التضحيه عند الكائنات الحيه غير البشريه (الجزء الاول )
الأعشاش المبنية للصغار والمجهزة بجميع وسائل الرّاحة
هناك دور كبير للمنازل والأعشاش التي تبنيها الحيوانات في رعاية وتنشئة الصغار، وهناك أساليب مختلفة باختلاف أنواع الحيوانات في طريقة إنشاء هذه الأعشاش بتفاصيل تقنية باهرة، وفي أحيان كثيرة تتصرف الحيوانات مثل مهندس معماري بارع، وتعمل على شاكلة بنّاء ماهر في عمله، وتجد حلاّ لكل مشكلة قد تواجهها أثناء البناء تماما مثل المهندس ومثل أخصائي في الديكور حيث تقوم بتوفير ما يلزم لداخل العش، وفي أحيان كثيرة أخرى تعمل هذه الحيوانات ليل نهار للإعداد لهذه الأعشاش، وإذا كان لهذه الحيوانات أزواجا فتقوم بتوزيع الادوار و التعاون في صورة مثيرة للإعجاب. ومن أكثر الأعشاش والمنازل التي يعتنى بها عناية خاصة من قبل البالغين هي التي تنشأ لاستقبال الصغار الجدد . والتقنية التي تستخدمها هذه الكائنات غير العاقلة تثير الإعجاب و الدهشة في آن واحد، ويتضح ذلك من خلال الأمثلة التي سنوردها في الصفحات القادمة , و سيتضح كذلك أن هذه الأعشاش والمنازل لا يمكن أن تنشأ اعتمادا على الذكاء المتواضع لهذه الحيوانات، و من الجدير بالذكر أن هذه الحيوانات، تخطط وتخطو مراحل متعددة قبل الشروع في بناء أعشاشها أو منازلها لوضع بيضها أو ولادة صغارها، كذلك تختار هذه الحيوانات المكان الأمثل والأكثر أمنا لإنشائها, فهذه الحيوانات لا تنشئ منازلها عبثا و أينما اتفق. وطريقة بناء العش أو المسكن يتم اختياره من قبل الحيوان أو الطير وفقا للمواد الأولية المتوفرة وظروف البيئة الخارجية، فمثلا تستخدم الطيور البحرية الأعشاب البحرية التي تطفوا على سطح الماء وتقاوم الأمواج في بناء أعشاشها، أمّا الطيور التي تعيش في مناطق الأعشاب الطويلة فتنشئ أعشاشا عميقة و واسعة لتفادي السقوط عند هبوب الرياح، والطيور الصّحراوية تبني أعشاشها على قمم النباتات التي تمتاز بانخفاض درجة حرارتها أقل بعشر درجات عن درجة المحيط، وإلاّ فإنّ درجة حرارة اليابسة تربو على 45ْ وهي تؤدي حتما إلى موت الأجنة الموجودة داخل البيض .
و يتطلب اختيار المكان المناسب لبناء العش ذكاء ومعرفة واسعة، إلاّ أن هذه المخلوقات لا تستطيع أن تتوقع مدى الضرر الذي سيلحق بمنازلها بتأثير الأمواج العاتية أو درجة الحرارة العالية للبيئة الصحراوية. والظاهر للعيان أن هناك مخلوقات غير عاقلة ولا منطق لها إلا أنها تسلك سلوكا عاقلا و منطقيا، وبمعنى آخر مخلوقة على هذه الصورة الكاملة، والكمال في الخلق لا يوجد إلا لله وحده .
ويحظى الصّغار بعد فقس البيض أو لحظة الولادة بعناية بالغة، ويقضي الكبار من الحيوانات أو الطيور وقتا كبيرا في الحفاظ على حياة الأبناء ولا تكتفي في ذلك ببناء المنازل وإنمّا تبني أعشاشا وهمية لمجرد التمويه بهدف لفت الانتباه إلى هذه الأعشاش الوهمية حفاظا على حياة الصغار من خطر الأعداء. و لا شك أن هذا النمط السلوكي ليس من بناة أفكار الحيوان و لانابعا من ذكائه. وهناك أسلوب آخر للتمويه تستخدمه الحيوانات وهو بناء الأعشاش بين أغصان الأشجار الكثيفة الأوراق أو فوق النباتات الشوكية، وبعض أنواع الحيوانات تنشئ لها أوكارا خاصة تبيض فيها وترقد على بيضها وتقوم بإنشاء جدار خاص لمدخل هذا الوكر باستخدام الطين الموجود في البيئة الخارجية وإذا لم يوجد تقوم بإفراز سائل خاص تخلطه مع كمية من التراب لإعداد الطين اللازم لإنشاء هذا الجدار الواقي.
وأغلب أنواع الطيور تبني أعشاشها غريبة الشكل باستخدام ألياف النباتات أو الأعشاب والحشائش البرية المتوفرة في البيئة، والجدير بالذكر أن الطير الّذي سيبيض لأول مرة في حياته يبني عشه بإتقان بالغ دون أن يكون له سابق معرفة أو خبرة ببناء الأعشاش .
بلا شك أن هذه القابليات الفذة للكائنات الحية لم تشكل من تلقاء ذاتها، إذن ما هي القدرة التي علّمت هذه الطيور والكائنات الحية بناء منازلها بهذه الكيفية المدهشة ؟ كيف تكتسب الكائنات الحية هذه القابلية مرة واحدة ؟ .
و هناك أمر آخر يحسن الإطلاع عليه و يتعلق بقابليات الكائنات الحية وهو كون الكائن الحي على علم تام بكيفية بناء العش أو المسكن بالكيفية الخاصة بنوعه والمتميز بها عن الأنواع الأخرى اعتبارا من أول لحظة له في هذه الحياة، وكل نوع من أنواع الحيوانات يبني منزله بالكيفية نفسها في أية منطقة من مناطق العالم, وهذا دليل واضح على أن هناك قوة واحدة تمنح هذه المخلوقات القابلية والمعرفة الخاصة بالحياة. بلا شك إنّ صاحب هذه القوة التي لا حد لها والعلم الّذي وسع كل شئ هو الله سبحانه وتعالى الّذي يلهم مخلوقاته ويمنحها هذه القابليات الفذة. واللافت للنظر عند دراسة كيفية بناء الحيوانات لمنازلها ليس فقط التخطيط البارع وإنما التضحية والتعاون اللّذين يبديهما كل من الذكر والأنثى في البناء، وعلى سبيل المثال تنشئ الطيور أعشاشها الخاصة بها بكل اعتناء واهتمام ولا تكتفي بذلك بل تنشئ أعشاشا أخرى كجهد إضافي للتمويه (28).
ولو تمعّنا في عملية إنشاء الطيور لأعشاشها لأدركنا مدى الصعوبات التي تلاقيها والجهد الظخم الذي تبذله والتفاني الذي تبديه في سبيل إتمام بناء هذه الأعشاش. فالطير الواحد يقوم بعدة مئات من رحلات الطيران في سبيل إنشاء عش للتمويه فقط فما بالك بالجهد اللازم لبناء العش الحقيقي، والطير لا يستطيع أن يحمل في منقاره سوى قطعة أو قطعتين من المواد اللازمة لبناء العش من أغصان أو غيرها، ولكن هذا الأمر لا يثير في الطير الشعور بالملل و إنما بالعكس من ذلك يثابر على العمل بكل صبر ،وإذا شعر بتعب أو إرهاق لا يترك العمل ولا يترك ما في منقاره ولا يهمل أي تفصيل من التفاصيل اللازمة لبناء العش. وحسب ادعاء داروين, في قانون الانتخاب الطبيعي لا تفكر الكائنات الحية إلا في نفسها و بمنتهى الأنانية. ولو كان الوسط الذي تعيش فيه مسرحا للحرب كما يدعي هو ومؤيدوه لما قامت هذه الكائنات الحية ببذل هذا الجهد الظخم والمثير للإعجاب في سبيل الحفاظ على الكائنات الصغيرة الضعيفة؟ هذه الأسئلة و غيرها يحتار القانون الطبيعي لداروين في الإجابة عليها وتعجز أمامها نظرية التطور وادعاءات الملحدين. والجواب الوحيد على كل هذه الأسئلة هو أنّ الله وحده منح هذه المخلوقات صفات التضحية والصبر والثبات والمثابرة والعزم فيلهمها هذه الصفات ليحمي القوي منها الضعيف وليستمر التوازن في الطبيعة وليستمر نسل الكائنات ولتكون هذه البنوراما الطبيعية دليلا حيا وملموسا على قدرة الله عز وجل أمام جحود بني آدم.
في الصفحات القادمة سترد أمثلة على قابلية الكائنات الحية على التخطيط المعماري و ألقيام بالديكور خصوصا الطيور التي يحتاج صغارها وبيضها إلى عناية فائقة في أعشاشها، لذا يلهمها الله سبحانه وتعالى كل ما تحتاجه ويتلاءم مع عملية بناء الأعشاش.
كيف تبني الطيور أعشاشها الفخمة؟
تعرف الطيور على أنها من أبرع الكائنات الحية في بناء أعشاشها، ولكل نوع من أنواع الطيور طريقة في بناء عشه ولا يخطئ أبدا في بناء العش حسب الطريقة التي اعتاد عليها. و أهم سبب لإنشاء الطيور أعشاشها كون بيضها وفراخها التي تخرج من البيض بعد فقسها على درجة كبيرة من الضعف، وخصوصا عندما تذهب الأم للصيد, فالصغار يبقون بدون أية وسيلة للدفاع عن النفس، ولكن المكان الذي يتم اختياره لبناء العش يعتبر الوسيلة للدفاع مثل قمم الأشجار والثقوب الموجودة في جذوعها أو سفوح الجبال والتلال وكذلك بين الأعشاب إذ يتم إخفاء العش بمنتهى البراعة والإتقان حفاظا على حياة الصغار .
والدور الثاني والمهم للعش هو الحفاظ على الصغار من تأثير البرد القارس لأن الصغار يخرجون من البيض بدون ريش إضافة إلى عدم قدرتهم على الحركة بحرية و بالتالي عدم استطاعتهم تحريك عضلاتهم بسهولة، لذا تكون الطيور مجبرة على بناء أعشاشها بمنأى عن البرد حفاظا على الصغار. وأبسط مثال على هذه الأعشاش " العش المحاك "فهو يوفر الدفء اللازم للصغار, وبناء هذه الأعشاش صعب للغاية ويتطلب دقة متناهية, فالأنثى تقوم ببناء هذا النوع من العش في فترة طويلة وبجهد بالغ وتقوم بفرش داخل العش بالريش والشعر والألياف لعزلها عن التأثيرات الحرارية للبيئة الخارجية (29). وتوفير المواد الأولية لبناء أي نوع من أنواع الأعشاش يعتبر خطوة مهمة جدا، وتقوم الطيور طيلة اليوم بجمع هذه المواد الأولية فمناقير الطيور ومخالبها مخلوقة لتلائم هذه المهمة. وعملية بناء العش مهمة الأنثى أما مهمة الذكر فتتمثل في اختيار المكان الملائم. وتستفيد الطيور في بناء أعشاشها من مواد أولية مثل الطين و الورق النباتي اللبلاب وحتى الشعر أو الورق، وخصائص أي عش تعتمد على المواد الأولية المستعملة وعلى الطريقة التي يستخدمها ذلك الطير في بناء عشه. وتبنى الأعشاش اعتمادا على مرونة المواد الأولية ومتانتها وصلابتها، فالطيور تختار المواد التي يمكن طيها أو مدها عند بناء العش. والتنوع في هذه المواد يجعل العش أكثر أمنا للفراخ, فخلط الطين والألياف يحول دون حدوث أي فطر في جدران العش.
والطيور بعد أن تجمع المواد الأولية تبدأ بتكوين الخليط اللازم لبناء العش، والطير الذي يتبع هذه الوسيلة في البناء هو الخطاف أو النون الذي يبني عشه على حافة الهاوية أو على جدران المباني والباحات الخارجية فيقوم بلصق عشه بجدرانها بنوع من الخيلط اللاصق، وهذه الخليط يحصل عليه بطريقة عملية جدا, فأولا يقوم بجمع الطين والرماد في منقاره ويحملهما إلى المكان الذي أزمع بناء العش فيه ومن ثم يجعل الطين مزيجا لزجا بعد إفراز مواد خاصة ويمسح سطح الهاوية بهذه المادة اللزجة حتى يعطي العش الشكل النهائي على شكل أصيص مدور مجوف و يملأ داخل الأصيص بالحشيش والطحلب والريش وغالبا ما يبني عشه تحت نتوء صخري كي تحميه الصخرة من تأثير الأمطار المتساقطة التي ربما تزيل تماسك الطين المتين الذي يؤدي إلى هدم العش برمته (30).
وبعض الطيور التي تعيش في جنوب إفريقيا وتدعى بـأنثوسكويوس تبني عشها من قسمين, القسم الأول منه لحضن البيض, وهناك مدخلان للعش أحدهما سري والآخر للتمويه ضد خطر الأعداء (31). من جانب آخر يقوم أحد الطيور في أمريكا من جنس sar?asmag?ller ببناء عشه بالقرب من خلية النحل البري لأن هذا النحل يحول دون اقتراب الأعداء المشتركين كالأفاعي والببغاء والقرود وخصوصا أحد أنواع البعوض الذي يشكل خطرا بالنسبة إلى هذه الطيور (32). وبذلك تنجح الأم في الحفاظ على حياة صغارها من خطر الأعداء .
الأعشاش التي تخيطها الطيور الخياطة
يتميز منقار طير الخياط الهندي بدقة شكله كإبرة الخياطة، والمواد الأولية التي يستخدمها في خياطة عشه تتمثل في خيط نسيج العنكبوت والزغب الذي يحيط ببعض أنواع البذور إضافة إلى ألياف خاصة بقشور الأشجار. ويقوم هذا الطير بجمع أوراق الأشجار الواحدة فوق الأخرى متراصة وبعد ذلك يقوم بثقب حواف هذه الأوراق الواحدة تلو الواحدة بمنقاره المدبّب ومن ثم يدخل نسيج العنكبوت أو اللّيف الذي جمعه في هذه الثقوب ويعقدها كي يمنع سقوط الأوراق، ويكرر العملية نفسها في الجهة المقابلة حتى يجعل الورقتين النباتيتين متلاصقتين تماما وفي خطوة لاحقة يقوم بتدوير هاتين الورقتين المتلاصقتين حول بعضما البعض مثلما يصنع العقد، ويفرش داخل هذا العش الورقي بالحشيش (33), وأخيرا يخيط هذا الطير جزءا إضافيا داخل العش يخصصه لأنثاه لتضع فيه بيضها بأمان (34).
الطيور النسّاجة
تعتبر أعشاش الطيور النسّاجة من أغرب أنواع الأعشاش في عالم الحيوان, وهذه حقيقة يؤكدها علماء الأحياء, فهذه الطّيور تقوم بجمع الألياف النّباتية أو سيقان النباتات الرفيعة لتستخدمها في نسيج أعشاشها و تتميز هذه الأعشاش بمتانة جدرانها المنسوجة من هذه المواد الأولية.
وأول عمل يقوم به الطائر النسّاج هو جمع المواد الأولية اللازمة، وتتألف من أجزاء رفيعة يقطعها من الأوراق النباتية الطّرية أو عروقها الرئيسية، و سبب اختياره للأوراق الطرية بدلا من اليابسة يرجع إلى سهولة تشكيلها لطراوتها ومرونتها. ويقوم الطير بعد ذلك بلف الجزء الرفيع الذي أخذه حول غصن شجرة متعدد الفروع مستخدما أحد ساقيه لتثبيت أحد طرفي اللّيف على الغصن ومنقاره للقيام بعملية اللّف، وللحيلولة دون سقوط هذه الحبال الليفية يقوم الطير بربطها ببعضها البعض من تكوين عقد محكمة، و في المرحلة الأولى يقوم الطير بإنشاء حلقة ليفية وتعتبر مدخلا إلى العش, ثم يقوم لاحقا بتمرير الأجزاء الورقية الرفيعة من بين هذه الحبال الليفية بواسطة منقاره وبطريقة متناوبة مرة من فوق ومرة من تحت ويقوم بين الحين والآخر بشدّ هذه الأجزاء التي وقع تمريرها لجعل النّسيج أكثر متانة. وبأسلوب بارع يقوم الطير بتكوين منحنيات أو نتوءات في جدران العش لجعله متماسكا و متوازنا.
وعندما ينتهي الطير من إنشاء المدخل اللازم لعشه يبدأ بنسج الجدران و في هذه الحالة يقف مقلوبا أو رأسا على عقب ويواصل بالعمل من داخل العش، ويسحب الليف الورقي بمنقاره تحت الحبال الليفية ويمسك طرفه الخارجي بدقة ومن ثم يشده شدّا محكما، وبهذه الطريقة يجعل للعش نسيجا غاية في الإتقان (36). ومما يلاحظ هنا أن الطير النساّج يعمل وكأنه يخطط لعدة مراحل وخطوات قادمة، فيبدأ بجمع المواد اللازمة ومن ثم يبدأ بنسج العش في مكان ملائم فينسج المدخل ويستمر في نسج الجدران فيما بعد وينحني في النسج عندما يتطلب الأمر الانحناء ويوسّعه عندما يتطلب الأمر التوسيع إضافة إلى إتقانه لعمله إلى درجة مذهلة و دون أن يعطي أيّ انطباع بكونه مبتدأ في عمل النّسج. والحقيقة أنه يثبت مهارة فائقة في أداء عمل شخصين في آن واحد بواسطة ساقه للتّثبيت ومنقاره للنّسج ولا يتقدم خطوة إلاّ بحساب و تقدير بارعين.
و هناك نوع آخر من الطيور النسّاجة يقوم بإنشاء أعشاش ذات سقف متماسك يمنع تدفق قطرات المطر داخله ويفرز هذا الطير سائلا في فمه يختلط مع الألياف النباتية التي يجمعها ويحضر بذلك خليطا يساعده على طلاء عشه من الداخل و يتميز هذا الخليط بإكساب العش مرونة ومقاومة ضد نضوح مياه المطر.
و تتكرر هذه الخطوات عدة مرات حتى اكتمال بناء العش، ومن الاستحالة القول أن هذه القابلية لدى الطيور محض مصادفة أو مكتسبة لاشعوريا لأن هذه الطيور وهي تعد أعشاشها تتصرف مثل مهندس معماري ومهندس إنشاءات وعامل بناء ماهر في آن واحد.
و مثال آخر للطيور النساجة التي تنشأ أعشاشا غريبة هو أحد أنواعها و يعيش في جنوب إفريقيا، فهذا النوع ينشأ عشّا شبيها بعمارة مقسمة إلى شقق ويبلغ ارتفاع هذا النوع من الأعشاش 3 أمتار وعرضها 4,5 مترا ويعيش داخل هذا العش ما يقرب من 200 زوج من هذا النوع (37). والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا لماذا تختار هذه الطيور بناء أعشاشها بهذه الصعوبة بدلا من الأعشاش السهلة البناء؟ وهل يمكن تفسير بناء هذه الأعشاش المعقدة من قبل هذه الطيور بـمحض مصادفة ؟ بالطبع لا لأن هذه الطّيور مثلها مثل باقي الكائنات الحية تتحرك بوحي إلهام الهي .
أعشاش طائر الخطّّاف:
هناك بعض الطيور تخفي أعشاشها تحت سطح الأرض مثل طائر الخطاف السّاحلي الذي يقوم بحفر قنوات موازية لساحل البحر أو ضفّة النهر وتكون هذه القنوات بمحاذاة التلال المتشكلة من التربة. وتحفر هذه الطيور قنواتها بشكل منحن من الأمام للحيلولة دون دخول مياه المطر داخل العش، وفي نهاية كل قناة توجد فسحة مبطنة بالقشّ والريش يعيش فيها الطير. أما أنواع طائر الخطاف التي توجد في أمريكا اللاتينية فتبني أعشاشها على الصخور الموجودة خلف الشّلالات المنسابة, فهذا الموقع يكون بعيدا عن خطر باقي الطيور كالنورس أو آكلات السمك وحتى عن الغربان. والماء المتساقط بأطنان كثيرة لابد أن يكون قاتلا لأي طير يمر من خلاله إلا أن هذا الخطاف يتميز بصغر حجمه وسرعة حركته من خلال ماء الشلال لذا لا يصاب بأي أذى. وبهذا الشكل يكون هذا الطير وفراخه وعشه بمأمن من خطر باقي الحيوانات.
وهذا الطير لا يستطيع استخدام مخالبه في جمع المواد الأولية اللازمة لبناء العش لصغر هذه المخالب, وبدلا من ذلك يلتقط أجزاء الأعشاب اليابسة والمتطايرة في الهواء أو الريش المتطاير ويفرز عليها سائلا خاصّا يحولها إلى عجينة لاصقة يبني بواسطتها عشه على الصخور (38).
أمّا الخطاف الذي يعيش في سواحل المحيط الهندي فيبني أعشاشه داخل الكهوف، وتسد الأمواج العاتية مدخل هذه الكهوف، وعندما تريد هذه الطيور الدخول إلى أعشاشها ترقد على هذه الأمواج منتظرة اللحظة التي ينحسر فيها الموج عن مدخل ذلك الكهف وعندئذ تنتهز هذه الطيور الفرصة المناسبة للولوج داخل الكهف والوصول إلى العش. وقبل أن تشرع هذه الطيور في بناء الأعشاش تقوم بتثبيت أعلى ارتفاع يمكن أن تصل إليه مياه الأمواج داخل الكهف وبعد ذلك تبدأ في بناء العش بمستوى أعلى من مستوى المياه الآتية بواسطة الموج (39).
وهناك طائر يعيش في إفريقيا يدعى بـ"السّكرتير" يبني عشه في قمم الأشجار الشوكية العالية ليكون بعيدا عن خطر الأعداء، أمّا طائر نقار الخشب الذي يعيش في جنوب غرب أمريكا فينشأ أعشاشه داخل ثقوب يفتحها داخل جذوع نبات الصبار الشوكي العملاقة. أما طيور المستنقعات فتبني عدة أعشاش وهمية إلى جانب العش الحقيقي فيقوم الذكر بإنشاء هذه الأعشاش الوهمية وينتقل من أحدها إلى الآخر ليلفت الانتباه إلى تلك الأعشاش بدلا من العش الذي تتولى الأنثى مهمة بنائه
أعشاش طائر الباتروس
إنّ ارتباط أنثى الطير بفراخها ظاهرة موجودة في جميع أنواع الطيور ومن هذه الطيور الباتروس التي تتكاثر في مسقط رأسها في موسم التلقيح حين تتجمع وتشكل مستعمرة كبيرة ويقوم الذكور بإصلاح الأعشاش البالية قبل أسابيع من قدوم الإناث، وهكذا يتمّ الإعداد لمسكن الإناث والفراخ. أما الاهتمام بالبيض فيمكن مشاهدته عند مراقبة سلوك طائر الباتروس أيضا لأن هذا الطير يستمر واقفا على البيض طيلة 50 يوما دون حراك ، وهذه االعناية الفائقة لا تقتصر على البيض فقط وإنما تشمل الفراخ الخارجة من هذه البيض فيقوم هذا الطائر بقطع مسافة 1,5 كم في كل مرة يخرج فيها لجلب الطعام (41).
أعشاش الطّيور ذات القرون
يعتبر موسم التكاثر موسم عمل ضخم بالنسبة إلى هذه الطيور لأنها تبدي فيه نشاطا يثير الإعجاب سواء ذكرا كان أم أنثى, وأوّل خطوة يجب اتباعها بالنسبة إليهما هي بناء عش مأمون للأنثى والفرخ الصغير القادم.
ويشرع الذكر في العمل فيبحث عن ثقب مناسب في الشجرة ومن ثم تدخل الأنثى هذا الثقب وبعدها يقوم الذكر بسد مدخل الثقب بالطين. بيد أنّ هناك جانبا مهمّا في بناء هذا العش إذ أنّ الذكر وهو يسد المدخل بالطين حماية للأنثى وصغيرها من خطر الأفاعي وغيرها يترك فجوة صغيرة في هذا الثقب وعن طريق هذه الفجوة يمدّ الذكر الأنثى بالطعام لأنها تظل راقدة على البيض لمدة ثلاثة أشهر متواصلة لا تخرج فيها من العش ولو مرّة واحدة، وحتى الصّغار عندما يخرجون من البيض يتم تزويدهم بالطعام عبر هذه الفجوة (4).
ويتصرف الذكر والأنثى تجاه صغارهما بكل صبر ومثابرة وتفان, فالأنثى ترقد على البيض لمدة ثلاثة أشهر متواصلة في داخل العش الذي يكاد يكفيها هي فقط سعة أما الذكر فلا يغفل عنها ولا عن البيض بل يستمر في الرعاية والاهتمام حتى النهاية.
ونفهم من خلال هذه الأمثلة أن لكل نوع من أنواع الطيور أسلوبه الخاص في إنشاء الأعشاش، وكل أسلوب من هذه الأساليب يعتبر معقدا إلى حد كبير ولكن يتبع وينفذ من قبل حيوان غير عاقل و لا يملك منطقا معينا، في حين أنّ هذه الأساليب تتطلب تخطيطا وتصميما كبيرين. ودعونا نفكر في هذه الأمثلة التي تتمثل في كائنات حية غير عاقلة ولكن سلوكها كله عبارة عن شفقة و رأفة و تضحية وتفاني وفق تخطيط بارع. ما مصدر هذه الأنماط السلوكية ؟ وإذا كانت هذه الكائنات الحية لا تملك إرادتها الفاعلة لاتباع هذه الأنماط السلوكية فإذن هناك قوة موجّهة لها فيما تفعله، ومصدر هذه القوة هو الله رب السماوات والأرض وما بينهما .
الأعشاش التي تبنيها الكائنات الحية المختلفة
نحل "البامبوس" :يتميز هذا النوع من النحل بتضحية وتفان فريدين عند بنائه لخليته، فالملكة الشابة تبدأ في البحث عن أنسب مكان لإنشاء الخلية قبل أن تبدأ بوضع بيضها بفترة قصيرة، وبعد أن تجد المكان المناسب، تكون المرحلة اللاّحقة هي إيجاد المواد اللازمة لبناء الخلية من ريش أو عشب أو ورقة نباتية.
في البداية تبني الملكة مكانا خاصا بحجم كرة المنضدة في وسط الخلية وتبنيه بواسطة المواد الأولية التي تجمعها من المحيط الذي توجد فيه، أما المرحلة الآتية فتتمثل في عملية جمع الغذاء للخلية. فعندما تخرج الملكة تبدأ بالتحليق راسمة دوائر وهمية في الهواء واتجاهها أثناء التحليق يكون نحو الخلية دوما وبهذه الطريقة تتذكر موقع خليتها ولا تنساه، وتقوم بجمع رحيق الأزهار أو لب العسل وعندما ترى الكمية كافية تعود لتفرغ ما في بطنها في المكان المخصص في الخلية. أما الجزء الّذي لا يمكن التّغذّي منه فلا تلفظه خارج الخلية بل تستخدمه في صناعة سائل لاصق يفيد في لصق المواد البنائية للخلية إضافة إلى دوره كعازل حراري. وبعد تغذيها من هذا العسل تبدأ بإفراز مادة الشمع إضافة إلى استخدامها رحيق الأزهار الذي جمعته في عمل غرف صغيرة كروية الشكل لتضع فيها من 8-18 بيضة والتي ستفقس عن أول نحلات عاملة في الخلية وتقوم الملكة بسدّ هذه الغرف وما حولها برحيق الأزهار سدا محكما.
ويتم وضع البيض في هذه الغرف بترتيب محكم لا فوضى فيه. والمهمة الرئيسية الأخرى هي تغذية هذه العاملات, لذا تقوم الملكة الشابة بإنشاء أوعية خاصة من الشّمع تضع فيها خلاصة العسل, وبعد فترة تكوين تتراوح ما بين أربعة و خمسة أيام تجد العاملات الخارجات من البيض غذاء جاهزا لها قوامه لبّ العسل ورحيق الأزهار .
ولو أمعنا النظر في هذه العملية بكافة تفاصيلها لوجدنا أمامنا حيوانا غير عاقل وعديم المنطق ولكنه يستطيع استخدام خلاصة العسل كأفضل عامل بناء بالإضافة إلى تفانيه لإنشاء خلية مليئة بالأفراد الصحيحين النشيطين. أمّا طول هذه الحشرة فلا يتجاوز بضعة سنتمترات. و أول ما يتبادر إلى أذهاننا من سؤال هو لماذا كلّ هذا الإيثار والتضحية من قبل الملكة ؟ فالملكة بعد خروج العاملات من البيض لا تكسب شيئا ذا بال، بالإضافة إلى وجود احتمال تركها لخليتها التي أنشأتها عند قدوم ملكة أخرى تزاحمها فيها. بلا شك هناك سبب لتفانيها هذا وتحملها كل هذا الجهد الدّؤوب وهو الإلهام الإلهي الذي يوجه باقي الكائنات الحية أيضا. إذن فلا مكان في عالم الأحياء لمفهوم الأنانية التي يقول بها دعاة التطور (43).
الملاجئ الثّلجيّة للدّب القطبي
تنشئ أنثى الدّب القطبي ملجأ ثلجيا عندما تكون حاملا أو بعد وضعها لوليدها, وهذا الملجأ تحت ركام الجليد، و عدا هذا فإنها لا تعيش في ملاجئ أو مساكن معينة. وعموما تضع الأنثى وليدها في منتصف الشتاء, و يكون الوليد الصّغير لحظة ولادته أعمى و لا شعر له إضافة إلى صغر حجمه، لذا فالحاجة ماسة إلى ملجئ لرعاية هذا المولود الصّغير الضعيف. والملجأ التقليدي يتم إنشاؤه على شكل مترين طولا ونصف قطره تقريبا أي نصف متر عرضا لأن الملجأ يكون على شكل كرة ارتفاعها نصف متر أيضا. ولكن هذا المسكن أو الملجأ لم ينشأ هكذا دون أيّ اهتمام أو تخطيط بل حفر تحت الجليد بكل عناية واهتمام وسط بيئة مغطاة بالجليد, وتم توفير كل وسائل الراحة والرعاية للوليد الصغير في هذا الملجأ. وعموما فإنّ لهذه الملاجئ أكثر من غرفة تنشؤها الأنثى بمستوى أعلى قليلا من مدخل الملجأ كي لايسمح للدفء بالتّسرب إلى الخارج.
وطيلة فصل الشتاء تتراكم الثلوج على الملجأ ومدخله وتحافظ الأنثى على قناة صغيرة للتهويه والتنفس، ويكون سقف الملجأ بسمك يتراوح ما بين 75 سم و مترين. و يقوم هذا السقف بدور العازل الحراري فيحافظ على الدفء الموجود داخل الملجإ ولهذا تبقى درجة الحرارة ثابتة داخله (45).
وقام أحد الباحثين في جامعة أسلو النرويجية ويدعى Paul Watts بتثبيت محرار في سقف أحد ملاجئ الدّببة لقياس درجة الحرارة وتوصّل إلى نتيجة مذهلة, فدرجة الحرارة خارج الملجأ كانت حوالي 30 تحت الصفر أما داخل الملجأ فلم تنزل الحرارة تحت 2-3 أبدا. والظاهرة الملفتة للانتباه هي كيفية قياس أنثى الدب لسمك السّقف الثلجي كي يتواءم مع درجة عزله الحراري لداخل الملجأ إضافة إلى كون الوسط داخل الملجأ بهذه الحرارة ملائما للأنثى من ناحية تنظيم استهلاك مخزونها الدّهني في جسمها أثناء سباتها الشتوي, والأمر الآخر المحير هو خفض أنثى الدب القطبي لجميع فعالياتها الحيوية إلى درجة كبيرة أثناء سباتها الشتوي كي لا تصرف طاقة زائدة ولتساعد على إرضاع صغيرها، وطيلة سبعة أشهر تحوّل الدّهن الموجود في جسمها إلى بروتين لازم لتغذية صغارها, أما هي فلا تتغذى أبدا وتنخفض دقات قلبها من 70 ضربة في الدقيقة إلى ثمان ضربات في الدقيقة وبالتالي تنخفض فعالياتها الحيوية، ولا تقوم بقضاء حاجاتها أيضا وبهذه الطريقة لا تصرف طاقتها اللازمة لتنشئة الصغار الذين سيلدون في تلك الفترة.
مساكن التّماسيح
تعدّ أنثى التمساح الذي يعيش في منطقة "أفيركليدس" في فلوريدا مكانا مختلفا جدّا لوضع البض فهي تقوم بجمع النباتات المتعفنة وتخلطها بالطين لتصنع منها تلة ارتفاعها 90سم تقريبا ومن ثم تحفر حفرة في قمة هذه التلة لتضع فيها بيضها وتغطيها بعد ذلك بالنباتات التي تكون قد جمعتها من قبل ثم تبدأ بحراسة هذه التلة من خطر الأعداء. وعندما يبدأ البيض بالفقس تقترب الأم عند سماع أصوات صغارها وهم يصدرون أصواتا متميزة و تقوم بإزالة النباتات التي غطتها بها ويبدأ الصغار بالتسلق إلى أعلى, و تجمعهم الأم في تجويف فمها المتسع وتذهب بهم إلى الماء ليبدأوا حياتهم (46).
مسكن الضفدع "الحداد"
يعتبر هذا النوع من أبرع البرمائيات في إنشاء مسكه وهو يعيش في جنوب إفريقيا، و يقوم الذكر بإنشاء هذا المسكن على ضفة الماء فالذكر يشرع في الدوران حول نفسه في الطين حتى يحدث فيه ثقبا واضحا، ومن ثم يقوم بتوسيع حوافي هذا الثقب، وعند اكتمال هذه الخطوة يبدأ بتكوين جدران طينيّة متينة لهذا الثقب وفي النهاية يكون قد أنشأ حوضا مائيا بعمق 10سم، ويبدأ بالجلوس داخل هذا الحوض ويصدر أصواتا يدعو فيها الإناث للتكاثر (التزاوج) ويظل على هذا الوضع حتى يلفت انتباه إحدى الإناث وعند مجيء الأنثى تبدأ بوضع بيضها داخل الحوض أما الذكر فوظيفته تلقيح هذا البيض. وبعد ذلك يبدأ كلاهما بمراقبة هذا البيض حتى فقسه، وعند الفقس تخرج يرقات الضفادع والتي تكون محاطة بغلاف واقي وتبقى في هذا الحوض بمأمن من خطر الأسماك والحشرات وعندما تترعرع سرعان ما تثبت فوق جدران هذا الحوض المخصص (لرعاية الصغار) لتخرج وتبدأ حياتها (47).
مهندسو ما تحت الماء
من المعلوم أن الأسماك ليس من عادتها بناء منازل خاصة بها، إلا أن هناك أنواعا منها يسلك سلوكا محيرا, فأسماك المياه العذبة تنشأ لها مساكن خاصة في قيعان البحيرات أو الأنهار أو المياه الراكدة، وغالبا ما تكون على شكل حفر يتم حفرها بين الأحجار أو الرمال، ومثال على ذلك سمك " السلمون " وسمك "البني " فهي تترك بيضها داخل هذه الحفر حتى تفقّس لوحدها. و هناك أنواع أخرى من الأسماك تقوم بحراسة هذا البيض بالتناوب بين الذكر والأنثى عندما يكون البيض مكشوفا والأخطار محيقة . ومعظم أنواع الأسماك تتميز بكون الذكر هو المسؤول عن إنشاء المساكن الخاصة بوضع البيض وحراستها أيضا.
وهناك أسماك تتميز بكون مساكنها أكثر تعقيدا، ومثال ذلك السمك الشوكي الذي يعيش في أغلب المناطق النّهرية والبحيرات في كلّ من أمريكا الشمالية وأوروبا إذ يقوم الذكر بإنشاء أعشاش أكثر اتقانا من أعشاش الطيور، حيث يقوم هذا النوع من السمك بجمع أجزاء من النباتات المائية ومن ثم يلصقها ببعضها البعض عن طريق سائل لزج يفرز من كليّ هذا السّمك ويقوم الذكر بالسباحة حول هذه الخلطة اللزجة والتمسح بها حتى يعطيها شكلا طوليا منتظما وبعدها يثب فجأة سابحا من منتصف هذه العجينة شاقا إياها لكي تصبح على شكل نفق له مخرج ومدخل ويمر من خلاله الماء، و إذا حدث أن مرت أنثي بالقرب من هذا النفق العش يقوم الذكر بمغازلتها بالسباحة حولها جيئة وذهابا حتى يذهب بها إلى مدخل النفق الذي يحاول أن يدلها عليه عن طريق مقدمة رأسه، وعندما تبيض الأنثى داخل هذا النفق يدخل الذكر من المقدمة دافعا الأنثى إلى الخارج عن طريق المؤخرة. وهكذا تعاد العملية مع عدة أثاث وهدف الذكر من دخول النفق وطردهم إياهن هو تلقيح البيض. وعندما يمتلأ النفق بالبيض يبدأ الذكر بحراستها ويثابر على السماح بدخول الماء العذب إلى النفق، ومن جانب آخر يقوم بترميم الأجزاء التالفة منه، ويستمر في حراسة النفق حتى بعد عدة أيام من فقس البيض. وفيما بعد يقوم بقطع الجزء العلوي من النفق تاركا السفلي لمعيشة الصغار (48).
كيف تنجح الحيوانات في إنجاز هذا العمل ؟
تصوّروا إنسانا ليست لديه أية معرفة بالعمارة ولا عمل في قطاع البناء أبدا وليست لديه خبرة في تحضير المواد الأولية للبناء ولا عن كيفية البناء ومع هذا يقوم بإنشاء مسكن بكل براعة وإتقان, كيف يحصل هذا؟ هل يستطيع أن يفعل ذلك لوحده ! بالتأكيد لا، فالإنسان الذي يعتبر مخلوقا عاقلا وذا منطق من الصعوبة أن يسلك هذا السلوك .
إذن هل من الممكن أن تسلك هذه الحيوانات سلوكا يتطلب ذكاء وقابلية ؟ وكما أسلفنا القول في الصفحات السابقة إنّ أغلب الحيوانات لا فقط لا تملك مخا وإنما تفتقر إلى جهاز عصبي ولو بسيط ولكنّها مع ذلك تقوم بحسابات دقيقة جدا عند إنشائها لأعشاشها، وتطبق قوانين الفيزياء وتستخدم أساليب تتطلب مهارة خاصة بالنسيج والخياطة، إضافة إلى إيجادها حلولا أمام كلّ المشاكل التي تعترض سبيلها أو سبيل صغارها وبصورة عملية تماما. وتعد هذه الحيوانات لنفسها خلطة البناء بصورة طبيعية ومتقنة فضلا عن تركيبها وصفة خاصة لعزل عشها عن تأثيرات البيئة السلبية. ولكن هل يعرف الطير أو الدب القطبي معنى العازل الحراري؟ وهل يفكر هذا الحيوان أو ذاك بضرورة تدفئة عشه أو عرينه ؟ والواضح أن هذه الاستنتاجات الفكرية لا يمكن أن تصدر من هذه الحيوانات، إذن كيف اكتسبت هذه الحيوانات مثل هذه الخبرة والمهارات؟
و هذه الحيوانات تتّصف كذلك بأنها مثابرة وصبورة جدا في إنشائها لمساكنها على الرغم من أن هذه المساكن تكون في أغلب الأحيان محلاّ لسكن صغارها فقط.
هناك تفسير واحد لهذه العقلانية والمنطقية والتفاني في سلوك هذه الحيوانات, إنه الإلهام الإلهي. فالبارئ المصور خلقها بهذه الصورة الكاملة وألهمها هذا السلوك كي تحافظ على نسلها وعلّمها الدفاع عن النفس و الصّيد و التّكاثر كلّ بأسلوبه الخاص الذي يميّزه باعتباره نوعا حيوانياّ مختلف، هو الله الحافظ الرّحمان الذي رحمته وسعت كل شيء وبرحمته هذه علّم هذه الحيوانات كيفية بناء أعشاشها وفق تخطيط بارع و متقن، وما الكلام عن "التطور" و من أن " الطبيعة الأم" أو المصادفات هي التي علمت الكائنات الحية هذه الأنماط السلوكية سوى تخبط لا أساس له سواء فكريا أو علميا، وما سلوك الحيوانات هذا سوى إلا إلهام إلهي ورحمة واسعة من لدن الرحمن الرحيم .
ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر وممّا يعرشون " صدق الله العظيم . سورة النحل - الآية 68 .
إنه هو الذي ألهم النحل كيفية بناء الخلية وكذلك باقي الكائنات الحية ألهمت من قبله جلت قدرته كيفية بناء مساكنها وكيفية إعداد المواد اللاّزمة للبناء والأساليب المتّبعة لإنجاز تلك الأعمال و كذلك الحفاظ على النسل والتضحية في سبيل الحفاظ على حياة الصغار. إنّ الكثير من الكائنات الحية تبدي تفانيا محيّرا وتتحمل صعوبات كثيرة في سبيل التكاثر والحفاظ على بيضها أو صغارها المولودين حديثا، ويمكن مشاهدة نماذج في الطبيعة تضحي بحياتها في سبيل ذلك. فمثلا هناك أنواع من الحيوانات تقطع كيلومترات عديدة جدا في سبيل وضع البيض وأخرى تبذل جهدا شاقا ودؤوبا لإنشاء أعشاش آمنة، وأنواع أخرى تموت مباشرة بعد التكاثر ووضع البيض فضلا عن أنواع تحمل بيضها في فمها لمدة أسابيع دون أن تتغذى أو أنواع تحرس بيضها لمدة أسابيع أيضا دون كلل أو ملل.
والحقيقة أن هذه الأنماط السلوكية الفريدة تهدف إلى تحقيق غاية واحدة هي الحفاظ على النّسل لأن الصغار و هم ضعاف لا يستطيعون البقاء إلاّ برعاية الكبار البالغين الأقوياء، فلوترك غزال مولود حديثا وحده في العراء أو لو ترك بيض طير دون حماية لاشك أن حظهما في البقاء يكون ضئيلا جدا. والملاحظ في الطّبيعة أنّ الحيوانات البالغة تقوم برعاية صغارها دون ملل أو إهمال أو استنكاف وتتحمل مسؤولية الرعاية كاملة, كلّ ذلك استجابة للإلهام الإلهي.
والغريب أيضا في هذه المسألة هو كون الكائنات الحية التي تبدي تفانيا ودأبا في رعاية صغارها هي من أقل الكائنات الحية تكاثرا، ومثال على ذلك الطيور فهي تضع عددا محدودا من البيض كلّ سنة ولكنها تهتم بهذا العدد من البيض اهتماما بالغا. وهذا القول جائز في اللبائن أيضا والتي يمكن القول عنها أنها تلد مولودا واحدا أو مولودين ولكنها تستمر في الرّعاية و العناية مدة طويلة نسبيا، وهنا ك كائنات حية لا تبدي اهتماما ملحوظا بصغارها بالرغم من كونها تبيض أعدادا كبيرة من البيض تقدر بالآلاف مثل الأسماك والحشرات أو الفئران التي تلد أعدادا كبيرة في كل موسم تكاثري, ولكونها بهذا العدد الضخم ضمن العائلة الواحدة فإن الاحتمال عال باستمرار النّسل بالرغم من هلاك أعداد كبيرة من الصغار في المراحل الأولى من حياتها. ولو كانت هذه الحيوانات تهتم بصغارها بصورة كبيرة لكانت أعدادها تتزايد باطراد وبالتّالي يحدث خلل في التّوازن البيئي, ومثال على ذلك فئران الحشائش التي تتكاثر بصورة كبيرة جدا ولو حدث أن حافظت على أعدادها المتزايدة لملأت هذه الفئران وجه البسيطة(49). و المعلوم أنّ التكاثر يمكن اعتباره إحدى الوسائل الكفيلة بالحفاظ على التوازن البيئي إلا أن الكائنات الحية لا يمكن لها التحكم في خاصية "التكاثر" هذه من وحي علمها أو سلوكها المنطقي .
والمعلوم أيضا أن هذه الكائنات الحية مخلوقات غير عاقلة لذا فلا يمكن أن ننتظر منها سلوكا ضابطا للإيقاع التكاثري حفاظا على التوازن البيئي و لا حسابا مضبوطا لتحقيق ضرورة التكاثر من أجل استمرار النسل. وكل هذه الشواهد الحية تدل على وجود قوة تدير هذه السيمفونية الطبيعية، وهذه القوة تملي إرادتها على كل كائن حي على حدة ليمارس دوره المسيّر ( وليس المخيّر ) في ممارسة مهمّته في البيئة الطبيعية على أكمل وجه، أي أنّ الحقيقة تتمثل في عدم وجود أيّ كائن حي خارج السيطرة أو تحرّكه بشكل اعتباطي, فكل الكائنات الحية تنقاد وتخضع لله الواحد القهار .
ويقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه المبين عن كيفية تكاثر الأحياء بإذنه جل جلاله وعن كيفية تقديره لحياتها ومماتها وهو الحي القيوم: " الله يعلم ما تحمل كلّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار " سورة الرعد - الآية 8 ويقول أيضا: " ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الّذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون " سورة فصلت - الآية 47, أمّا في سورة الشورى-الآية 49-50 فيقول تعالى : " لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير (50) " صدق الله العظيم
بوح الروح
الأعشاش المبنية للصغار والمجهزة بجميع وسائل الرّاحة
هناك دور كبير للمنازل والأعشاش التي تبنيها الحيوانات في رعاية وتنشئة الصغار، وهناك أساليب مختلفة باختلاف أنواع الحيوانات في طريقة إنشاء هذه الأعشاش بتفاصيل تقنية باهرة، وفي أحيان كثيرة تتصرف الحيوانات مثل مهندس معماري بارع، وتعمل على شاكلة بنّاء ماهر في عمله، وتجد حلاّ لكل مشكلة قد تواجهها أثناء البناء تماما مثل المهندس ومثل أخصائي في الديكور حيث تقوم بتوفير ما يلزم لداخل العش، وفي أحيان كثيرة أخرى تعمل هذه الحيوانات ليل نهار للإعداد لهذه الأعشاش، وإذا كان لهذه الحيوانات أزواجا فتقوم بتوزيع الادوار و التعاون في صورة مثيرة للإعجاب. ومن أكثر الأعشاش والمنازل التي يعتنى بها عناية خاصة من قبل البالغين هي التي تنشأ لاستقبال الصغار الجدد . والتقنية التي تستخدمها هذه الكائنات غير العاقلة تثير الإعجاب و الدهشة في آن واحد، ويتضح ذلك من خلال الأمثلة التي سنوردها في الصفحات القادمة , و سيتضح كذلك أن هذه الأعشاش والمنازل لا يمكن أن تنشأ اعتمادا على الذكاء المتواضع لهذه الحيوانات، و من الجدير بالذكر أن هذه الحيوانات، تخطط وتخطو مراحل متعددة قبل الشروع في بناء أعشاشها أو منازلها لوضع بيضها أو ولادة صغارها، كذلك تختار هذه الحيوانات المكان الأمثل والأكثر أمنا لإنشائها, فهذه الحيوانات لا تنشئ منازلها عبثا و أينما اتفق. وطريقة بناء العش أو المسكن يتم اختياره من قبل الحيوان أو الطير وفقا للمواد الأولية المتوفرة وظروف البيئة الخارجية، فمثلا تستخدم الطيور البحرية الأعشاب البحرية التي تطفوا على سطح الماء وتقاوم الأمواج في بناء أعشاشها، أمّا الطيور التي تعيش في مناطق الأعشاب الطويلة فتنشئ أعشاشا عميقة و واسعة لتفادي السقوط عند هبوب الرياح، والطيور الصّحراوية تبني أعشاشها على قمم النباتات التي تمتاز بانخفاض درجة حرارتها أقل بعشر درجات عن درجة المحيط، وإلاّ فإنّ درجة حرارة اليابسة تربو على 45ْ وهي تؤدي حتما إلى موت الأجنة الموجودة داخل البيض .
و يتطلب اختيار المكان المناسب لبناء العش ذكاء ومعرفة واسعة، إلاّ أن هذه المخلوقات لا تستطيع أن تتوقع مدى الضرر الذي سيلحق بمنازلها بتأثير الأمواج العاتية أو درجة الحرارة العالية للبيئة الصحراوية. والظاهر للعيان أن هناك مخلوقات غير عاقلة ولا منطق لها إلا أنها تسلك سلوكا عاقلا و منطقيا، وبمعنى آخر مخلوقة على هذه الصورة الكاملة، والكمال في الخلق لا يوجد إلا لله وحده .
ويحظى الصّغار بعد فقس البيض أو لحظة الولادة بعناية بالغة، ويقضي الكبار من الحيوانات أو الطيور وقتا كبيرا في الحفاظ على حياة الأبناء ولا تكتفي في ذلك ببناء المنازل وإنمّا تبني أعشاشا وهمية لمجرد التمويه بهدف لفت الانتباه إلى هذه الأعشاش الوهمية حفاظا على حياة الصغار من خطر الأعداء. و لا شك أن هذا النمط السلوكي ليس من بناة أفكار الحيوان و لانابعا من ذكائه. وهناك أسلوب آخر للتمويه تستخدمه الحيوانات وهو بناء الأعشاش بين أغصان الأشجار الكثيفة الأوراق أو فوق النباتات الشوكية، وبعض أنواع الحيوانات تنشئ لها أوكارا خاصة تبيض فيها وترقد على بيضها وتقوم بإنشاء جدار خاص لمدخل هذا الوكر باستخدام الطين الموجود في البيئة الخارجية وإذا لم يوجد تقوم بإفراز سائل خاص تخلطه مع كمية من التراب لإعداد الطين اللازم لإنشاء هذا الجدار الواقي.
وأغلب أنواع الطيور تبني أعشاشها غريبة الشكل باستخدام ألياف النباتات أو الأعشاب والحشائش البرية المتوفرة في البيئة، والجدير بالذكر أن الطير الّذي سيبيض لأول مرة في حياته يبني عشه بإتقان بالغ دون أن يكون له سابق معرفة أو خبرة ببناء الأعشاش .
بلا شك أن هذه القابليات الفذة للكائنات الحية لم تشكل من تلقاء ذاتها، إذن ما هي القدرة التي علّمت هذه الطيور والكائنات الحية بناء منازلها بهذه الكيفية المدهشة ؟ كيف تكتسب الكائنات الحية هذه القابلية مرة واحدة ؟ .
و هناك أمر آخر يحسن الإطلاع عليه و يتعلق بقابليات الكائنات الحية وهو كون الكائن الحي على علم تام بكيفية بناء العش أو المسكن بالكيفية الخاصة بنوعه والمتميز بها عن الأنواع الأخرى اعتبارا من أول لحظة له في هذه الحياة، وكل نوع من أنواع الحيوانات يبني منزله بالكيفية نفسها في أية منطقة من مناطق العالم, وهذا دليل واضح على أن هناك قوة واحدة تمنح هذه المخلوقات القابلية والمعرفة الخاصة بالحياة. بلا شك إنّ صاحب هذه القوة التي لا حد لها والعلم الّذي وسع كل شئ هو الله سبحانه وتعالى الّذي يلهم مخلوقاته ويمنحها هذه القابليات الفذة. واللافت للنظر عند دراسة كيفية بناء الحيوانات لمنازلها ليس فقط التخطيط البارع وإنما التضحية والتعاون اللّذين يبديهما كل من الذكر والأنثى في البناء، وعلى سبيل المثال تنشئ الطيور أعشاشها الخاصة بها بكل اعتناء واهتمام ولا تكتفي بذلك بل تنشئ أعشاشا أخرى كجهد إضافي للتمويه (28).
ولو تمعّنا في عملية إنشاء الطيور لأعشاشها لأدركنا مدى الصعوبات التي تلاقيها والجهد الظخم الذي تبذله والتفاني الذي تبديه في سبيل إتمام بناء هذه الأعشاش. فالطير الواحد يقوم بعدة مئات من رحلات الطيران في سبيل إنشاء عش للتمويه فقط فما بالك بالجهد اللازم لبناء العش الحقيقي، والطير لا يستطيع أن يحمل في منقاره سوى قطعة أو قطعتين من المواد اللازمة لبناء العش من أغصان أو غيرها، ولكن هذا الأمر لا يثير في الطير الشعور بالملل و إنما بالعكس من ذلك يثابر على العمل بكل صبر ،وإذا شعر بتعب أو إرهاق لا يترك العمل ولا يترك ما في منقاره ولا يهمل أي تفصيل من التفاصيل اللازمة لبناء العش. وحسب ادعاء داروين, في قانون الانتخاب الطبيعي لا تفكر الكائنات الحية إلا في نفسها و بمنتهى الأنانية. ولو كان الوسط الذي تعيش فيه مسرحا للحرب كما يدعي هو ومؤيدوه لما قامت هذه الكائنات الحية ببذل هذا الجهد الظخم والمثير للإعجاب في سبيل الحفاظ على الكائنات الصغيرة الضعيفة؟ هذه الأسئلة و غيرها يحتار القانون الطبيعي لداروين في الإجابة عليها وتعجز أمامها نظرية التطور وادعاءات الملحدين. والجواب الوحيد على كل هذه الأسئلة هو أنّ الله وحده منح هذه المخلوقات صفات التضحية والصبر والثبات والمثابرة والعزم فيلهمها هذه الصفات ليحمي القوي منها الضعيف وليستمر التوازن في الطبيعة وليستمر نسل الكائنات ولتكون هذه البنوراما الطبيعية دليلا حيا وملموسا على قدرة الله عز وجل أمام جحود بني آدم.
في الصفحات القادمة سترد أمثلة على قابلية الكائنات الحية على التخطيط المعماري و ألقيام بالديكور خصوصا الطيور التي يحتاج صغارها وبيضها إلى عناية فائقة في أعشاشها، لذا يلهمها الله سبحانه وتعالى كل ما تحتاجه ويتلاءم مع عملية بناء الأعشاش.
كيف تبني الطيور أعشاشها الفخمة؟
تعرف الطيور على أنها من أبرع الكائنات الحية في بناء أعشاشها، ولكل نوع من أنواع الطيور طريقة في بناء عشه ولا يخطئ أبدا في بناء العش حسب الطريقة التي اعتاد عليها. و أهم سبب لإنشاء الطيور أعشاشها كون بيضها وفراخها التي تخرج من البيض بعد فقسها على درجة كبيرة من الضعف، وخصوصا عندما تذهب الأم للصيد, فالصغار يبقون بدون أية وسيلة للدفاع عن النفس، ولكن المكان الذي يتم اختياره لبناء العش يعتبر الوسيلة للدفاع مثل قمم الأشجار والثقوب الموجودة في جذوعها أو سفوح الجبال والتلال وكذلك بين الأعشاب إذ يتم إخفاء العش بمنتهى البراعة والإتقان حفاظا على حياة الصغار .
والدور الثاني والمهم للعش هو الحفاظ على الصغار من تأثير البرد القارس لأن الصغار يخرجون من البيض بدون ريش إضافة إلى عدم قدرتهم على الحركة بحرية و بالتالي عدم استطاعتهم تحريك عضلاتهم بسهولة، لذا تكون الطيور مجبرة على بناء أعشاشها بمنأى عن البرد حفاظا على الصغار. وأبسط مثال على هذه الأعشاش " العش المحاك "فهو يوفر الدفء اللازم للصغار, وبناء هذه الأعشاش صعب للغاية ويتطلب دقة متناهية, فالأنثى تقوم ببناء هذا النوع من العش في فترة طويلة وبجهد بالغ وتقوم بفرش داخل العش بالريش والشعر والألياف لعزلها عن التأثيرات الحرارية للبيئة الخارجية (29). وتوفير المواد الأولية لبناء أي نوع من أنواع الأعشاش يعتبر خطوة مهمة جدا، وتقوم الطيور طيلة اليوم بجمع هذه المواد الأولية فمناقير الطيور ومخالبها مخلوقة لتلائم هذه المهمة. وعملية بناء العش مهمة الأنثى أما مهمة الذكر فتتمثل في اختيار المكان الملائم. وتستفيد الطيور في بناء أعشاشها من مواد أولية مثل الطين و الورق النباتي اللبلاب وحتى الشعر أو الورق، وخصائص أي عش تعتمد على المواد الأولية المستعملة وعلى الطريقة التي يستخدمها ذلك الطير في بناء عشه. وتبنى الأعشاش اعتمادا على مرونة المواد الأولية ومتانتها وصلابتها، فالطيور تختار المواد التي يمكن طيها أو مدها عند بناء العش. والتنوع في هذه المواد يجعل العش أكثر أمنا للفراخ, فخلط الطين والألياف يحول دون حدوث أي فطر في جدران العش.
والطيور بعد أن تجمع المواد الأولية تبدأ بتكوين الخليط اللازم لبناء العش، والطير الذي يتبع هذه الوسيلة في البناء هو الخطاف أو النون الذي يبني عشه على حافة الهاوية أو على جدران المباني والباحات الخارجية فيقوم بلصق عشه بجدرانها بنوع من الخيلط اللاصق، وهذه الخليط يحصل عليه بطريقة عملية جدا, فأولا يقوم بجمع الطين والرماد في منقاره ويحملهما إلى المكان الذي أزمع بناء العش فيه ومن ثم يجعل الطين مزيجا لزجا بعد إفراز مواد خاصة ويمسح سطح الهاوية بهذه المادة اللزجة حتى يعطي العش الشكل النهائي على شكل أصيص مدور مجوف و يملأ داخل الأصيص بالحشيش والطحلب والريش وغالبا ما يبني عشه تحت نتوء صخري كي تحميه الصخرة من تأثير الأمطار المتساقطة التي ربما تزيل تماسك الطين المتين الذي يؤدي إلى هدم العش برمته (30).
وبعض الطيور التي تعيش في جنوب إفريقيا وتدعى بـأنثوسكويوس تبني عشها من قسمين, القسم الأول منه لحضن البيض, وهناك مدخلان للعش أحدهما سري والآخر للتمويه ضد خطر الأعداء (31). من جانب آخر يقوم أحد الطيور في أمريكا من جنس sar?asmag?ller ببناء عشه بالقرب من خلية النحل البري لأن هذا النحل يحول دون اقتراب الأعداء المشتركين كالأفاعي والببغاء والقرود وخصوصا أحد أنواع البعوض الذي يشكل خطرا بالنسبة إلى هذه الطيور (32). وبذلك تنجح الأم في الحفاظ على حياة صغارها من خطر الأعداء .
الأعشاش التي تخيطها الطيور الخياطة
يتميز منقار طير الخياط الهندي بدقة شكله كإبرة الخياطة، والمواد الأولية التي يستخدمها في خياطة عشه تتمثل في خيط نسيج العنكبوت والزغب الذي يحيط ببعض أنواع البذور إضافة إلى ألياف خاصة بقشور الأشجار. ويقوم هذا الطير بجمع أوراق الأشجار الواحدة فوق الأخرى متراصة وبعد ذلك يقوم بثقب حواف هذه الأوراق الواحدة تلو الواحدة بمنقاره المدبّب ومن ثم يدخل نسيج العنكبوت أو اللّيف الذي جمعه في هذه الثقوب ويعقدها كي يمنع سقوط الأوراق، ويكرر العملية نفسها في الجهة المقابلة حتى يجعل الورقتين النباتيتين متلاصقتين تماما وفي خطوة لاحقة يقوم بتدوير هاتين الورقتين المتلاصقتين حول بعضما البعض مثلما يصنع العقد، ويفرش داخل هذا العش الورقي بالحشيش (33), وأخيرا يخيط هذا الطير جزءا إضافيا داخل العش يخصصه لأنثاه لتضع فيه بيضها بأمان (34).
الطيور النسّاجة
تعتبر أعشاش الطيور النسّاجة من أغرب أنواع الأعشاش في عالم الحيوان, وهذه حقيقة يؤكدها علماء الأحياء, فهذه الطّيور تقوم بجمع الألياف النّباتية أو سيقان النباتات الرفيعة لتستخدمها في نسيج أعشاشها و تتميز هذه الأعشاش بمتانة جدرانها المنسوجة من هذه المواد الأولية.
وأول عمل يقوم به الطائر النسّاج هو جمع المواد الأولية اللازمة، وتتألف من أجزاء رفيعة يقطعها من الأوراق النباتية الطّرية أو عروقها الرئيسية، و سبب اختياره للأوراق الطرية بدلا من اليابسة يرجع إلى سهولة تشكيلها لطراوتها ومرونتها. ويقوم الطير بعد ذلك بلف الجزء الرفيع الذي أخذه حول غصن شجرة متعدد الفروع مستخدما أحد ساقيه لتثبيت أحد طرفي اللّيف على الغصن ومنقاره للقيام بعملية اللّف، وللحيلولة دون سقوط هذه الحبال الليفية يقوم الطير بربطها ببعضها البعض من تكوين عقد محكمة، و في المرحلة الأولى يقوم الطير بإنشاء حلقة ليفية وتعتبر مدخلا إلى العش, ثم يقوم لاحقا بتمرير الأجزاء الورقية الرفيعة من بين هذه الحبال الليفية بواسطة منقاره وبطريقة متناوبة مرة من فوق ومرة من تحت ويقوم بين الحين والآخر بشدّ هذه الأجزاء التي وقع تمريرها لجعل النّسيج أكثر متانة. وبأسلوب بارع يقوم الطير بتكوين منحنيات أو نتوءات في جدران العش لجعله متماسكا و متوازنا.
وعندما ينتهي الطير من إنشاء المدخل اللازم لعشه يبدأ بنسج الجدران و في هذه الحالة يقف مقلوبا أو رأسا على عقب ويواصل بالعمل من داخل العش، ويسحب الليف الورقي بمنقاره تحت الحبال الليفية ويمسك طرفه الخارجي بدقة ومن ثم يشده شدّا محكما، وبهذه الطريقة يجعل للعش نسيجا غاية في الإتقان (36). ومما يلاحظ هنا أن الطير النساّج يعمل وكأنه يخطط لعدة مراحل وخطوات قادمة، فيبدأ بجمع المواد اللازمة ومن ثم يبدأ بنسج العش في مكان ملائم فينسج المدخل ويستمر في نسج الجدران فيما بعد وينحني في النسج عندما يتطلب الأمر الانحناء ويوسّعه عندما يتطلب الأمر التوسيع إضافة إلى إتقانه لعمله إلى درجة مذهلة و دون أن يعطي أيّ انطباع بكونه مبتدأ في عمل النّسج. والحقيقة أنه يثبت مهارة فائقة في أداء عمل شخصين في آن واحد بواسطة ساقه للتّثبيت ومنقاره للنّسج ولا يتقدم خطوة إلاّ بحساب و تقدير بارعين.
و هناك نوع آخر من الطيور النسّاجة يقوم بإنشاء أعشاش ذات سقف متماسك يمنع تدفق قطرات المطر داخله ويفرز هذا الطير سائلا في فمه يختلط مع الألياف النباتية التي يجمعها ويحضر بذلك خليطا يساعده على طلاء عشه من الداخل و يتميز هذا الخليط بإكساب العش مرونة ومقاومة ضد نضوح مياه المطر.
و تتكرر هذه الخطوات عدة مرات حتى اكتمال بناء العش، ومن الاستحالة القول أن هذه القابلية لدى الطيور محض مصادفة أو مكتسبة لاشعوريا لأن هذه الطيور وهي تعد أعشاشها تتصرف مثل مهندس معماري ومهندس إنشاءات وعامل بناء ماهر في آن واحد.
و مثال آخر للطيور النساجة التي تنشأ أعشاشا غريبة هو أحد أنواعها و يعيش في جنوب إفريقيا، فهذا النوع ينشأ عشّا شبيها بعمارة مقسمة إلى شقق ويبلغ ارتفاع هذا النوع من الأعشاش 3 أمتار وعرضها 4,5 مترا ويعيش داخل هذا العش ما يقرب من 200 زوج من هذا النوع (37). والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا لماذا تختار هذه الطيور بناء أعشاشها بهذه الصعوبة بدلا من الأعشاش السهلة البناء؟ وهل يمكن تفسير بناء هذه الأعشاش المعقدة من قبل هذه الطيور بـمحض مصادفة ؟ بالطبع لا لأن هذه الطّيور مثلها مثل باقي الكائنات الحية تتحرك بوحي إلهام الهي .
أعشاش طائر الخطّّاف:
هناك بعض الطيور تخفي أعشاشها تحت سطح الأرض مثل طائر الخطاف السّاحلي الذي يقوم بحفر قنوات موازية لساحل البحر أو ضفّة النهر وتكون هذه القنوات بمحاذاة التلال المتشكلة من التربة. وتحفر هذه الطيور قنواتها بشكل منحن من الأمام للحيلولة دون دخول مياه المطر داخل العش، وفي نهاية كل قناة توجد فسحة مبطنة بالقشّ والريش يعيش فيها الطير. أما أنواع طائر الخطاف التي توجد في أمريكا اللاتينية فتبني أعشاشها على الصخور الموجودة خلف الشّلالات المنسابة, فهذا الموقع يكون بعيدا عن خطر باقي الطيور كالنورس أو آكلات السمك وحتى عن الغربان. والماء المتساقط بأطنان كثيرة لابد أن يكون قاتلا لأي طير يمر من خلاله إلا أن هذا الخطاف يتميز بصغر حجمه وسرعة حركته من خلال ماء الشلال لذا لا يصاب بأي أذى. وبهذا الشكل يكون هذا الطير وفراخه وعشه بمأمن من خطر باقي الحيوانات.
وهذا الطير لا يستطيع استخدام مخالبه في جمع المواد الأولية اللازمة لبناء العش لصغر هذه المخالب, وبدلا من ذلك يلتقط أجزاء الأعشاب اليابسة والمتطايرة في الهواء أو الريش المتطاير ويفرز عليها سائلا خاصّا يحولها إلى عجينة لاصقة يبني بواسطتها عشه على الصخور (38).
أمّا الخطاف الذي يعيش في سواحل المحيط الهندي فيبني أعشاشه داخل الكهوف، وتسد الأمواج العاتية مدخل هذه الكهوف، وعندما تريد هذه الطيور الدخول إلى أعشاشها ترقد على هذه الأمواج منتظرة اللحظة التي ينحسر فيها الموج عن مدخل ذلك الكهف وعندئذ تنتهز هذه الطيور الفرصة المناسبة للولوج داخل الكهف والوصول إلى العش. وقبل أن تشرع هذه الطيور في بناء الأعشاش تقوم بتثبيت أعلى ارتفاع يمكن أن تصل إليه مياه الأمواج داخل الكهف وبعد ذلك تبدأ في بناء العش بمستوى أعلى من مستوى المياه الآتية بواسطة الموج (39).
وهناك طائر يعيش في إفريقيا يدعى بـ"السّكرتير" يبني عشه في قمم الأشجار الشوكية العالية ليكون بعيدا عن خطر الأعداء، أمّا طائر نقار الخشب الذي يعيش في جنوب غرب أمريكا فينشأ أعشاشه داخل ثقوب يفتحها داخل جذوع نبات الصبار الشوكي العملاقة. أما طيور المستنقعات فتبني عدة أعشاش وهمية إلى جانب العش الحقيقي فيقوم الذكر بإنشاء هذه الأعشاش الوهمية وينتقل من أحدها إلى الآخر ليلفت الانتباه إلى تلك الأعشاش بدلا من العش الذي تتولى الأنثى مهمة بنائه
أعشاش طائر الباتروس
إنّ ارتباط أنثى الطير بفراخها ظاهرة موجودة في جميع أنواع الطيور ومن هذه الطيور الباتروس التي تتكاثر في مسقط رأسها في موسم التلقيح حين تتجمع وتشكل مستعمرة كبيرة ويقوم الذكور بإصلاح الأعشاش البالية قبل أسابيع من قدوم الإناث، وهكذا يتمّ الإعداد لمسكن الإناث والفراخ. أما الاهتمام بالبيض فيمكن مشاهدته عند مراقبة سلوك طائر الباتروس أيضا لأن هذا الطير يستمر واقفا على البيض طيلة 50 يوما دون حراك ، وهذه االعناية الفائقة لا تقتصر على البيض فقط وإنما تشمل الفراخ الخارجة من هذه البيض فيقوم هذا الطائر بقطع مسافة 1,5 كم في كل مرة يخرج فيها لجلب الطعام (41).
أعشاش الطّيور ذات القرون
يعتبر موسم التكاثر موسم عمل ضخم بالنسبة إلى هذه الطيور لأنها تبدي فيه نشاطا يثير الإعجاب سواء ذكرا كان أم أنثى, وأوّل خطوة يجب اتباعها بالنسبة إليهما هي بناء عش مأمون للأنثى والفرخ الصغير القادم.
ويشرع الذكر في العمل فيبحث عن ثقب مناسب في الشجرة ومن ثم تدخل الأنثى هذا الثقب وبعدها يقوم الذكر بسد مدخل الثقب بالطين. بيد أنّ هناك جانبا مهمّا في بناء هذا العش إذ أنّ الذكر وهو يسد المدخل بالطين حماية للأنثى وصغيرها من خطر الأفاعي وغيرها يترك فجوة صغيرة في هذا الثقب وعن طريق هذه الفجوة يمدّ الذكر الأنثى بالطعام لأنها تظل راقدة على البيض لمدة ثلاثة أشهر متواصلة لا تخرج فيها من العش ولو مرّة واحدة، وحتى الصّغار عندما يخرجون من البيض يتم تزويدهم بالطعام عبر هذه الفجوة (4).
ويتصرف الذكر والأنثى تجاه صغارهما بكل صبر ومثابرة وتفان, فالأنثى ترقد على البيض لمدة ثلاثة أشهر متواصلة في داخل العش الذي يكاد يكفيها هي فقط سعة أما الذكر فلا يغفل عنها ولا عن البيض بل يستمر في الرعاية والاهتمام حتى النهاية.
ونفهم من خلال هذه الأمثلة أن لكل نوع من أنواع الطيور أسلوبه الخاص في إنشاء الأعشاش، وكل أسلوب من هذه الأساليب يعتبر معقدا إلى حد كبير ولكن يتبع وينفذ من قبل حيوان غير عاقل و لا يملك منطقا معينا، في حين أنّ هذه الأساليب تتطلب تخطيطا وتصميما كبيرين. ودعونا نفكر في هذه الأمثلة التي تتمثل في كائنات حية غير عاقلة ولكن سلوكها كله عبارة عن شفقة و رأفة و تضحية وتفاني وفق تخطيط بارع. ما مصدر هذه الأنماط السلوكية ؟ وإذا كانت هذه الكائنات الحية لا تملك إرادتها الفاعلة لاتباع هذه الأنماط السلوكية فإذن هناك قوة موجّهة لها فيما تفعله، ومصدر هذه القوة هو الله رب السماوات والأرض وما بينهما .
الأعشاش التي تبنيها الكائنات الحية المختلفة
نحل "البامبوس" :يتميز هذا النوع من النحل بتضحية وتفان فريدين عند بنائه لخليته، فالملكة الشابة تبدأ في البحث عن أنسب مكان لإنشاء الخلية قبل أن تبدأ بوضع بيضها بفترة قصيرة، وبعد أن تجد المكان المناسب، تكون المرحلة اللاّحقة هي إيجاد المواد اللازمة لبناء الخلية من ريش أو عشب أو ورقة نباتية.
في البداية تبني الملكة مكانا خاصا بحجم كرة المنضدة في وسط الخلية وتبنيه بواسطة المواد الأولية التي تجمعها من المحيط الذي توجد فيه، أما المرحلة الآتية فتتمثل في عملية جمع الغذاء للخلية. فعندما تخرج الملكة تبدأ بالتحليق راسمة دوائر وهمية في الهواء واتجاهها أثناء التحليق يكون نحو الخلية دوما وبهذه الطريقة تتذكر موقع خليتها ولا تنساه، وتقوم بجمع رحيق الأزهار أو لب العسل وعندما ترى الكمية كافية تعود لتفرغ ما في بطنها في المكان المخصص في الخلية. أما الجزء الّذي لا يمكن التّغذّي منه فلا تلفظه خارج الخلية بل تستخدمه في صناعة سائل لاصق يفيد في لصق المواد البنائية للخلية إضافة إلى دوره كعازل حراري. وبعد تغذيها من هذا العسل تبدأ بإفراز مادة الشمع إضافة إلى استخدامها رحيق الأزهار الذي جمعته في عمل غرف صغيرة كروية الشكل لتضع فيها من 8-18 بيضة والتي ستفقس عن أول نحلات عاملة في الخلية وتقوم الملكة بسدّ هذه الغرف وما حولها برحيق الأزهار سدا محكما.
ويتم وضع البيض في هذه الغرف بترتيب محكم لا فوضى فيه. والمهمة الرئيسية الأخرى هي تغذية هذه العاملات, لذا تقوم الملكة الشابة بإنشاء أوعية خاصة من الشّمع تضع فيها خلاصة العسل, وبعد فترة تكوين تتراوح ما بين أربعة و خمسة أيام تجد العاملات الخارجات من البيض غذاء جاهزا لها قوامه لبّ العسل ورحيق الأزهار .
ولو أمعنا النظر في هذه العملية بكافة تفاصيلها لوجدنا أمامنا حيوانا غير عاقل وعديم المنطق ولكنه يستطيع استخدام خلاصة العسل كأفضل عامل بناء بالإضافة إلى تفانيه لإنشاء خلية مليئة بالأفراد الصحيحين النشيطين. أمّا طول هذه الحشرة فلا يتجاوز بضعة سنتمترات. و أول ما يتبادر إلى أذهاننا من سؤال هو لماذا كلّ هذا الإيثار والتضحية من قبل الملكة ؟ فالملكة بعد خروج العاملات من البيض لا تكسب شيئا ذا بال، بالإضافة إلى وجود احتمال تركها لخليتها التي أنشأتها عند قدوم ملكة أخرى تزاحمها فيها. بلا شك هناك سبب لتفانيها هذا وتحملها كل هذا الجهد الدّؤوب وهو الإلهام الإلهي الذي يوجه باقي الكائنات الحية أيضا. إذن فلا مكان في عالم الأحياء لمفهوم الأنانية التي يقول بها دعاة التطور (43).
الملاجئ الثّلجيّة للدّب القطبي
تنشئ أنثى الدّب القطبي ملجأ ثلجيا عندما تكون حاملا أو بعد وضعها لوليدها, وهذا الملجأ تحت ركام الجليد، و عدا هذا فإنها لا تعيش في ملاجئ أو مساكن معينة. وعموما تضع الأنثى وليدها في منتصف الشتاء, و يكون الوليد الصّغير لحظة ولادته أعمى و لا شعر له إضافة إلى صغر حجمه، لذا فالحاجة ماسة إلى ملجئ لرعاية هذا المولود الصّغير الضعيف. والملجأ التقليدي يتم إنشاؤه على شكل مترين طولا ونصف قطره تقريبا أي نصف متر عرضا لأن الملجأ يكون على شكل كرة ارتفاعها نصف متر أيضا. ولكن هذا المسكن أو الملجأ لم ينشأ هكذا دون أيّ اهتمام أو تخطيط بل حفر تحت الجليد بكل عناية واهتمام وسط بيئة مغطاة بالجليد, وتم توفير كل وسائل الراحة والرعاية للوليد الصغير في هذا الملجأ. وعموما فإنّ لهذه الملاجئ أكثر من غرفة تنشؤها الأنثى بمستوى أعلى قليلا من مدخل الملجأ كي لايسمح للدفء بالتّسرب إلى الخارج.
وطيلة فصل الشتاء تتراكم الثلوج على الملجأ ومدخله وتحافظ الأنثى على قناة صغيرة للتهويه والتنفس، ويكون سقف الملجأ بسمك يتراوح ما بين 75 سم و مترين. و يقوم هذا السقف بدور العازل الحراري فيحافظ على الدفء الموجود داخل الملجإ ولهذا تبقى درجة الحرارة ثابتة داخله (45).
وقام أحد الباحثين في جامعة أسلو النرويجية ويدعى Paul Watts بتثبيت محرار في سقف أحد ملاجئ الدّببة لقياس درجة الحرارة وتوصّل إلى نتيجة مذهلة, فدرجة الحرارة خارج الملجأ كانت حوالي 30 تحت الصفر أما داخل الملجأ فلم تنزل الحرارة تحت 2-3 أبدا. والظاهرة الملفتة للانتباه هي كيفية قياس أنثى الدب لسمك السّقف الثلجي كي يتواءم مع درجة عزله الحراري لداخل الملجأ إضافة إلى كون الوسط داخل الملجأ بهذه الحرارة ملائما للأنثى من ناحية تنظيم استهلاك مخزونها الدّهني في جسمها أثناء سباتها الشتوي, والأمر الآخر المحير هو خفض أنثى الدب القطبي لجميع فعالياتها الحيوية إلى درجة كبيرة أثناء سباتها الشتوي كي لا تصرف طاقة زائدة ولتساعد على إرضاع صغيرها، وطيلة سبعة أشهر تحوّل الدّهن الموجود في جسمها إلى بروتين لازم لتغذية صغارها, أما هي فلا تتغذى أبدا وتنخفض دقات قلبها من 70 ضربة في الدقيقة إلى ثمان ضربات في الدقيقة وبالتالي تنخفض فعالياتها الحيوية، ولا تقوم بقضاء حاجاتها أيضا وبهذه الطريقة لا تصرف طاقتها اللازمة لتنشئة الصغار الذين سيلدون في تلك الفترة.
مساكن التّماسيح
تعدّ أنثى التمساح الذي يعيش في منطقة "أفيركليدس" في فلوريدا مكانا مختلفا جدّا لوضع البض فهي تقوم بجمع النباتات المتعفنة وتخلطها بالطين لتصنع منها تلة ارتفاعها 90سم تقريبا ومن ثم تحفر حفرة في قمة هذه التلة لتضع فيها بيضها وتغطيها بعد ذلك بالنباتات التي تكون قد جمعتها من قبل ثم تبدأ بحراسة هذه التلة من خطر الأعداء. وعندما يبدأ البيض بالفقس تقترب الأم عند سماع أصوات صغارها وهم يصدرون أصواتا متميزة و تقوم بإزالة النباتات التي غطتها بها ويبدأ الصغار بالتسلق إلى أعلى, و تجمعهم الأم في تجويف فمها المتسع وتذهب بهم إلى الماء ليبدأوا حياتهم (46).
مسكن الضفدع "الحداد"
يعتبر هذا النوع من أبرع البرمائيات في إنشاء مسكه وهو يعيش في جنوب إفريقيا، و يقوم الذكر بإنشاء هذا المسكن على ضفة الماء فالذكر يشرع في الدوران حول نفسه في الطين حتى يحدث فيه ثقبا واضحا، ومن ثم يقوم بتوسيع حوافي هذا الثقب، وعند اكتمال هذه الخطوة يبدأ بتكوين جدران طينيّة متينة لهذا الثقب وفي النهاية يكون قد أنشأ حوضا مائيا بعمق 10سم، ويبدأ بالجلوس داخل هذا الحوض ويصدر أصواتا يدعو فيها الإناث للتكاثر (التزاوج) ويظل على هذا الوضع حتى يلفت انتباه إحدى الإناث وعند مجيء الأنثى تبدأ بوضع بيضها داخل الحوض أما الذكر فوظيفته تلقيح هذا البيض. وبعد ذلك يبدأ كلاهما بمراقبة هذا البيض حتى فقسه، وعند الفقس تخرج يرقات الضفادع والتي تكون محاطة بغلاف واقي وتبقى في هذا الحوض بمأمن من خطر الأسماك والحشرات وعندما تترعرع سرعان ما تثبت فوق جدران هذا الحوض المخصص (لرعاية الصغار) لتخرج وتبدأ حياتها (47).
مهندسو ما تحت الماء
من المعلوم أن الأسماك ليس من عادتها بناء منازل خاصة بها، إلا أن هناك أنواعا منها يسلك سلوكا محيرا, فأسماك المياه العذبة تنشأ لها مساكن خاصة في قيعان البحيرات أو الأنهار أو المياه الراكدة، وغالبا ما تكون على شكل حفر يتم حفرها بين الأحجار أو الرمال، ومثال على ذلك سمك " السلمون " وسمك "البني " فهي تترك بيضها داخل هذه الحفر حتى تفقّس لوحدها. و هناك أنواع أخرى من الأسماك تقوم بحراسة هذا البيض بالتناوب بين الذكر والأنثى عندما يكون البيض مكشوفا والأخطار محيقة . ومعظم أنواع الأسماك تتميز بكون الذكر هو المسؤول عن إنشاء المساكن الخاصة بوضع البيض وحراستها أيضا.
وهناك أسماك تتميز بكون مساكنها أكثر تعقيدا، ومثال ذلك السمك الشوكي الذي يعيش في أغلب المناطق النّهرية والبحيرات في كلّ من أمريكا الشمالية وأوروبا إذ يقوم الذكر بإنشاء أعشاش أكثر اتقانا من أعشاش الطيور، حيث يقوم هذا النوع من السمك بجمع أجزاء من النباتات المائية ومن ثم يلصقها ببعضها البعض عن طريق سائل لزج يفرز من كليّ هذا السّمك ويقوم الذكر بالسباحة حول هذه الخلطة اللزجة والتمسح بها حتى يعطيها شكلا طوليا منتظما وبعدها يثب فجأة سابحا من منتصف هذه العجينة شاقا إياها لكي تصبح على شكل نفق له مخرج ومدخل ويمر من خلاله الماء، و إذا حدث أن مرت أنثي بالقرب من هذا النفق العش يقوم الذكر بمغازلتها بالسباحة حولها جيئة وذهابا حتى يذهب بها إلى مدخل النفق الذي يحاول أن يدلها عليه عن طريق مقدمة رأسه، وعندما تبيض الأنثى داخل هذا النفق يدخل الذكر من المقدمة دافعا الأنثى إلى الخارج عن طريق المؤخرة. وهكذا تعاد العملية مع عدة أثاث وهدف الذكر من دخول النفق وطردهم إياهن هو تلقيح البيض. وعندما يمتلأ النفق بالبيض يبدأ الذكر بحراستها ويثابر على السماح بدخول الماء العذب إلى النفق، ومن جانب آخر يقوم بترميم الأجزاء التالفة منه، ويستمر في حراسة النفق حتى بعد عدة أيام من فقس البيض. وفيما بعد يقوم بقطع الجزء العلوي من النفق تاركا السفلي لمعيشة الصغار (48).
كيف تنجح الحيوانات في إنجاز هذا العمل ؟
تصوّروا إنسانا ليست لديه أية معرفة بالعمارة ولا عمل في قطاع البناء أبدا وليست لديه خبرة في تحضير المواد الأولية للبناء ولا عن كيفية البناء ومع هذا يقوم بإنشاء مسكن بكل براعة وإتقان, كيف يحصل هذا؟ هل يستطيع أن يفعل ذلك لوحده ! بالتأكيد لا، فالإنسان الذي يعتبر مخلوقا عاقلا وذا منطق من الصعوبة أن يسلك هذا السلوك .
إذن هل من الممكن أن تسلك هذه الحيوانات سلوكا يتطلب ذكاء وقابلية ؟ وكما أسلفنا القول في الصفحات السابقة إنّ أغلب الحيوانات لا فقط لا تملك مخا وإنما تفتقر إلى جهاز عصبي ولو بسيط ولكنّها مع ذلك تقوم بحسابات دقيقة جدا عند إنشائها لأعشاشها، وتطبق قوانين الفيزياء وتستخدم أساليب تتطلب مهارة خاصة بالنسيج والخياطة، إضافة إلى إيجادها حلولا أمام كلّ المشاكل التي تعترض سبيلها أو سبيل صغارها وبصورة عملية تماما. وتعد هذه الحيوانات لنفسها خلطة البناء بصورة طبيعية ومتقنة فضلا عن تركيبها وصفة خاصة لعزل عشها عن تأثيرات البيئة السلبية. ولكن هل يعرف الطير أو الدب القطبي معنى العازل الحراري؟ وهل يفكر هذا الحيوان أو ذاك بضرورة تدفئة عشه أو عرينه ؟ والواضح أن هذه الاستنتاجات الفكرية لا يمكن أن تصدر من هذه الحيوانات، إذن كيف اكتسبت هذه الحيوانات مثل هذه الخبرة والمهارات؟
و هذه الحيوانات تتّصف كذلك بأنها مثابرة وصبورة جدا في إنشائها لمساكنها على الرغم من أن هذه المساكن تكون في أغلب الأحيان محلاّ لسكن صغارها فقط.
هناك تفسير واحد لهذه العقلانية والمنطقية والتفاني في سلوك هذه الحيوانات, إنه الإلهام الإلهي. فالبارئ المصور خلقها بهذه الصورة الكاملة وألهمها هذا السلوك كي تحافظ على نسلها وعلّمها الدفاع عن النفس و الصّيد و التّكاثر كلّ بأسلوبه الخاص الذي يميّزه باعتباره نوعا حيوانياّ مختلف، هو الله الحافظ الرّحمان الذي رحمته وسعت كل شيء وبرحمته هذه علّم هذه الحيوانات كيفية بناء أعشاشها وفق تخطيط بارع و متقن، وما الكلام عن "التطور" و من أن " الطبيعة الأم" أو المصادفات هي التي علمت الكائنات الحية هذه الأنماط السلوكية سوى تخبط لا أساس له سواء فكريا أو علميا، وما سلوك الحيوانات هذا سوى إلا إلهام إلهي ورحمة واسعة من لدن الرحمن الرحيم .
ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر وممّا يعرشون " صدق الله العظيم . سورة النحل - الآية 68 .
إنه هو الذي ألهم النحل كيفية بناء الخلية وكذلك باقي الكائنات الحية ألهمت من قبله جلت قدرته كيفية بناء مساكنها وكيفية إعداد المواد اللاّزمة للبناء والأساليب المتّبعة لإنجاز تلك الأعمال و كذلك الحفاظ على النسل والتضحية في سبيل الحفاظ على حياة الصغار. إنّ الكثير من الكائنات الحية تبدي تفانيا محيّرا وتتحمل صعوبات كثيرة في سبيل التكاثر والحفاظ على بيضها أو صغارها المولودين حديثا، ويمكن مشاهدة نماذج في الطبيعة تضحي بحياتها في سبيل ذلك. فمثلا هناك أنواع من الحيوانات تقطع كيلومترات عديدة جدا في سبيل وضع البيض وأخرى تبذل جهدا شاقا ودؤوبا لإنشاء أعشاش آمنة، وأنواع أخرى تموت مباشرة بعد التكاثر ووضع البيض فضلا عن أنواع تحمل بيضها في فمها لمدة أسابيع دون أن تتغذى أو أنواع تحرس بيضها لمدة أسابيع أيضا دون كلل أو ملل.
والحقيقة أن هذه الأنماط السلوكية الفريدة تهدف إلى تحقيق غاية واحدة هي الحفاظ على النّسل لأن الصغار و هم ضعاف لا يستطيعون البقاء إلاّ برعاية الكبار البالغين الأقوياء، فلوترك غزال مولود حديثا وحده في العراء أو لو ترك بيض طير دون حماية لاشك أن حظهما في البقاء يكون ضئيلا جدا. والملاحظ في الطّبيعة أنّ الحيوانات البالغة تقوم برعاية صغارها دون ملل أو إهمال أو استنكاف وتتحمل مسؤولية الرعاية كاملة, كلّ ذلك استجابة للإلهام الإلهي.
والغريب أيضا في هذه المسألة هو كون الكائنات الحية التي تبدي تفانيا ودأبا في رعاية صغارها هي من أقل الكائنات الحية تكاثرا، ومثال على ذلك الطيور فهي تضع عددا محدودا من البيض كلّ سنة ولكنها تهتم بهذا العدد من البيض اهتماما بالغا. وهذا القول جائز في اللبائن أيضا والتي يمكن القول عنها أنها تلد مولودا واحدا أو مولودين ولكنها تستمر في الرّعاية و العناية مدة طويلة نسبيا، وهنا ك كائنات حية لا تبدي اهتماما ملحوظا بصغارها بالرغم من كونها تبيض أعدادا كبيرة من البيض تقدر بالآلاف مثل الأسماك والحشرات أو الفئران التي تلد أعدادا كبيرة في كل موسم تكاثري, ولكونها بهذا العدد الضخم ضمن العائلة الواحدة فإن الاحتمال عال باستمرار النّسل بالرغم من هلاك أعداد كبيرة من الصغار في المراحل الأولى من حياتها. ولو كانت هذه الحيوانات تهتم بصغارها بصورة كبيرة لكانت أعدادها تتزايد باطراد وبالتّالي يحدث خلل في التّوازن البيئي, ومثال على ذلك فئران الحشائش التي تتكاثر بصورة كبيرة جدا ولو حدث أن حافظت على أعدادها المتزايدة لملأت هذه الفئران وجه البسيطة(49). و المعلوم أنّ التكاثر يمكن اعتباره إحدى الوسائل الكفيلة بالحفاظ على التوازن البيئي إلا أن الكائنات الحية لا يمكن لها التحكم في خاصية "التكاثر" هذه من وحي علمها أو سلوكها المنطقي .
والمعلوم أيضا أن هذه الكائنات الحية مخلوقات غير عاقلة لذا فلا يمكن أن ننتظر منها سلوكا ضابطا للإيقاع التكاثري حفاظا على التوازن البيئي و لا حسابا مضبوطا لتحقيق ضرورة التكاثر من أجل استمرار النسل. وكل هذه الشواهد الحية تدل على وجود قوة تدير هذه السيمفونية الطبيعية، وهذه القوة تملي إرادتها على كل كائن حي على حدة ليمارس دوره المسيّر ( وليس المخيّر ) في ممارسة مهمّته في البيئة الطبيعية على أكمل وجه، أي أنّ الحقيقة تتمثل في عدم وجود أيّ كائن حي خارج السيطرة أو تحرّكه بشكل اعتباطي, فكل الكائنات الحية تنقاد وتخضع لله الواحد القهار .
ويقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه المبين عن كيفية تكاثر الأحياء بإذنه جل جلاله وعن كيفية تقديره لحياتها ومماتها وهو الحي القيوم: " الله يعلم ما تحمل كلّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار " سورة الرعد - الآية 8 ويقول أيضا: " ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الّذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون " سورة فصلت - الآية 47, أمّا في سورة الشورى-الآية 49-50 فيقول تعالى : " لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير (50) " صدق الله العظيم
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح