التضحيه عند الكائنات الحيه غير البشريه (الجزء الثاني )
التضحية الموجودة في المستعمرات
تعيش كائنات مثل النحل والنمل و النمل الأبيض ضمن تشكيلات اجتماعية يتم بناؤها بانتظام وطاعة وتوزيع الواجبات إضافة الى التضامن والتضحية .وهذه الأحياء الصغيرة تبذل كل جهدها ووقتها في سبيل الحفاظ على سلامة اليرقات منذ لحظة خروجها من البيض وعلى سلامة المستعمرة وتأمين غذاءها. و تتقاسم غذاءها فيما بينها وتقوم بتنظيف المكان الذي تتواجد فيه وإذا اقتضى الأمر تضحي نفسها من أجلها غيرها.
والكل يعرف ما عليه أن يفعله ة ويحرص على فعل ما بوسعه على بأكمل وجه .وكل واحد منها يهتم بالمستعمرة واليرقات الضعيفة وهذان الهدفان من الأولويات المهمة لديها. ولا يمكن لنا أن نشاهد ضمن أنماطها السلوكية أي دليل على أنانيتها البتة.وهذا بلا شك سبب نجاح هذه الأحياء في الحياة ضمن مستعمرة ملؤها النظام والانتظام.
ويحدثنا بيتر كرو بوتكين عن مدى النجاح الذي يتوصل إليه النحل و النمل اللأبيض ضمن العيش في مستعمرة يتسم كيانها بالتعاون المتبادل كما يلي : لو تصورنا المستعمرات التي ينشئها النحل أو النمل اللأبيض بمقياس المنازل التي ينشئها بني الإنسان لكانت هذه المستعمرات متطورة للغاية في أسلوب بنائها وادارتها لانها تتالف من طرق معبدة ومخازن مهياة للاستهلاك عند الحاجة وصالات فسيحة اضافة الىمخازن للحبوب ومساحات اخرىلجعلها مخزنا للحبوب وتستخدم في هذه المستعمرات مختلف الوسائل لرعاية البيض واليرقات .وأخيرا المجهود الضخم الذي تبذله في حياة المستعمرة كل ذلك دليل على التضحية و التعاون المتميزين في كل خطوة من خطوات العمل 130.
في هذا الباب سنذكر بالتفصيل التعاون والتضحية في مستعمرة النحل وخليته.
معالم التضحية في مستعمرة النمل
من أهم معالم الميزة لمستعمرة النمل المشاركة في الغذاء . فإذا تقابلت نملتان وكانت إحداهما جائعة أو عطشى والأخرى تملك شيئا في بلعومها لم يمضغ بعد فان الجائعة تطلب شيئا من الأخرى التي لا ترد الطلب أبدا وتشاركها في الأكل والشرب .وتقوم النملات العاملات بتغذية اليرقات بالغذاء الموجود في بلعومها .وفي أغلب الأحيان تكون كريمة مع غيرها وبخيلة مع نفسها يشأن الغذاء131.
2. هناك توزيع في أداء الواجبات ضمن المستعمرة الواحدة وكل نملة تؤدي ما عليها من واجب بكل تفاني وإخلاص .وإحدى هذه النملات هي البوابة او حارسة الباب .وهي المسؤولة عن السماح بدخول النمل من أبناء المستعمرة فقط ولا يسمح للغرباء بالدخول أبدا وتكون رؤوس هذه الحارسات بحجم بوابة المستعمرة فتستطيع أن تسد هذه البوابة برأسها. وتظل الحارسات طيلة اليوم يقمن بواجبهن وهو حراسة مدخل المستعمرة 132 لذلك فان أول من يجابه الخطر هؤلاء الحارسات.
3. لا تكتفي النملات بمشاركة أخواتها بالطعام الذي تحمله في معدتها بل تقوم بتنبيه الباقيات الى وجد طعام أو كلإ في مكامن ما صادفته .وهذا السلوك لا يحمل في طياته أي معنى للأنانية. وأول نملة تكشف الغذاء تقوم بملء بلعومها منه ثم تعود الى المستعمرة .وفي طريق العودة تقوم بلمس الأرض بطرف بطنها تاركة مادة كيمياوية معينة ولا تكتفي بذلك بل تتجول في أنحاء المستعمرة بسرعة ملحوظة ثلاث او ستة مرات وهذه الجولة تكفي لإخبار باقي أفراد المستعمرة بالكنز الذي وجدته .وعند عودة النملة المكتشفة إلى مصدر الغذاء يتبعها طابور طويل من أفراد المستعمرة.
4.هناك نمل يدعى قطاع الورق تكون عاملاته المتوسطة الطول مشغولات طيلة اليوم بحمل أجزاء الورقة النباتية إلى المستعمرة .ولكنها تكون في غاية الضعف عند حملها للورقة النباتية خصوصا تجاه الذباب أو أبناء جنسه .ويترك الذباب بيضه على رأس هذا النمل .وتنمو يرقة هذا الذباب متغذية من مخ هذه النملة وهو ما يؤدي الى موتها.وتكون عانلات هذا النوع من النمل في غاية الضعف أمام سلوك هذا الذباب خصوصا عند حملهن للورقة النباتية .ولكن هناك من يحميهن من هجوم هذا الذباب وهم النمل الذين من نفس المستعمرة وقصيري القمة يقومون بوظيفة حراسة العاملات بواسطة جلوسهم فوق الورقة النباتية وعلى أهبة الاستعداد لرد أي هجوم من الذباب على أعقابه133.
هناك نوع من النمل يدعى نمل العسل وسبب هذه التسمية أنها تتغذى على فضلات بعض الحشرات المتطفلة على الأوراق النباتية وتكون فضلات هذه الحشرات غنية بالمواد السكرية. وتحمل هذه النملات ما مصته من فضلات سكرية إلى مستعمرتها و تخزنها في أسلوب عجيب وغريب .لان البعض من هذه النملات العاملات يستخدم جسمه كمخزن للماد السكرية .وتقوم العاملات اللاتي حملن المواد السكرية بتفريغ حمولتهن داخل أفواه العاملات او-المخازن الحية-والتي بدورها تملأ الأجزاء السفلية من بطونها بهذا السكر حتى تنتفخ بطونها ويصبح حجمها في بعض الأحيان بحجم حبة العنب .ويوجد من هذه العاملات في كل غرفة من غرف الخلية عددا منهن يتراوح بين 25و30نملة ملتصقات بواسطة سيقانهن بسقف الغرفة في وضع مقلوب .ولو تعرضت إحداهن للسقوط تسارع العاملات الأخريات إلى إلصاقها من جديد .والمحلول السكري الذي تحمله كل نملة يكون أثقل بثماني مرات من وزن النملة نفسها.وفي موسم الجفاف أو الشتاء تقوم باقي النملات بزيادة هذه المخازن الحية لأخذ احتياجاتها من الغذاء - السكر - اليومي .حيث تلصق النملة الجائعة فمها بفم النملة المنتفخة وعندئذ تقوم الأخيرة بتقليص بطنها لإخراج قطرة واحدة الى فم أختها .ومن المستحيل ان يقوم النمل بتطوير هذه المخازن وابتكارها بهذه الطريقة العجيبة ومن تلقاء نفسها .واضافة الى ذلك التفاني والتضحية التي تتسم بها النملة المنتفخة حيث تحمل ما هو أقل من وزنها ثماني مرات فضلا عن بقائها ملتصقة وبالمقلوب مدة طويلة جدا ودون مقابل. وان هذا الأسلوب المبتكر وفقا لبنية تلك النملة ليس من الصدفة وحدها .لأن هناك نمل متطوع أن يصبح مخزنا حيا في كل جيل جديد وطيلة أجيال سابقة ولاحقة .بلا شك أن سلوكها هذا من تأثير الإلهام الإلهي الذي خلقهن وسواهن عز وجل .
6.هناك أسلوب للدفاع عن المستعمرة يتبعه النمل أحيانا وهو الهجوم على العدو والتضحية حتى الموت.وتوجد أشكال عديدة لهذا الهجوم الانتحاري .منها الأسلوب الذي يتبعه النمل الذي يعيش في الغابات المطرية في ماليزيا فجسم هذا النوع من النمل يتميز بوجود غدة سمية تمتد من رأس النمل حتى مؤخرة جسمه.وان حدث أن حوصرت النملة من كل جهة تقوم بتقليص عضلات بطنها بشدة تكفي لتفجير هذه الغدة بما فيها من السم بوجه أعدائها ولكن النتيجة موتها بالطبع 134.
7.يقدم ذكر النمل ومثله الأنثى تضحية كبيرة في سبيل التكاثر .فالذكر المجنح يموت بعد فترة قصيرة من التزاوج .أما الأنثى فتبحث عن مكان مناسب لإنشاء المستعمرة وعندما تجد هذا المكان فان أول عمل تقوم به هو التخلي عن أجنحتها .وبعد ذلك تسد مدخل المكان وتظل كامنة داخله لأسابيع وحتى الشهور دون أكل أو شرب .وتبدأ بوضع البيض باعتبارها ملكة المستعمرة .وتتغذى في هذه الفترة على جناحيها الذين تخلت عنهما .وتغذي أول اليرقات بإفرازاتها هي وهذه الفترة تعتبر الوحيدة بالنسبة للملكة التي تعمل فيها لوحدا بهذا الجهد والتفاني وهكذا تبدأ الحياة بالمستعمرة
8.إذا حدث هجوم مفاجئ من قبل الأعداء على المستعمرة تقوم العملات ببذل ما بوسعهن للحفاظ على حياة الصغار . ويبدأ النمل المقاتل بالتحرك صوب الجهة التي هجم منها العدو ومجابهته فورا. أما العاملات فتسرع نحو الغرف التي توجد فيها اليرقات لتحملها بواسطة فكوكها إلى مكان معين خارج المستعمرة لحين انتهاء المعركة 133 والمتوقع من حيوان كالنمل في مثل هذا الموقف العصيب أن هذا الموقف العصيب أن يفر هاربا ويختفي فيه عن انظار الأعداء ، ولكن الذي يجري في المستعمرة غاية في التضحية والتفاني من أجل سلامة المستعمرة, فلا النّمل المقاتل ولاحراس البوابة ولا العاملات يفكرون في أنفسهم فقط، فالكلّ يفكّر في المستعمرة بأكملها، وهذا ديدن النّمل منذ ملايين السنين.
و بلا شك فإنّ الأمثلة سالفة الذّكر تعتبر أمثلة محيرة من عالم الأحياء, والمحير فيها أنّ هذه الأنماط السّلوكية صادرة عن كائنات حيّة صغيرة كالنمل و هو ما يصادفه الإنسان في حياته اليومية دون أن يشعر بتفاصيل حياة هذا المخلوق. ولو دققنا في هذه التفاصيل لوجدنا أمورا عجيبة وغريبة تجبرنا على التفكير بروية في ماهيتها لأن هذه الحيوانات تمتاز بوجود جهاز عصبي دقيق للغاية ومخّ محدود الحجم والارتباطات العصبية مع هذا تقوم بسلوكيات لا يمكن القول عنها إلاّ أنها شعورية محض، والسبب كونها منفذة مطيعة لما أمرت به أن تنفذه منذ ملايين السنين دون فوضى أو إهمال أو تقصير، وما هذا الأمر المنفذ بحذافيره إلا إلهام إلهي من الخلاق العليم جل جلاله. وهذا الانقياد التام من الكائنات الحية للخالق عز وجل يصوّر من قبل القرآن كما يلي :
: { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون } سورة آل عمران - الآية 83
صور من التّضحية في خليّة النّحل
إنّ التضحية والتفاني الموجودين في عالم النمل موجودان بوضوح أيضا في عالم النحل، فهناك تشابه شبه كلي بين سلوك العاملات في كلا العالمين لأنّها تتفانى في سبيل الحفاظ على حياة وسلامة الملكة واليرقات علما أن هذه العاملات عقيمة وهذه اليرقات ليست من صغارها. وتتألف خلية النحل من الملكة والذكور المسؤولة عن تلقيح الملكة والعاملات، والعاملات تعتبر المسؤولة الأولى والأخيرة عن إدارة الخلية بمختلف نشاطاتها الحيوية اليومية مثل إنشاء الغرف الشمعية و نظافة الخلية و أمن الخلية و تغذية الملكة والذكور و الاعتناء باليرقات و إنشاء الغرف حسب نوع النّمل الذي يخرج من البيض من ملكة أو ذكر أو عاملة ، وتهيئة هذه الغرف بصورة مناسبة، وتنظيفها، إضافة إلى توفير الدفء والرطوبة اللازمين للبيض، وتوفير الغذاء لليرقات حسب الحاجة { الغذاء الملكي ، العسل الممزوج برحيق الأزهار } وجمع المواد اللازمة لصنع الغذاء مثل خلاصة الفواكه ، رحيق الأزهار ، الماء ونسغ الأشجار …
ويمكننا أن نرتّب المراحل أو الأطوار الحياتية التي تمر بها النحلة العاملة وفق التسلل الزمني كما يلي : ( تعيش النحلة العاملة من 4-6 أسابيع .وعندما تخرج العاملة من الشرنقة كاملة النمو تظل تعمل داخل الخلية فترة ثلاثة أسابيع تقريبا أو أقل قليلا، و أول عمل تقوم به الاهتمام بتنشئة اليرقات ورعايتها. وتتغذى النحلة العاملة على ما تأخذه من العسل ورحيق الأزهار المتوفرين في مخازن خاصة داخل الخلية إلا أنها تقدم جزءا كبيرا مما تحصل عليه إلى اليرقات كي تتغذى عليها، وتنفذ عملية تغذية اليرقات عن طريق إخراج جزء مما تغذت عليه سابقا من معدتها والجزء الآخر يتم إفرازه من غدد خاصة موجودة في منطقة الرأس وهذه الغدد تفرز مادة جيلاتينية تعتبر غذاء لليرقات .
وهناك سؤال يطرح نفسه : كيف يمكن لكائن حي خرج توا من الشرنقة أن يعرف ما عليه أن يفعله دون اعتراض وهذا يشمل كلّ النحل؟ والمفروض في هذه العاملات أن تفكر في إدامة حياتها وكيفية الحفاظ عليها لحظة خروجها من الشرنقة دون تفكير في التضحية من أجل الغير أو دون الإقدام على أي سلوك شعوري، ولكن الحاصل غير ذلك تماما، فهذه العاملة تتصرف انطلاقا من مسؤولية كبيرة تشعر بها تجاه اليرقات وتقوم بحضنهن والاهتمام بسلوكية متوقعة منها.
2- عندما تدخل النّحلة العاملة يومها الثاني عشر في الحياة تنضج غددها التي تفرز شمع العسل عندئذ تبدأ العاملات ببناء الغرف الدراسية وترميم الموجود منها والمخصصة لكن اليرقات وتخزين الغذاء .
3-في الفترة المحصورة بين اليوم الثاني عشر ونهاية الأسبوع الثالث تقوم العاملات بجمع رحيق الأزهار وخلاصة العسل اللذين جلبا من قبل الذاهبين خارج الخلية. وتقوم بتحويل خلاصة العسل إلى عسل وتخزنه فيما بعد، وفي نفس الأثناء تقوم بتنظيف الخلية من الفضلات والأوساخ وأجساد النحل الميت رامية إياهن خارج الخلية .
4-تصبح الخلية العاملة في نهاية الأسبوع الثالث جاهزة أن تخرج لجمع خلاصة العسل ورحيق الأزهار والماء ونسغ النباتات .
تبدأ النحلات العاملات بالخروج للبحث عن الأزهار الحتي تحتوي على خلاصة العسل .
وهذه العملية { عملية جمع ال غذاء } مرهقة للغاية، فتصبح النحلة العاملة مرهقة ومتعبة حتى الموت في نهاية أسبوعين أو ثلاثة من العمل المرهق(136). والملاحظ هنا أن هذه النحلة العاملة تفرز عسلا بمقدار يفوق حاجتها بكثير. وهذه الملاحظة تحتاج إلى تفسير طبعا، وأن السّفسطة التي يقول بها دعاة التّطور لا يمكن لها أن تفسر هذا السّلوك المتفاني من كائن حي يفترض فيه أن يهتم بسلامة وإدامة حياته فقط .
وهنا تتجلى لنا آية من آيات الله سبحانه وتعالى كما أوضحنا في صفحات سابقة بأن الله عز وجل هو الذي ألهم النحل هذا السلوك العجيب استنادا لما ورد في سورة النحل من القرآن الكريم ، وهذا هو التفسير الوحيد لسلوك النحل فهو يلبي دعوة الرحمان وإلهامه إياه دون تقصير أو كلل ، وما على الإنسان إلا أن يتفكر أمام هذه الحقيقة الساطعة استجابة للآية القرآنية الآتية :
{ سورة النحل -الآية 69 } قوله تعالى : { ثم كلي من الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } صدق الله العظيم .
5- تنتظر العاملات مهمة أخرى محتاجة للتنفيذ قبل خروجهن لجلب الغذاء وهي مهمة الحراسة .
هناك عدد من النحل في باب كل خلية مهمتهم حراستها من دخول الغرباء ، فكل من لا يحمل رائحة التبعية إلى الخلية يعتبر مصدرا للخطر على حياة الخلية واليرقات .
وإذا حدث أن شوهد غريب في مدخل الخلية تبدأ الحارسات بالهجوم عليه بشدة ، ورنين أجنحة الحارسات الشديد يعتبر كصفارة إنذار بقدوم الخطر لباقي سكان الخلية ، وتستخدم الحارسات إبرهن اللاسعة كسلاح فعال ضد العدو الغريب ، والسم الذي تفرزه الحارسات له رائحة مميزة تنتشر في كافة أنحاء الخلية كعلامة للخطر الداهم . عندئذ يتجمع سكان الخلية عند المدخل للمساهمة في القتال ضد العدو الغريب .وإذا لدغت الحارسة عدوها بإبرتها تبدأ بفرز السم وهذا يؤدي إلى انتشار الرائحة أكثر فأكثر ، وكلما ازدادت رائحة السم داخل الخلية كلما ازداد النحل هيجانا وشراسة ضد العدو الغاصب (137).
إن مهمة الدفاع عن الخلية تعتبر بمثابة انتحار ، لأن إبرة النحل اللاسعة تحتوي على رؤس مدببة مثل أشواك القنفذ ، ولا يمكن للنحلة أن تسحب إبرتها بعد غرزها في جسم حيوان بسهولة وعندما تحاول الطيران تبقى الإبرة مغروزة في جسم الحيوان {العدو} و تتعرض بذلك النحلة إلى جرح مميت نتيجة تعرض بطنها إلى شق عميق من ناحية الخلف ، وفي هذه الناحية من البطن توجد الغدد التي تفرز السم والعقد العصبية التي تتحكم بها وعندما تلفظ النحلة أنفاسها الأخيرة يقوم باقي النحل بالاستفادة من موتها عن طريق أخذ السم الموجود في غدد القتيلة والاستمرار بضنحة في جرح العدو الغريب (138).
بعد هذا الاستعراض ، كيف لنا أن نفسر سلوك كائن حي يبدأ منذ أول مرة خطوة له في الحياة بالعمل الدؤوب والمثابرة دون كلل أو ملل من أجل راحة الغير وسلامته وحتى تضحيته بحياته من أجل سلامة الآخرين ؟إضافة إلى هذه الأنماط السلوكية هي نفسها في كل أنواع النحل والنمل أينما وجدت على الكرة الأرضية ومنذ ملايين السنين ، والحقيقة تبرز أمامنا بوضوح ،حقيقة سلوك هذه الكائنات الصغيرة بحجمها والكبيرة بتضحياتها من تأثير الهام الله عز وجل لها .
" سورة هود - الآية 56 " قوله تعالى : { إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم } صدق الله العظيم .
الخاتــــــمة
بعد هذا العرض الموجز لأمثلة الكائنات الحية المختلفة يتضح لنا أن هنالك قاسما مشتركا بين الأنماط السلوكية التي تبديها وهو التضحية والرحمة والشفقة ، وكل منها يراعي صغيره ويدافع ويحمي عائلته أو أي حيوان آخر بأروع صورة ممكنة ، وكل منها يضرب لنا مثلا بالرحمة والمودة وبنفس الوقت يساعد بعضها البعض عند الخطر وفق سلوك عقلاني مدهش ، إضافة إلى تغذية بعضها البعض بأساليب ذكية ، وتبني هذه الحيوانات بيوتها ببراعة مهندس معماري حاذق ومهارة بنّاء خبير .
وهناك نقطة مهمة للغاية ونؤكد عليها طيلة صفحات هذا الكتاب وهي : أن الحديث يدور عن كائنات حية منها الصغير مثل الحشرات ومنها الطيور والضفادع ، وهل لنا أن ندعي أن هذه الكائنات الحية التي لا تملك إلا ما يشبه المخ أو ما يقوم مقامه تخترع شيئا جديدا أو تبتكر وسيلة ما ناجعة في الحياة ؟
وهل تعرف الطيور أو الحشرات كيفية إبداء سلوك يتم بالرحمة والشفقة ؟
كيف لنا أن نفسر سلوك ذكر البطريق المليء بالتضحية والفداء من أجل سلامة أنثاه وأولاده ؟
لماذا ترمي الغزلان أو الحمير الوحشية بنفسها أمام الخطر المفترس كحاجز بينه وبين صغارها ؟
وهذه الأسئلة تعتبر معضلة كبيرة أمام نظرية "التطور" التي تدعي أن الأحياء نشأ وآمن جراء الصدفة وحدها ومن أشياء غير حية ، ويدعي دعاة "التطور" أن الأحياء تسلك هذا السلوك نتيجة غرائزها .
وهذه الغرائز مودعة في جيناتها وهذه الادعاءات تقودهم إلى مآزق فكرية لا مخرج لها ،لأن السؤال المنطقي الذي يعقب هذه الادعاءات هو : من الذي وضع أو برمج الغرائز في هذه الجينات التي نتج عنها السلوك المتسم بالتضحية والرحمة والشفقة ، والذي يقود الكائن الحي إلى بناء المساكن والأعشاش عن سابق معرفة ؟ كيف تشكلت هذه الأنماط السلوكية داخل الجين المتألف من مواد غير حية كالكربون والفوسفات ؟
ولا يملك دعاة " التطور " أية إجابة عن هذه الأسئلة ، وتنحصر إجابتهم في ردود لا تقدم ولا تؤخر ولا تنفع إلا لذر الرماد في العيون وتتمثل بكون هذه الخصائص أو الغرائز قد تم برمجتها في الجينات عن طريق " الطبيعة الأم " ، وكثيرا ما نسمع منهم " أن الطبيعة هي التي أعطت للأحياء خاصية ورعاية الصغار " ولكن هذه الطبيعة تمتلك فعلا مثل هذه القدرة والطبيعة التي نتحدث عنها مخلوقة بدورها وتتألف من أشجار وأحجار وأنهار والجبال والمياه والتراب ، يا ترى أي جزء من هذه الأجزاء يملك المقدرة على إكساب الكائنات الحية أنماطا سلوكية مختلفة ؟
وهذا الإدعاء الباطل من قبل هؤلاء قد تحدث عنه القرآن الكريم في معرض إيراده لأمثلة الجاحدين والناكرين لقدرة الله تعالى وجعلهم الطبيعة ندا لله حاشاه ، والصحيح أن للطبيعة بدورها مخلوقة وتتألف من كائنات حية وغير مخلوقة ولا تملك الطبيعة أية قدرة على الإكساب أو الخلق ، ويصف لنا القرآن حال الذين يصفون الأشياء الضعيفة بالقوة والقدرة : " سورة الفرقان - الآية 3 " قال تعالى :{ واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا } صدق الله العظيم .
ومن المستحيل قطعا أن يمتلك كائنا حي المقدرة والذكاء والمعرفة والمفاهيم المعنوية بتأثير كائنات لا تملك عقلا ولا قوة وهذا الأمر يتنافى مع قواعد العقل والمنطق .
والحقيقة أمامنا ساطعة كالشمس وهي سلوك هذه الأحياء هذا السلوك المتصف بالرحمة والشفقة والتفاني والتضحية بتأثير الإلهام من الله الرحمن الرحيم الذي وسع كرسيه كل شيئا رحمة وعلما .
وأن الأمثلة التي أوردناها في هذا الكتاب دليل على قوة ورحمة وقدرة الله تعالى على جعل هذه الكائنات تتبع هذا السلوك المتميز ، فالطير أو الغزال الذي يدافع عن صغيره ويذود عنه ويعمل جاهدا لتنشئته سليما آمنا لا يفعل كل ذلك إلا بإلهام إلهي .
ورحمة الله التي وسعت كل شيء لا ترى أمثلتها في الحيوانات فقط بل يمكن رؤيتها في الإنسان أيضا لذلك فاللذين يتفكرون ويتمتعون في أصل ومصدر الأشياء لاشك سيصلون إلى النتيجة البديهية : " سورة هود - الآية 57 " { فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم و يستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إنّ ربي على كل شيء حفيظ }
صدق الله العظيم .
" سورة المؤمنين - الآية 118 " { وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين } صدق الله العظيم .
بوح الروح
التضحية الموجودة في المستعمرات
تعيش كائنات مثل النحل والنمل و النمل الأبيض ضمن تشكيلات اجتماعية يتم بناؤها بانتظام وطاعة وتوزيع الواجبات إضافة الى التضامن والتضحية .وهذه الأحياء الصغيرة تبذل كل جهدها ووقتها في سبيل الحفاظ على سلامة اليرقات منذ لحظة خروجها من البيض وعلى سلامة المستعمرة وتأمين غذاءها. و تتقاسم غذاءها فيما بينها وتقوم بتنظيف المكان الذي تتواجد فيه وإذا اقتضى الأمر تضحي نفسها من أجلها غيرها.
والكل يعرف ما عليه أن يفعله ة ويحرص على فعل ما بوسعه على بأكمل وجه .وكل واحد منها يهتم بالمستعمرة واليرقات الضعيفة وهذان الهدفان من الأولويات المهمة لديها. ولا يمكن لنا أن نشاهد ضمن أنماطها السلوكية أي دليل على أنانيتها البتة.وهذا بلا شك سبب نجاح هذه الأحياء في الحياة ضمن مستعمرة ملؤها النظام والانتظام.
ويحدثنا بيتر كرو بوتكين عن مدى النجاح الذي يتوصل إليه النحل و النمل اللأبيض ضمن العيش في مستعمرة يتسم كيانها بالتعاون المتبادل كما يلي : لو تصورنا المستعمرات التي ينشئها النحل أو النمل اللأبيض بمقياس المنازل التي ينشئها بني الإنسان لكانت هذه المستعمرات متطورة للغاية في أسلوب بنائها وادارتها لانها تتالف من طرق معبدة ومخازن مهياة للاستهلاك عند الحاجة وصالات فسيحة اضافة الىمخازن للحبوب ومساحات اخرىلجعلها مخزنا للحبوب وتستخدم في هذه المستعمرات مختلف الوسائل لرعاية البيض واليرقات .وأخيرا المجهود الضخم الذي تبذله في حياة المستعمرة كل ذلك دليل على التضحية و التعاون المتميزين في كل خطوة من خطوات العمل 130.
في هذا الباب سنذكر بالتفصيل التعاون والتضحية في مستعمرة النحل وخليته.
معالم التضحية في مستعمرة النمل
من أهم معالم الميزة لمستعمرة النمل المشاركة في الغذاء . فإذا تقابلت نملتان وكانت إحداهما جائعة أو عطشى والأخرى تملك شيئا في بلعومها لم يمضغ بعد فان الجائعة تطلب شيئا من الأخرى التي لا ترد الطلب أبدا وتشاركها في الأكل والشرب .وتقوم النملات العاملات بتغذية اليرقات بالغذاء الموجود في بلعومها .وفي أغلب الأحيان تكون كريمة مع غيرها وبخيلة مع نفسها يشأن الغذاء131.
2. هناك توزيع في أداء الواجبات ضمن المستعمرة الواحدة وكل نملة تؤدي ما عليها من واجب بكل تفاني وإخلاص .وإحدى هذه النملات هي البوابة او حارسة الباب .وهي المسؤولة عن السماح بدخول النمل من أبناء المستعمرة فقط ولا يسمح للغرباء بالدخول أبدا وتكون رؤوس هذه الحارسات بحجم بوابة المستعمرة فتستطيع أن تسد هذه البوابة برأسها. وتظل الحارسات طيلة اليوم يقمن بواجبهن وهو حراسة مدخل المستعمرة 132 لذلك فان أول من يجابه الخطر هؤلاء الحارسات.
3. لا تكتفي النملات بمشاركة أخواتها بالطعام الذي تحمله في معدتها بل تقوم بتنبيه الباقيات الى وجد طعام أو كلإ في مكامن ما صادفته .وهذا السلوك لا يحمل في طياته أي معنى للأنانية. وأول نملة تكشف الغذاء تقوم بملء بلعومها منه ثم تعود الى المستعمرة .وفي طريق العودة تقوم بلمس الأرض بطرف بطنها تاركة مادة كيمياوية معينة ولا تكتفي بذلك بل تتجول في أنحاء المستعمرة بسرعة ملحوظة ثلاث او ستة مرات وهذه الجولة تكفي لإخبار باقي أفراد المستعمرة بالكنز الذي وجدته .وعند عودة النملة المكتشفة إلى مصدر الغذاء يتبعها طابور طويل من أفراد المستعمرة.
4.هناك نمل يدعى قطاع الورق تكون عاملاته المتوسطة الطول مشغولات طيلة اليوم بحمل أجزاء الورقة النباتية إلى المستعمرة .ولكنها تكون في غاية الضعف عند حملها للورقة النباتية خصوصا تجاه الذباب أو أبناء جنسه .ويترك الذباب بيضه على رأس هذا النمل .وتنمو يرقة هذا الذباب متغذية من مخ هذه النملة وهو ما يؤدي الى موتها.وتكون عانلات هذا النوع من النمل في غاية الضعف أمام سلوك هذا الذباب خصوصا عند حملهن للورقة النباتية .ولكن هناك من يحميهن من هجوم هذا الذباب وهم النمل الذين من نفس المستعمرة وقصيري القمة يقومون بوظيفة حراسة العاملات بواسطة جلوسهم فوق الورقة النباتية وعلى أهبة الاستعداد لرد أي هجوم من الذباب على أعقابه133.
هناك نوع من النمل يدعى نمل العسل وسبب هذه التسمية أنها تتغذى على فضلات بعض الحشرات المتطفلة على الأوراق النباتية وتكون فضلات هذه الحشرات غنية بالمواد السكرية. وتحمل هذه النملات ما مصته من فضلات سكرية إلى مستعمرتها و تخزنها في أسلوب عجيب وغريب .لان البعض من هذه النملات العاملات يستخدم جسمه كمخزن للماد السكرية .وتقوم العاملات اللاتي حملن المواد السكرية بتفريغ حمولتهن داخل أفواه العاملات او-المخازن الحية-والتي بدورها تملأ الأجزاء السفلية من بطونها بهذا السكر حتى تنتفخ بطونها ويصبح حجمها في بعض الأحيان بحجم حبة العنب .ويوجد من هذه العاملات في كل غرفة من غرف الخلية عددا منهن يتراوح بين 25و30نملة ملتصقات بواسطة سيقانهن بسقف الغرفة في وضع مقلوب .ولو تعرضت إحداهن للسقوط تسارع العاملات الأخريات إلى إلصاقها من جديد .والمحلول السكري الذي تحمله كل نملة يكون أثقل بثماني مرات من وزن النملة نفسها.وفي موسم الجفاف أو الشتاء تقوم باقي النملات بزيادة هذه المخازن الحية لأخذ احتياجاتها من الغذاء - السكر - اليومي .حيث تلصق النملة الجائعة فمها بفم النملة المنتفخة وعندئذ تقوم الأخيرة بتقليص بطنها لإخراج قطرة واحدة الى فم أختها .ومن المستحيل ان يقوم النمل بتطوير هذه المخازن وابتكارها بهذه الطريقة العجيبة ومن تلقاء نفسها .واضافة الى ذلك التفاني والتضحية التي تتسم بها النملة المنتفخة حيث تحمل ما هو أقل من وزنها ثماني مرات فضلا عن بقائها ملتصقة وبالمقلوب مدة طويلة جدا ودون مقابل. وان هذا الأسلوب المبتكر وفقا لبنية تلك النملة ليس من الصدفة وحدها .لأن هناك نمل متطوع أن يصبح مخزنا حيا في كل جيل جديد وطيلة أجيال سابقة ولاحقة .بلا شك أن سلوكها هذا من تأثير الإلهام الإلهي الذي خلقهن وسواهن عز وجل .
6.هناك أسلوب للدفاع عن المستعمرة يتبعه النمل أحيانا وهو الهجوم على العدو والتضحية حتى الموت.وتوجد أشكال عديدة لهذا الهجوم الانتحاري .منها الأسلوب الذي يتبعه النمل الذي يعيش في الغابات المطرية في ماليزيا فجسم هذا النوع من النمل يتميز بوجود غدة سمية تمتد من رأس النمل حتى مؤخرة جسمه.وان حدث أن حوصرت النملة من كل جهة تقوم بتقليص عضلات بطنها بشدة تكفي لتفجير هذه الغدة بما فيها من السم بوجه أعدائها ولكن النتيجة موتها بالطبع 134.
7.يقدم ذكر النمل ومثله الأنثى تضحية كبيرة في سبيل التكاثر .فالذكر المجنح يموت بعد فترة قصيرة من التزاوج .أما الأنثى فتبحث عن مكان مناسب لإنشاء المستعمرة وعندما تجد هذا المكان فان أول عمل تقوم به هو التخلي عن أجنحتها .وبعد ذلك تسد مدخل المكان وتظل كامنة داخله لأسابيع وحتى الشهور دون أكل أو شرب .وتبدأ بوضع البيض باعتبارها ملكة المستعمرة .وتتغذى في هذه الفترة على جناحيها الذين تخلت عنهما .وتغذي أول اليرقات بإفرازاتها هي وهذه الفترة تعتبر الوحيدة بالنسبة للملكة التي تعمل فيها لوحدا بهذا الجهد والتفاني وهكذا تبدأ الحياة بالمستعمرة
8.إذا حدث هجوم مفاجئ من قبل الأعداء على المستعمرة تقوم العملات ببذل ما بوسعهن للحفاظ على حياة الصغار . ويبدأ النمل المقاتل بالتحرك صوب الجهة التي هجم منها العدو ومجابهته فورا. أما العاملات فتسرع نحو الغرف التي توجد فيها اليرقات لتحملها بواسطة فكوكها إلى مكان معين خارج المستعمرة لحين انتهاء المعركة 133 والمتوقع من حيوان كالنمل في مثل هذا الموقف العصيب أن هذا الموقف العصيب أن يفر هاربا ويختفي فيه عن انظار الأعداء ، ولكن الذي يجري في المستعمرة غاية في التضحية والتفاني من أجل سلامة المستعمرة, فلا النّمل المقاتل ولاحراس البوابة ولا العاملات يفكرون في أنفسهم فقط، فالكلّ يفكّر في المستعمرة بأكملها، وهذا ديدن النّمل منذ ملايين السنين.
و بلا شك فإنّ الأمثلة سالفة الذّكر تعتبر أمثلة محيرة من عالم الأحياء, والمحير فيها أنّ هذه الأنماط السّلوكية صادرة عن كائنات حيّة صغيرة كالنمل و هو ما يصادفه الإنسان في حياته اليومية دون أن يشعر بتفاصيل حياة هذا المخلوق. ولو دققنا في هذه التفاصيل لوجدنا أمورا عجيبة وغريبة تجبرنا على التفكير بروية في ماهيتها لأن هذه الحيوانات تمتاز بوجود جهاز عصبي دقيق للغاية ومخّ محدود الحجم والارتباطات العصبية مع هذا تقوم بسلوكيات لا يمكن القول عنها إلاّ أنها شعورية محض، والسبب كونها منفذة مطيعة لما أمرت به أن تنفذه منذ ملايين السنين دون فوضى أو إهمال أو تقصير، وما هذا الأمر المنفذ بحذافيره إلا إلهام إلهي من الخلاق العليم جل جلاله. وهذا الانقياد التام من الكائنات الحية للخالق عز وجل يصوّر من قبل القرآن كما يلي :
: { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون } سورة آل عمران - الآية 83
صور من التّضحية في خليّة النّحل
إنّ التضحية والتفاني الموجودين في عالم النمل موجودان بوضوح أيضا في عالم النحل، فهناك تشابه شبه كلي بين سلوك العاملات في كلا العالمين لأنّها تتفانى في سبيل الحفاظ على حياة وسلامة الملكة واليرقات علما أن هذه العاملات عقيمة وهذه اليرقات ليست من صغارها. وتتألف خلية النحل من الملكة والذكور المسؤولة عن تلقيح الملكة والعاملات، والعاملات تعتبر المسؤولة الأولى والأخيرة عن إدارة الخلية بمختلف نشاطاتها الحيوية اليومية مثل إنشاء الغرف الشمعية و نظافة الخلية و أمن الخلية و تغذية الملكة والذكور و الاعتناء باليرقات و إنشاء الغرف حسب نوع النّمل الذي يخرج من البيض من ملكة أو ذكر أو عاملة ، وتهيئة هذه الغرف بصورة مناسبة، وتنظيفها، إضافة إلى توفير الدفء والرطوبة اللازمين للبيض، وتوفير الغذاء لليرقات حسب الحاجة { الغذاء الملكي ، العسل الممزوج برحيق الأزهار } وجمع المواد اللازمة لصنع الغذاء مثل خلاصة الفواكه ، رحيق الأزهار ، الماء ونسغ الأشجار …
ويمكننا أن نرتّب المراحل أو الأطوار الحياتية التي تمر بها النحلة العاملة وفق التسلل الزمني كما يلي : ( تعيش النحلة العاملة من 4-6 أسابيع .وعندما تخرج العاملة من الشرنقة كاملة النمو تظل تعمل داخل الخلية فترة ثلاثة أسابيع تقريبا أو أقل قليلا، و أول عمل تقوم به الاهتمام بتنشئة اليرقات ورعايتها. وتتغذى النحلة العاملة على ما تأخذه من العسل ورحيق الأزهار المتوفرين في مخازن خاصة داخل الخلية إلا أنها تقدم جزءا كبيرا مما تحصل عليه إلى اليرقات كي تتغذى عليها، وتنفذ عملية تغذية اليرقات عن طريق إخراج جزء مما تغذت عليه سابقا من معدتها والجزء الآخر يتم إفرازه من غدد خاصة موجودة في منطقة الرأس وهذه الغدد تفرز مادة جيلاتينية تعتبر غذاء لليرقات .
وهناك سؤال يطرح نفسه : كيف يمكن لكائن حي خرج توا من الشرنقة أن يعرف ما عليه أن يفعله دون اعتراض وهذا يشمل كلّ النحل؟ والمفروض في هذه العاملات أن تفكر في إدامة حياتها وكيفية الحفاظ عليها لحظة خروجها من الشرنقة دون تفكير في التضحية من أجل الغير أو دون الإقدام على أي سلوك شعوري، ولكن الحاصل غير ذلك تماما، فهذه العاملة تتصرف انطلاقا من مسؤولية كبيرة تشعر بها تجاه اليرقات وتقوم بحضنهن والاهتمام بسلوكية متوقعة منها.
2- عندما تدخل النّحلة العاملة يومها الثاني عشر في الحياة تنضج غددها التي تفرز شمع العسل عندئذ تبدأ العاملات ببناء الغرف الدراسية وترميم الموجود منها والمخصصة لكن اليرقات وتخزين الغذاء .
3-في الفترة المحصورة بين اليوم الثاني عشر ونهاية الأسبوع الثالث تقوم العاملات بجمع رحيق الأزهار وخلاصة العسل اللذين جلبا من قبل الذاهبين خارج الخلية. وتقوم بتحويل خلاصة العسل إلى عسل وتخزنه فيما بعد، وفي نفس الأثناء تقوم بتنظيف الخلية من الفضلات والأوساخ وأجساد النحل الميت رامية إياهن خارج الخلية .
4-تصبح الخلية العاملة في نهاية الأسبوع الثالث جاهزة أن تخرج لجمع خلاصة العسل ورحيق الأزهار والماء ونسغ النباتات .
تبدأ النحلات العاملات بالخروج للبحث عن الأزهار الحتي تحتوي على خلاصة العسل .
وهذه العملية { عملية جمع ال غذاء } مرهقة للغاية، فتصبح النحلة العاملة مرهقة ومتعبة حتى الموت في نهاية أسبوعين أو ثلاثة من العمل المرهق(136). والملاحظ هنا أن هذه النحلة العاملة تفرز عسلا بمقدار يفوق حاجتها بكثير. وهذه الملاحظة تحتاج إلى تفسير طبعا، وأن السّفسطة التي يقول بها دعاة التّطور لا يمكن لها أن تفسر هذا السّلوك المتفاني من كائن حي يفترض فيه أن يهتم بسلامة وإدامة حياته فقط .
وهنا تتجلى لنا آية من آيات الله سبحانه وتعالى كما أوضحنا في صفحات سابقة بأن الله عز وجل هو الذي ألهم النحل هذا السلوك العجيب استنادا لما ورد في سورة النحل من القرآن الكريم ، وهذا هو التفسير الوحيد لسلوك النحل فهو يلبي دعوة الرحمان وإلهامه إياه دون تقصير أو كلل ، وما على الإنسان إلا أن يتفكر أمام هذه الحقيقة الساطعة استجابة للآية القرآنية الآتية :
{ سورة النحل -الآية 69 } قوله تعالى : { ثم كلي من الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } صدق الله العظيم .
5- تنتظر العاملات مهمة أخرى محتاجة للتنفيذ قبل خروجهن لجلب الغذاء وهي مهمة الحراسة .
هناك عدد من النحل في باب كل خلية مهمتهم حراستها من دخول الغرباء ، فكل من لا يحمل رائحة التبعية إلى الخلية يعتبر مصدرا للخطر على حياة الخلية واليرقات .
وإذا حدث أن شوهد غريب في مدخل الخلية تبدأ الحارسات بالهجوم عليه بشدة ، ورنين أجنحة الحارسات الشديد يعتبر كصفارة إنذار بقدوم الخطر لباقي سكان الخلية ، وتستخدم الحارسات إبرهن اللاسعة كسلاح فعال ضد العدو الغريب ، والسم الذي تفرزه الحارسات له رائحة مميزة تنتشر في كافة أنحاء الخلية كعلامة للخطر الداهم . عندئذ يتجمع سكان الخلية عند المدخل للمساهمة في القتال ضد العدو الغريب .وإذا لدغت الحارسة عدوها بإبرتها تبدأ بفرز السم وهذا يؤدي إلى انتشار الرائحة أكثر فأكثر ، وكلما ازدادت رائحة السم داخل الخلية كلما ازداد النحل هيجانا وشراسة ضد العدو الغاصب (137).
إن مهمة الدفاع عن الخلية تعتبر بمثابة انتحار ، لأن إبرة النحل اللاسعة تحتوي على رؤس مدببة مثل أشواك القنفذ ، ولا يمكن للنحلة أن تسحب إبرتها بعد غرزها في جسم حيوان بسهولة وعندما تحاول الطيران تبقى الإبرة مغروزة في جسم الحيوان {العدو} و تتعرض بذلك النحلة إلى جرح مميت نتيجة تعرض بطنها إلى شق عميق من ناحية الخلف ، وفي هذه الناحية من البطن توجد الغدد التي تفرز السم والعقد العصبية التي تتحكم بها وعندما تلفظ النحلة أنفاسها الأخيرة يقوم باقي النحل بالاستفادة من موتها عن طريق أخذ السم الموجود في غدد القتيلة والاستمرار بضنحة في جرح العدو الغريب (138).
بعد هذا الاستعراض ، كيف لنا أن نفسر سلوك كائن حي يبدأ منذ أول مرة خطوة له في الحياة بالعمل الدؤوب والمثابرة دون كلل أو ملل من أجل راحة الغير وسلامته وحتى تضحيته بحياته من أجل سلامة الآخرين ؟إضافة إلى هذه الأنماط السلوكية هي نفسها في كل أنواع النحل والنمل أينما وجدت على الكرة الأرضية ومنذ ملايين السنين ، والحقيقة تبرز أمامنا بوضوح ،حقيقة سلوك هذه الكائنات الصغيرة بحجمها والكبيرة بتضحياتها من تأثير الهام الله عز وجل لها .
" سورة هود - الآية 56 " قوله تعالى : { إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم } صدق الله العظيم .
الخاتــــــمة
بعد هذا العرض الموجز لأمثلة الكائنات الحية المختلفة يتضح لنا أن هنالك قاسما مشتركا بين الأنماط السلوكية التي تبديها وهو التضحية والرحمة والشفقة ، وكل منها يراعي صغيره ويدافع ويحمي عائلته أو أي حيوان آخر بأروع صورة ممكنة ، وكل منها يضرب لنا مثلا بالرحمة والمودة وبنفس الوقت يساعد بعضها البعض عند الخطر وفق سلوك عقلاني مدهش ، إضافة إلى تغذية بعضها البعض بأساليب ذكية ، وتبني هذه الحيوانات بيوتها ببراعة مهندس معماري حاذق ومهارة بنّاء خبير .
وهناك نقطة مهمة للغاية ونؤكد عليها طيلة صفحات هذا الكتاب وهي : أن الحديث يدور عن كائنات حية منها الصغير مثل الحشرات ومنها الطيور والضفادع ، وهل لنا أن ندعي أن هذه الكائنات الحية التي لا تملك إلا ما يشبه المخ أو ما يقوم مقامه تخترع شيئا جديدا أو تبتكر وسيلة ما ناجعة في الحياة ؟
وهل تعرف الطيور أو الحشرات كيفية إبداء سلوك يتم بالرحمة والشفقة ؟
كيف لنا أن نفسر سلوك ذكر البطريق المليء بالتضحية والفداء من أجل سلامة أنثاه وأولاده ؟
لماذا ترمي الغزلان أو الحمير الوحشية بنفسها أمام الخطر المفترس كحاجز بينه وبين صغارها ؟
وهذه الأسئلة تعتبر معضلة كبيرة أمام نظرية "التطور" التي تدعي أن الأحياء نشأ وآمن جراء الصدفة وحدها ومن أشياء غير حية ، ويدعي دعاة "التطور" أن الأحياء تسلك هذا السلوك نتيجة غرائزها .
وهذه الغرائز مودعة في جيناتها وهذه الادعاءات تقودهم إلى مآزق فكرية لا مخرج لها ،لأن السؤال المنطقي الذي يعقب هذه الادعاءات هو : من الذي وضع أو برمج الغرائز في هذه الجينات التي نتج عنها السلوك المتسم بالتضحية والرحمة والشفقة ، والذي يقود الكائن الحي إلى بناء المساكن والأعشاش عن سابق معرفة ؟ كيف تشكلت هذه الأنماط السلوكية داخل الجين المتألف من مواد غير حية كالكربون والفوسفات ؟
ولا يملك دعاة " التطور " أية إجابة عن هذه الأسئلة ، وتنحصر إجابتهم في ردود لا تقدم ولا تؤخر ولا تنفع إلا لذر الرماد في العيون وتتمثل بكون هذه الخصائص أو الغرائز قد تم برمجتها في الجينات عن طريق " الطبيعة الأم " ، وكثيرا ما نسمع منهم " أن الطبيعة هي التي أعطت للأحياء خاصية ورعاية الصغار " ولكن هذه الطبيعة تمتلك فعلا مثل هذه القدرة والطبيعة التي نتحدث عنها مخلوقة بدورها وتتألف من أشجار وأحجار وأنهار والجبال والمياه والتراب ، يا ترى أي جزء من هذه الأجزاء يملك المقدرة على إكساب الكائنات الحية أنماطا سلوكية مختلفة ؟
وهذا الإدعاء الباطل من قبل هؤلاء قد تحدث عنه القرآن الكريم في معرض إيراده لأمثلة الجاحدين والناكرين لقدرة الله تعالى وجعلهم الطبيعة ندا لله حاشاه ، والصحيح أن للطبيعة بدورها مخلوقة وتتألف من كائنات حية وغير مخلوقة ولا تملك الطبيعة أية قدرة على الإكساب أو الخلق ، ويصف لنا القرآن حال الذين يصفون الأشياء الضعيفة بالقوة والقدرة : " سورة الفرقان - الآية 3 " قال تعالى :{ واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا } صدق الله العظيم .
ومن المستحيل قطعا أن يمتلك كائنا حي المقدرة والذكاء والمعرفة والمفاهيم المعنوية بتأثير كائنات لا تملك عقلا ولا قوة وهذا الأمر يتنافى مع قواعد العقل والمنطق .
والحقيقة أمامنا ساطعة كالشمس وهي سلوك هذه الأحياء هذا السلوك المتصف بالرحمة والشفقة والتفاني والتضحية بتأثير الإلهام من الله الرحمن الرحيم الذي وسع كرسيه كل شيئا رحمة وعلما .
وأن الأمثلة التي أوردناها في هذا الكتاب دليل على قوة ورحمة وقدرة الله تعالى على جعل هذه الكائنات تتبع هذا السلوك المتميز ، فالطير أو الغزال الذي يدافع عن صغيره ويذود عنه ويعمل جاهدا لتنشئته سليما آمنا لا يفعل كل ذلك إلا بإلهام إلهي .
ورحمة الله التي وسعت كل شيء لا ترى أمثلتها في الحيوانات فقط بل يمكن رؤيتها في الإنسان أيضا لذلك فاللذين يتفكرون ويتمتعون في أصل ومصدر الأشياء لاشك سيصلون إلى النتيجة البديهية : " سورة هود - الآية 57 " { فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم و يستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إنّ ربي على كل شيء حفيظ }
صدق الله العظيم .
" سورة المؤمنين - الآية 118 " { وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين } صدق الله العظيم .
بوح الروح
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:08 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * الحُــــبّ
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:06 am من طرف بوح الروح
» * * * * * وبيسألوني ... !!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 8:04 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادنا ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:59 am من طرف بوح الروح
» * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:57 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ...
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:55 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * في بلادي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:53 am من طرف بوح الروح
» * * * * * قالوا لي ..!!!!!
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:51 am من طرف بوح الروح
» * * * * * * مِن غيرتي ..
الأربعاء أبريل 01, 2015 7:49 am من طرف بوح الروح