهي عبادة خالق هذه النواميس يكون من تحصيل الحاصل. فالإسلام القرآني يؤكّد المبدأ العقلي البديهي القائل بأن "لكُلِّ أثرٍ سبباً أو عِلّة"، ولا يمكن ان يكون كل هذا الوجود هو نتاج الصدفة العمياء البحتة، التي يُصرِّح بها المُلحدون، وأن النواميس الطبيعية التي يخضع لها كل شيء ، والتي يجب أن يخضع لها الأنسان إذا أراد أن يتذوّق الحياة بكل عمقها ومتعتها، لا بُدَّ لها من خالق قدير حكيم.ومن المفيد أن نؤكّد هنا أن القرآن وأحاديث الرسول (ص) وإئمة المسلمين تُحرّم وصف الله بصفات المخلوقين ولنستمع الى ما جاء عن الأمام علي بن أبي طالب حين يقول:"...فَمَن وَصَفَ اللهَ سُبحانَهُ فَقَد قَرَنَهُ، وَمَن قَرَنَهُ فَقَد ثَنّاهُ، ومَن ثنّاهُ فَقَد جزّّأهُ، ومَن جزّأهُ فَقدَ جهِلَهُ، ومَن جهِلَهُ فقَد أشارَ إليهِ، ومَن أشارَ إليهِ فَقَد حَدَّهُ، ومَن حَدَّهُ فقَد عَدَّهُ، ومَن قال "فيمَ؟" فقَد ضَمَّنَهُ، ومَن قال "عَلامَ؟" فقَد أخلى مِنهُ. كائِنٌ لا عَن حَدَثٍ، مَوجودٌ لا عن عَدَمٍ، مَعَ كُلِّ شَيءٍ لا بِمُقارَنَةٍ، وَغَيرُ كُلِّ شَيءٍ لا بِمُزايَلَةٍ، فاعِلٌ لا بِمعنى الحَرَكاتِ والآلَةِ، بَصيرٌ إذْ لا مَنظورَ إليهِ مِن خلقِهِ، مُتَوَحَّدٌ إذ لا سَكَنَ يَستأنسُ بهِ ولا يَستوحِشُ لِفَقدِهِ، أنشأَ الخَلقَ إنشاءً، وابتَدأهُ إبتداءً بِلا رَوِيّةٍ أجالَها ولا تَجرِبَةٍ إستَفادَها ، ولا حَرَكَةٍ أحدَثَها ولا هُمامَةَ نَفسٍ اضطَرَبَ فيها..."ومرة أخرى لا بد من إعادة القول أن أُسس الدين الأسلامي، كما يجهر به القرآن، لا ينطوي على مُسلّماتdogmas (كما هو الحال في المسيحية ) لا يستطيع الأنسان أن يفهمها أو أن تكون خارجة عن طبيعته أو إمكانيّته، وسنرى في بحث لاحق كيف أن الأسلام لا يشترط أن يكون الأنسان كائِناً غير نفسه لينتقل من الظُلمات الى النور ويُصبح مؤهّلاً لدخول الجنّة والفَوْز بالفردوس المُستديم.
ملاحظه :يتبع الجزء الثالث
مع أجمل وارق ألأمنيات.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح