فالإنسان يتوجه بوعيه نحو الموضوع الخارجي الذي يوجد بمعزل عنه. وما دام الموضوع يستمد وجوده من فعالية وعي الذات، فإنه لا يُعدُّ، بالنسبة لبرنتانو، واقعاً بقدر ما هو ظاهرة فريدة. وفي ذات الوقت يرجع الذات بدوره إلى نظام الوقائع الذي يحمل مقوماته بذاته دون أن يكون لذلك ارتباط بأي شيء خارجي. وبذا يخلع برنتانو على النشاط النفسي أو الفعالية الواقعية لسلوك الإنسان صفة روحية بحتة ليس لها أية جذور في العلاقات العملية القائمة بين الإنسان والعالم.
وعلى هذا النحو يحدد برنتانو دائرة اهتمام علم النفس في دراسة الأفعال العقلية للذات(تكوين الصور الذهنية والحكم عليها وتقويمها) مستبعداً موضوع الإحساسات لأنها- كما يقول- ليست ظاهرة عقلية في حد ذاتها.
إن إبراز برنتانو للأفعال العقلية يجعله مؤسس ما عُرف بـ"علم نفس الفعل" الذي يعارض نظرية فوندت التي عرفت فيما بعد بالبنيوية. والواقع أن مصطلح "علم نفس الفعل" لا يعبّر إلا عن جانب من نظرية برنتانو. بينما يغفل الجانب الآخر مع ما يحمله من أهمية على صعيد تطور علم النفس. وهذا الجانب يتمثل في اتجاه الأفعال التي تعالج بها الذات الموضوع والوظائف التي تؤديها أثناء ذلك.
وللإحاطة بهذين الجانبين والجمع بينهما في وحدة عضوية، كما هو وارد في كتاب برنتانو، ولأهمية عمل كهذا على صعيد تطور الوعي يفضل الكثير من مؤرخي علم النفس استخدام مصطلح "النظرية الوظيفية" بدلاً من "علم نفس الفعل". وهم في هذا الصدد يؤكدون على اعتبار تعاليم برنتانو مصدراً من مصادر الاتجاه الوظيفي في علم النفس. ولهذا يصبح من الموضوعي الحديث عن "وظيفية" برنتانو مقابل "بنيوية" فوندت. وبالنظر لتعددية استخدام مصطلحي "الوظيفة" و"البنية" والمعاني الكثيرة التي يحملانها، فإنه من الضروري تبيان ما يتضمنه كل منهما في هذا المقام.
إن انتماء فوندت إلى المذهب البنيوي يفسره انشغاله بالبحث عن مركبات الوعي وعناصره، واعتباره ذلك المهمة الأساسية التي يتوجب على السيكولوجي الاضطلاع بها. في حين تتجلى وظيفية برنتانو في علم النفس من خلال نشاط الوعي الذي بنى عليه نظريته ورؤيته لهذا النشاط كوظيفة تقوم بها الذات لدى توجهها نحو الموضوع. وهنا يبدو واضحاً أن مهمة السيكولوجي لا تكمن في دراسة عناصر الوعي، وإنما في وصف الوقائع والأفعال الذهنية.
وعلى الرغم من تباين موقف كل من برنتانو وفوندت إزاء موضوع علم النفس، إلا أن النظرة المتأنية والقراءة الفاحصة لأعمالهما تبرز اتفاقهما المبدئي حول اعتبار الوعي مادة العلم الجديد. وهذا ما تؤكده تفسيراتهما للوعي من منطلق الاستبطانية. فقد رأينا كيف أن فوندت يعتمد في تفسيره للظواهر النفسية على منهج الاستبطان المعدل والتجهيزات المخبرية تجسيداً لاعتقاده بأن علم النفس هو علم تجريبي. ولا يقف برنتانو بعيداً عن ذلك، حيث يشدد على ضرورة استخدام المنهج التجريبي في الدراسة النفسية، مضيفاً إلى ذلك طريقة الملاحظة باعتبار أن علم النفس هو علم الملاحظة. فالملاحظة، كما يراها برنتانو، تمكن الباحث من الوقوف على عمليات الوعي بصورة دقيقة في مجراها الطبيعي. وهو ما يسقطه تحليل الوعي في ظروف التجربة المخبرية.
ويعني ذلك أن برنتانو لم يكن تجريبياً كما كان فوندت. ولكنه كان متمسكاً بدور تتبع الوعي بكليته عن طريق الملاحظة وإخضاع وقائعه للتجربة.
إن التقاء الرجلين واتفاقهما حول هذه النقطة يعكسان تطابق منطلقاتهما فيما يتعلق بنشأة الوعي ومحدداته. فهما ينظران إليه بوصفه جوهراً قائماً بذاته، مغلقاً على العالم الخارجي، مستقلاً عن حوادثه وظواهره.
وعلى كل حال فقد كان دور فوندت وبرنتانو في نشأة علم النفس واستقلاله واضحاً، وتأثيرهما على العديد من الاتجاهات في الفكر السيكولوجي عقوداً من الزمن مباشراً وملموساً. وهذا ما يدركه المرء من خلال مواقف وأعمال عشرات الباحثين والعلماء التي ألّفت بوزنها النوعي محطات رئيسية على طريق تطور هذا العلم واتساع ميادينه. فمخبر فوندت شجع الذين عملوا فيه على تأسيس مخابر مشابهة في بلدانهم مكنتهم من تطوير أفكار معلمهم في اتجاهات شتى. وقاعة برنتانو كانت تضم طلاباً ممن وجدت أفكاره صدى عميقاً وإيجابياً لديهم. فكانت أرضية لنشوء أكثر من نظرية في علم النفس. ومن أبرز من تأثر به هو سرل مؤسس المذهب الفنومنولوجي وك. شتومبف وت. ليبس في ألمانيا وهـ. أهرنفست وأ. مينونغ في النمسا، وجيمس واردوغ ستوت، ومن ثم سبيرمان في انكلترا.
ولئن كان الصراع من أجل استقلال علم النفس في المراحل السابقة قد اتخذ طابعاً فردياً، فإنه خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر بدأ يعرف أشكالاً من التنظيم الجماعي ساعدت إلى حد بعيد في ولادة هذا العلم وتحديد مادته ومناهج البحث فيه وعلاقته بالعلوم الأخرى. وهذا ما يفسر ظهور أقسام مستقلة لعلم النفس في جامعات أوربة الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في الفترة المذكورة، وكذا انعقاد عدد من المؤتمرات الدولية لعلم النفس، كان أولها المؤتمر الذي عقد في باريز عام 1889 بمبادرة من جمعية علماء النفس الفيزيولوجي لمدينة باريز. وحضر هذا المؤتمر عدد من العلماء المعروفين على المستوى العالمي، أمثال هيلمهولتز وغيرينغ وجانيه وبافلوف وبختيرف وغيرهم. وناقش المشاركون فيه عدداً من الموضوعات المتعلقة بعلم النفس الفيزيولوجي.
وبعد ثلاث سنوات، أي عام 1892 عقد المؤتمر الثاني في لندن، وخصص لمناقشة مسائل علم النفس التجريبي. وكان من أبرز المشاركين في أعماله ج. بلدوين(الولايات المتحدة) وش. ريشي(فرنسا) ون. لانج(روسيا).
وفي عام 1896 عقد المؤتمر الثالث في مدينة ميونيخ، وتوزعت موضوعاته على ثلاثة محاور: علم النفس الفيزيولوجي وعلم النفس العام، وعلم النفس المرضي. وفيه انقسم المشاركون حول علم النفس الاستبطاني بين مؤيد ومعارض.
وأثناء المؤتمر الرابع الذي عقد عام 1900 في باريز برز توجه لدى المؤتمرين نحو تطوير المنهج التجريبي في ميدان علم النفس التكويني وعلم النفس التطبيقي. وحاول ريبو(رئيس المؤتمر) وهـ. ابنغهاوس وغيرهما التدليل على أن توطيد علاقة علم النفس بفيزيولوجيا الأعصاب، وتوسيع مجالات البحث التجريبي يضمنان تقدم هذا العلم في القرن العشرين.
كما تجلت تلك الأشكال الجماعية في صدور المجلات والدوريات التي تعالج قضايا علم النفس، وتناقش نتائج البحوث التجريبية. فقد صدر عام 1890 العدد الأول من "مجلة علم النفس" في ألمانيا بفضل تضافر جهود كل من هيلمهولتز وغيرينغ وفون كريس وإشنر وإبنغهاوس(رئيس التحرير) وليبس وميولروشتومبف(أعضاء هيئة التحرير). وأعقب ذلك صدور عشرات المجلات والنشرات الدورية في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية.
بوح الروح
وعلى هذا النحو يحدد برنتانو دائرة اهتمام علم النفس في دراسة الأفعال العقلية للذات(تكوين الصور الذهنية والحكم عليها وتقويمها) مستبعداً موضوع الإحساسات لأنها- كما يقول- ليست ظاهرة عقلية في حد ذاتها.
إن إبراز برنتانو للأفعال العقلية يجعله مؤسس ما عُرف بـ"علم نفس الفعل" الذي يعارض نظرية فوندت التي عرفت فيما بعد بالبنيوية. والواقع أن مصطلح "علم نفس الفعل" لا يعبّر إلا عن جانب من نظرية برنتانو. بينما يغفل الجانب الآخر مع ما يحمله من أهمية على صعيد تطور علم النفس. وهذا الجانب يتمثل في اتجاه الأفعال التي تعالج بها الذات الموضوع والوظائف التي تؤديها أثناء ذلك.
وللإحاطة بهذين الجانبين والجمع بينهما في وحدة عضوية، كما هو وارد في كتاب برنتانو، ولأهمية عمل كهذا على صعيد تطور الوعي يفضل الكثير من مؤرخي علم النفس استخدام مصطلح "النظرية الوظيفية" بدلاً من "علم نفس الفعل". وهم في هذا الصدد يؤكدون على اعتبار تعاليم برنتانو مصدراً من مصادر الاتجاه الوظيفي في علم النفس. ولهذا يصبح من الموضوعي الحديث عن "وظيفية" برنتانو مقابل "بنيوية" فوندت. وبالنظر لتعددية استخدام مصطلحي "الوظيفة" و"البنية" والمعاني الكثيرة التي يحملانها، فإنه من الضروري تبيان ما يتضمنه كل منهما في هذا المقام.
إن انتماء فوندت إلى المذهب البنيوي يفسره انشغاله بالبحث عن مركبات الوعي وعناصره، واعتباره ذلك المهمة الأساسية التي يتوجب على السيكولوجي الاضطلاع بها. في حين تتجلى وظيفية برنتانو في علم النفس من خلال نشاط الوعي الذي بنى عليه نظريته ورؤيته لهذا النشاط كوظيفة تقوم بها الذات لدى توجهها نحو الموضوع. وهنا يبدو واضحاً أن مهمة السيكولوجي لا تكمن في دراسة عناصر الوعي، وإنما في وصف الوقائع والأفعال الذهنية.
وعلى الرغم من تباين موقف كل من برنتانو وفوندت إزاء موضوع علم النفس، إلا أن النظرة المتأنية والقراءة الفاحصة لأعمالهما تبرز اتفاقهما المبدئي حول اعتبار الوعي مادة العلم الجديد. وهذا ما تؤكده تفسيراتهما للوعي من منطلق الاستبطانية. فقد رأينا كيف أن فوندت يعتمد في تفسيره للظواهر النفسية على منهج الاستبطان المعدل والتجهيزات المخبرية تجسيداً لاعتقاده بأن علم النفس هو علم تجريبي. ولا يقف برنتانو بعيداً عن ذلك، حيث يشدد على ضرورة استخدام المنهج التجريبي في الدراسة النفسية، مضيفاً إلى ذلك طريقة الملاحظة باعتبار أن علم النفس هو علم الملاحظة. فالملاحظة، كما يراها برنتانو، تمكن الباحث من الوقوف على عمليات الوعي بصورة دقيقة في مجراها الطبيعي. وهو ما يسقطه تحليل الوعي في ظروف التجربة المخبرية.
ويعني ذلك أن برنتانو لم يكن تجريبياً كما كان فوندت. ولكنه كان متمسكاً بدور تتبع الوعي بكليته عن طريق الملاحظة وإخضاع وقائعه للتجربة.
إن التقاء الرجلين واتفاقهما حول هذه النقطة يعكسان تطابق منطلقاتهما فيما يتعلق بنشأة الوعي ومحدداته. فهما ينظران إليه بوصفه جوهراً قائماً بذاته، مغلقاً على العالم الخارجي، مستقلاً عن حوادثه وظواهره.
وعلى كل حال فقد كان دور فوندت وبرنتانو في نشأة علم النفس واستقلاله واضحاً، وتأثيرهما على العديد من الاتجاهات في الفكر السيكولوجي عقوداً من الزمن مباشراً وملموساً. وهذا ما يدركه المرء من خلال مواقف وأعمال عشرات الباحثين والعلماء التي ألّفت بوزنها النوعي محطات رئيسية على طريق تطور هذا العلم واتساع ميادينه. فمخبر فوندت شجع الذين عملوا فيه على تأسيس مخابر مشابهة في بلدانهم مكنتهم من تطوير أفكار معلمهم في اتجاهات شتى. وقاعة برنتانو كانت تضم طلاباً ممن وجدت أفكاره صدى عميقاً وإيجابياً لديهم. فكانت أرضية لنشوء أكثر من نظرية في علم النفس. ومن أبرز من تأثر به هو سرل مؤسس المذهب الفنومنولوجي وك. شتومبف وت. ليبس في ألمانيا وهـ. أهرنفست وأ. مينونغ في النمسا، وجيمس واردوغ ستوت، ومن ثم سبيرمان في انكلترا.
ولئن كان الصراع من أجل استقلال علم النفس في المراحل السابقة قد اتخذ طابعاً فردياً، فإنه خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر بدأ يعرف أشكالاً من التنظيم الجماعي ساعدت إلى حد بعيد في ولادة هذا العلم وتحديد مادته ومناهج البحث فيه وعلاقته بالعلوم الأخرى. وهذا ما يفسر ظهور أقسام مستقلة لعلم النفس في جامعات أوربة الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في الفترة المذكورة، وكذا انعقاد عدد من المؤتمرات الدولية لعلم النفس، كان أولها المؤتمر الذي عقد في باريز عام 1889 بمبادرة من جمعية علماء النفس الفيزيولوجي لمدينة باريز. وحضر هذا المؤتمر عدد من العلماء المعروفين على المستوى العالمي، أمثال هيلمهولتز وغيرينغ وجانيه وبافلوف وبختيرف وغيرهم. وناقش المشاركون فيه عدداً من الموضوعات المتعلقة بعلم النفس الفيزيولوجي.
وبعد ثلاث سنوات، أي عام 1892 عقد المؤتمر الثاني في لندن، وخصص لمناقشة مسائل علم النفس التجريبي. وكان من أبرز المشاركين في أعماله ج. بلدوين(الولايات المتحدة) وش. ريشي(فرنسا) ون. لانج(روسيا).
وفي عام 1896 عقد المؤتمر الثالث في مدينة ميونيخ، وتوزعت موضوعاته على ثلاثة محاور: علم النفس الفيزيولوجي وعلم النفس العام، وعلم النفس المرضي. وفيه انقسم المشاركون حول علم النفس الاستبطاني بين مؤيد ومعارض.
وأثناء المؤتمر الرابع الذي عقد عام 1900 في باريز برز توجه لدى المؤتمرين نحو تطوير المنهج التجريبي في ميدان علم النفس التكويني وعلم النفس التطبيقي. وحاول ريبو(رئيس المؤتمر) وهـ. ابنغهاوس وغيرهما التدليل على أن توطيد علاقة علم النفس بفيزيولوجيا الأعصاب، وتوسيع مجالات البحث التجريبي يضمنان تقدم هذا العلم في القرن العشرين.
كما تجلت تلك الأشكال الجماعية في صدور المجلات والدوريات التي تعالج قضايا علم النفس، وتناقش نتائج البحوث التجريبية. فقد صدر عام 1890 العدد الأول من "مجلة علم النفس" في ألمانيا بفضل تضافر جهود كل من هيلمهولتز وغيرينغ وفون كريس وإشنر وإبنغهاوس(رئيس التحرير) وليبس وميولروشتومبف(أعضاء هيئة التحرير). وأعقب ذلك صدور عشرات المجلات والنشرات الدورية في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية.
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح